موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٤ أغسطس / آب ٢٠٢٠

صمتُ الكنيسةِ البَليغُ والمتكلِّم

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
"لغة جديدة" تتحدّث بها الكنيسة مِن جديد إلى عالم اليوم

"لغة جديدة" تتحدّث بها الكنيسة مِن جديد إلى عالم اليوم

 

كَمْ يصعبُ على الإنسانِ أنْ يشعر بأنَّ حديثه لا يتحدَّث لأحد، وأنَّ كلامه لا يجد صدى في أذان مستمعيه! فماذا يفعل الإنسانُ في هذه الحالة؟ وماذا إذا انتقلنا بتساؤلاتنا هذه إلى "حال الكنيسة اليوم"؟ كَمْ يبدو مؤلمًا حقًّا أنْ تشعر كنيسةُ اليوم بأنَّ حديثها لا يتحدّث لأحد وأنَّ كلامها لا يجد أذان صاغية وقلوب خاضعة مطيعة! فكيف أصبح كلامُ الكنيسة في العالم المعاصر مجرّد "أحاديث في الهواء"؟ وكيف يبدو وكأنَّ كلامها أضحى غير معبِّر وصامت؟ ولماذا أُجبرت الكنيسة على الانحصار في معسكرها وكأنّها مرتعبة مِن شيء ما، وكأنّها لا تملك كلمات قويّة ومؤثّرة ومقنعة للبشريّة المعاصرة؟ إنّها تساؤلات صعبة وهموم ثقيلة؛ وقد تكون مجديّة ومعبّرة عن حال كنيستنا المعاصرة. فماذا نقترح إذًا على كنيستنا –أمنا ومعلّمتنا- في حالها هذا؟

 

رُبَّما ينبغي على الكنيسة المعاصرة أنْ تفعل مثلما يفعل كلُّ إنسان في موقفها وحالها هذا؛ أي أنّه عندما يجد إنسانٌ ما أنَّ كلامه أضحى مجرّد كلام فارغ وصامت (بالنسبة للآخرين)، عليه أنْ يلتزم الصمت كموقف. أجل، ينبغي عليه أنْ يتخلّى عن الكلام الصامت ويسرع إلى الصمت البَليغ والمتكلِّم. إنَّ الكنيسة –الّتي نحبّها بكلّ قلوبنا وكياننا والتي نحن أعضاء في جسدها– ينبغي عليها أنْ تقتدي بمعلّمها ورأسها؛ فعندما تجد أنَّ كلامها لا يجد أذان صاغية، عليها أنْ تصمت صمتًا بَليغًا ومتكلِّمًا. فالصمت المقصود هنا ليس هو صمت الخوف أو صمت الشكّ، وإنّما هو الصمت الحقيقيّ الحكيم والمتأمّل. ودعنا نشرح اقتراحنا هذا بمثالين: السيد المسيح وشعب إسرائيل في العهد القديم.

 

ولنبدأ بالعهد الجديد، أي بالسيد المسيح. كَمْ مِن مرة طُرحت عليه أسئلة عديدة وكان لا يجيب عليها، بل كان يردّ على السؤال بسؤال آخر (راجع متى 21)؟ وكَمْ مِن مرة كان بإمكانه أنْ يُعطى دروسًا ومحاضرات رائعة إزاء مواقف عديدة، ولكنّه كان يكتفي بالصمت أو حتى الهروب (راجع لوقا 4/31-37)؟ ولنأخذ موقفًا آخر مِن حياة يسوع أوضح وأبلغ مِن كلّ هذا: محاكمته أمام السنهدريم وهيرودس وبيلاطس (راجع متى 26 و 27؛ مرقس 14 و 15؛ لوقا 22 و 23؛ يوحنا 18 و 19). لا يخبرنا الإنجيلُ أنَّ يسوع ألقى خطابًا على محاكميه أو قام بعمل مرافعة ليدافع مِن خلالها عن نفسه؛ على العكس، يقول لنا الإنجيلُ بإنَّ يسوع التزم التزامًا تامًا بالصمت. وعندما سُئل أسئلة عديدة عن ذاته وأعماله وتعاليمه وتلاميذه، لم يجيب بشيء، وأحيانًا كان يجيب بكلمات قليلة جدًّا! فهل كان المسيحُ عاجزًا عن الحديث في مثل هذه المواقف وهو المعلّم المشهور، على مدار كلّ العصور؟ وهل لم تكن لديه الحجج والبراهين الكفيلة بإظهار دليل براءته ومقاصده النبيلة؟ فلماذا اكتفى إذًا بالصمت وكان بإمكانه الحديث والكلام؟ أجل، لأنّه أدرك –وهو العارف بقلوب البشر- أنَّ كلامه في مثل هذه المواقف لن يجدي نفعًا؛ بل على العكس، إنَّ صمته سيكون حديثًا مفعمًا بالكلمات العميقة. لقد أدرك أنَّ كلامه سيكون كلامًا صامتًا، أمَّا صمته فسيكون صمتًا بَليغًا ومُتكلِّمًا وحكيمًا.

