موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢ مايو / أيار ٢٠٢٠

ظهور يسوع القائم من الموت على طريق عماوس

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد الثالث للفصح: ظهور يسوع القائم من الموت على طريق عِمَّاوُس (لوقا 24: 13–35)

الاحد الثالث للفصح: ظهور يسوع القائم من الموت على طريق عِمَّاوُس (لوقا 24: 13–35)

 

ينفرد لوقا الانجيلي (لوقا 24: 23-35) بوصف لقاء المسيح القائم مع تلميذي عِمَّاوُس، حيث تراءى لتلميذين ليهديهما بعد ان فقدا الايمان به على أثر موته على الصليب، فاستعادا ايمانهما بفضل ظهوره لهما وتفسير لهما الكتب المقدسة ومشاركتهما في الإفخارستيا. فنالا قدرة جديدة على الرؤية ليعرفاه وليقيما معه علاقة جديدة معه. لقاء يسوع مع تلميذي عِمَّاوُس يوضح لنا الطريق الى رؤية المسيح الحي في الكتاب المقدس وفي القداس الالهي، ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.

 

اولا: وقائع النص الانجيلي (لوقا 24: 13-35)

 

13 وإِذا باثنَينِ مِنهُم كانا ذَاهِبَينِ، في ذلكَ اليَوم نفسِه، إِلى قَريَةٍ اِسْمُها عِمَّاوُس، تَبعُدُ نَحوَ سِتِّينَ غَلوَةٍ مِن أُورَشَليم.

 

تشير عبارة "اثنَينِ" الى إثنين من تلاميذ يسوع وليس من الرسل الاثني عشر. أحدهما اسمه قَلاوبا (لوقا 24: 18) واما التلميذ الآخر فقد اختلف آراء الباحثين فيه. قلاوبا في الأصل اليوناني Κλεοπᾶς ( كليوباس مختصر لاسم كليوباترا Κλεοπάτρα ومعناه: مجد الأب)  وهو ليس قَلُوبا ( Κλωπᾶ)  الوارد اسمه  في إنجيل يوحنا (19: 25). ويقول مؤرخ الكنيسة العلامة يوسابيوس القيصري، أسقف القيصرية في 314م. "أنَّ قَلاوبا كان أخاً للقديس يوسف، خطيب مريم العذراء". اما رفيق قَلاوبا، فقد اختلف الدارسون حول هويته، فالبعض رأى فيه سمعان ابنه الذي أصبح أحد اساقفة اورشليم بحسب التقليد. ويصفه يوسابيوس القيصري أنه "ابن عمّ الربّ". واما العلاَّمة أوريجانوس والقديس كيرلس الكبير فيريان في الشخص الثاني هو "سمعان" من السبعين رسولًا، وآخرون يرون فيه شخص لوقا الإنجيلي لما في النص من التفاصيل، لكنه لا يذكر اسمه لكي يكون كل واحد منا هو التلميذ الآخر. نحن "التلميذ الآخر" في كل مرة نلتقي بيسوع في الكتاب المقدس او في الإفخارستيا. امَّا عبارة "مِنهُم" فتشير الى إثنين من الجماعة المسيحية الأولى كما ورد في الآية السابقة "ورَجَع النساء مِنَ القَبْر، فأَخبَرنَ الأَحَدَ عَشَرَ والآخَرينَ جَميعاً بِهذهِ الأُمورِ كُلِّها" (لوقا 24: 9) وهما وليس من الاحد عشر كما يتبيَّن من الآية "قاما في تِلكَ السَّاعَةِ نَفْسِها ورَجَعا إِلى أُورَشَليم، فوَجَدا الأَحَدَ عشَرَ والَّذينَ مَعَهم مُجتَمِعين" (لوقا 24: 33)؛ امَّا عبارة "ذَاهِبَينِ" في الأصل اليوناني πορευόμενοι (منطلقين) فتشير الى الإسراع في مغادرة أورشليم إلى قريتهما لعملهما. فقد َالتلميذان العائدان إلى عمواس مغزى أعظم حدث في التاريخ، لأنّهما كانا يُركّزان على الإحباطات والمشاكل المحيطة متَّجهين اتِّجاها خاطئاً لتسوية المشكلة، بعيداً عن شركة المؤمنين في أورشليم. ترْك أورشليم هو ترك الصليب والقيامة والجماعة المسيحية. امَّا عبارة "في ذلكَ اليَوم نفسِه" فتشير الى يوم الاحد، يوم أحد القيامة الذي يتكرَّر في كل أحد، وكان ذلك نحو الغروب حيث "حانَ المَساءُ ومالَ النَّهار" (لوقا 24: 29). وتحتل كلمة "اليوم" مكانة مرموقة في انجيل لوقا، يقرأ لوقا الكتاب المقدس في بُعده الحاضر، وبالتالي طريقة تأوينه للأحداث. فقرأته في الايمان هي ان نسمع الله يقول لنا "اليوم" ليس الله في الماضي او في المستقبل، هو اليوم يدعونا. أمّا عبارة "عِمَّاوُس" في الأصل اليوناني Ἐμμαοῦς مشتقة من العبرية עַמָּאוּס (معناه الينابيع الحارة) فتشير الى موطن التلميذين، واختلف علماء الآثار ن تحديد موقع عِمَّاوُس؛ فالبعض قالوا إنها عمواس اللطرون التي دمَّرها الرومان سنة 30 م، وأصبحت قرية صغيرة حيث التقى يسوع بتلميذَيه، وقد أعاد الرومان بناءها نحو عام 223م، وأطلقوا عليها اسم "نيكوبوليس" Νικόπολις أي "مدينة النّصر" حيث ازدهرت جماعة مسيحية كبيرة. وهي تقع على بُعد 30كم ما يعادل غلوة 160 شمال الغربي من اورشليم.  ويقول آخرون أن عِمَّاوُس هي قرية عمواس القٌبَيبَة (معناها القبة الصغيرة) التي تقع على نحو 11كم أي ما يعادل نحو 60 غلوة غرب اورشليم؛ وفي السنوات العشر الأخيرة عزلت هذه القرية عن القدس عن طريق الجدار العنصري، وفي الواقع، يعود تقليد ارتباطها بعمواس الانجيلية الى زمن الصليبيين عام 1280.  وحدَّد غيرهم من الباحثين قرية عِمَّاوُس مع قرية قالونيا من الاصل اللاتيني Colonia (معناها مستعمرة)، وهي تقع إلى الشمال الغربي من مدينة القدس، وتبعد عنها حوالي 7 كم، وتعتبر ذات موقع أثري وضمها الصهاينة إلى مستعمرتي "موتسا"، و"موتسا عيليت".   وهناك علماء آخرون حدّدوا قرية عِمَّاوُس مع قرية أبو غوش المعروفة ايضا باسم كِرْيَات يِعَارِيم في العبرية: קִרְיַת יְעָרִים (معناها قرية الغابات)، وهي تقع إلى الشمال الغربي من مدينةِ القدس وتبعدُ عنها حوالي 13 كم، وتضمُّ القرية كنيسة عمواس الصليبية في دير رهبان البندكتان. أمّا عبارة "سِتِّينَ غَلوَةٍ" بحسب بعض المخطوطات ما يعادل 11 كم، وهي مسافة قرية عمواس القبيبة، وحسب مخطوطات أخرى مئة وستين غلوة ما يعادل نحو 30كم، وهي مسافة عِمَّاوُس اللطرون. حيث ان الغلوة هي مقياس يوناني الأصل σταδίων، ويساوي 184 مترا او 145 خطوة. وفي حالة اختلاف المخطوطات فينص المبدأ الكتابي ان المخطوط الاصعب هو الاصح. ومن هذا المنطلق ان عِمَّاوُس اللطرون هي الاصح في مقارنتها مع قرية عِمَّاوُس التي وردت في إنجيل لوقا.  

 

14 وكانا يَتحدَّثانِ بِجَميعِ هذِه الأُمورِ الَّتي جَرَت.

 

تشير عبارة "جَميعِ هذِه الأُمورِ الَّتي جَرَت" الى احداث مأسوية منها اعتقال يسوع في بستان الجسمانية، وكيف يُمكن ان يسوع هو المسيح وقد مات، وهل يُمكن ان يوافق موته النبوءات حيث ان المسيح يكون ملكا منتصرا ومخلصا لشعبه؟ وكيف مات على الصليب، وكيف انتحر يهوذا أحد رسله، وكيف حدث القيامة أثار حيرة النسوة والرسل؟ وغيرها من الآمور التي تدور حول يسوع المسيح.

 

15 وبَينَما هُما يَتَحَدَّثانِ ويَتَجادَلان، إِذا يسوعُ نَفْسُه قد دَنا مِنهُما وأَخذَ يَسيرُ معَهما،

 

تشير عبارة "يَتَجادَلان" في الأصل اليوناني συζητεῖν (معناها تحاور) فتشير الى المناقشة الحادة حيث أنَّ أحدهم يطرح قضية والآخر يعارضه ولا يتفق معه. أمّا عبارة "يسوعُ نَفْسُه قد دَنا مِنهُما" فتشير الى يسوع الذي ظهر شخصيا، وبادر الى لقاء التلميذين، وأخذ يسير معهما كما ورد في انجيل مرقس " تَراءَى بَعدَ ذلكَ بهَيئَةٍ أُخرى لاثنَينِ مِنْهُم كانا في الطَّريق، ذاهِبَينِ إِلى الرِّيف" (مرقس 16: 12).  أمّا عبارة " دَنا " في الأصل اليوناني ἐγγίσας (معناها اقترب) فتشير الى يسوع المسيح الذي بادر واقترب منهما وتواصل معهما ليس فقط روحياً بل جسدياً أيضاً. وأمّا عبارة "وأَخذَ يَسيرُ معَهما" فتشير الى ظهور يسوع القائم لهما والانضمام الى مسيرتهما ومرافقتهما كي يشاركهما في الحوار الذي بعث فيهما القلق الشديد والشك وخيبة الآمل. وهنا نتذكر كلمة الرب "َحَيثُما اجتَمَعَ اثنانِ أَو ثلاثةٌ بِاسمِي، كُنتُ هُناكَ بَينَهم " (متى 18: 20). نجد أسلوب يسوع في الحوار: دنا منهما، سار معهما، سألهما وسمع لهما ثم شرح لهما.

