موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٥ فبراير / شباط ٢٠٢٠

صياغة المستقبل.. كيف نعيش حياتنا

باحث وكاتب صحفي أردني

باحث وكاتب صحفي أردني

إبراهيم غرايبة :

 

ينظر كثير من الناس إلى الثقافة وأساليب الحياة كعمليات إضافية أقرب إلى التسلية والترفيه، ويعتبرون الحديث عنها، كما تلقيت ملاحظات كثيرة على مقالة الأسبوع الماضي، هروباً من السياسة والأحداث اليومية أو اتجاهاً ثقافياً لا بأس به! لكن أصدقاء ومتابعين شاطروني الرأي بأن أسلوب الحياة مدخل للتفكير المستقبلي، وملاحظة الاتجاهات السياسية والاقتصادية، وهذا بالطبع ليس منهجاً جديداً، فقد كان هيغل (1770 – 1831) يعتقد أن الأمم يستدل عليها بالفنون والآداب والموسيقى والعمارة، وعرض مثالاً يبدو اليوم أكثر أهمية، وهو النهضة الهولندية مستدلاً عليها بالفنون التشكيلية للهولنديين، فهذا البلد الذي كان فقيراً وهامشياً بالنسبة للإمبراطوريات الإسبانية والبرتغالية والمدن والممالك الإيطالية والفرنسية والألمانية، أنشأ نهضة فريدة من نوعها، ما زالت حتى اليوم درساً بليغاً، فقد استقبلت هولندا اللاجئين من الاضطهاد الديني والانتقام السياسي في إسبانيا والبرتغال وألمانيا، وأنشأت أمة متماسكة استطاعت أن تضاعف مساحتها اليابسة وتطور الزراعة، والأكثر أهمية وعبرة حتى اليوم هو كيف استقطبت، بسبب التسامح والاستيعاب، استثمارات وكفاءات واسعة، جعلتها البلد الأكثر غنى وأهمية على مدى القرنين السادس والسابع عشر، بل واستطاعت أن تهزم عسكرياً أكبر إمبراطور في حينه، الملك فيليب ملك إسبانيا، والذي كان يهيمن على أكثر من نصف العالم، وجلب من القارة الجديدة آلاف الأطنان من الذهب والفضة، لكنها أموال تسربت إلى البنوك والشركات الهولندية، ثم تحولت إسبانيا إلى دولة فقيرة وهامشية!

 

مؤكد بالطبع، أن الحلول الثقافية والتوعوية المستقلة عن السياق الاقتصادي والاجتماعي لا تحقق التقدم المرغوب، ذلك برغم أن الوعي بالتقدم ينشئه، وأن الأمم تتغير تبعاً لتغير عقلها العام، لكنه وعي لا يتحقق بالإرشاد والكتابة والتلقين، ولذلك فإن الحديث عن الثقافة وأسلوب الحياة هو موضوع سياسي بامتياز، كيف نعيش حياتنا. وبدراسة التراث والهويات التي تعتز بها الأمم، فإنها في واقع الحال دراسة لأسلوب الحياة، وليست سوى ذلك، ومن خلالها ينشأ التماسك الاجتماعي والرواية السياسية للأمم والمدن والدول.

 

يبدو واضحاً اليوم، أن مرحلة الشبكية في تأسيسها وانتقاليتها تحرك الخوف والتحديات الجديدة، ما يجعل الفلسفة حقلاً معرفياً يزيد ضرورة وأهمية، وبطبيعة الحال فإن الفلسفة التي تشكلت في عصور ومراحل سابقة تواجه التحديات نفسها التي تواجه القيم والأفكار المنبثقة عنها، وبدأت بالفعل تتشكل فلسفات جديدة ومراجعات جديدة للفلسفة السائدة، طالما أن السؤال والبحث عن الحكمة عملية إنسانية لا تتوقف، وكما نعلم فإن العلوم كلها من الطب والفيزياء والرياضيات وغيرها ظلت جزءاً من الفلسفة حتى العصر الحديث (الصناعة)، بدءًا بالقرن السابع عشر الميلادي، وبعض العلوم مثل الطب والاجتماع لم تستقل عن الفلسفة إلا في القرن التاسع عشر.

 

ومرجح أن الفلسفة سوف تصعد من جديد، لأجل أن يعيد الإنسان المعاصر تنظيم الأفكار والعلوم، إذ إنها أفكار وعلوم ومعارف تشكلت وترسخت من خلال ثلاث منظومات، المؤسسة الدينية، والنخب والأرستقراطيات، ثم النقابات والأسواق والشركات التي تشكلت حول التطور العلمي والتكنولوجي، وهي منظومات ثلاث تواجه تحولات وتحديات كبرى وعميقة، وحتى تتبلور العلوم والأفكار على نحو واضح وعملي، سوف تكون الفلسفة والآداب والفنون والموسيقى ومهارات التفكير والحياة إطاراً منظماً أو مؤسساً لوجهة العلوم والأفكار، ومؤكد بالطبع أن الإنسان سوف يتجه تلقائياً إلى تطوير ومراجعة علوم ومهارات وتكنولوجيا الصحة والغذاء، ليحافظ على بقائه ويحسن هذا البقاء، فالحياة في مجملها تلخصها مقولة القدرة على الحياة أطول فترة ممكنة، وفي تحولات العمل والموارد، سوف تركز الحضارة الإنسانية على المكونات الأساسية في الغذاء والصحة والسكن، وتحاول مواصلة تحسين الحياة، بما هي ببساطة تتكون من المال والصحة والتعليم، هكذا سوف يكون أسلوب الحياة مؤشراً أساسياً وكبيراً، يستدل به على الاتجاهات والتقدم والفشل، كما سيكون موضوعاً للاهتمام والتفكير والجدل، يؤشر على التحولات والمراجعات لدى الأفراد والأجيال والطبقات.

 

وفي صعود الفردية كأسلوب حياة أو أمر واقع، تتقدم تقنيات التواصل والخدمة الذاتية والروبوتات التي تساعد الأفراد وكبار السن والمرضى الذين يعيشون وحدهم لإدارة حياتهم والتواصل مع المجتمع المحيط والتسلية والترفيه، ويمضي علم الاقتصاد في اتجاهات الفقر والعمل والمؤسسات والاقتصاديات الصغيرة الفردية والمتوسطة، وتصعد قيم التعاون والثقة والإتقان كاتجاهات اجتماعية وفلسفية منظمة للحياة.

 

إن الإنسان كائن مفكر، لكنه أيضاً تحركه دوافع روحية ونفسية وأهواء ومصالح غير عقلانية، لا يمكن تنظيم حياته وأفكاره واتجاهاته وفق قواعد علمية وعقلانية منضبطة، ولكن يجب إدراك هذا العالم المشهود والحقائق المحيط به أخذاً بالاعتبار كل ما يكون الإنسان ويحركه ويؤثر فيه، لكن الجديد (ربما) أن عدم اليقين ينشئ منظومة معرفية وحياتية، قائمة على عدم اليقين باعتباره فضيلة وأساساً للموارد والحقيقة نفسها، وليس ضريبة لا مفر منها!

 

(الاتحاد الإماراتية)