موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٥ ابريل / نيسان ٢٠٢٠

ظهور المسيح الحي لتلاميذه وتوما

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد الثاني للفصح: ظهور المسيح الحي لتلاميذه وتوما (يوحنا 20: 19-31)

الاحد الثاني للفصح: ظهور المسيح الحي لتلاميذه وتوما (يوحنا 20: 19-31)

 

ينفرد يوحنا الإنجيليّ في الاحد الثاني للفصح، وهو أحد الرحمة الإلهيّة، برواية ظهور يسوع القائم من الاموات للتلاميذ والرسول توما حيث "أَراهم يَدَيهِ وجَنبَه" (يوحنا 20: 19-31). وهدف هذا الظهور هو دفع قرَّاءه للإيمان بالمسيح القائم من الموت حتى وان كانوا بين أولئك الذين "لم يروا" مثل توما الرسول. فأصبح العيان غير ضروري للإيمان بيسوع المسيح القائم من بين الأموات بل يكفي سماع ُ كلمة الذين رأوه ولمسوه بأيديهم "ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة، ذاكَ الَّذي رَأَيناه وسَمِعناه نُبَشِّرُكم بِه " (1 يوحنا 1: 1، 3)، ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.

 

أولاً: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 20: 19-31)

 

19 وفي مَساءِ ذلك اليَومِ، يومِ الأحد، كانَ التَّلاميذُ في دارٍ أُغْلِقَتْ أَبوابُها خَوفاً مِنَ اليَهود، فجاءَ يسوعُ ووَقَفَ بَينَهم وقالَ لَهم: السَّلامُ علَيكم!

 

تشير عبارة " ذلك اليَومِ، يومِ الأحد" الى يوم القيامة وهو يوم الحياة الجديدة والخلق الجديد. امَّا عبارة "يومِ الأحد " باليونانية μιᾷ σαββάτων (ومعناه اول الأسبوع) فتشير الى اول الأسبوع، هو يوم الأحد ويُسمَّى اليوم الثامن بعد نهاية الأسبوع السابق. ويُشدِّد انجيل يوحنا على وحدة الزمن حيث حدث ظهور يسوع لتلاميذه في نفس اليوم الذي ظهر فيه لمريم المجدلية (يوحنا 20: 1)، وقد ظهر للنسوة في ذات اليوم (متى 28: 9)، كما ظهر لتلميذي عمواس (لوقا 24: 13). يشعر التلاميذ المجتمعون أنَّ يسوع بينهم حاضرٌ في مساء يوم الاحد. وهكذا كان يجتمع المؤمنون وما زالوا. ومن هذا المنطلق استبدلت الكنيسة السبت بالأحد للتذكير بقيامة الرب. أمّا عبارة " كانَ التَّلاميذُ " فتشير الى عشرة رسل فقط لان توما كان غائبا ويهوذا الإسخريوطي قد شنق نفسه (اعمال الرسل 1: 18).  أمَّا عبارة "أُغْلِقَتْ أَبوابُها" فتشير الى أكثر من باب، ولعله كان للعلية أكثر من باب، أو ربما كان القصد أن باب الدار الخارجي كان مغلقا كما كان باب العلية، إذ كان التلاميذ في رعبٍ، ولم يكتفوا بغلق باب الدار الخارجي، بالرغم من أنّهم قد رأوا المسيح القائم من الموت (مرقس 14: 5 -13) وإغلاق الأبواب تعتبر علامة خوف التلاميذ. وهذه الأبواب المغلقة ستُفتح يوم العنصرة بحلول الروح القدس. أمَّا عبارة "خَوفاً مِنَ اليَهود" فتشير الى سبب اغلاق الأبواب، وانغلاق التلاميذ على أنفسهم. وهذا الخوف نابع من توقع ملاحقة اليهود لهم كما لاحقوا يسوع قبلاً وتوجيه لهم تهمة سرقة الجسد، لأن اليهود ادَّعوا أن تلاميذه جاءوا ليلًا وسرقوا الجسد (أعمال الرسل 20: 7) علما أن رؤساء اليهود لم يقتربوا منهم منذ قول يسوع لدى القبض عليه في بستان الجسمانية: "دَعُوا هؤلاءِ يَذهَبون" (يوحنا 18: 8). فقد كان هدف رؤساء اليهود هو "يسوع" نفسه، لذا فلا قيمة للتحرك ضد أتباعه ما دام هو نفسه قد مات في عارٍ على الصليب ولم يعدْ له وجود. ألا ان الهدف الأساسي من الصلب لم يكن إعدام شخص ما، إنما أيضا خلق الخوف في قلوب عامّة الشعب. ولا شكّ أن التلاميذ كانوا قد فهموا الرسالة.  وقد أنبأ يسوع تلاميذه بأنَّهم يُضطهدون (يوحنا 15: 21) ويتبددون بعد ضرب الرَّاعِيَ (متى 26: 31). فلا عجب من انهم خافوا؛ فإنّ الشيء المشترك الوحيد بين التلاميذ هو الخوف علماً ان الخوف يؤدّي إلى الغضب، والغضب يؤدّي إلى الكراهية، والكراهية تؤدّي إلى المعاناة داخل حدود غرفة أبوابها مغلقة. إن الخوف يوصد باب الحياة، هذه هي خبرة التلاميذ بعد موت يسوع؛ وهنا يعلق فرانكلين روزفلت " أن الشيء الوحيد الذي يجدر بنا الخوف منه هو الخوف نفسه".  أمَّا عبارة "جاءَ يسوعُ" فتشير الى ظهور المسيح القائم الأول لكل التلاميذ لكنه الخامس بالنظر الى ظهوره لبعضهم، أمَّا الظهور الأول فكان لمريم المجدلية (يوحنا 20: 16) والثاني لمَريم المِجدَلِيَّة ومَريمُ الأُخرى (متى 28: 9) والثالث لبطرس (1قونتس 16: 5) والرابع لتلميذي عماوس (لوقا 24: 13). ظهر يسوع لقيادة تلاميذه ومرافقتهم كما يرافق الراعي خرافه (يوحنا 14: 3-18)؛ يأتي يسوع حينما لا يعود الإنسان يترقّب أي شيء، ولا يعتقد بإمكانية حدوث أمر جديد. ومجيئه والأبواب مغلقة تؤكد أنَّ جسده القائم من الأموات أصبح له طبيعة جديدة الذي لم يُعد خاضعاً لنفس قوانين الطبيعة كما كان قبل موته، حيث كان يخترق الجدران والحواجز (يوحنا 20: 26). وأصبح ممكناً له الدخول والأبواب مغلقة. وهذا لا يعني أنه كان شبحا او خيالا بل كان " جِسْمًا رُوحِيًّا" كما سمّاه بولس الرسول (1 قورنتس 15: 44). أمَّا فعل "وقف" فيشير الى وقفة القيامة. وقوف يسوع في وسطهم والأبواب مغلقه لم يكن بعملٍ معجزي، لأن هذه هي طبيعة الجسم القائم من الأموات، إنما ما أراد يسوع تأكيده هو أنه قام بذات الجسم، لكنه جسم مُمجَّد. وبهذا يؤكد يسوع المسيح حضورَه في كلّ مكان، حضورًا غير خاضع لشريعة المكان والزمان، وغير مقيّد بالحاجات الماديّة والبيولوجيّة، ولا بقوانين الطبيعة كالجاذبيّة الأرضيّة.  انه الجسد بذاته لكنه لابسٌ عدم الفساد كما جاء في رسالة بولس الرسول " فلا بُدَّ لِهذا الكائِنِ الفاسِدِ أَن يَلبَسَ ما لَيسَ بِفاسِد، ولِهذا الكائِنِ الفاني أَن يَلبَسَ الخُلود" (1 قورنتس 15: 53)؛ ويُعلق القديس أوغسطينوس حول "طبيعة الجسد المُقام" بقوله "على أي حال، أيا كانت طبيعة الجسد الروحاني، ومهما كانت عظمة نعمته، أخشى أن أتحدث في هذا، لأننا لا زلنا لا نحمل أية خبرة بخصوص هذه الحقيقة". أمَّا عبارة "بَينَهم" في اليونانية μέσος (ومعناه وسطهم) فتشير الى يسوع القائم الذي هو قريب للكل بنفس الدرجة؛ ويبادر فيأتي اولاً الينا، ونحن نذهب الى لقائه، ومجيئه يملأ قلوبنا فرحا وسلام. ويشرح لنا يوحنا الإنجيلي كيف يُدخل يسوع الاثني عشر في ملء رسالة الفصح. وأمَّا عبارة "السَّلامُ علَيكم!" في الأصل اليوناني Εἰρήνη ὑμῖν (معناه السلام لكم) فتشير الى أول دعاء وليس الى تحية يوجِّهها السيد المسيح لتلاميذه عند ظهوره لهم كما سبق أن علم تلاميذه قائلًا " أَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فقولوا أَوَّلاً: السَّلامُ لهذا البَيت" Εἰρήνη τῷ οἴκῳ τούτῳ (لوقا 10: 5). السلام (عليكم)، وهي عبارة يقصد بها (تحية)، أما السلام (لكم) فيقصد بها (الدعاء).  سلام يسوع الحي القائم من الأموات هو دعاء بركة غير عادية تحمل قوة لطرد الخوف؛ وهذا السلام يحتاج رسله إليه بعد خوف يوم الجمعة العظيمة. وهذا السلام مرتبط بشخص يسوع، ويدل على الخلاص الذي يمنحه يسوع لتلاميذه، ذلك لا داعي الى الاضِّطراب والقلق والفزع. لم يظهر لهم يسوع كي يوبِّخهم على تركِهم إياه وشكوكِهم بل حمل لهم بشرى السلام والمصالحة.  هذا السلام الذي وعدهم به، هو السلام الذي قال عنه يسوع في سياق كلامه عن موعد الروح القدس " السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم. فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم ولا تَفْزَعْ." (يوحنا 14 :27). وهو السلام الذي يُبدِّد كل اضطراب أحدثه رحيله عنهم، وهذا السلام هو ثمر القيامة، سلام داخلي مع الله، ومع الإنسان نفسه كما مع إخوته؛ وهو عطية مجانية. هذا السلام يختلف عن أي سلام أرضي يتفاوض عليه البشر، هو السلام الذي نرجوه عندما نرنم " المجد لله في العلى وعلى الارض السلام ". وعَّرف بولس الرسول هذا السلام بقوله: "سلامَ اللهِ الَّذي يَفوقُ كُلَّ إِدراكٍ يَحفَظُ قُلوبَكم وأَذْهانَكم في المسيحِ يسوع" (فيلبي4 :7). "وقَد حَقَّقَ السَّلامَ بِدَمِ صَليبِه" (كولسي 1 :20). "المسيح هو سلامنا" (أفسس 2 :14). فحضور يسوع الحي بين تلاميذه َقَلَبَ الحزن إلى فرح، والخوف إلى شجاعة، وخيبة الأمل إلى رجاء.  كذلك فإن حضوره غيّر نظرتهم إلى أنفسهم وإلى العالم وإلى المستقبل، حيث دعاهم الرّب الى مهمة تغيير العالم.