 

16 على أَنَّ أَعيُنَهُما حُجِبَت عن مَعرِفَتِه.

 

تشير عبارة "حُجِبَت عن مَعرِفَتِه" الى توقف إدراك التلميذين عند آلام يسوع وموته فقط، فأصبحا غير قادرين على تخطي ذلك ليروا يسوع المسيح القائم من بين الاموات. لم يستطع تلميذا عمواس ان يعرفا يسوع كما حدث مع مريم المجدلية "رأَت يسوعَ واقِفاً، ولَم تَعلَمْ أَنَّه يَسوع" (يوحنا 20: 14)، والتلاميذ على شاطئ البحيرة (يوحنا 21: 4)؛ لان يسوع "تَراءَى لهما َ بهَيئَةٍ أُخرى" كما يوضِّح انجيل مرقس (مرقس 16: 12)، ربما كان منظر المسيح تغيِّر قليلا عمَّا كان قبل صلبه، وربما كان هذا سبباً لعجزهما عن معرفته او ضعف إيمانهما او عدم ادراكهما الكتب المقدسة التي تتكلم عن قيامة الرب، او ربَّما لم يتوقعا شيئا، ولم يعتقدا أن هناك أمرا جديدا يمكن أن يحدث. ولم تفتح اعينهما لمعرفته الاّ بعد ان أدخلهما عن طريق الكتب المقدسة في سر موته وقيامته.  ويُعلق القديس أوغسطينوس" فعندما اقترب الرب من الرسولين لم يكن لهما الإيمان. لم يصدقا أنه قام، أو أنه يُمكن لأحدٍ أن يقوم. لقد فقدا الإِيمان ولم يعدْ لهما رجاءً. وكانا يمشيان معه في الطريق. موتى مع الحيّ، أمواتٌ مع الحياة. كانت "الحياة" تمشى معهما، غير أن قلبيهما لم يكونا ينبضان بالحياة". ونحن نسير كثير من المرات والرب يسير إلى جانبنا ولكننا يا للأسف لا نعرفه ولا نراه ولا نلمسه.

 

17 فقالَ لَهما: ما هذا الكَلامُ الَّذي يَدورُ بَينَكُما وأَنتُما سائِران؟ فوَقفا مُكتَئِبَين.

 

تشير عبارة " ما هذا الكَلامُ الَّذي يَدورُ بَينَكُما وأَنتُما سائِران؟)) " الى أسلوب حوار عن طريق طرح الأسئلة مما ساعد تلميذي عِمَّاوُس، على التعبير والتنفيس عن حزنهما وكآبتهما وخيبة املهما وتوضيح ما يجول في داخلهما من افكار وآراء ومشاعر. أمّا عبارة " مُكتَئِبَين" في الأصل اليوناني σκυθρωποί  (معناها عابسين) فتشير الى ملامح وجهيهما ومن كلامهما وهما عائدان الى قريتهما يعانيان من الإحباط والحزن والكأبة. والكآبة هي من عوامل اليأس والفشل والإخفاق والقلق بسبب مأساة معلمهم الذي أحبّاه، وموته الذي طواه، وقبره الذي احتواه، واستهزاء أعداؤه به.  وهنا فقدَ التلميذان مغزى أعظم حدث في التاريخ، لانهما كانا يركزان على الاحباطات والمشاكل المحيطة. فابتعدا عن شركة الرسل في اورشليم.  ويعلق القديس أبوللو "لماذا نجاهد ووجوهنا كئيبة عابسة؟! ألسنا ورثة الحياة الأبدية؟ اتركوا الكآبة للخطأة، أمّا الأبرار والقديسون فحري بهم أن يمرحوا ويبتسموا لأنهم يستمتعون بالروحيات".

 

18 وأَجابَه أَحَدهُما واسمُه قَلاوبا: أَأَنتَ وَحدَكَ نازِلٌ في أُورَشَليم ولا تَعلَمُ الأُمورَ الَّتي جرَتَ فيها هذهِ الأَيَّام؟

 

تشير عبارة "وحدَكَ" الى الغريب المنعزل المنفرد عن الناس الذي هو وحده يمكن ان يفوته سماع ما كانت اورشليم كلها تتحدث عنه. اما عبارة" نازِلٌ " في الأصل اليوناني παροικεῖς (معناها غريب) الى شخص اجنبيٍ من حجاج القادمين الى اورشليم من أجل المشاركة في احتفال عيد الفصح، والذي أخذ في العودة الى وطنه، فهو، لا يعرف ما حدث في المدينة المقدسة مع ان حديث الساعة لأهل اورشليم. اما عبارة "الأُمورَ الَّتي جرَتَ فيها هذهِ الأَيَّام"  فتشير الى صلب يسوع وموته والظلمة والزلزال....

 

 19 فقالَ لَهما: ما هي؟ قالا له: ما يَختَصُّ بِيَسوعَ النَّاصِريّ، وكانَ نَبِيّاً مُقتَدِراً على العَمَلِ والقولِ عِندَ اللهِ والشَّعبِ كُلِّه

 

تشير عبارة "ما هي؟ " الى سؤال يسوع تمهيدا لتعليمه مما يظهر حكمة المعلم.  أمَّا عبارة " قالا له " فتشير الى ترك يسوع التلميذين يعُبران عن صدمتهما وشعورهما. أمَّا عبارة " بِيَسوعَ النَّاصِريّ " فتشير الى أشهر أسماء يسوع. هكذا دعاه بطرس (أعمال الرسل 2: 22) وبولس (أعمال الرسل 26: 9) ويسوع نفسه (أعمال الرسل 22: 8)، وهكذا سمع ابنُ طيماوُس (بَرطيماوُس) عنه (مرقس 10: 47)، وهكذا كُتب على الصليب (يوحنا 19: 19). امَّا عبارة "النَّاصِريّ" فتشير الى الجليلي كما صرّحت جارية قيافا رئيس الكهنة لبطرس "أَنتَ أَيضاً كُنتَ مع يسوعَ الجَليليّ" (متى 26: 69). امَّا بحسب لوقا الإنجيلي فدُعي يسوع الناصري " أَتى يسوع النَّاصِرَةَ حَيثُ نَشَأَ (لوقا 4: 16)؛ وامَّا في أنجيل متى دُعي يسوع ناصري الى مدينة الناصرة (متى 2: 23) للدلالة على النبوة التي يُسمى فيها الناصري أي נֵצֶר (معناها عصن من جذع) على حد نبوءة أشعيا “يَخرُجُ غُصنٌ مِن جذعِ يَسَّى وَينْمي فَرعٌ مِن أُصولِه" (أشعيا 11: 1). أمّا عبارة " نَبِيّاً “فتشير الى رؤية التلميذين أن يسوع هو ذاك النبي الذي أخبر عنه موسى (تثنية الاشتراع، وشهد له تقليد الاناجيل (متى 21: 11 ومرقس 6: 15، ولوقا 7: 16و 39)، وشهدت له الجماعة المسيحية الأولى كما جاء في عظة بطرس الرسول "سيُقيمُ لكُمُ الرَّبُّ إِلهُكم مِن بَين إِخوَتِكم نَبِيًّا مِثْلي، فإِلَيه أَصْغوا في جَميعِ ما يَقولُ لَكُم"(اعمال الرسل 3: 22).  والعجيب في نظر تلميذي عِمَّاوُس ان يسوع بالرغم من انه كان نبياً "مُقتَدِراً على العَمَلِ والقولِ، إلا أنه لم ينجو من الموت. عرف التلميذان في يسوع نبيا وليس مسيحا (يوحنا 19: 25). أما عبارة " مُقتَدِراً على العَمَلِ والقولِ " فتشير الى التلميذين الذين لم ينسيا اعمال يسوع العجيبة واقواله الحكيمة التي شاهداها وسمعاها. امَّا عبارة " عِندَ اللهِ " فتشير الى الله الذي شهد له أنه نبي بما صنع يديه من الآيات كما أكَّد بطرس الرسول في وعظته الأولى " يا بَني إِسرائيلَ اسمَعوا هذا الكَلام: إِنَّ يَسوعَ النَّاصِريّ، ذاكَ الرَّجُلَ الَّذي أَيَّدَه اللهُ لَدَيكُم بِما أَجْرى عن يَدِه بَينَكم مِنَ المُعجِزاتِ والأَعاجيبِ والآيات، كما أَنتُم تَعلَمون " (أعمال الرسل 2: 22).  اما عبارة " والشَّعبِ كُلِّه" فتشير الى سكان فلسطين ذاك الوقت الذين شاهدوه وسمعوه في إقامة لعازر "وكانَ الجَمْعُ الَّذي صَحِبَه، حينَ دَعا لَعازَرَ مِنَ القَبْر وأَقامَهُ مِن بَينِ الأَموات، يَشهَدُ له بِذلك" (يوحنا 12: 17).  وتبيِّن شهادة تلميذي عِمَّاوُس نقص معرفتهما بذاك الشخص يسوع الذي هو إله وإنسان، فادي الخطأة والوسيط بين الله والناس.

 

20 كَيفَ أَسلَمَه عُظَماءُ كَهَنَتِنا ورُؤَساؤُنا لِيُحكَمَ علَيهِ بِالمَوت، وكَيف صَلَبوه.

