موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٩ أغسطس / آب ٢٠٢٠

صليب يسوع وصليب أتباعه

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
صليب يسوع وصليب أتباعه

صليب يسوع وصليب أتباعه

 

الاحد الثاني والعشرون من السنة: النص الإنجيلي (متى 16: 21-27)

 

21 وبَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إِلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلاماً شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث 22 فَانفَرَدَ بِه بُطرُس وجَعلَ يُعاتِبُه فيَقول: ((حاشَ لَكَ يا رَبّ! لن يُصيبَكَ هذا!)) 23 فالتَفتَ وقالَ لِبُطرس: ((إِنسَحِبْ! وَرائي! يا شَيطان، فأَنتَ لي حَجَرُ عَثْرَة، لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر)) .  ثُمَّ قالَ يسوعُ لِتَلاميذِه: ((مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني، 25 لأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها 26 ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ وماذا يُعطي الإِنسانُ بَدَلاً لِنَفسِه؟   27 ((فسَوفَ يَأتي ابنُ الإِنسانِ في مَجدِ أَبيهِ ومعَه مَلائكتُه، فيُجازي يَومَئِذٍ كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه.  28-الحَقَّ أَقولُ لكم: مِنَ الحاضِرينَ ههُنا مَن لا يَذوقونَ الموتَ حتَّى يُشاهِدوا ابنَ الإِنسانِ آتِياً في مَلَكوت)).

 

مقدمة

 

يُسلط إنجيل الاحد الأضواء على إنباء يسوع بآلامه لأول مرة، طالبا من تلاميذه ان يكونوا له شركاء في آلام صليبه كي يكونوا شركاء في قيامته ومجده (متى 16: 21-27). ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 16: 21-27)

 

 21وبَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه  أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إِلى أُورَشَليم  ويُعانِيَ آلاماً شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة  ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث.

 