 

20 قالَ ذلك، وأَراهم يَدَيهِ وجَنبَه ففَرِحَ التَّلاميذُ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ

 

تشير عبارة "أَراهم" الى تقديم يسوع أدلة لتلاميذه على قيامته من خلال إظهار جروحات يديه وجنبه لكي يزيل عنهم الخوف ويبعث في نفوسهم السلام للوصول الى رؤية أعمق لهويته كابن الله المتجسد والمُمجّد.  أراد يوحنا الإنجيلي ان يُظهر الفرق بين كيفية رؤية يسوع في المرحلة الجديدة التي سيعيشها التلاميذ ابتداء من قيامته حيث قال لهم قبل موته: " بَعدَ قَليلٍ لا تَرَونَني ثُمَّ بَعدَ قَليلٍ تُشاهِدونَني" (يوحنا 16: 16). امَّا عبارة" "يَدَيهِ وجَنبَه" فتشير الى جسد المسيح المصلوب الذي هو ذات جسد المسيح القائم من الموت؛ فالمسيح المصلوب هو مسيح القيامة، هو ألان حي ويحمل آثار الصلب. يسوع تألم ومات على الصليب ثم قام بجسده نفسه، ويُعلق القديس اوغسطينوس "تبقى جراحات في المسيح، لا كنقائصٍ وعيوبٍ في الجسد بل كعلامات ظاهرة تكشف عن سرّ حبِّه وعلامة للمجد والكرامة". وانفرد يوحنا الإنجيلي في ذكر جنبه الطعين ولكنه لم يذكر قدمي يسوع كما ورد في انجيل لوقا " أُنظُروا إِلى يَدَيَّ وقَدَميَّ" (لوقا 24: 39). وبهذه التفاصيل يؤكد يسوع لتلاميذه أنه ذات الجسد، إذ يحمل ذات جراحات وهو على الصليب، لكنه جسد مُمجَّد‍. فيسوع الآن جسم حيَّ مُمجدٌ وآثار جراحاته شهادة حيَّة لقيامته، وبهذا الامر يُعطي يسوع علامات على حقيقة قيامته ويتغلب على قلة إيمان الاثني عشر (اعمال الرسل 1: 3). وشدِّد يوحنا الإنجيلي هنا على الصلة القائمة بين يسوع الناصري التاريخي المتألم (عبرانيين 2: 18) ويسوع القائم من بين الاموات، يسوع الايمان الذي يحيا مع تلاميذه للأبد كما قال لهم قبل صعود الى السماء "هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم" (متى 28: 20)، واراد يوحنا الإنجيلي أيضا إقامة صلة بين حدث الطعن بالحربة وحدث العلية، انه الحمل الفصحى الذبيح على الجلجلة الذي يعود الى ذويه حاملا ثمار ذبيحته. وفي سفر الرؤيا يبدو ان الحمل ذبيح حامل في جسمه آثار ذبيحته من اجل خلاص البشر كما وصفه صاحب الرؤية "حَمَلاً قائِمًا كأَنَّه ذَبيح " (رؤيا 5: 6). فهناك تواصل بين يسوع الذي تألم ويسوع القائم وهو الآن حي مع تلاميذه. ويُعلق البابا القديس يوحنّا بولس الثاني " أعطى الرّب يسوع للتلاميذ موهبة "مغفرة الخطايا" وهي موهبة وُلدت من جراحات يديه، وقدميه وبصورة خاصة من جراح جنبه المطعون بالحربة. ومن هذه الجراحات تغدق موجة من الرحمة على البشرية أجمع" (عظة لأحد الرّحمة الإلهيّة، 2001). أمَّا عبارة " فَرِحَ التَّلاميذُ " فتشير الى الفرح الناتج عن اختبار ورؤيةّ يسوع، وهذا الفرح هو إتمام وعد يسوع الذي قطعه لتلاميذه في حديثه الأخير معهم " سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم" (يوحنا 16: 22). فمشاهدتهم إياه انعشتهم وجدَّدت آمالهم وبدَّدت شكوكهم ومخاوفهم.  ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "ما قاله يسوع قبل الصلب: سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح (يوحنا 16: 22) قد تحقق الآن عمليًا. هذا كله دفعهم إلى الإيمان الصادق"؛ والفرح، مثل السلام، هو من ثمار الروح ومن علامات ملكوت الله " فلَيس مَلَكوتُ اللهِ أَكْلاً وشُرْبًا، بل بِرٌّ وسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس" (رومية 14 :17). اما عبارة "مُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ" فتشير الى لقاء المسيح القائم من الموت كمصدر فرح للتلاميذ كتتميم لوعده "لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامّاً" (يوحنا 15: 11). فاذا كانت مشاهدة المسيح على الارض عِلة فرحكم كم يكون فرح المؤمنين بشاهدتهم إياه في السماء؟

 

21 فقالَ لَهم ثانِيَةً: السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً

 

تشير عبارة "ثانِيَةً " الى تأكيد عطية السلام لتلاميذه لكي يشهدوا للعالم بقيامة المسيح المجيدة. أمَّا عبارة "السَّلامُ علَيكم!" فتشير الى السلام الذي حمله يسوع لتلاميذه كثمرة قيامته؛ هذا السلام الذي قد وعدهم به والذي يُبدّد كل اضطراب أحدثه رحيله عنهم، "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ستَبكون وتَنتَحِبون، وأَمَّا العاَلمُ فَيَفَرح. ستَحزَنون ولكِنَّ حُزنكم سيَنقَلِبُ فَرَحاً" (يوحنا 16: 20)؛ وهذا السلام هو سلام ابن الله المنتصر على العالم والموت، سلام لا يستطيع العالم أن يمنحه كما صرّح يسوع " السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم" (يوحنا 14: 27)، وإنه " سلامَ اللهِ الَّذي يَفوقُ كُلَّ إِدراكٍ " (فيلبّي 4: 7). ويهدف هذا السلام هنا لا لتبديد خوف التلاميذ، بل لإعدادهم وتأهيلهم للتبشير كي يتشجَّعوا ويتشدَّدوا في مهام المستقبل مرسلا إياهم للكرازة وحمل انجيل الخلاص للعالم؛ وهل نحن نفهم ضرورة السلام الباطن؟ وهل نسعى لوضعه وحفظه في نفوسنا؟ أمَّا عبارة "كما" باليونانية καθὼς فتشير الى العلاقة الخاصة بالآب والابن وعلاقة الآب بنا، من ناحية، كما أنها تُظهر لنا طريقة اشراك الابن وتلاميذه في تلك الأُلفة الحميمة القائمة في حياة الله من ناحية أخرى. أمَّا عبارة "كما أَرسَلَني الآب" فتشير الى يسوع رسول الله الوحيد لعمل الفداء كما يؤكِّده صاحب الرسالة الى" تَأَمَّلوا رَسولَ شَهادَتِنا وعَظيمَ كَهَنَتِها يَسوع"(العبرانيين 3: 1) امَّا عبارة " أُرسِلُكم أَنا أَيضاً" فتشير الى إرسال يسوع تلاميذه لتبشير العالم ببشرى القيامة كما صرّح لهم قبل صعوده الى السماء بقوله "اِذهَبوا في العالَمِ كُلِّه، وأَعلِنوا البِشارَةَ إِلى الخَلْقِ أَجمَعين"(مرقس 16:15). وقد نشأت هذه الرسالة عن حدث الفصح.  وتقوم هذه البشارة بإعلان " بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم" (لوقا 24: 47). جعل المسيح تلاميذه سفراء وشركاء في المناداة ببشرى الخلاص كما أكَّد ذلك بولس الرسول " فنَحنُ سُفَراءُ في سَبيلِ المسيح وكأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِأَلسِنَتِنا" (2 قورنتس 5: 20).