 

تشير عبارة "كَيفَ أَسلَمَه عُظَماءُ كَهَنَتِنا ورُؤَساؤُنا لِيُحكَمَ علَيهِ بِالمَوت" الى سؤال تلميذي عِمَّاوُس الذي هو مرتبط في سؤال قلاوبا، أحد تلميذي عِمَّاوُس الى يسوع " أَأَنتَ وَحدَكَ نازِلٌ في أُورَشَليم ولا تَعلَمُ الأُمورَ الَّتي جرَتَ فيها هذهِ الأَيَّام؟" (لوقا 24: 8). ولسان حاله ليسوع: كيف أمكنك ان لا تعلم ما فعل رؤساء الكهنة والحكام به! أمَّا عبارة "كَيف صَلَبوه" فتشير الى نسب صلب يسوع الى الرؤساء لأنهم شكوه الى بيلاطس وأجبروه على الحكم بصلبه كما جاء في اعمال الرسل "فَلْيَعْلَمْ يَقينًا بَيتُ إِسرائيلَ أَجمَع أَنَّ يَسوعَ هذا الَّذي صَلَبتُموه أَنتُم قد جَعَلَه اللهُ رَبًّا ومَسيحًا" (اعمال الرسل 2: 36).  

 

21 وكُنَّا نَحنُ نَرجو أَنَّه هو الَّذي سيَفتَدي إِسرائيل ومعَ ذلكَ كُلِّه فهذا هوَ اليَومُ الثَّالِثُ مُذ جَرَت تِلكَ الأُمور.

 

تشير عبارة "كُنَّا نَحنُ نَرجو" الى خيبة امل التلميذين بعد ان حكمت السلطات اليهودية على يسوع بالصلبَ والموت بالرغم من أنه " كانَ نَبِيّاً مُقتَدِراً على العَمَلِ والقولِ عِندَ اللهِ والشَّعبِ كُلِّه"، وان الله لم يتدخّل بعد ان مرّت ثلاث أيام على موته. ولذلك فقدَ التلميذان مغزى أعظم حدث في التاريخ، فقدا كل رجاء ولم يفهما ان موت يسوع قدّم لهما أعظم رجاء، وأخذ اليأس يتسرّب إليهما. لانهما لم يستطيعا ان يتصورا إنسانا صُلب ومات يكون المسيح، ملك المجد. أمّا عبارة "هو الَّذي سيَفتَدي إِسرائيل" فتشير الى يسوع الذي في رأيهما نبيٌ وقائدٌ سياسيٌ وعسكري ينقذ إسرائيل من نير الرومان، ولم يدركا ان المسيح قد جاء ليُخلِّص نفوس البشر، فلذلك عندما مات يسوع فقدا كل رجاء. لاحظ التلميذين ما لاحظوا الجميع لكنهما لم يملكا بُعد النظرة الايمانية الثاقبة، التي تذهب ما وراء المحسوس والمرئي بالعين المجردة. أمَّا عبارة " فهذا هوَ اليَومُ الثَّالِثُ مُذ جَرَت تِلكَ الأُمور " فتشير الى علة جديدة لحزنهما اته لم يحدث شيء في تلك المدة يُحيي رجاءهما.

 

22 غيرَ أَنَّ نِسوَةً مِنَّا قد حَيَّرنَنا، فإِنَّهُنَّ بَكَرنَ إِلى القَبْرِ

 

تشير عبارة " غيرَ " في الأصل اليوناني ἀλλὰ (معناها لكن) الى توقف عن كل إمكانية لمتابعة رواية القيامة كيف ذهبت النساء إلى القبر، ولم يعثرن على الجثمان، واختبرن رؤيا للملائكة (لوقا 24: 23). امَّا عبارة "نِسوَةً مِنَّا" فتشير الى مَريَمُ المِجدَلِيَّة وحَنَّة ومَريَمُ أُمُّ يَعقوب، وسائِرُ النِّسوَةِ اللَّواتي أَخبَرنَ الرُّسُلَ بِتِلكَ الأُمور" (لوقا 24: 10)؛ أمّا عبارة " حَيَّرنَنا" فتشير الى إُثارة الارتباك والتردّد والاضطراب الذي استولى عليهما ولم تخطر القيامة على بالهما، فخاب املهما. ويُعلق القديس كيرلس الكبير" أن الأخبار التي نقلتها النسوة لم تكن كافية لإيمانهما بالقيامة، بل كانت موضوع دهشة وحيرة وانذهال، لأنها تحمل أنباء القبر الفارغ وشهادة الملائكة. واما الأخبار التي نقلها بطرس كانت غير كافية، لأنه لم يرَ سوى القبر الفارغ والأكفان، كما قال التلميذان: "أَمَّا هو فلَم يَرَوه " (لوقا 24: 24). 

 

23 فلَم يَجِدنَ جُثمانَه فرَجَعنَ وقُلنَ إِنَّهُنَّ أَبْصَرْنَ في رُؤيةٍ مَلائكةً قالوا إِنَّه حَيّ.

 

تشير عبارة "جُثمانَه" في الأصل اليوناني σῶμα  (معناها جسد) الى جسده الميِّت. أمّا عبارة " قُلنَ إِنَّهُنَّ أَبْصَرْنَ " فتشير الى النساء اللواتي سبقن الرسل إلى القبر شاهدن الملائكة ونلن كرامة الكرازة بين الرسل بالقيامة؛ أمّا عبارة " مَلائكةً" في الأصل اليوناني ἄγγελος مشتق من العبرية מַלְאַךְ (معناه رسول) فتشير الى وظيفتهم كما جاء في وصف صاحب الرسالة الى العبرانيين " أَما هُم كُلُّهم أَرواحٌ مُكَلَّفونَ بِالخِدْمَة، يُرسَلونَ مِن أَجْلِ الَّذينَ سَيَرِثونَ الخَلاص؟"(عبرانيين 1: 14). فالملائكة هم مخلوقات سماوية أنشأها الله من نورٍ ليؤدُّوا خدماتهم باسم الله في كل عصر من عصور الى شعب الله. 

 

24 فذهَبَ بَعضُ أَصحابِنا إِلى القَبْر، فوَجَدوا الحالَ على ما قالَتِ النِّسوَة. أَمَّا هو فلَم يَرَوه)).

 

تشير عبارة " أَصحابِنا" الى بطرس ويوحنا (يوحنا 20: 1-10)، ويُعلق القديس كيرلس الكبير " الأخبار التي نقلها بطرس كانت كافية للإيمان بالقيامة لأنه لم يرَ سوى القبر الفارغ والأكفان، كما قال التلميذان بطرس ويوحنا: "وأمّا هو فلم يروه".  لقد افسح يسوع المجال لتلميذي عِمَّاوُس ليعبرا عما يشغل بالهما. ولم يُؤمنا بالرغم من شهادة الرسل والنسوة. اما عبارة " هو فلَم يَرَوه " فتشير الى بطرس ويوحنا الذين لم يجدا الا قبراً فارغاً فحسب تلميذي عماوي ذلك كافيا لقطع كل رجاء.  وما زالت قيامة الرب بالرغم من مرور الفي عام من البرهان والشهادة يرفض البعض ان يؤمنوا بها.

 

25 فقالَ لَهما: يا قَليلَيِ الفَهمِ وبطيئَيِ القَلْبِ عن الإِيمانِ بِكُلِّ ما تَكَلَّمَ بِه الأَنبِياء.

 

تشير عبارة "يا قَليلَيِ الفَهمِ" الى توبيخ يسوع لتلميذي عِمَّاوُس لفشلهما، برغم من معرفتهما لنبوّات الكتاب المقدّس، في فهم ان آلامه هي طريقة إلى المجد. لم يفهما لماذا لم يتدخّل الربّ الإله لينقذ يسوع من الصليب كما صرّح يوحنا الإنجيلي " بِأَنَّهُما لم يكونا قد فهِما ما وَرَدَ في الكِتاب مِن أَنَّه يَجِبُ أَن يَقومَ مِن بَينِ الأَموات" (يوحنا 20: 9).  أمّا عبارة " بطيئَيِ القَلْبِ عن الإِيمانِ" فتشير الى توبيخ التلميذين لقلة إيمانهما إذ قالا عنه إنسانًا نبيًا، لكن نسيا أنه ابن الله؛ قالا عنه انه صُلب لكنهما شكّا في خبر قيامته، وتوقعا منه فداء زمنيا أي الخلاص من الرومان ولم يفهما انه قدّم نفسه فداء عن الخطايا لخلاص النفوس.  صدَّق التلميذان بعض ما تفوه به الأنبياء عن نصرة المسيح ومجده لكن لم يلتفتا ما قيل في آلامه استعدادا لذلك المجد.  فقلة إيمانهما جعلت أَعيُنَهُما تحجب عن مَعرِفَتِه (لوقا 24: 16). وموضوع قلة إيمان التلاميذ كثيرا ما تناوله مرقس الإنجيلي (6: 52، 7: 18، و8: 17-18 و21 و9: 19 و10: 38). أمّا عبارة "بِكُلِّ ما تَكَلَّمَ بِه الأَنبِياء " فتشير الى اقوال الأنبياء عن يسوع المسيح انه ابن الله، وانه يقوم من بين الأموات وانه الفادي والمخلص من الخطايا. ونخص بالذكر أشعيا النبي في فصل 53 الذي يعتبر الإنجيل الخامس لوصفه الدقيق عن آلام المسيح "لا صورَةَ لَه ولا بَهاءَ فنَنظُرَ إِلَيه ولا مَنظَرَ فنَشتَهِيَه.  مُزدَرًى ومَتْروكٌ مِنَ النَّاس رَجُلُ أَوجاعٍ وعارِفٌ بِالأَلَم ومِثلُ مَن يُستَرُ الوَجهُ عنه مُزدَرًى فلَم نَعبَأْ بِه.  لقَد حَمَلَ هو آلاَمَنا وآحتَمَلَ أَوجاعَنا فحَسِبْناه مُصاباً مَضْروباً مِنَ اللهِ ومُذَلَّلاً.  طُعِنَ بِسَبَبِ مَعاصينا وسُحِقَ بِسَبَبِ آثامِنا نَزَلَ بِه العِقابُ مِن أَجلِ سَلامِنا وبجُرحِه شُفينا.  أَلقى الرَّبُّ علَيه إِثمَ كُلِّنا.  عُومِلَ بِقَسوَةٍ فتَواضَع ولم يَفتَحْ فاهُ كحَمَلٍ سيقَ إِلى الذَّبْحِ كنَعجَةٍ صامِتَةٍ أَمامَ الَّذينَ يَجُزُّونَها ولم يَفتَحْ فاهُ "(أشعيا 53: 2-7).    