 

وهنا يحضرني أيضًا موقف يسوع في قصة "المحقّق أو المفتّش الأكبر" (التي جاءت في رواية الأديب الروسيّ الكبير فيدور دوستويفسكي: "الإخوة كارامازوف"). فهي تحكي عن رجوع متخيّل ليسوع المسيح إلى الأرض، قبل مجيئه الأخير، حيث يظهر بين الناس في الصورة البشرية ويقوم بأعمال عظيمة ومعجزات مثل التي قام بها في الماضي. ويتخيّل دوستويفسكي أنَّ "المحقّق الأكبر" – كاردينال عجوز وراهب ولاهوتي– يقوم بسجن يسوع ومحاكمته بتهمة الهرطقة والإزاعج. ولكن، ماذا كان جواب يسوع على كلّ هذا؟ أجل، الصمت البَليغ والمتكلِّم والحكيم. فيقول دوستويفسكي على لسان راوي القصة أو القصيدة –إيفان– : «صمت كبير المفتشين ينتظر من سجينه ردًا. إن صمت السجين قد ثقل على نفسه. لقد اقتصر أسيره طوال مدة كلامه على أن يحدّق إليه بنظرة رقيقة نافذة، عازمًا عزمًا واضحًا على أن لا يدخل في مناقشة معه. كان العجوز يرغب في أن يجيبه السجين ولو بكلمات لاذعة أو رهيبة. ولكن السجين لم ينطق بكلمة واحدة. وهذا [؟] هو يقترب من العجوز فجأة فيطبع قبلة رقيقة على شفتيه الشاحبتين شحوب شفتي من بلغ من عمره التسعين. كان ذلك كل جوابه. ارتعش العجوز، واختلج شيء ما في طرفي فمه. واتجه نحو الباب ففتحه وقال لسجينه: "اذهب الآن، ولا تعد بعد اليوم أبدًا، أبدًا!" وأومأ له بيده إلى "الشوارع المظلمة المقفرة من المدينة". وانصرف السجين» [فيدور دوستويفسكي، الإخوة كارامازوف، ترجمة سامي الدروبي، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، 2010، ص. 214-215].

 

ولنذهب الآن إلى العهد القديم، وبالتحديد إلى كارثة "السبى البابليّ". وكلنا نعرف أنَّ الشعب اليهوديّ ذهب إلى بابل مُرغمًا، لأنّه سُبي هناك في عام 587  قبل الميلاد، على يدّ ملك بابل نبوخذ نصر. ومِن جراء هذا السبي البابليّ المأساويّ ذهب شعب إسرائيل بعيدًا عن أرضه (أرض الموعد) وهيكله (مكان حضور الله) وذبائحه وكهنوته (لأنَّ مكانهما الحقيقي هو الهيكل). وهنالك أُجبر على الصمت والانحسار. فينقل لنا أحدُ مزامير السبي هذه الصرخة المرة: «كَيفَ نُنشِدُ نشيدَ الرَّبّ ونَحنُ في أَرضِ الغُربَة؟» (مزمور 137/4)! وما معنى هذة الصرخة؟ أجل، لقد أدرك الشعبُ اليهودي في سبيه أنَّ كلامهم أضحى صامتًا وصمتهم أصبح بَليغًا ومتكلِّمًا؛ فبدلًا مِن الجلوس على كرسي موسى وإلقاء الأحاديث الرنانة، اكتفوا بالصمت أمام الله وأمام مَن سبوهم؟ وكان صمتهم صمت الإنسان المتأمّل الواثق في عناية إلهه الحقيقي الذي في يده تاريخ البشر ومصيرهم، والذي يقود التاريخ البشري نحو مشروعه الخلاصي. وكان صمتهم أيضًا صمت مَن يريد أنْ يسبر أغوار الأحداث ويقرأ "علامات الأزمنة"، ليدرك بعيون جديدة ماذا يحدث وكيف يتصرّف تجاهه؟