 

22 قالَ هذا ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: خُذوا الرُّوحَ القُدُس

 

تشير عبارة "قالَ هذا" الى عمل هام هُيِّأ له فيما سبق مباشرة؛ أمَّا عبارة "نَفَخَ فيهم" باليونانية ἐνεφύσησεν  (من فعل   ἐμφυσάω  معناه نفخ في وجوههم) فتشير الى خلق الانسان في البدء كما جاء في سفر التكوين "جَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ تُرابًا مِنَ الأَرض ونَفخَ في أَنفِه نَسَمَةَ حَياة، فصارَ الإِنسانُ نَفْسًا حَّيَة" (تكوين 2: 7)، فكما في الخلق الاول نفخ الله في الانسان نسمة الحياة، هكذا بنفخة نسمة المسيح  ينال الانسان من الله الحياة الابدية. فالفعل "نفخ" يُوحي بخلق جديد أمام قيامة حقيقية " اللهِ الَّذي يُحيِي الأَموات ويَدعو إِلى الوُجودِ غَيرَ المَوجود" (رومة 4: 17). وقد وهب يسوع تلاميذه نفخة الروح القدس ليصبحوا خليقة جديدة مبشِّرين عالما جديدا وذلك بنيل سلطان الحل والربط (متى 16: 19). وهذه النفخة كانت للتلاميذ، وهي تنتقل لخلفائهم بوضع اليد (أعمال الرسل 13: 2-3). إنه تدشين الخلق الجديد، وبهذا يكون الفصح نقطة انطلاقة لعالمٍ جديد ويُعلق القديس ايرينيوس: "كما أنّ الله قد نفخ روحه في الجسد الذي كوّنه، منح الحياة لكل أعضاء الجسد، هكذا أعطى الروح للكنيسة. فحيث الكنيسة هناك أيضاً روح الله". امَّا عبارة " خُذوا " فتشير الى إعطاء يسوع رسله هبة الروح القدس، إذ يليق بالذي يُرسل رسله ان يعطيهم قوة.  وهنا نال التلاميذ عربونا واستعدادا للامتلاء من الروح القدس يوم العنصرة حيث " امتَلأُوا جَميعًا مِنَ الرُّوحِ القُدس " (أعمال الرسل 2: 4). وهذه الآية تدل على ان الروح القدس انبثق من الاب كانبثاقه من الآب. وأمَّا عبارة "الرُّوحَ القُدُس" فتشير الى روح الله، الاقنوم الثالث في الثالوث. وقد سُمِّي روحا، لأنّه مبدع الحياة، ودُعي قدوساً، لان من ضِمن عمِله تقديس المؤمنين، أذ يحيي المائتين بالخطايا والآثام ويقدسهم ويُطهِّرهم، وهكذا يؤهلهم لتمجيد الله والتمتع به الى الابد كما اختبره بولس الرسول "شَريعةَ الرُّوحِ الَّذي يَهَبُ الحَياةَ في يسوعَ المسيح قد حَرَّرَتْني مِن شَريعَةِ الخَطيئَةِ والمَوت" (رومة 8: 2). فالروح القدس هو قوة الخلاص لغفران الخطايا والذي يُمكّن التلاميذ من الشهادة للمسيح: "مَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي وأَنتُم أَيضاً تَشهَدون لأَنَّكُم مَعي مُنذُ البَدْء" (يوحنا 15: 26-27). وكان هذا العطاء الخاص للتلاميذ للامتلاء من الروح القدس عربوناً لِمَا سيختبره المؤمنون في يوم العنصرة (اعمال الرسل 2). ويُعلق البابا القديس يوحنا بولس الثاني "إنّ الرّوح القدس الذي، في أعماق لله، هو أقنومٌ وهبة، تمّ منْحه للتلاميذ وللكنيسة بطريقة جديدة، ومن خلالهم للبشريّةِ وللعالمِ أجمع" (رسالته العامة الرب وواهب الحياة، رقم 23).  

 

23 مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم

 

تشير عبارة " مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم " الى سلطان غفران الخطايا الذي طالما شكك في هذا الامر كتبة اليهود كما جاء في حوار يسوع مع المقعد "قالَ يسوعُ لِلمُقعَد: ((ثِقْ يا بُنَيَّ، غُفِرَت لكَ خَطاياك.  فقالَ بَعضُ الكَتَبَةِ في أَنْفُسِهم: إِنَّ هذا لَيُجَدِّف " (متى 9: 2-3). وسلطان غفران الخطايا هو عطاء المسيح القائم من الموت الى كنيسته. لقد فداها بدمه ووهبها بواسطة روحه القدوس سلطان مغفرة الخطايا على يد كهنته. ان الله وحده هو الذي يغفر (أشعيا 43: 23)، ولكن إذا قلنا الكاهن يغفر فهذا يعنى أن الروح القدس الساكن في الكاهن هو الذي يغفر أو يُمسك الخطايا، ويوضِّح القديس أمبروسيوس هذا الامر " الخطايا تُغفر بالروح القدس، أما البشر فيستخدمون خدمتهم لغفران الخطايا، إنهم لا يغفرون الخطايا باسمهم بل باسم الآب والابن والروح القدس؛ فالخدمة من جانب الإنسان والعطية من سلطان العليّ". فالكاهن له سلطة ان يغفر الخطيئة بالروح القدس او يمسكها، وفسّر لوقا الإنجيلي معنى ذلك بقوله " تُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم، اِبتِداءً مِن أُورَشَليم " ( لوقا 24: 47) ؛ ويُعلق البابا فرنسيس "ليست مغفرة خطايانا أمرًا يُمكننا أن نعطيه لأنفسنا، لأن المغفرة تُطلب من شخص آخر ونحن في الاعتراف نطلب المغفرة من يسوع؛ مغفرة خطايانا ليست ثمرة جهودنا، إنما هي عطيّة من الرّوح القدس الذي يملأ من فيض الرّحمة والنّعمة المتدفّق من قلب المسيح المصلوب والقائم من الموت، ولذا على الكاهن أن لا يُسئ استخدام هذا السلطان، حيث يمارسه حسب هواه، إنما بحسب الروح القدس الذي يستمد منه السلطان ويخضع له".  أمَّا عبارة " مَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم " فتشير الى إدانة رسل المسيح من لا يقبلون يسوع ولا يؤمنون به. الغفران ليس لكل واحد، بل الأمر يتوقف على اختباره هل هو تائب؟ أم غير تائب؟ ينبع سرّ التوبة والمصالحة أو كما ندعوه أيضًا الاعتراف مباشرة من السرّ الفصحيّ. ان الاختلاف في تفسير هذه الآية لا يدور حول طبيعة السلطان الذي يمنحه يسوع لتلاميذه (متى 16: 19) بقدر ما يدور حول تحديد من هم الذين يمارسون هذه السلطان. فالسلطة الممنوحة هي اعلان المغفرة على اساس موت المسيح الذي حمل الخطايا كما ورد في انجيل متى "ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء"(متى 18: 18)؛ أمَّا من ناحية الذين يمارسون هذه السلطة فيعتقد التقليد الكاثوليكي ان المقصود هم الكهنة حيث أنهم مُنحوا السلطة بفضل شركتهم الوثيقة مع المسيح ان يتصرفوا باسمه، كوكلاء في غفران الخطايا او امساكها، فقد منحهم السيد المسيح القائم من الموت السلطان الكهنوتي لمغفرة الخطايا. وأمَّا التقليد البروتستانتي فيعتقد انَّ المقصود "الذي هو أداة الروح القدس" وذلك بحسب ما جاء في قول بطرس الرسول "بِأَنَّ كُلَّ مَن آمَنَ به يَنالُ بِاسمِه غُفرانَ الخَطايا" (اعمال الرسل 10: 43). يعلن الرب يسوع للتلاميذ عن سلطانهم لمغفرة خطايا الناس. ولا يمكن للإنسان ان ينال رسالة الغفران الى ان يقبل مُعطي الغفران، أي يسوع المسيح. فالكاهن في سر الاعتراف (المصالحة) لا يمثّل المسيح فقط وإنما يمثّل أيضًا الجماعة بأسرها (الكنيسة) التي تجد نفسها في ضعف كلّ فردٍ من أفرادها، فتصغي إلى توبته وتتصالح معه، وتشجّعه وترافقه في مسيرة التوبة والنضوج الإنساني والمسيحي. يغمرنا ألله ويفرح بعودتنا بالاعتراف تماما كما فرح الاب بابنه الضال (لوقا 15: 11-32). تشير هذه الآية الى إعطاء الرب موهبة الكهنوت لتلاميذه بسلطان الروح القدس بصورة مميَّزة عن حلول الروح القدس في يوم العنصرة، وهذه الموهبة هي لسلطان مغفرة الخطايا. قام الربّ، وقيامته هي حياة وسلام وغفران للجميع.