 

26 أَما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟

 

تشير عبارة " أَما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ " الى النبوءات الاكيدة عن المسيح الذي سياتي لخلاص الناس.  امَّا عبارة "أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام" فتشير الى الإنباء بآلام المسيح بحسب شهادة الأنبياء حيث ان المسيح دخل المجد بعد احتماله آلام الموت وفقا لقول بطرس الرسول " وبَحَثوا عنِ الوَقتِ والأَحوالِ الَّتي أَشارَ إِلَيها رُوحُ المسيحِ الَّذي فيهِم، حينَ شَهِدَ مِن ذي قَبْلُ بِما عُدَّ لِلمَسيحِ مِن الآلام وما يَتبَعُها مِنَ المَجْد " (1بطرس 1: 11). وذكر لوقا إنباء السميح وقيامته ثلاثة مرات في إنجيليه (لوقا 12: 50 و13: 32-33 و17: 25) يدلُّ على الأهمية التي يُوليها لسر آلامه؛ لكن التلاميذ لم يفهموا هذا الانباء، لأنه يتناقض بين منزلة "المسيح الملك المنتظر ومذلة الصليب؛ حيث ان الصليب كما يصفه بولس الرسول "عِثارٍ لِليَهود وحَماقةٍ لِلوَثنِيِّين" (1 قورنتس 1: 23). 

 

27 فبَدأَ مِن مُوسى وجَميعِ الأَنبِياء يُفَسِّرُ لَهما جميعِ الكُتُبِ ما يَختَصُّ بِه.

 

تشير عبارة "فبَدأَ مِن مُوسى وجَميعِ الأَنبِياء" الى تتبع يسوع ترتيب التوراة بأقسامها الثلاث الكبرى: التوراة والانبياء والمزامير. اما عبارة " مُوسى "فتشير الى أسفار الشريعة الخمسة المعروفة بالتوراة " وهي تمهيد لمجيء المسيح، خاصة اول نبوءات موسى النبي " أَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه" (التكوين 3: 15)؛ وأمّا عبارة ِ "جميع الأَنبِياء " فتشير أولا الى الأنبياء الأربعة الكبار، وهم أشعيا وارميا وحزقيال ودانيال، ثم اثنا عشر نبياً من الأنبياء الصغار وهم: هوشع، ويوئيل وعاموس وعوبديا ويونان وميخا ونحوم وحبقوق وصفنيا وحجَّاي وزكريا وملاخي.  ورسالة الأنبياء هي إعداد الناس لقبول الإيمان، لان نبوءاتهم جاءت تمهيدًا لمجيئه.  وصرّح يسوع ان موسى والانبياء يشهدون لهُ امام اليهود "تَتصَفَّحونَ الكُتُب تظُنُّونَ أَنَّ لكُم فيها الحَياةَ الأَبديَّة فهِيَ الَّتي تَشهَدُ لي" (يوحنا 5: 39).  أمّا عبارة " يُفَسِّرُ لَهما جميعِ الكُتُبِ ما يَختَصُّ بِه " فتشير الى إعادة يسوع الصلة بين الأحداث التي وقعت له وتاريخ الخلاص بحسب مخطط الله الوارد في كتب الشرعة واسفار الانبياء.  إذ تصفّح يسوع اسفار الأنبياء سفرا سفراً شارحا الفقرات التي تتنبأ عن المسيح في الأمور المختصة به خاصة في قول صاحب المزامير " لأَنَّكَ لن تَترُكَ في مَثْوى الأَمْواتِ نَفْسي ولَن تَدَعَ صَفِيَّكَ يَرى الهوة " (مزمور 16: 10) وقوله أيضا " ثَقَبوا يَدَيَّ ورِجلَيَّ.  وأَحصَوا كُلَّ عِظامي وهمِ يَنظُرونَ وَيرَونَني.  يَقتَسِمونَ بَينهم ثِيابي ويَقترِعونَ على لِباسي " (مزمور 22: 17-19). ويُعلق كتاب التعليم المسيحي الكاثوليكي "موت يسوع الفدائي يتمِّم بنوع خاص نبوءة أشعيا عن العبد المتألم (أشعيا 53: 7-8). وبعد قيامته أعطى تلميذي عِمَّاوُس هذا التفسير للكتب" (بند 601). وهكذا اخذ يسوع يفسّر لهما حدث القيامة بالرجوع الى الكتب المقدسة فامنوا بالمسيح القائم لانهما فهما عندئذٍ معنى الاسفار المقدسة.  اما عبارة " يُفَسِّرُ لَهما جميعِ الكُتُبِ " فتشير الى عَرض جوهر الأمور بطريقة سهلة وواضحة. وتفسير الكتاب المقدس هي احدى المواهب التي يذكرها بولس الرسول في باسم موهبة "ترجمة الألسنة" أَلَعَلَّ لِلْجَمِيعِ مَوَاهِبَ شِفَاءٍ؟ أَلّعَلَّ الْجَمِيعَ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ؟ أَلَعَلَّ الْجَمِيعَ يُتَرْجِمُونَ؟ ɩσѵοѵ́ϵѵμηρϵɩδ” (11قورنتس 30:12). تتضح أهمية التفسير من خلال حديث فيلبس مع الخصيّ الحبشيّ “فَبَادَرَ إِلَيْهِ فِيلُبُّسُ يَقْرَأُ النبيّ إِشَعْيَاءَ فَسَأَلَهُ: «أَلَعَلَّكَ تَفْهَمُ مَا أَنْتَ تَقْرَأُ؟» فَأَجَابَ: «كَيْفَ يُمْكِنُنِي إِنْ لَمْ يُرشِدْنِي أَحَدٌ؟». وَطَلَبَ إِلَى فِيلُبُّسَ أَنْ يَصْعَدَ وَيَجْلِسَ مَعَهُ” (أعمال الرسل 8 :30-31)، ويُعلق القديس أوغسطينوس "أن الكلمة الإلهيّة لا تنفصل عن كلمة الآباء الذين يفسّرونها".

 

 

 كُتب الشريعة والانبياء هي جوهر الكتب المقدسة (لوقا 16: 16)، وتُقرأ في طقوس المجمع (أعمال الرسل 13: 15).  وفي القسم الأول من كل القداس الإلهي نقوم على خطى المسيح نبدأ بالقراءة الأولى من العهد القديم، ثم المزمور والرسالة والانجيل من العهد الجديد ثم العظة التي تفسّر ما ورد في هذه القراءات. يا ليتَ ما سمعه هذان التلميذان من حديث في تفسير المسيح وجدناه في سفر اعمال الرسل والرسائل!  

 

28 ولمَّا قَرُبوا مِنَ القَريَةِ الَّتي يَقصِدانِها، تظاهَرَ أَنَّه ماضٍ إِلى مَكانٍ أَبَعد.

 

تشير عبارة " تظاهَرَ أَنَّه ماضٍ إِلى مَكانٍ أَبَعد" الى يسوع الذي لا يفرض نفسه على أحد بل يريد ان يكون معنا بحريتنا، لذلك ينتظر دعوتنا له او نجدته كما حدث مع التلاميذ يوم العاصفة (مرقس 48:6)، ان الله العلي لا يفرض ذاتهُ أو وصايا علينا.  ويُعلق البابا غريغوريوس الكبير"إنهما كانا لا يزالا غريبين في الإيمان فتظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد".

 

29 فأَلَحَّا علَيه قالا: أُمكُثْ مَعَنا، فقد حانَ المَساءُ ومالَ النَّهار. فدَخَلَ لِيَمكُثَ معَهما.

 

تشير عبارة "أَلَحَّا علَيه" في الأصل اليوناني παρεβιάσαντο (معناها تمسكا به) الى عادة الضيافة الشرقية الفلسطينية (لوقا 14: 23)، حيث حمل هذا الالحاح كثيرا من المُفسّرين على الاعتقاد ان المسافرين وصلا الى بيتهما ودعيا يسوع كضيف من الضيوف. ويُعلق القديس أوغسطينوس "إن كنت تريد الحياة تشبَّه بتلميذي عِمَّاوُس حتى تتعرف على الرب. لقد ألحا عليه بالدعوة، وهو تظاهر أنه ينوي مواصلة الطريق. ولو اكتفيا بما سمعا منه، مَا حصلا على ما أعلنه عن كسر الخبز؟"  أمّا عبارة " أُمكُثْ مَعَنا " فتشير الى التمسك بيسوع وعدم الافتراق عنه حيث أصبح يسوع لهما ليس شخصا غريبا إنما شخصاً مقبولاً، مرحباً به وضيفا عزيزاً وواحدأً من اهل البيت.  لم يمكث يسوع عندهما الاَّ بعد ان امتحن رغبتهما في سماع كلامه. أنه ليس فقط يسوع الناصري التاريخي، انما هو أيضا يسوع الإيمان. ويُعلق البابا فرنسيس "أُمكُثْ معي. يا ربّ، أمكث معنا جميعًا، لأننا نحن بحاجة إليك كي نجد الطريق. فمن دونك يكون الليل" (عظة 26/4/2020). أمّا عبارة "دَخَلَ لِيَمكُثَ معَهما" فتشير الى رد فعل يسوع المسيح ولسان حاله "هاءَنَذَا واقِفٌ على البابِ أَقرَعُه، فإِن سَمِعَ أَحَدٌ صَوتي وفَتَحَ الباب، دَخَلتُ إِلَيه وتَعَشَّيتُ معه وتَعَشَّى معي" (رؤية 3: 22). فمن خلال "خبز الحياة "، يحقّق الرّب يسوع المسيح وعدَه بأن يبقى معنا كما قال "هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم" (متى 28: 20).  يحس بنا ان نصلي: امكث معنا يا رب في مساء كل يوم، وفي كل ساعة يعترينا فيه الحزن واليأس فيلتهب قلبنا فيك، يا رب، وتكلمنا بكلمات التعزية والرجاء.