 

وأخيرًا، فماذا نريد أنْ نقترح بالتحديد على أمنا ومعلّمتنا الكنيسة التي تحيا في هذا العصر الصعب والمكتظ بالأحاديث المطوّلة وبالأحداث المعقّدة؟ إنّنا لا نقترح عليها ولا ننصحها بأحاديث أخرى أكثر طولًا وتعقيدًا؛ وإنّما نقترح عليها الصمت البَليغ والمتكلِّم والحكيم. فالصمت البَليغ والمتكلِّم الذي نعنيه هو "صمت الحكماء". فهو صمت سقراط الحكيم أمام مَن أرادوا قتله؛ فبعدما أنهى دفاعه بالكلمات الصامتة، التزم الصمت الحكيم وقال: «قد حان وقتُ الرحيل، أنا نحو الموت، وأنتم نحو مواصلة الحياة» [Platone, Apologia di Socrate – Critone, (I classici del pensiero libero. Graci e latini, 1), Edizione speciale su licenza per Corriere della Sera, Milano 2012, 77]. وهو أيضًا صمت السيد المسيح الحكيم والمحبّ الذي يترك مساحة للإنسان لكي يختار ويقرّر، حتى ولو أخطأ الاختيار والقرار؛ فهو صمت مَن يعرض ولا يفرض.

 

وهذا الصمت البَليغ والمتكلِّم والحكيم هو أيضًا "الصمت المتأمّل"، أى ذاك الصمت الذي يريد أنْ يصغي إلى أحداث التاريخ و"علامات الأزمنة". وهو الصمت الذي يساعد الكنيسة في استيعاب مُتغيّرات عصرنا وظروفه الراهنة وتوجّهاته الجديدة؛ ويساعدها أيضًا في مشاركة عالم اليوم في همومه ومشاكله وأزماته ومخاوفه. وكلُّ هذا يساهم بدوره في إيجاد "لغة جديدة" تتحدّث بها الكنيسة مِن جديد إلى عالم اليوم؛ وعبر هذه اللّغة الجديدة سيدرك عصرنا رسالة الكنيسة الصادقة والإنجيل الحقيقي ليسوع المسيح الذي «هو هو أَمْسِ واليَومَ ولِلأَبَد» (عبرانيّين 13/8). فصمتُ الكنيسة –البَليغ والمتكلِّم والحكيم والمتأمّل– سيتحدَّث ببلاغة وبقوّة إلى البشريّة المعاصرة صراخًا: إنَّ يسوع المسيح هو «الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة» (راجع يوحنا 14/6)!

 

ولا يتبقّى لنا سوى أنْ نذكّر بأنّنا لا نطالب الكنيسة بأنْ تضحى "كنيسة خرساء"، وإنّما "كنيسة صامتة". فشتان الفرق بين "كنيسة خرساء" و"كنيسة صامتة"؛ فالأولى هي مَن أُجبرت لسبب ما على عدم الكلام انطلاقًا مِن خوف يتملّكها، أمَّا الأخرى فهي مَن اختارت طوعًا عدم الكلام والصمت حتى تتكلَّم إلى البشر المعاصرين من خلال صمتها البَليغ والمتكلِّم والحكيم والمتأمّل. ولكي لا نطيل في الكلام، فيصبح كلامنا صامتًا فارغًا، سنفضِّل الصمت، حتى يصبح صمتنا بَليغًا ومُتكلِّمًا!