 

24 على أَنَّ توما أَحَدَ الاثَنْي عَشَر، ويُقالُ له التَّوأَم، لم يَكُنْ مَعَهم حِينَ جاءَ يسوع

 

تشير عبارة "توما" الى اسم آرامي תוֹמָא وفي اليونانية Δίδυμος (معناه توأم)، والظاهر انه كان ذا مزاج سوداوي، كما ظهر في عدم ثقته والشك هنا في شهادة الجماعة الرسولية لقيامة الرب (يوحنا 20: 27)، كما يميل توما أيضا الى اليأس كما اظهر في رواية لعازر بقوله لِسائِرِ التَّلاميذ" فَلْنَمْضِ نَحنُ أَيضاً لِنَموتَ معَه " (يوحنا 11:16)؛ وهو أحد الاثني عشر رسولاً (متى 10: 3)؛ وقد قام توما بدور على جانب من الأهمية في انجيل يوحنا؛ كان مستعدا للذهاب مع يسوع حتى الموت حباً به (يوحنا 11: 16). وكان يتمتّع ببعض السلطة لدى الرسل (يوحنا 11: 16). وهو واحد من المجموعة التي تراءى لهم يسوع في الجليل (سمعان بطرس، نتنائيل، ابنا زبدى واثنان آخران) بعد قيامته (يوحنا 21: 2)، وكان مع بقية الرسل والتلاميذ في العلية في أورشليم بعد صعود يسوع الى السماء (أعمال الرسل 1: 13).  ويُفيد التقليد أن توما كان بعد ذلك عاملاً في برثيا والفرس، وأنه بشَّر في الهند، ومات هناك شهيداً. ويوجد مكان قرب مدراس يسمّى الآن جبل القديس توما لا يزال كثيرون في الشرق يدعون أنهم من مسيحي الكنائس التي اسسها هذا الرسول ولا سيما سكان الملبار بالهند، وهم مسيحيون يتبعون طقس الكنيسة السريانية. ويُقال إنه دُفن في الرها في شمال بلاد ما بين النهرين سنة 230 م.  وبعد سقوط تلك المدينة بيد الأتراك، نُقل جثمانه لمكان آمن في جزيرة خيوس 1144م، ومن ثمة وصل جثمانه المقدس في 1258 الى أورتونا Ortona في إيطاليا مع قائد عسكري أسمه ليوني. وسرعان ما أصبح المكان الذي وضع فيه جثمان القديس مزارا روحياً لإكرامه.  وقد اكتشف في نجع حمادي بصعيد مصر مخطوطات غنوصية مكتوبة باللغة القبطية عُثر عليها سنة 1945 ومن ضمنها نسخة من انجيل ابوكريفا يدعى "انجيل توما"، والاعتقاد العام عند العلماء أن نسبته إلى الرسول غير صحيحة وأنه من كتابات الغنوصيين، وهذه المخطوطة ترجع إلى القرن الخامس الميلادي. أمَّا عبارة " لم يَكُنْ مَعَهم حِينَ جاءَ يسوع " فتشير الى ضياع على توما اول فرصة لظهور المسيح امام جماعة التلاميذ ونيل سلامه وفرحه. 

 

25 فقالَ لَه سائِرُ التَّلاميذ: رأَينا الرَّبّ. فقالَ لَهم: إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن

 

تشير عبارة "قالَ لَه سائِرُ التَّلاميذ" الى عدم تمكن التلاميذ من إقناع توما أنَّ يسوع قام من بين الأموات. امَّا عبارة " رأَينا الرَّبّ" في الأصل اليوناني Ἑωράκαμεν (من فعل ὁράω معناها نظر بوعي وإيمان) فتشير الى شهادة عيان عشرة رسل وهي كافية لتوما كي يؤمن بها وهم الذين رأوا المسيح القائم وآمنوا. وهنا يظهر اهمية النظر بوعي لكي نؤمن، والنظر يذكِّرنا برواية الحيّة النحاسيّة في الصحراء (عدد 2: 4-9).  وهل نحن نعرف كيف نرفع أنظارنا، كي نرى محبّة الآب غير المحدودة وغير المتناهية في ابن الإنسان المصلوب والقائم من الموت؟ أمَّا عبارة " إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه " فتشير الى وضع شرطين ليؤمن بقيامة الرب المسيح: " إِذا لم أُبصِرْ وأَضَعْ إِصبَعي"؛ إنه يطلبُ بُرهاناً خاصّاً به. فكان من طبع توما ان لا يترك تساؤلا داخله ولا يسأل عنه (يوحنا 14: 5). يريد توما أن يبصر (ὁράω)، أي أن يرى ويختبرَ بنفسه ويفحص ويلمس. إنه يفرض على المسيح شروط إيمانه. إنّه يطلب دليلا على ذلك. ويُعلق الاسقف باسيليوس السلوقيّ "أغلق أذنيه عن سماع شهادة لتلاميذ وأراد فتح عينيه... فأطلق شكّه، آملاً أن تتحقّق رغبته، وقال" لن تتبدّد شكوكي إلا حين أراه".  أمَّا عبارة " جَنْبِه " فتشير الى جنبه المطعون بالحربة كما ورد في انجيل يوحنا " واحِداً مِنَ الجُنودِ طَعَنه بِحَربَةٍ في جَنبِه، فخرَجَ لِوَقتِه دَمٌ وماء" (يوحنا 19: 34)؛ أمَّا عبارة " لن أُومِن" فتشير الى رفض توما تصديق أقوال الجماعة الرسولية عن رؤيتهم للمسيح، ورفضه أنْ يثق بشهادتِهم حيث لا تكفيه شهادة الغير. انه يريد برهانًا حسيًّا وعمليًّا ليؤمن. ويُمثل توما جميع الذين شكَّوا ويشكُّون بقيامة يسوع، ويريدون ان يروا ويلمسوا كي يؤمنوا. توما شكَّ وما آمن قبل ان يرى. ويعلق العلامة أوغسطينوس "توما شكَّ على انه لا يجب ان نشكَّ نحن". قد يحتاج البعض الى الشك قبل ان يؤمنوا. فإن أدَّى الشك الى سؤال، والسؤال الى جواب، وكان الجواب مقبولا، فالشك يُعمّق الايمان. لقد كان شكّ توما إيجابيًّا بقصد الحصول على رؤية للرّب.  أمَّا إذا أصبح الشك عناداً وصار العناد اسلوب حياة، فالشك هنا يضرُّ بالإيمان.

 

26 وبَعدَ ثَمانِيةِ أَيَّامٍ كانَ التَّلاميذُ في البَيتِ مَرَّةً أُخْرى، وكانَ توما معَهم. فجاءَ يسوعُ والأبوابُ مُغلَقَة، فوَقَفَ بَينَهم وقال: السَّلامُ علَيكم!

 

تشير عبارة " ثَمانِيةِ أَيَّامٍ" الى أسبوع كامل حسب اصطلاح اليهود وكان ذلك اليوم يوم الاحد.  هو الأحد الأول بعد القيامة حيث أعلن السيد المسيح نفسه لتوما الرسول، إذ بحسب اليهود اليوم الأول والثامن.  ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إن قلتَ: ولِمِ لمْ يظهر السيد المسيح لتوما في الحال، بل بعد ثمانية أيام؟ أجبتك: حتى يُعلن له التلاميذ ذلك فيما بعد ويسمع منهم هذا القول بعينه، ويلتهب بشوقٍ أكثر، ويصير فيما بعد أكثر تصديقًا".  ويدل رقم 8 على بداية جديدة، أسبوع جديد لذلك يشير للأبدية والسماويات والحياة الروحية والانسان الجديد وخاصة يدل على المسيح ليس في تجسده ولكن على المسيح السماوي والابدي. وقد ورد في العهد الجديد 8 معجزات تتناول إقامة من الموت، هؤلاء قاموا وبدأوا حياة جديدة. السيد المسيح أقام 3 (ابن أرملة نائين (لوقا 7: 11-17)، ابنة يائيرس (متى 9:18-26) ولعازر (يوحنا 11: 1-44)؛ وبطرس الرسول أقام طابيثة (أعمال الرسل 9: 36-42) وبولس الرسول أقام أَفطيخُس (اعمال الرسل 20: 7-12). عاش التلاميذ القيامة أسبوعا كاملا، فهي بداية جديدة بعد سبعة أيام، فلا مجال للشك. امَّا عبارة "البَيتِ" في الأصل اليوناني ἔσω (معناها في الداخل) فتشير الى داخل البيت الذي كانوا مجتمعين فيه في اورشليم يوم الاحد الماضي عندما ظهر لهم يسوع. امَّا عبارة " وكانَ توما معَهم " فتشير الى توما الذي كان وحده غائبًا لدى ظهور يسوع الى الرسل لكنَّ الرب انتظره. ويعلق البابا فرنسيس " إن الرحمة لا تترك الذي يبقى في الخلف".