 

 30 ولمَّا جَلَسَ معَهُما لِلطَّعام أَخذَ الخُبْزَ وبارَكَ ثُمَّ كسَرَهُ وناوَلَهما.

 

تشير عبارة "ولمَّا جَلَسَ معَهُما" في الأصل اليوناني ατακλιθῆναι (معناها يتكئ) الى جلوس مستندا على جنبه إلى مخدَّة او وسادة من اجل الطعام بحسب عادة اليهود زمن الرومان.  اما عبارة "اِلطَّعام" فتشير الى إثبات أنه قام بجسده، وأنه ليس روحًا كما يظنُّون، الجسد المُمجَّد لا يحتاج لطعام فهو لا يجوع ولا يعطش، إنما الطعام ليُثبت قيامته. أمّا عبارة "بارَكَ" فتشير الى كلمات الشكر التي تلفظها السيد المسيح مساء الخميس في العشاء الاخير (لوقا 22: 19).  وطلب بركة الله على الخبز هو امر يتعلق برب البيت لا بالضيف الاّ إذا طلب رب البيت ذلك منه إكراما له كما كان الحال هنا. أمّا عبارة "كسَرَهُ" فتشير الى أربع حركات: أخذ الخبز، وبارك (شكر)، وكسر وناول.  كسر يسوع الخبز من اجل توزيع الطعام كما فعل في العشاء الأخير (لوقا 22: 19) دلالة على حضوره الحقيقي. فكل هذه الحركات أزاحت الحجاب عن عيون التلميذين، فعرفا الرب. لان هذا الاحتفال تخطّى اللقاء العائلي اليهودي، الى اللقاء المسيح في الاسرار المقدسة.  فكسر الخبز مكّن تلميذي عِمَّاوُس، من معرفته من خلال الإفخارستيا التي بها نستحيل الى جسد المسيح " أَلَيسَت كَأسُ البَرَكةِ الَّتي نُبارِكُها مُشارَكَةً في دَمِ المسيح؟ أَلَيسَ الخُبْزُ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟ " (1قورنتس 10: 16)؛ أمّا عبارة "وناوَلَهما" فتشير الى نفس الألفاظ الإفخارستيا في العشاء الأخير "أَخَذَ خُبْزاً وشَكَرَ وكَسَرَه وناوَلَهُم إِيَّاهُ وقال: هذا هو جَسدي يُبذَلُ مِن أَجلِكُم. اصنعوا هذا لِذِكْري" (لوقا 22: 19). ومن هذا المنطلق، لم يكن العشاء عادي بل عشاء ربَّاني.  ويقول المجمع الفاتيكاني الثاني: " لقد احترمت الكنيسة دوماً الكتب الالهية كما فعلت أيضاً نحو جسد الرب بالذات وهي لا تنفكّ، ولا سيّما في الليتورجيا المقدّسة، تأخذ خبز الحياة على مائدة الكلمة وعلى مائدة جسد المسيح، لتقدّمه للمؤمنين". وكلما نكسر الخبز القرباني نعيش في القسم الثاني من القداس الإلهي نصبح مبشِّرين بقيامة الرب.

 

31 فانفَتَحَت أَعيُنُهما وعرَفاه فغابَ عنهُما.

 

تشير عبارة "انفَتَحَت أَعيُنُهما " الى التناول الذي يعطى انفتاح عيونهما وإعطائهما نظرة جديدة، قادرة على رؤيته داخل حياتهما، وداخل تاريخهما.  ويُعلق الأب ثيؤفلاكتيوس "تُفتح أعين الذين يتقبلون الخبز المقدس لكي يعرفوا المسيح، لأن جسد الرب يحمل فيه قوته العظيمة غير المنطوق بها"؛  أمَّا عبارة " وعرَفاه " فتشير الى

الدخول في علاقة شخصية مع المسيح معترفين به ليس يسوع الناصري فحسب بل يسوع القائم من بين الأموات.  أمّا عبارة "غابَ عنهُما" في الأصل اليوناني ἄφαντος ἐγένετο (معناها صار خفياً) فتشير الى وجود المسيح "الجسدي" الذي لم يَعد ضروريًا، وكان بإمكانه تركهما، مما يشير أيضا الى جسد القيامة الذي لم يكن خاضعا لنواميس العالم الطبيعي. انه يعيش على صعيد آخر من الكيان. وبهذا نفهم أن شكوكهما كانت تنقشع رويدًا رويدًا على إثر البراهين التي يُظهرها يسوع لهما.

 

32 فقالَ أَحَدُهما لِلآخَر: ((أَما كانَ قلبُنا مُتَّقِداً في صَدرِنا، حينَ كان يُحَدِّثُنا في الطَّريق ويَشرَحُ لنا الكُتُب؟

 

تشير عبارة " أَما كانَ قلبُنا مُتَّقِداً في صَدرِنا " الى تأثير كلام المسيح فيهما حيث بعث في قلبيهما الفرح والرجاء. امَّا عبارة " في الطَّريق" فتشير إلى أهمية الطريق في هذه الرواية، في الطريق ظهر لهما، وحدثهما عن قيامته، وسار معهما على الطريق، وهو على الطريق حي معهما، وهما معه بلا رجاء. ان المسيح هو الذي يلقانا على كل طريق، قبل ان نلقاه. والطريق هي مسيرة الله منذ الخلق وتستمر مع مسيرة المسيح في كنيسته. ويعلق البابا فرنسيس "إنها قصة تبدأ وتنتهي على الطريق.   أمّا عبارة " مُتَّقِداً" فتشير الى نار الرُّوح القدس الذي يُحدث التغيّرات كلّها بواسطة فم مَن هو الحق نفسه يسوع المسيح. فعندما نستمع إلى كلمة يسوع، تتحوّل فينا كلمته إلى شعلة داخليّة عذبة تُوقظنا فيتقد قلبنا فرحا كبيرا. امَّا عبارة "يَشرَحُ لنا الكُتُب؟ " فتشير الى رغبة التلميذين الى مواصلة الاستماع إلى تفسير يسوع الذي كان يرويه بطريقة جديدة حيث ان رموز الكتب المقدسة ونبوءاته تمَّت في اعمال المسيح وموته وقيامته.  لنجدد لإيماننا في الكتاب المقدس هاتفين " يا يسوع انت حقيقة موجود في الكتاب المقدس وإننا نؤمن بك وكل ثقتنا فيك".

 

 33 وقاما في تِلكَ السَّاعَةِ نَفْسِها ورَجَعا إِلى أُورَشَليم، فوَجَدا الأَحَدَ عشَرَ والَّذينَ مَعَهم مُجتَمِعين،

 

تشير عبارة "قأمّا" الى قوة القيامة التي اكتسباها عبر اتصالهما مع يسوع القائم؛ أمَّا عبارة " في تِلكَ السَّاعَةِ نَفْسِها " فتشير الى رغبتهما في مشاركة سائر التلاميذ حالا في فرحهما على الرجوع الى اورشليم غير مكترثين بالتعب او خطر سفرهما في الليل.  أمّا عبارة " رَجَعا إِلى أُورَشَليم" فتشير الى العودة الى اورشليم عند حلول الليل، وجزء كبير من الطريق كان صعودًا، بعد تعب مسيرة الذهاب وتعب النهار كله. وما يميّز بشارة لوقا التي تبدأ أحداثه في مدينة أورشليم وتنتهي فيها. بدأت رواية تلميذي عِمَّاوُس في مغادرة اورشليم وانتهت بالرجوع اليها. ان الله حوّل اتجاههم، فبعد أن كانا متجهين إلى عِمَّاوُس تاركين خلفهما أورشليم، خوفًا من اضطهاد اليهود أو ربما ظنا أن قصة المسيح قد انتهت بموته، تركا عِمَّاوُس واتجها بوجهما وقلبهما وفكرهما نحو أورشليم. وهكذا شفاهما المسيح مِنِ ارتدادهما (هوشع 5:14). ان تلميذي عمواس سارا بصحبة يسوع على طريق الايمان، فتحوَّل اكتئابهما الى الرجاء وحزنهما الى فرح، وأخذا يبشران بالمسيح القائم. امَّا عبارة "الأَحَدَ عشَرَ" فتشير الى اسم جماعة الرسل بعد انفصال يهوذا الإسخريوطي عنهم بغض انظر عن العدد، وهذا ما اكَّده بولس الرسول " أَنَّه تَراءَى لِصَخْرٍ فالاْثَني عَشَر" (1 قورنتس 15: 5)؛ أما عبارة "" فتشير الى اجتماع الرسل في العلية ويضيف يوحنا ان الأبواب كانت مغلقة خوفا من اليهود " وفي مَساءِ ذلك اليَومِ، يومِ الأحد، كانَ التَّلاميذُ في دارٍ أُغْلِقَتْ أَبوابُها خَوفاً مِنَ اليَهود"(يوحنا 20: 19). وعندما يغيب يسوع، تعود الجماعة لتظهر من جديد من خلال خبرتهم المشتركة المتمثلة في لقاء بالمسيح الحي حقًا، والحاضر في حياة تلاميذه.  

 

 34 وكانوا يَقولون إِنَّ الرَّبَّ قامَ حَقاً وتَراءَى لِسِمْعان.