 

27 ثُمَّ قالَ لِتوما: هَاتِ إِصبَعَكَ إِلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي، ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِناً

 

تشير عبارة " هَاتِ إِصبَعَكَ إِلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي " الى استخدام يسوع نفس الكلمات التي استخدمها توما كشرط لإيمانه مبيِّنا ان يسوع عرف كل ما حدث بين توما وسائر التلاميذ. وكشف يسوع له أدلة آلامه في يديه وجنبه قائلا له "َانظُرْ" باليونانية ἴδε (من فعل ὁράω, ) أي اختبر بنفسك.  فلم يكن يسوع شبحا او طيفا او خيالا. بل كان هو نفسه ويُمكن لمسه. كما صرَّح يسوع الى تلاميذه " أُنظُروا إِلى يَدَيَّ وقَدَميَّ. أَنا هو بِنَفْسي. إِلمِسوني وانظُروا، فإِنَّ الرُّوحَ ليسَ له لَحمٌ ولا عَظْمٌ كما تَرَونَ لي (لوقا 24 :39). ويُعلق القديس ايرونيموس "سيكون لنا بعد القيامة ذات الجسم والدم والعظام". إن قيامة الرب يسوع قيامة حقيقية ومادية، فيسوع القائم هو ليس روحا غير مُجسَّدة. بل "جَسَدِ مَجيد بما لَه مِن قُدرَةٍ يُخضِعُ بِها لِنَفْسِه كُلَّ شيَء" (فيلبي 3: 21). وأطلق عليه بولس الرسول "جسماً روحياً" (1قورنتس 15: 44). أظهر يسوع لتوما لطفا وتنازلا ومحبة وشفقة ولم يوبِّخه على عدم الايمان به.  اما عبارة "هاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي " فتشير الى طلب يسوع لتوما ان يلمسه بـلمسة جديدة تجعله يختبر لقاءه معه بطريقة تختلف عن تلك التي اعتاد القيام بها قبل الفصح.  طلب يسوع من توما الذهاب إلى ما وراء الملموس. في حين في لقائه مع مريم المجدلية، طلب يسوع منها عدم لمسه (يوحنا 20: 17). في هذا النصّ يُشدِّد يوحنا الإنجيلي على حقيقة الظهور وواقعه التاريخيّ. فيسوع العائد هُوَ نفسه الذي مات في الأمسِ مُسَمَّراً ومطعونا بحربة في جنبه. ويُعلق البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني قبيل وفاته عام 2005 قائلا: "علامات آلام يسوع المُبرحة المطبوعة في جسده بطريقة لا تُمحى حتّى بعد القيامة، هذه الجروحات الممجّدة الّتي دعا يسوع توما -غير المؤمن -إلى أن يلمسها، بعد ثمانية أيّامٍ، تكشف عن رحمة الله، الّذي "أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد" (يوحنا 3: 16). أختبر توما حقيقة الرحمة الإلهية، تلك الرحمة التي لها وجه ملموس، وجه يسوع، يسوع القائم من بين الأموات. فهل نفقد الثقة في الرحمة الإلهية؟  ويُعلق أيضا البابا فرنسيس "لمس توما هذه الجراحات واكتشف الحب لأنه في تلك الجراحات لَمَسَ لَمسَة اليد قرب الله الحنون.  فهو لم يؤمن بالقيامة وحسب وإنما أيضًا بمحبة الله التي لا تعرف الحدود حيث دخلت بشريّته الضعيفة من خلال بشريّة يسوع المجروحة (أحد الرحمة الإلهية 2020). اما عبارة " يَدَكَ " فتشير الى جرح جنبي يسوع كان واسعا حتى انه يسع اليد.  امَّا عبارة " ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِناً " فتشير الى العبور من عدم الإيمان إلى الإيمان بفضل كلمة المسيح. فيريد يسوع ان نسلك بالإيمان لا بالعيان. ومن يختبر صداقة يسوع لا يمكنه إلا العبور من خلال جراحات يسوع الى الايمان، ولا يمكنه أن يكتفي بالنظر إليها من الخارج، بل يختبرها من الداخل فيعرف من هو المسيح المصلوب والقائم من الموت. نحن أيضًا على مثال توما بمخاوفنا وشكوكنا قد نجد أنفسنا ضعفاء لذلك نحن بحاجة للرب الذي يرى فينا إخوته ورسله وتلاميذه بالرغم من ضعفنا وهشاشتنا. اعطى يسوع توما الرسول اقوى البراهين لكي يُبدِّد شك توما كي لا نشك نحن.

 

28 أَجابَه توما: رَبِّي وإِلهي!

 

تشير عبارة "رَبِّي وإِلهي" الى ترديد صلاة من العهد القديم אֲדֹנִי וֵאלֹהָי وردت في سفر المزامير " יְהוָה אֱלֹהָי" (مزمور 35: 23)، وقد ردَّدها توما عن المسيح فتحققت بشارة القديس يوحنا "والكَلِمَةُ هوَ الله"(يوحنا 1: 1). ويدل هذا الهتاف على أنّ الإيمان هو علاقة شخصية خاصة وعميقة، ولا أحد يستطيع أن يقوم بها نيابة عنه.  ما أن رأى الرب أمامه وسمع صوته حتى شعر بعدم الحاجة إلى وضع إصبعه في مكان المسامير ولمس جروحات سيده، فلقد كانت كلمات الرّب كافية لتغيير قلبه وعقله وكل كيانه. وبلحظة عَبَرَ توما من حالة الشك إلى اليقين، وأعلن في الحال إيمانه به، صارخًا: "ربي وإلهي". عبِّر جواب توما الرسول عن سيادة يسوع الإلهية وأعلن أن يسوع القائم هو الله ذاته، هو الرب وهو الإله المتجسد. ويمثل هذا الجواب قمة في إعلان الايمان المسيحي كما جاء في تعليم بولس الرسول: "يَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَّبّ تَمْجيدًا للهِ الآب" (فيلبي 2: 11). فقد انتقل توما من أقصى الشكِّ (لن أؤمن) إلى أقصى الإيمان واليقين "رَبِّي وإِلهي". وقد جمع توما بين لقبي "رب" و "إله" (يوحنا1: 1 و18)، واعترف أنَّ هذا الربّ هو ربّه، وأنّ هذا الإله هو إلههِ، ولسان حاله ما قاله بولس الرسول "أَعرِفَهُ وأَعرِفَ قُوَّةَ قِيامتِه" (فيلبي 3: 19). فذاك الذي هو ربنا يسوع المسيح هو ايضا الله. رأى توما ان الذي خاطبه هو الانسان يسوع المسيح الذي مات وقام وآمن انه الله الذي ظهر في الجسد. وهو يشهد بما رأى، وكان هذا الاعتراف آخِر شهادة في انجيل يوحنا. نحن أمام أعظم اعتراف ايماني بلاهوت المسيح يُنشد في الليتورجيا: ذاك الذي هو ربنا يسوع المسيح هو أيضا الله سبحانه تعالى.  والجدير بالذكر ان إيمان توما مبني على مشاهدة أدلة ملموسة لآلام يسوع. فقد رأى في يسوع آثار الصلب فآمن بألوهيّته. ويقول البابا فرنسيس "اليوم نشهد على قيامة التلميذ (أحد الرحمة الإلهية 2020). الله يعرف أن توما بحاجة لمن يُنهضه لكي يقوم ويؤمن. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول "تَنبَّهْ أَيُّها النَّائِم وقُم مِن بَينِ الأَمْوات يُضِئْ لَك المسيح"(أفسس 5: 14). ومن هذا المنطلق، الإيمان المسيحي مرتكز على الإيمان بقيامة يسوع "الربّ وإله "، الذي منها يستمدّ قوّته بوجه كلّ الصعاب كما اختبره بولس الرسول بقوله " فمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟" (رومة 8: 35). ومن خلال هبة الإيمان، نستطيع ان نعلن شخصيا على خطى توما “يسوع ربنا وإلهنا".

 

29 فقالَ له يسوع: أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا

 