 

تشير عبارة " كانوا يَقولون " الى تبشير الرسل تلميذي عِمَّاوُس بقيامة الرب قبل ان يُبشِّرا. أمَّا عبارة "تَراءَى لِسِمْعان" فتشير الى إعلان الجماعة المسيحية الأولى المكوّنة من الرسل والذين معهم بظهور الى سمعان بطرس. وهذا الإعلان هو أول ظهور المسيح للرسل لم يذكر الأناجيل، لكن أكده بولس الرسول في لائحة الترائيات: "أَنَّه تَراءَى لِصَخْرٍ فالاْثَني عَشَر" (1 قورنتس 15: 5). امَّا عبارة " حَقاً " في الاصل اليوناني ὄντως (بالحقيقة) فتشير الى الكلمة الجوهرية في هذه الآية. فامر قيامة المسيح لم يُعد خيالا او موضوعا للجدال والشك، بل أصبح أمراً حقيقياً، وذلك بشهادة الرسل. امَّا عبارة "تَراءَى لِسِمْعان" فتشير الى ظهور الرب لبطرس الرسول كما اكَّد بولس الرسول " أَنَّه تَراءَى لِصَخْرٍ فالاْثَني عَشَر" (1 قورنتس 15: 5). لا نعرف تفاصيل ذلك الظهور ولكن من المرجح انه ظهر لبطرس قبل ظهوره لتلميذي عِمَّاوُس. أمّا عبارة "سمعان " في الأصل اليوناني Σίμων مشتق من العبرية שִׁמְעוֹן (معناه مستمع) فتشير الى سمعان بطرس، الذي حين تبع يسوع سُمِّي "كيفا وهي كلمة آرامية כֵיפָא معناها صخرة، يقابلها في العربية صفا أي صخرة وقد أطلق عليه يسوع هذا الاسم "َأنتَ سِمْعانُ بنُ يونا، وسَتُدعَى كِيفا، أَي صَخراً" (يوحنا 1: 42). والصخرة باليونانية πέτρᾳ ومنها بطرس Πέτρος (متى 16: 18).

 

35 فرَوَيا ما حَدَثَ في الطَّريق، وكَيفَ عَرَفاه عِندَ كَسْرِ الخُبْز.

 

تشير عبارة "رَوَيا ما حَدَثَ في الطَّريق" الى مشاركة الآخرين الى معرفة يسوع حيث أن التبشير باسمه أصبح ضروريا كما صرَّح بولس الرسول "والوَيلُ لي إِن لم أبَشِّر!" (1 قورنتس 9: 16). لم يستطيع التلميذان أن يحتفظا لهما بالفرح الذي غمر قلوبهما، ولم يستطيعا السكوت عنه، لأنّ المُحبّ يرغب في جعل من يُحبّه محبوباً؛ ويُعلق البابا فرنسيس على عبارة "في الطريق" بقوله: "في الحياة نحن دائمًا في مسيرة. ونصير بحسب ما نسير إليه. ليكن اختيارنا السير في طريق الله، وليس في طريق الأنا"(عظة الاحد 26/4/2020)؛ أمّا عبارة "عِندَ " في اليونانية ἐν (معناها بفضل) فتشير الى فضل كَسْرِ الخُبْز؛ أمّا عبارة " كَسْرِ الخُبْز" فتشير الى الإفخارستيا، وهي ذكرى ذبيحة يسوع على الصليب. فالخبز الذي كسره لتلميذي عمواس هو سر شركة والفة واتصال، فعندما تناول التلميذين جسد الرب عرفا يسوع الرب القائم. 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 24: 13-35)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (لوقا 24: 13-35)، يمكن ان نستنتج ثلاثة عناصر لظهور المسيح بعد قيامته: مفهوم ظهور المسيح القائم على الطريق، والايمان به من خلال الكتاب المقدس ومعرفته من خلال الإفخارستيا.

 

1) ظهور المسيح القائم على طريق عِمَّاوُس، 

 

يروي لوقا الإنجيلي ظهور المسيح القائم على طريق عِمَّاوُس، " بَينَما هُما يَتَحَدَّثانِ ويَتَجادَلان، إِذا يسوعُ نَفْسُه قد دَنا مِنهُما وأَخذَ يَسيرُ معَهما (لوقا 24: 15).  ظهر يسوع القائم من الموت لتلميذين على طريق عِمَّاوُس.  والظهور وسيلة من وسائل التعبير عن وحي الله، الذي بواسطته تصبح الكائنات غير المنظورة بطبعها حاضرة بشكل منظور. وإن أقدم قائمة لظهورات يسوع القائم من بين الاموات يقدّمها لنا القديس بولس في سنة 55، انطلاقاً من تقليد كان قد تسلّمه قبل ذلك، وهذا نصَّه "أَنَّه تَراءَى لِصَخْرٍ فالاْثَني عَشَر، ثُمَّ تَراءَى لأَكثَرَ مِن خَمْسِمِائَةِ أَخٍ معًا لا يَزالُ مُعظَمُهُم حَيّاً وبَعضُهُم ماتوا، ثُمَّ تَراءَى لِيَعْقوب، ثُمَّ لِجَميعِ الرُّسُل، حتَّى تَراءَى آخِرَ الأَمرِ لي أَيضًا أَنا السِّقْط" (1 قورنتس 15: 5-8). وتندرج ظهور يسوع لتلميذي عِمَّاوُس، الى الظهورات الخاصة التي تدور روايتها حول إضاءة المسيح لتلميذي عِمَّاوُس طريقهما فآمنا به المسيح الحي القائم عن طريق تفسير الكتاب المقدس ويُعلق البابا يوحنا بولس الثاني " استطاع نور الكلمة أن يليِّن قساوة القلب، فانفتح قلبي تلميذي عماوس وانفتحت أعينهما"، ثم عرفاه عن طريق كسر الخبز أي الإفخارستيا وأصبحا شاهدين لقيامته المجيدة.

 

ركز لوقا الإنجيلي في رواية ترائي المسيح لتلميذي عِمَّاوُس على الطريق فتكرَّرت كلمة الطريق مرتين في النص (لوقا 24: 32، 35).  كان طريق ذهاب تلميذي عِمَّاوُس من اورشليم الى قرية عِمَّاوُس سهلا وخلال النهار؛ امَّا طريق العودة من قرية عِمَّاوُس الى اورشليم فكانت متعبة خلال الليل. تمّت المسيرة الأولى في الحزن، أمَّا الثانية في الفرح. في الأولى كان الربّ يسوع يسير بجانبهما، ولكنهما لم يعرفاه؛ أما في الثانية فهما لا يرياه، ولكنهما يشعران بقربه منهما. في الأولى كانا محبطَيْن ويائسَيْن؛ أمَّا في الثانية، فهما يركضان لكي يحملا للآخرين البشرى السارة خول ترائي المسيح القائم من بين الأموات لهما.  ويعلق البابا فرنسيس "نحن تلاميذ يسوع اليوم، أن أمامنا أيضًا في الحياة اتجاهين متعارضين: هناك درب نسمح لإخفاقات الحياة بأن تشلّنا فنواصل حياتنا بحزن؛ وهناك درب لا نضع أنفسنا ومشاكلنا في المرتبة الأولى، إنما نضع يسوع الذي يرافقنا". يتم التحول في الانتقال من التفكير فيما هو لي إلى التفكير فيما هو لله، مِن الأنا إلى الله.

 

2) ظهور المسيح القائم والايمان به عن طريق الكتب المقدسة (لوقا 24: 25-27)

 

آمن تلميذا عِمَّاوُس بيسوع القائم عن طريق تفسير يسوع الكتب المقدسة لهم كما صرَّح "أَحَدُهما لِلآخَر: أمّا كانَ قلبُنا مُتَّقِداً في صَدرِنا، حينَ كان يُحَدِّثُنا في الطَّريق ويَشرَحُ لنا الكُتُب؟ " (لوقا 24: 32). وتوحي دراسة المفردات بحسب الكتاب المقدس بأن للإيمان قطبين، القطب الأول: מַאֲמִין في العبرية وفي اليونانية πίστις أي الثقة التي تتجه نحو شخص وتلزم الإنسان بكليته، والقطب الثاني בִטָּח أي مسعى العقل الذي تتيح له كلمة أو بعض العلامات، بلوغ حقائق لا يعاينها (عبرانيين 11: 1).

 

أخذ يسوع بأسلوبه التربوي في الوعظ، يفسّر للتلميذين الكتب المقدسة. بدأ يدنو منهما ويسأل عن حالتهما بالرغم من عدم تعرّفهما عليه. وتظاهر أنه يجهل ما جرى في أورشليم، ليعطيهما مجالاً أكبر للتعبير، ثم اخذ يفسّر لهما حدث القيامة بالرجوع الى الكتب المقدسة "بما يَختَصُّ بِه، بداية من نسل المرأة الموعود في سفر التكوين (التكوين 3: 12) مروراً بالعبد المتألم في سفر أشعيا (فصل 53)، ثم الانسان المطعون في سفر النبي زكريا (زكريا 9: 13)، والسيد الموعود به في نبوءة ملاخي " يَأتي فَجأَةً إِلى هَيكَلِه السَّيِّدُ الَّذي تَلتَمِسونَه، ومَلاكُ العَهدِ الَّذي تَرتَضونَ بِه. ها إِنَّه آتٍ، قالَ رَبُّ القُوَّات " (ملاخي 3: 1)، وفسّر كل ما يدور حول آلام المسيح وقيامته. "أَما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه" (لوقا 24: 26).   وبيَّن لهما ان موته لم يكن مُكرها او صدفة، لكنه كان بحسب مخطط الله الآب ومشيئته في تاريخ الخلاص.  لقد اعدّه الله منذ الازل ما تحقق في شخص يسوع المسيح، ومن هذا المنطلق، مراجعة الكتب المقدسة بعمق وحرارة والاستماع الى خير وسيلة للإيمان في يسوع المسيح.  يوضَّح العهد القديم العهد الجديد، ويوصلنا الى الانجيل.  ويعلق سينودس الأساقفة " عندما نقرأ الكتاب المقدس في الكنيسة، نسمع صوت المسيح نفسه يتكلم " (كلام الله في حياة الكنيسة ورسالتها).

 

وتمكن يسوع من خلال تفسير الكتب المقدسة ان يفتح أذهان تلميذي عِمَّاوُس ليفهما ان من مات صلبا هو المسيح الملك المنتظر القائم من الأموات. وهكذا انتقل تلميذا عِمَّاوُس من الشك الى نور الايمان، ومن الرفض الى القبول، ومن خيبة الامل الى الرجاء، ومن اليأس الى الفرح، من محبطين الى مُبشِّرين بالمسيح القائم الى إخوتهم في اورشليم. لا بد من ان تضطرم قلوبنا في قراءتنا الكتاب المقدس وان نعيد قراءته مراراً وتكرارا لكي نستطيع ان نلتقي المسيح القائم من بين الأموات من خلال هذه الاسفار المقدسة. ويُعلق القديس ايرونيموس " عدم فهم الكتب المقدسة هو عدم فهم المسيح ".  فاللقاء الشخصي بالقائم من بين الأموات من خلال الكتب المقدسة من شانه وحده ان يوّلد الايمان به.   ويُعلق البابا يوحنا بولس الثاني " إن سماع كلمة الله هيّا تلميذي عماوس معرفة المسيح على المائدة عندما كسر الخبز".

 

3) ظهور المسيح القائم ومعرفته عن طريق الإفخارستيا (لوقا 24: 28-32)

 

إذا كانت الوسيلة الأولى للقاء المسيح والايمان به هو قراءة الكتاب المقدس وفهم تفسيره، فان الوسيلة الثانية لنعرف المسيح معرفة وجدانية هي الإفخارستيا. عرف لتلميذا عِمَّاوُس المسيح في الإفخارستيا (لوقا 24: 28-32). والإفخارستيا هي مشاركة يسوع في كسر الخبز: "لمَّا جَلَسَ معَهُما لِلطَّعام أَخذَ الخُبْزَ وبارَكَ ثُمَّ كسَرَهُ وناوَلَهما". استعمل يسوع الفاظا افخارستيا ليُفهم تلميذي عِمَّاوُس، بان "كسر الخبز يمكِّنهما من اللقاء ومعرفة المسيح القائم من بين الاموات. فكسر الخبز كانت علامة لحضوره الحي في وسطهما كما جاء في النص الإنجيلي "فانفَتَحَت أَعيُنُهما وعرَفاه" (لوقا 24: 31) وكما صرّح التلميذان نفسهما " كَيفَ عَرَفاه عِندَ كَسْرِ الخُبْز " (لوقا 24: 35).

 

نستنتج مما ورد ان معرفة شخص يسوع المسيح ليس مجرد أفكار، بل الدخول في علاقات شخصية وجدانية معه من خلال الإفخارستيا. لمَّا أخذ يسوع خبزاً، بارك، كسر وأعطاهما رفع غشاوة الجهل وقلّة الايمان عن عيونهما فعرفا المسيح القائم في علامة الشراكة.  ويعلق البابا بندكتس السادس عشر “ إن فكَّرنا وعِشنا متحدين مع المسيح، ستنفتح عيوننا". أن المسيح الربّ حاضر بشكل حقيقيّ في الإفخارستيا، بجسده ودمه ونفسه ولاهوته، ولكنّنا لا نراه سوى بعيون الإيمان. نرى بعيوننا خبزا وخمراً، امَّا الايمان فيقول لنا هذه الخبز هو جسد الرب وان هذا الخمر هو دمه الاقدس.  ويُعلق القديس كيرلس الاورشليمي " إن كان حواسنا تنكر هذا فالإيمان يثبِّته".  لنشكر الله ونتذكر وجوده الحي ونسير معه الى السماء من خلال الإفخارستيا.

 

الإفخارستيا شكر

 

تعني كلمة "إفخارستيا" مبدئياً عرفان الجميل والامتنان، وبالتالي إبداء الشكر. وما القداس الإلهي إلا فعل شكر لله أبينا وأمّا في المفهوم المسيحي فالإفخارستيا تدل على العمل الذي أسَّسه يسوع عشية موته بتقديم نفسه على الصليب "أَخَذَ خُبْزاً وشَكَرَ وكَسَرَه وناوَلَهُم إِيَّاهُ وقال: "هذا هو جَسدي يُبذَلُ مِن أَجلِكُم. إِصنَعوا هذا لِذِكْريوصنَعَ مِثلَ ذلكَ على الكأسِ بَعدَ العَشاءِ فقال: هذِه الكَأسُ هي العَهدُ الجَديدُ بِدمي الَّذي يُراقُ مِن أَجْلِكم " (لوقا 22: 19-20).  ويعلق البابا يزحنا بولس الثاني "ذبيحة المسيح وذبيحة الإفخارستيا هما ذبيحة واحدة" (الإفخارستيا في علاقتها بالكنيسة 2003).

 

ان كسر الخبز يصبح أفخارستيا عندما نستعيد كلمات السيد المسيح وافعاله، طلبا للاشتراك في حضوره السري تحت اعراض الخبز والخمر كما يؤكّده بولس الرسول "فإِنِّي تَسَلَّمتُ مِنَ الرَّبِّ ما سَلَّمتُه إِلَيكُم، وهو أَنَّ الرَّبَّ يسوع في اللَّيلَةِ الَّتي أسلِمَ فيها أخَذَ خُبْزًا وشَكَرَ، ثُمَّ كَسَرَه وقال: هذا هو جَسَدي، إِنَّه مِن أَجْلِكُم. اِصنَعوا هذا لِذِكْري)). وصَنَعَ مِثلَ ذلكَ على الكَأسِ بَعدَ العَشاءِ وقال: هذه الكَأسُ هي العَهْدُ الجَديدُ بِدَمي. كُلُّمَا شَرِبتُم فاصنَعوه لِذِكْري"(1 قورنتس 11: 25-26). إن الإفخارستيا سرّ ذبيحة المسيح، سرّ المحبة، سر الوحدةْ في جسد المسيحْ. انها سر الأكثر فاعلية والتي تُجسِّد حضور المسيح القائم وموته وقيامته. أنها سر الايمان العظيم، ومحور العبادة المسيحية. لنجدِّد إيماننا في ذبيحة المسيح هاتفين: يا يسوع، إننا نؤمن بذبيحتك من اجلنا ومن اجل جميع الناس على الارض.

 

الإفخارستيا "تذكار"

 

تنطوي الإفخارستيا أيضا على استحضارٍ أعظم عجائب الله، وهي تضحية ابنه المبذولة لاستعادة الخلاص للبشر. الإفخارستيا ليست ذكرى من الماضي) بل تذكار و "التذكار هو شكل من أشكال اللقاء" كما يقول جبران خليل جبران. اجل!  الإفخارستيا هي تذكار لحضور يسوع الدائم في كنيسته بعد غيابه الجسدي، وصدى صوته يتردّد في أعماق قلوبنا قائلاً:" إِصنَعوا هذا لِذِكْري" (لوقا 22: 19). فالمكان المُفضَّل لحضور يسوع هو القربان الاقدس.  ويُعلق البابا بولس السادس "يسوع حاضر بجسده تماما كما نحن حاضرون بجسدنا أمامه. ماذا يستطيع يسوع ان يفعل أكثر مما فعل؟ ". ففي الإفخارستيا يُرينا يسوع حقيقة: ان محبته هي محبة بلا حدود. الله يعطينا نفسه كاملة بكل محبة دون أن يبخل علينا بشيء". 

 

 الإفخارستيا هي أعجوبة محبة يشترك المؤمنون فيها باتحادهم بالشركةْ في جسد الرب، وبها يتَّحدون مع جميع أعضائه المؤمنين كما يصرِّح بولس الرسول "أَلَيسَت كَأسُ البَرَكةِ الَّتي نُبارِكُها مُشارَكَةً في دَمِ المسيح؟ أَلَيسَ الخُبْزُ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟  فلمَّا كانَ هُناكَ خُبزٌ واحِد، فنَحنُ على كَثرَتِنا جَسَدٌ واحِد، لأَنَّنا نَشتَرِكُ كُلُّنا في هذا الخُبْزِ الواحِد (1 قورنتس 10: 16-17). وفي الواقع، إن هذه الرموز تكمُل في يسوع، فهو "خبز الحياة "، أولاً بكلمته التي تفتتح الحياة الأبدية لمن يؤمنون " أَنا خُبزُ الحَياة. مَن يُقبِلْ إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِنْ بي فلَن يَعطَشَ أبَداً" (يوحنا 6: 36)، وثانيا بجسدهْ ودمه ْ اللذين أُعطيا طعاماً وشراباً للمؤمنين "لأَنَّ جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ حَقّ 56 مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه" (يوحنا 6: 55 -56). ويردّد المؤمنون هذه الحقيقة في القداس الماروني " وحَّدتَ يا ربّ لاهوتَكَ بناسُوتِنا، وناسوتَنا بلاهُوتِك، حياتَكَ بموتِنا، وموتَنا بحياتِكَ. أخذتَ ما لنا ووهَبتنا ما لَكَ، لتُحيينَا وتُخَلِّصَنا، لك المجد إلى الأبد".

 

وفي كل مرة يحتفل المسيحيون بالإفخارستيا (القداس الإلهي)، يُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إِلى أن يَأتيهم كما جاء في تعليم بولس الرسول " فإِنَّكُمَ كُلَّمَا أَكَلتُم هَذا الخُبْز وشَرِبتُم هذِه الكَأس تُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إِلى أن يَأتي " (1 قورنتس 11: 26)، بمعنى أنهم بالإيمان يتذكرون عمله الخلاصي، أو لعلهم بالأحرى يستعيدونه ليتذكره الرب

كما جاء في كلمات الملاك الى قُرنيلِيوس، قائدُ مِائةٍ في قيصرية: "إِنَّ صلواتِكَ وصَدَقاتِكَ قد صَعِدَت ذِكْراً عِندَ

عِندَ اللّه" (أعمال الرسل 10: 4)، كتقدمة مُتجدِّدة باستمرار تستدعي نعمته.