تشير عبارة "أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ " رَأَيتَني باليونانية ἑώρακά (من فعل ὁράω ) الى التخمين ان توما سيؤمن إذا رأى أثر المسامير في يديه ورأى جنبه المطعون،  كذلك قد يظن البعض انهم سيؤمنون بيسوع إذا رأوا علامة او معجزة محددة كما قال يسوع الى عامل الملك في كفرناحوم " إِذا لم تَرَوا الآياتِ والأَعاجيبَ لا تُؤمِنون؟" (يوحنا 4: 48). أبصر توما جسد يسوع ووقف على البراهين انه هو المصلوب. وآمن الرُّسُل لأنَّهُم رأُوا الماءَ يتحوَّلُ خمراً في قانا الجَليل (يوحنا 2: 1-12)، وآمنُوا لأنَّهُم رأُوا يسُوعَ يُهَدِّئُ العاصِفَة (متى 8: 23-27)، ويشفِي المرضى: الابرص (متى 8: 1-4)، ابنة الكنعانية (متى 15: 21-28)، الاصم (مرقس 7: 31-31)، الاعمى في بيت صيدا (مرقس 8: 22-26)، المقعد عند بركة الغنم (يوحنا 5: 1-9)، المرأة المنزوفة (متى 9: 20-22)، ويُقيمُ لِعازارَ منَ المَوت (يوحنا 11: 1-44) لهذا آمنُوا. ويعلق البابا غريغوريوس " لم يقل له السيد: "لأنك لمست جراحاتي آمنت"، وإنما قال لأنك رأيتني، فرؤيته للسيد المسيح جذبته للإيمان". ومن هذا المنطلق لا يكفي الايمان المقتصر على المطالبة بالمعجزات، بل الايمان بدون تحفظ بيسوع وبكلامه يؤدي الى الحياة. لأنه قد يرى الانسان الآيات ومع ذلك لا يؤمن كما حدث مع بعض اليهود " أَتى يسوعُ بِجَميعِ هذهِ الآياتِ بِمَرأًى مِنهم، ولَم يُؤمِنوا بِه،" (يوحنا 12: 37). امَّا عبارة "طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا" فتشير الى أهمية الإيمان بيسوع، سواء جاء هذا الإيمان بالعيان أو بالسماع الى كلمة الإنجيل. وتطويبة الايمان لا تستند الى العيان بل الى شهادة الذي رأى، شهادة شهود عيان للقيامة والكنيسة. وإمكانِنا أن نُسمِّي قَول يسُوع هذا لتُوما بالتطويبَةِ التَّاسِعة. قد كانت الرؤية الجسديّة بالنسبة لتوما الرسول أساسًا للإيمان. أما اليوم فإن الإيمان هو الأساس لرؤية الرّب يسوع. فالإيمان الحقيقي لا يأتي من النظر، إنما من السِّماع كما جاء في تعليم بولس الرسول " الإِيمانُ مِنَ السَّماع، والسَّماعُ يَكونُ سَماعَ كَلاَمٍ على المسيح" (رومة 10: 17). ولذلك فان الايمان يكمن في الثقة بكلمة الآخر بدلاً من طلب البراهين.  إنه إيمان، كما يقول القديس بطرس، بهذا المسيح " الَّذي لا تَرَونَه وتُحِبُّونَه، وإِلى الآنَ لَم تَرَوه وتؤمِنونَ بِه" (1 بطرس 1: 8). لا شك أن زمن العيان قد انتهى حيث كان يسوع يجول فلسطين وبدأ زمن الايمان. ويطوِّب يسوع الذين يؤمنون به، ولم يروه قائما من الموت، بل يصدِّقون شهادة الذين رأوا وقد اختارهم هو لكي يكونوا شهوداً له كما ورد في عظة بطرس الرسول الأولى "فيَسوعُ هذا قد أَقامَه اللّه، ونَحنُ بِأَجمَعِنا شُهودٌ على ذلك " (أعمال الرسل 2: 32).  يتصل المؤمنون على مد العصور بالمسيح القائم من الموت بشهادة شهود العيان. ونجد هنا دعوة صامتة من يوحنا الإنجيلي الى تصديق شهادته هو، لأنه هو واحد من الذين رأوا الرب كما صرَّح هو نفسه قائلا "ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة" (1يوحنا 1: 1)؛ جاء في الحديث في الإسلام "طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، وَمَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي، وَمَنْ رَأَى مَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي". ومن هنا تأتي أهمية الشهادة في انجيل يوحنا "جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس" (يوحنا 1: 7).  أمَّا الادلة الحسِّية فليست كافية للإيمان. وفي هذا الصدد كتب بولس الرسول عن إبراهيم: "هو أَبٌ لَنا عِندَ الَّذي بِه آمَن، ...آمَنَ راجِيًا على غَيرِ رَجاء فأَصبَحَ أَبًا لِعَدَدٍ كَبيرٍ مِنَ الأُمَمِ ... فلِهذا حُسِبَ لَه ذلِك بِرًّا. ولَيَس مِن أَجْلِه وَحدَه كُتِبَ حُسِبَ لَه بل مِن أَجْلِنا أَيضًا نَحنُ الَّذينَ يُحْسَبُ لَنا الإِيمانُ بِرًّا لأَنَّنا نُؤمِنُ بمَن أَقامَ مِن بَينِ الأَمواتِ يسوعَ ربَّنا الَّذي أُسلِمَ إِلى المَوتِ مِن أَجْلِ زَلاَّتِنا وأُقيمَ مِن أَجْلِ بِرِّنا" (رومة 4: 17-25). ومن هذا المنطلق، فان الايمان لا يقوم بعد اليوم على العيان او الرؤية، بل على شهادة الذين عاينوا ورأوا.  وهكذا يستطيع الإنسان ان يلتقي يسوع من خلال تعليم وشهادة جماعة التلاميذ أي الكنيسة حيث ان يسوع لم يُظهر ذاته لتوما عندما كان خارج جماعة التلاميذ بلْ أظهر ذاته له عندما كان مُجتمعاً معهم. أنّ الخبرة الإيمانيّة الشخصيّة لا يمكن أن تحدث سوى داخل الجماعة، مع الآخرين الّذين يسيرون معي في الإيمان. قال أحد القدّيسين "لا يمكن للإنسان أن يخلص بمفرده". فمن أراد أنْ يؤمن به فليؤمن بكنيسته. يُعلّق القديس ايرينيوس على إيمان الكنيسة " فهي تحفظ هذا الإيمان بكل دقّة كأنها تعيش في مكان واحد، وتؤمن إيماناً واحداً، لها قلباً واحداً وروحاً واحداً. وباتّفاقٍ تام تبشّر بهذا الإيمان وتعلّمه وتمنحه، كأنها تملكُ للنطق به فماً واحداً". فالإيمانُ المسيحيُّ المَبني على الشهادة لا على العيان، لا يقلُّ بشيءٍ عن إيمانِ الرُّسل أنفسهم. وأما مَن أراد كنيسة بلا عيب فيبقيَ دون كنيسة. هذا ما كان يردِّدُه اللاهوتيّ الأب إيف كُونغار قائلاً: " فإن كنّا نبحث عن كنيسة معصومةٍ من الهَفوات حتى نلتزمها، فلن نلتزم". فعلى الرّغم من صُعوبة إيمان توما بالقيامة، بقي توما في جماعة الرُّسلِ ولم ينفصل عنها، وهذا ما قاده إلى الإيمان بيسوع قائلاً: "ربِّي وإلهي". وقد سُؤلَ مرّة عالمٌ في الرياضيات والفلك: هل تعتقد أن الكون لا نهاية له؟ أجاب: بالتأكيد. قيل له: وما الذي يؤكّد لك ذلك؟ أجاب: لأني أؤمن وأصدّق ما تعلّمته. وبهذا الايمان من خلال الكنيسة يدخل المسيحيون في اتحاد وثيق بالمسيح القائم من الموت (يوحنا 17: 20). على الانسان أن يُخضع حكمته لحكمة الله وان يكتشف الرب من خلال العلامات التي يعطيها إياها هو عن حضوره وعن حبه. هذا هو الايمان المُستحق الطوبى وهو مفتاح للولوج في أعماق المسيح وسر حياته.  بالإيمان نسلك لا بالعيان كما يؤكد ذلك بولس الرسول " ما دُمنا في هذا الجَسَد، نَحنُ في هِجرَةٍ عنِ الرَّبّ، لأَنَّنا نَسيرُ في الإِيمانِ لا في العِيان" (2 قورنتس 5: 7). والمسيح هنا يطوِّب من يؤمن دون أن يرى عبر كل الدهور.  فالإيمان هو بُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى (العبرانيين 11: 1)، وهو الثقة بالربّ. هل حقّاً لدينا الإيمان. هل ننظر إليه بعيون الإيمان؟ هل نؤمن به مخلصاً ورباً لحياتنا؟ هل نصرخ إليه مثلما صرخ توما: رَبِّي وَإِلَهِي؟ هل لدينا ثقة كافية بالربّ تسمح لنا بأن نفتح الأبواب له ونخبر العالم بأفضل بشرى يسمعها حتّى الآن؟

 

30 "وأتى يسوعُ أَمامَ التَّلاميذ بِآياتٍ أُخرى كثيرة لم تُكتَبْ في هذا الكِتاب"

 

تشير عبارة "أَمامَ التَّلاميذ" الى رسله حيث ان يسوع اختار اثني عشر لمرافقته في التبشير ليروا اعماله ويسمعوا تعاليمه لخيرهم ولخير العالم. امّا عبارة " آياتٍ" باليونانية σημεῖα وبالعبرية אותות (خروج 10: 1) فتشير الى رمز يدل على خارقة دينية؛ فالآية هي عمل يوصل الى الحقيقة.  فظهور يسوع يُظهر حقا أنه ابن الله الحي الأبدي. والمعجزة هي آية تمتاز بوجه خاص بالكشف عن قدرة الله ومجده وشعاع قداسته وسموه. وهي تهدف الى الدعوة الى الإيمان. امَّا عبارة " ِآياتٍ أُخرى" فتشير الى آيات لم يذكرها الانجيل بل اختار فقط سبع آيات، وكان أولها معجزة الخمر في عرس قانا الجليل كما أكّد ذلك يوحنا الانجيلي: "هذِه أُولى آياتِ يسوع أَتى بها في قانا الجَليل، فأَظهَرَ مَجدَه فَآمَنَ بِه تَلاميذُه" (يوحنا 2:11)، شفاء المقعد عن بركة الغنم (يوحنا 5: 1-9)، وشفاء الاعمى في اورشليم (9: 1-38)، إحياء لعازر (يوحنا 11: 1-44). امَّا عبارة "لم تُكتَبْ في هذا الكِتاب" فتشير الى عدم كتابة قصة حياة المسيح كلها؛ إنما ما دوَّنه يوحنا الإنجيلي إنّ ما دوّنه ليس سوى القليل من أحداث كثيرة جرت في حياة يسوع على الارض. لكن ما كُتب هو كل ما نحتاج الى معرفته كي نؤمن بأن يسوع هو المسيح ابن الله الذي به نلنا الحياة الابدية. وكانت هذه الآية خاتمة الانجيل.