 

وتزوِّد الإفخارستيا المؤمن بالاتصال الحسي مع المسيح القائم من بين الأموات كما جاء في تعليم يوحنا الرسول " الكَلامُ الَّذي كلَّمتُكُم به رُوحٌ وحَياة" (يوحنا 6: 63)، فالخبز والخمر التي تقوم عليها الإفخارستيا يكون المسيح المائت ثم القائم من الموت، حاضراً حضوراً حقيقياً وبواسطتها نشترك في جسد المسيح كما يُعلمنا بولس الرسول " َلَيسَت كَأسُ البَرَكةِ الَّتي نُبارِكُها مُشارَكَةً في دَمِ المسيح؟ أَلَيسَ الخُبْزُ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟ " 1 قورنتس 10: 16). ويُعلق القديس البابا لاون الكبير "ما ينجمُ عن المشاركةِ في جسدِ المسيحِ ودمِه هو أنّنا نتحوّلُ إلى ما نأخذُه ونتغذّى به. فنحملُه في كلِّ شيءٍ وفي كلِّ مكانٍ، في روحِنا وفي جسدِنا، وهو الذي مُتْنا ودُفِنَّا وقُمْنا معه"؛ ومن أجل ذلك فإن القداس ذَبيحة، مطابقة لذبيحة الصليب التاريخية، بواسطة تقدمة محبة المسيح الكاملة التي تنشئ ذبيحة القداس، مع الاختلاف فقط من حيث الظروف العارضة في الزمان والمكان التي تتجدَّد فيها الذبيحة. وهذه الذبيحة الإفخارستيا تشكل كنزاً لا مثيل له أوكل الى الكنيسة. يعلق القدي يوحنا فيانيّ " ماذا يفعل يسوع في بيت القربان؟ هو ينتظرنا. هو موجود هنا بقلبه الطيِّب وينتظرنا لكي نذهب إليه ونبوح له بما نريد، وسنحصل عليه".

 

 الإفخارستيا طريق للسماء

 

لا تتم معرفة يسوع في آخر المطاف الاَّ في "كسر الخبز". فلا يقتصر الإيمان على إتباع يسوع كنَبيّ ضحَّى بنفسه، بل إنه يتضمن أن نحيا بحياة الربّ، الذي قام ويُقيمنا، وهو الذي نلقاه في الإفخارستيا.   الإفخارستيا هي ذبيحة يسوع على الصليب التي تفتح الطريق الى السماء (عبرانيين 9: 24)؛ فلم يُعد هذا الطريق بعد ذلك الشريعة، بل شخصا، وهو يسوع المسيح نفسه الذي قال: " أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إِلى الآبِ إِلاَّ بي" (يوحنا 14: 6). ولهذا كان الرب يسوع نفسه يقول" إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ وتَشرَبوا دَمَه فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياةمَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة " (يوحنا 6: 53-54). ويُعلق البابا يوحنا بولس الثاني " المسافر الإلهي يسوع المسيح القائم من بين الأموات، يرافقنا في طرق حياتنا المليئة بالأحزان والقلق وجميع أنواع الصعوبات والمشاكل والإحباطات، ويفسّر لنا الكتب المقدسة في ضوء سرّ الله" ويهبنا جسده ودمه حياة لنفوسنا من خلال سر الإفخارستيا والقربان المقدس".  ويعلق البابا يوحنا بولس الثاني " نحن في احتفالنا بذبيحة الحمل في الإفخارستيا نشترك في ليتورجيا السماء ونتحد بالجموع التي تهتف للحمل الذي على العرش". أجل، أمامنا في الإفخارستيا يسوع الذي هو الحمل الجالس على العرش. ومن هذا المنطلق الإفخارستيا هي العلامة الكبرى لقيامة الرب، وهي سر الدخول في ملكوت الله، دخول عالم السماء في عالم الارض، لكي تدخل الكنيسة التي في الارض في عالم السماء.  ويعلق الكردينال يواكيم ميسنر " في الإفخارستيا نحن نسجد ونرى ليس فقط مسيحا يريد ان يبقى معنا، بل أيضا يريد ان يصحبنا معه الى ألاب". 

 

قبل رؤية تلميذي عِمَّاوُس يسوع القائم من الموت وقبل سماعه ومشاركته في كسر الخبز كانا في حالة ذريعة من الكأبة والياس (لوقا 17-21)، أمّا عندما رأياه وسمعاه وشاركاه كسر الخبز حدث تغيّرٌ عجيبٌ في حياتهما فتحوّلا من الياس الى الرجاء، ومن الحزن الى الفرح، ومن الخوف إلى الثقة والاطمئنان، وانطلقا يناديان بالمسيح المصلوب والقائم، وأصبحا رسولين. ذهبا الى اورشليم كي يشهدا لإخوتهما بأنّ المسيح الرب قد قام واحتفلا بإيمانهما مع اخوتهم (لوقا 24: 33-35). فعندما نؤمن بيسوع ونعرفه في الإفخارستيا لا نستطيع ان نظل متسمّرين في مكاننا، بل يتوجب علينا ان نسرع في حمل الرسالة الى جميع اخوتنا ونشهد ليسوع الحي الذي هو طريقنا الى السماء. يسوع يمنحنا نعمة معرفته بوضوح في الكتب المقدسة، ويقيمنا معه في الإفخارستيا، ويجعلنا ندخل معه في مجده. ويُعلق البابا يوحنا بولس الثاني "عندما نتأمل يسوع الموجود في الإفخارستيا، يتقرب منَّا ويصبح جزءا لا ينفصل عنَّا. فهو يشاركنا حياته الإلهية، وهذه الوحدة تغيِّرنا، وبقدرة الروح القدس يفتح لنا طريق الآب، كما قال لفيلِبُّس "مَن رآني رأَى الآب" (يوحنا 9: 14) (رسالة الى مطران لييج 1996). لنعش حياتنا ساجدين وعابدين لله حقا!


الخلاصة

 

قام يسوع مرّة واحدة، منذ ألف عام، ولم يَرَه أحد يقوم آنذاك. لكن الانجيل المقدس اليوم يكشف عن حضور يسوع الحي مع تلميذي عِمَّاوُس.  كشف يسوع عن نفسه لهما وشجَّعهما في الشدة، وأُبرز المعنى العميق لموته. بدا الكشف بشكل احتفال ديني: بتصفُّح الكتب المقدسة وتفسيرها وتبع ذلك العشاء وكسر الخبز، وبهذا نقل يسوع تلاميذه من شك الصليب (لوقا 24: 18-21) الى الايمان به بواسطة تفسير الكتاب المقدس وكسر الخبز (لوقا 24: 27-31).

 

بقي كسر الخبز او القداس الإلهي الذي ما زال المؤمنون يمارسونه العلامة لحضوره في وسطهم. ويظن الكثيرون أن الذين عرفوا الخلاص كانوا هم من بحثوا عن الله. والحقيقة هي أن الله هو الذي كان يبحث عنهم ويريد أن يُظهر ذاته لهم كما فعل مع تلميذي عِمَّاوُس. لقد اختار الله في محبته ونعمته أن يكون ابنه يسوع المسيح الطريق الوحيد إليه. لذلك قال ربنا يسوع " أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إِلى الآبِ إِلاَّ بي" (يوحنا 6:14). فالسؤال التي يطرح فلماذا لا نتبع يسوع؟

 

في مسيرتنا مع تلميذي عِمَّاوُس، لنحاول أن نكتشف مسيرتنا الإيمانية من: الانجذاب ليسوع وتعاليمه ثم دعوته لنا، وصعوبات قرار اتباع المسيح، حتى نصل في النهاية إلى التعرف على المسيح القائم. هي دعوة كل مكرَّس، الذي يمر بحياته المكرسة بكافة المراحل التي مر بها تلميذي عِمَّاوُس منذ سماع صوت الدعوة إلى الاكتشاف الحقيقي لله في الحياة المكرسة. 

 

دعاء

 

يا ربنا يسوع المسيح القائم من الموت، الذي ظهرت لتلميذين في طريقهما الى عِمَّاوُس، تعالَ وسر معنا في طريق حياتنا وافتح قلبنا إلى فهم الكتب، فيزداد إيماننا بك ربا والها، تعالَ وكشف لنا عن ذاتك في كسر الخبز في القداس الإلهي فتنفتح عيوننا بحضورك الحي، من خلال جسدك ودمك وروحك ولاهوتك، في سرّ القربان الأقدس وتزداد معرفتنا بك، أنت ألاله القريب منا فتتقد قلوبنا فرحا ونسبح اسمك العلي ونشهد لقيامتك المجيدة. تعال يا رب "مكُثْ مَعَنا، فقد حانَ المَساءُ ومالَ النَّهار" آمين.  

 

حج سنوي تقليدي للاحتفال بذكرى ترائي يسوع لتلميذي عِمَّاوُس 

 

في كل أثنين بعد عيد الفصح من كل عام يقيم حارس الأراضي المقدسة قداسا احتفالا بذكرى لظهور يسوع لتلميذي عِمَّاوُس في عِمَّاوُس القبيبة، كذلك يقيم بطريرك القدس قداسا احتفاليا في عِمَّاوُس اللطرون. تساعدنا رواية تلميذيّ عِمَّاوُس، اليوم، في لقاء يسوع المسيح القائم الذي يرافقنا في طرق حياتنا المليئة بالأحزان والقلق وجميع أنواع الصعوبات والمشاكل والإحباطات كما رافق التلميذين، ويفسّر لنا الكتب المقدسة في ضوء سرّ الله، ويُغدِّينا من "خبز الحياة"، الذي من خلاله يبقى معنا كما قال: "هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم" (متى 28: 20).