 

31 "وإِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه"

 

تشير عبارة "كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا" الى هدف انجيل يوحنا الذي هو الايمان، والتقدم فيه عند الذين تمّ انتماؤهم الى جماعة المؤمنين. ومضمون الايمان هو يسوع هو المسيح ابن الله.  امَّا عبارة " بأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله " فتشير الى يسوع الذي من الناصرة المولود من مريم العذراء، وصُلب وقام، هو المسيح ابن الله، المسيح الذي تنبأ عنه كل الأنبياء، رجاء الشعوب كلها. أمَّا عبارة "لِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه" فتشير الى الايمان بيسوع الذي هو المسيح ابن الله كما جاء في بدء انجيل مرقس " بَدءُ بِشارَةِ يسوعَ المسيحِ آبنِ الله" (مرقس 1: 1). والإيمان بيسوع ليس مجرد اعتقاد، بل معرفة حقيقية تهب حياة أبدية. والايمان بالمسيح المعترف به في منزلة ابن الله، وفي رسالته، يهب الذين يؤمنون حقاً الحياة الابدية بالاتحاد به "فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 3: 16). الايمان بيسوع يقوم على ان الاعتراف أن يسوع هو المسيح وابن الله كما أعترف بطرس الرسول "أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ" (متى 16: 16). ويقود هذا الايمان بيسوع الى الحياة. فهناك صلة بين الايمان والحياة. امَّا عبارة "آمَنتُمُ" في الأصل اليوناني πιστεύοντες فتشير الى صيغة تدل على الاستمرارية، أي الى إيمانٍ عاملٍ باستمرار.  والايمان في هذا المفهوم هو قبول المسيح والثقة فيه وإعطائه السيادة ليقود حياة المؤمن به. وبهذا الإيمان ينال الانسان الحياة الأبدية التي ظهرت في قيامة المسيح. أمَّا عبارة "الحياةُ" فتشير الى الحياة الأبدية وهي الهدف الثاني لإنجيل يوحنا. فالإيمان هو الهدف الأول للإنجيل، وهو شرط للحصول على الهدف الثاني أي الحياة الأبدية. امَّا عبارة "بِاسمِه" فتشير في العهد القديم الى اسم الله الذي لا يُلفظ (خروج 3: 15). وبذلك تتجلى ربوبية الله في يسوع في تواضعه الشديد.  ويدلُّ الاسم هنا على شخص المسيح القائم من الموت وحضوره الفعّال وقدراته وقوته، فالمسيح بفدائه أعطانا حياة أبدية. لأنه هو الحياة. وهذا الاسم يسوع هو الذي يجلب الخلاص للبشر، كما جاء في كلام بطرس في المجلس اليهودي: "لا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلا " (اعمال الرسل 4: 12). وليست المعجزات إلاَّ صورة لهذا الخلاص. ومن اجل هذا الاسم يلقى الرسل العذاب (اعمال الرسل 5:41) وفيه يعمَّد المؤمنون (اعمال الرسل 2: 38) وإياه يدعون (اعمال الرسل 9: 14).

 

 ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 20: 19-31)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 20: 19-31)، يمكن ان نستنتج انه يتمحور حول مفهوم ظهور مسيح القائم من بين الاموات وميِّزات ظهوره.

 

1) مفهوم ظهور المسيح القائم من بين الأموات

 

يختلف الظهور (او الترائي) عن الرؤيا، حيث ان الرؤيا تركز على المجد وتكشف عن الأمور السرِّية والأمور السماوية وتعرض مشاهد خارقة. أمَّا الظهور فهو وسيلة من وسائل التعبير عن وحي الله، الذي بواسطتها تصبح الكائنات غير المنظورة بطبعها حاضرة بشكل منظور. وإن أقدم قائمة لظهور يسوع القائم من بين الاموات قدّمها لنا القديس بولس في سنة (55 م)، انطلاقاً من تقليد كان قد تسلّمه قبل ذلك، فطبقاً لاعتراف الإيمان القديم هذا يقول "تَراءَى لِصَخْرٍ فالاْثَني عَشَر، ثُمَّ تَراءَى لأَكثَرَ مِن خَمْسِمِائَةِ أَخٍ معًا لا يَزالُ مُعظَمُهُم حَيّاً وبَعضُهُم ماتوا، ثُمَّ تَراءَى لِيَعْقوب، ثُمَّ لِجَميعِ الرُّسُل، حتَّى تَراءَى آخِرَ الأَمرِ لي أَيضًا أَنا السِّقْط " (1 قورنتس 15: 5-8).

 

لا تورد الأناجيل من هذه القائمة إلاَّ الظهورين الأولين لسمعان بطرس (لوقا 24: 34)، وللأحد عشر (يوحنا 20: 19-29) الذين انضَمً إليهم بعض التلاميذ الآخرين (لوقا 24: 33-50). ومع ذلك، تذكر الاناجيل ظهور آخر لبعض الأفراد: لمريم وللنسوة (يوحنا 20: 11-18)، ولتلميذي عمّاوس (لوقا 24: 13-35)، ولسبعة رسل على شاطئ البحيرة (يوحنا 21: 1-23).

 

ويندرج ظهور يسوع تحت نوعين: عامة وخاصة. العامة هي ظهور رسمي لجماعة الرسل أو التلاميذ بصفة عامة تستهدف بيان رسالة لتأسيس الكنيسة، أمَّا الظهور الخاص فيدور روايته حول التعرّف على المسيح الحي القائم من بين الاموات.

 

ولم يكن الظهور ضرورية للرسل والتلاميذ، إنما يكفي أن يكونوا قد أُخبروا من قبل وبرهنوا على ذلك كما حدث مع تلميذي عمَّاوس "لمَّا رَجَعا تلميذا عمواس وأَخبرَا الآخَرين، فلَم يُصَدِّقوهما (مرقس 16: 13). وكان جدير بفهمهم للكتب المقدّسة أن يقودهم نحو الإيمان بالقيامة (يوحنا 20: 9). فالظهور يستجيب لاحتياجات إيمان ما زال ناقصاً.

 

وكان الظهور ضروري من ناحية أخرى حيث ان الذين كانوا قد عاشوا مع يسوع الناصري، كان ينبغي أن يكونوا الشهود الوحيدين والمختارين ليسوع المسيح، وأن تنغرس بصورة تاريخية نقطة الانطلاق في الإيمان المسيحي وفي الكنيسة. لذلك يمكن القول بأن التلاميذ رأوا الربَ حيّاً في اختبار تاريخي، حيث ان إيمانهم نوع ما كان نتيجة لرؤية العين، فهم شهود عيان للمسيح القائم من الموت.

 

2) عناصر ظهور المسيح القائم من بين الاموات

 

يمكم ان نميِّز ثلاثة عناصر لظهور يسوع لتلاميذه، وهي: المبادرة والتعرُّف وحمل الرسالة.

 

الميزة الاولى: مبادرة يسوع القائم من بين الاموات

 

يسوع هو الذي بادر وتقدَّم وسط أناس لا يتوقّعون ظهوره. هو الذي أخذ المبادرة وظهر إلى توما الرسول ودعاه ليرى ويلمس جروحه.  ثم يضيف قائلا: "لا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِناً"(يوحنا 20: 27). إن موضوع المبادرة من جانب القائم من بين الأموات يُعبّر عنها مدلول فعل ὤφθη "أي تراءَى" كما وصف بولس الرسول "المسيح تَراءَى لِصَخْرٍ فالإثَني عَشَر، ثُمَّ تَراءَى لأَكثَرَ مِن خَمْسِمِائَةِ أَخٍ معًا لا يَزالُ مُعظَمُهُم حَيّاً وبَعضُهُم ماتوا، ثُمَّ تَراءَى لِيَعْقوب، ثُمَّ لِجَميعِ الرُّسُل، حتَّى تَراءَى آخِرَ الأَمرِ لي أَيضًا (1 قورنتس 15: 5) ومعناه أن روايات الظهور تصف اختبارات واقعية عاشها التلاميذ فعلاً.

 

ويتطابق هذا الظهور مع تطلّعات البشارة الأولى: الله قد تدخل، فأقام يسوع، وقد أعطاه أن يُظهر نفسه حياً بعد موته. فالقيامة ليست حدثاً أسطورياً بل اختبار تاريخي واقعي عاشه المسيح امام تلاميذه وأصبح الإيمان هو نتيجة لهذا اللقاء.

 

نستنتج مما سبق ان يسوع أزال الشكوك التي كانت في أذهان الرسل، وأعطاهم علامة عن واقع قيامته. افهمهم الكتب المقدسة وحدَّد مهمَّتهم كشهود للقيامة. فحضور يسوع الحي يجعل منهم شهوده في العالم.

 

الميزة الثانية: تعرُّف التلاميذ على يسوع القائم من بين الأموات

 

 إن التلاميذ يكتشفون ذاتية الكائن الذي يبادرهم بظهوره، إنه يسوع الناصري هذا، الذي عرفوا حياته وموته؛ حيث ان هذا الذي كان ميتاً هو حيّ، وفيه تمت النبوة. أمَّا أسلوب هذا التعرّف يتدرّجُ في البداية حيث يرى الرسل في يسوع الذي يظهر لهم شخصاً عادياً، إما مسافراً كما حدث مع تلميذي عمّاوس (لوقا 24: 15 16) او مع التلاميذ على شاطئ بحيرة طبرية (يوحنا 21: 4-5)، وإمَّا يروا فيه بستانيا كما حدث لدى ترائيه لمريم المجدلية (يوحنا 20: 15)، ثم يعرفون أنه الرب. وهذا التعرّف حرّ حيث يمكن على التلاميذ ان يؤمنوا بالقيامة او ان يرفضوا الإيمان كما هو الحال بالنسبة للتلاميذ عندما ظهر يسوع لهم في اورشليم: يوحنا الحبيب آمن بقيامة يسوع، أمَّا توما فلم يؤمن (يوحنا 20: 25-29) كذلك الامر لظهور يسوع لتلاميذه في الجليل: البعض آمن والبعض شكّ كما جاء في أنجيل متى "فلَمَّا رَأَوهُ سَجَدوا له، ولكِنَّ بَعضَهُمُ ارْتابوا" (متى 28: 17).

 

وأخيراً، بما أن الرب يظهر عادة لمجموعة من الأشخاص، حيث إنه كان من المُتيسَّر تبادل التأكد من حقيقة الظهور. فتمكن التلاميذ من معرفة حقيقة يسوع القائم. فمن جهة، إن القائم من بين الأموات لا يخضع بأوضاع الحياة الأرضيّة العاديّة، فهو مثل الله في ظهوره في العهد القديم (تكوين 18: 2)، يظهر ثم يختفي حسبما يشاء.

 

ومن جهة أخرى، إنه ليس شبحاً، ولذلك كان الإلحاح على لمس يسوع والاكل معه. ومن هذا المنطلق، فإن جسم يسوع القائم من الأموات هو جسم حقيقي. ولكنه "جسم روحاني" (1 قورنتس 15: 44-49)، لأنه جسد تحّول بالروح "وُلِدَ مِن نَسْلِ داوُدَ بِحَسَبِ الطَّبيعةِ البَشَرِيَّة، وجُعِلَ ابنَ اللهِ في القُدرَةِ، بِحَسَبِ روحِ القَداسة، بِقِيامتِه مِن بَينِ الأَموات" (رومة 1: 4). ويُعلق القديس اوغسطينوس "أيا كانت طبيعة الجسد الروحاني، ومهما كانت عظمة نعمته، أخشى أن أتحدث في هذا، لأننا لا زلنا لا نحمل أية خبرة بخصوص هذه الحقيقة".

 

والجسم يُطلقُ على البدن الذي فيه حياةٌ وروحٌ وحركة. وأما الجسدُ فيطلق على التمثالِ الجامد، أو بدن الإنسان بعدَ وفاته وخروجِ روحه. ويتردَّد يسوع الحي القائم بالمجيء أكثر من مرة بين تلاميذه والرجوع إليهم ليقودهم ويرافقهم كما يرافق الراعي خرافه (يوحنا 14: 3-18). عاد يسوع الى عالمنا الا انه من عالم آخر. وهذا لا يعني أنه جسد آخر غير الذي لنا، إنما هو بذاته لابسًا عدم الفساد (1قورنتس 15: 53) ويعلق القديس أوغسطينوس "الجسد يخضع للروح ولا يعود يوجد ما يرثيه الرسول بقوله: "الجَسَدَ يَشتَهي ما يُخالِفُ الرُّوح، والرُّوحَ يَشتَهي ما يُخالِفُ الجَسَد" (غلاطية 5: 17)".

 

ونستنتج مما سبق ان قيامة يسوع ليست عودة إلى الحياة الأرضية، بل هي دخول في الحياة التي لا تعرف الموت من بعد كما يصرّح بولس الرسول "نَعلَمُ أَنَّ المسيح، بَعدَما أُقيمَ مِن بَينِ الأَموات، لن يَموتَ بعدَ ذلِك ولن يَكونَ لِلمَوتِ علَيه مِن سُلطان" (رومة 6: 9).

 

وبفضل مبادرة المسيح بعد القيامة، أصبح التلاميذ في مأمن من الوقوع في أي وهـــم من شأنه تشكيكهم في صحة وحقيقة لقائهم " بالحي". وبفضل "رؤيتهم" إياه يربطون هذا الاختبار بالماضي الذي عاشوه برفقته. وبسماعهم إياه يتأكدون من معرفته ويتقوُّن في الايمان به. لا يعرف المؤمن معنى الظهور إلا من خلال الكرازة التي تقوم بها الكنيسة حول جسد المسيح.

 

الميزة الثالثة: حمل رسالة المسيح القائم من بين الأموات

 

تعرف التلاميذ على الرب وتمتعوا بمشاهدة المسيح القائم وحضوره تتميما لوعده لهم بحضوره "حضور إلى الأبد" (متى 28: 20). فدعاهم يسوع القائم ليكونوا شهودا له ويواصلوا عمله في الحل والربط بحمل رسالة الخلاص وبناء الكنيسة (يوحنا 20: 22-23). فحضور يسوع ليس حضوراً للاستقرار معهم، بل ليُحمِّلهم رسالة. إنه يسوع الناصري الذي عاشوا معه سابقا (أعمال 2: 21-22)، وبعد ظهوره لهم والتعرف عليه دعاهم لتبشير في إنجيله في العالم اجمع. قائلا لهم:" كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً" (يوحنا 20: 21).

 

ومن هذا المنطلق، تحوّل أتباع يسوع من تلاميذ (الشخص الّذي يتعلّم) في غرفة مغلقة إلى رسل (الشخص الّذي يُرسل) بدون أبواب مغلقة بعد اليوم.  وما هذه الرسالة الاّ رسالة الابن الذي ارسله الآب الى العالم ليُخلص به العالم كما ورد في صلاة يسوع الكهنوتية "كَمَا أَرسَلَتني إِلى العالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إِلى العالَم" (يوحنا 17: 18). ويُعلق أحد مفسّري الكتاب المقدس "لا يوجد إلاّ رسالة واحدة من السماء الى الارض، وهي رسالة يسوع. ورسالة التلاميذ هي متضمنة في رسالة يسوع، ومكمّلة لها". فيسوع يُخبر تلاميذه باي سلطان قد أتمَّ عمله، ويُوكل إليهم نشر خبر الخلاص في كل العالم. ويُحدَّد يسوع مهمة الرسل ليكونوا شهودا لقيامته حيث يوكل عمله الى تلاميذه الذين يتولِّون نشر بشرى الخلاص السارة في كل العالم. ويُعلق أحد مفسري الكتاب المقدس "ان المسيح يطلب من تلاميذه: اخرجوا مني كخروج الشعاع من الشمس، وكخروج النهر من النبع، وكما انني أذيع اسم الاب كذلك أذيعوا أنتم اسمي".

 

هذه الميزات الثلاث لها علاقة حيوية متبادلة فيما بينها، حيث ان حاضرنا يتجدد باستمرار بمبادرة من القائم من بين الأموات، ونحن مدعوون دوما للتعرف على شخص يسوع الناصري، الذي يدعونا ان نكون شهود لقيامته وحمل انجيله وبناء المستقبل، والمستقبل هو الكنيسة. ويعلق البابا فرنسيس " ينفخ الروح القدس القوّة لإعلان البشارة الجديدة بجرأة، بصوت عالٍ، في كلّ زمان وفي كلّ مكان، وحتّى في عكس التيّار...إنّ الرّب يسوع يريد مبشّرين يُعلنون البُشرى السّارّة ليس فقط بكلامهم، بل خاصّةً بحياتهم المُتجلّية بحضور الله" (الارشاد الرسولي "فرح الانجيل، عدد 259). لنوجّه دعاءنا للرُّوح القدس كي يأتي ليجدِّد ويحرّك ويدفع الكنيسة لتبشّر جميع الشعوب. 

 

خلاصة

إن الأبعاد الثلاثة لحضور القائم من الأموات تتوفر من جديد. وتأتي المبادرة دائماً من الله، وبمعنى أدقّ من المسيح بعد قيامته. إلا أن المسيح يتكلّم اليوم من خلال الكرازة الحالية. فيسوع الناصري يكشف عن نفسه، ولكن من خلال الاختبار التاريخي للشهود الأوّلين. وإنه خلال العلاقة بين هذه الأبعاد الثلاثة يكمن سر حضور المسيح حياً اليوم في الكنيسة والعالم.

 

لا يزال القائم من الأموات اليوم حاضراً بناء على وعده: "وهاءنذا معكم طوال الأيام إلى نهاية العالم" (متى 28: 20)، وذلك بواسطة الكنيسة الحيّة، جسده السري، وهو يجعل البشر دائماً يعرفونه عند كسر الخبز (لوقا 24: 35).  ويُعلق البابا القديس يوحنا بولس السادس "إنّ الربّ القائم يُهدي حبّه كعطيّة للإنسانيّة، الّتي تظهر أحيانًا أنها ضائعة وتحت سيطرة قوى الشرّ، والأنانيّة والخوف؛ يهب حبّه الّذي يسامح، الّذي يصالح ويفتح النفس من جديد للرجاء. فالحبّ هو الّذي يجعل القلوب تتوب وهو الّذي يمنح السلام. كم أنّ العالم بحاجة للفهم ولاستقبال الرحمة الإلهيّة!".

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي، نطلب إليك باسم ابنك يسوع ان تنفخ فينا روحك القدوس فيتُبدد خوفنا ويقوى إيماننا في قيامته المجيدة، ونتمكّن ان ننظر إلى جراحاته المقدسة فننال الشفاء والسلام وفرح القيامة، ونعلن بشرى القيامة المجيدة للعالم ونحن نردد كلمات توما ذاتها: "ربّي وإلهي" آمين

 

قصة واقعية على خطى توما الرسول

 

حاول المحامي البريطاني فرانك موريسون عام 1927م أن يكتب كتابًا ينتقد فيه قيامة السيّد المسيح المجيدة، ويحلّل جميع أحداث الأيّام الأخيرة من حياة السيد المسيح على الأرض. ولكنّه عندما درس الحقائق بكلّ تفاصيلها، وصل الى استنتاجات مذهلة، فغيّر رأيه وتحوّل الى مؤمن بصدق قيامة الرب المجيدة، وألّف كتابًا عن حقيقة القيامة المجيدة بعد أن كان من المشكّكين، وجعل عنوان الكتاب: "مَن دحرج الحجر؟" وعنوان الفصل الأوّل منه "الكتاب الذي لم يُكتب". وما أحوجنا اليوم الى أن نُدرك أنّ السيّد المسيح الحيّ يُثري جميع مرافق حياتنا وتطلّعاتنا بقيامته المجيدة. فإن وثقنا به توغّلنا في صحوة روحانيّة تعزّز الترابط ما بين الله والإنسان وما بين الانسان والقريب. المسيح قام. حقَّا قام. هللويا