تشير عبارة "مِن ذلِكَ الحينِ" في الأصل اليونانيἈπὸ τότε  (معناها من حينه) الى تحديد نقطة فصل وتحوّل حيث حدَّد يسوع للمرة الأولى إعلان ملكوت السماوات "وبَدَأَ يسوعُ مِن ذلك الحِين يُنادي فيَقول: ((تُوبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات" (متى 4: 17)، وهنا يُحدِّد من جديد لموته وقيامته تأكيدا لذلك. قام يسوع بالإعلان رسميا عمَّا سيعانيه ابن الانسان في اورشليم من المٍ وعذابٍ وظلمٍ واضطهاد، وذلك بعد اعتراف بطرس بألوهية المسيح، ووثبات ايمان التلاميذ.  حينئذٍ اتخذت خدمة يسوع مظهرا مختلفا أنه سعى لإعداد تلاميذه للآلام التي تنتظره داعيا إياهم إلى تغيير تفكيرهم وأنظارهم على سر الله. أمَّا عبارة "يُظهِرُ لِتَلاميذِه" فتشير الى التنبّؤ عن آلامه، وسرّ دعوته ورسالته لتلاميذه. أمَّا عبارة "يَجِبُ علَيهِ" فتشير الى التقييد وانعدام الحرية لكنها هنا تشير الى الإرادة الإلهية لإتمام رسالة يسوع فاديا للبشرية. انه تدل على تطابق ما يحدث مع مخطط المسيح. فان تحوُّل الألم والموت الى مجد القيامة بعد ثلاث أيام هي جواب على مخطط الله الخلاصي.  لذلك يواصل يسوع سيره بطاعة حرة نحو اورشليم لتحقيق مخطط محبة الآب، وذلك ببذل نفسه لخلاص الانسان بموته وشهادة دمه على الصليب" كما جاء في خطبة إسطفانس لليهود " أَيّاً مِنَ الأَنبِياءِ لم يَضطَهِدْهُ آباؤكم، فقَد قتَلوا الَّذينَ أَنبَأُوا بِمَجِيءِ البارِّ ولَه أَصبَحتُم أنتُمُ الآنَ خَوَنَةً وقَتَلَة"(أعمال الرسل 7: 52).  يسوع يسير الى مصيره تنفيذا لمشيئة الله وتحقيقا للخلاص الذي لا يقوى عليه أحد سواه.  لكن التلاميذ لم يدركوا هدف يسوع بسبب ظنِّهم ان المسيح المنتظر هو مسيح سياسي ارضي. ومن هذا المنطلق، أن آلام يسوع لم تكن حدثا طارئا او صدفة ولا مصيرا محتوما، إنما هو مخطط الله الذي يُحققه يسوع بطاعته لمشيئة الله في هذه الآلام لأجل خلاص البشر. أمَّا عبارة " أُورَشَليم" فتشير الى مدينة قاتلة الأنبياء، تلك المدينة التي رفضت خلاصها كما جاء في إنذار يسوع "أورَشَليم أُورَشَليم، يا قاتِلَةَ الأَنبياءِ وراجِمةَ المُرسَلينَ إِليها! كَم مَرَّةٍ أَرَدتُ أَن أَجمَعَ أَبناءَكِ كَما تَجمَعُ الدَّجاجَةُ فِراخَها تَحتَ جَناحَيْها! فلَم تُريدوا. (لوقا 13: 34).  وهناك يتألم يسوع فيها وفق قوله " لا يَنبَغي لِنَبِيٍّ أَن يَهلِكَ في خارِجِ أُورَشَليم" (لوقا 13: 33)؛ إنها مدينة آلامه وموته وقيامته.  أمَّا عبارة "يُعانِيَ آلاماً شَديدة " فتشير الى اول إنباء من ثلاث إنباءات حيث أنبأ المسيح بموته وقيامته في طريق صعوده الى اورشليم.  (17: 22، 23؛ 20: 18)؛ وفي الإنباء الثالث هناك تفاصيل أدق مما ورد في الإنباءين الاولين، وهي دور الوثنيين، والسخرية والجلد والصلب كما ورد في انجيل متى "ها نَحنُ صاعِدونَ إِلى أُورَشَليم، فابنُ الإِنسانِ يُسلَمُ إِلى عُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبة، فيَحكُمونَ عليه بِالموت ويُسلِمونَه إِلى الوَثنيِّين، لِيَسخَروا مِنهُ ويَجلدِوهُ ويَصلِبوه، وفي اليومِ الثَّالثِ يَقوم" (متى 20: 18-20).  والهدف من تلك الانباءات هو تبديد يسوع لظنون التلاميذ ان المسيح المنتظر ليس مسيحا سياسيا يخلص شعبه بالقوة بل مسيحا متألماً يخلص شعبه بالموت عنه، وأن المصير الذي ينتظره سيكون مصير كل إنسان، يتسم بالألم والموت، ولن يعفيه إعلان كونه ابن الله من العداء والرفض والألم والموت. ويُشدِّد لوقا الانجيلي على عدم إدراك التلاميذ لمعنى ذلك الانباء (لوقا 9: 45، 18: 34).  ويتفق حالة المسيح المتألم مع نبوءات دانيال. فالمسيح يجب ان يُقتل (دانيال 9: 26) ثم يأتي وقت ضيق (دانيال 9: 27)، وسيأتي اخيراً في المجد (دانيال 7: 13) وسيتحمل التلاميذ نفس الآلام كمعلمهم ويُجازون مثله في النهاية. فالألم والموت سيقودان الى مجد القيامة.  لذلك المعنى الحقيقي لملكه في المجد لم يظهر الا على الصليب، وكان هذا قلب الإنجيل ونواة الايمان في الجماعة المسيحية الأولى. ان موضوع صلب المسيح وقيامته ليس مجرد نهاية حياة على الأرض أو حتى مجرد استشهاد مثل بقية الشهداء، وإنما كما أعلن الرب يسوع نفسه وكما أعلن الوحي الإلهي في العهد الجديد، كان أمراً محتوماً منذ الأزل، كما جاء في تعليم بطرس بالروح القدس : ” كُشِفَ مِن أَجلِكُم في آخِرِ الأَزمِنَة" (1 بطرس 9:1، 20)؛ أمَّا عبارة " الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة" فتشير الى فئات الرتب الثلاث التي تؤلف السنهدريم، مجلس اليهود الأكبر، وهو مؤلّف من 71 عضواً، كان يحكم الشعب اليهودي. وكان هذا المجلس يضم ممثلي الأرستقراطية العلمانية، الشيوخ πρεσβυτέρων، أي رؤساء الشعب، ومن كبار الاسر الكهنوتية، عظماء الكهنة ἀρχιερέων، الذين كانوا يختارون منها عظيم الكهنة او الحبر الاعظم، ومن "الكتبة" γραμματέων اي معلمي الشريعة ومُفسِّريها وناسخيها وهم فريسي النزعة في اغلب الأحيان.  وكان المجلس يرأسه عظيم الكهنة (عظيم الاحبار) في أيام ولاية قيافا.  امَّا عبارة "يقومَ" فتشير الى إنباء المسيح بقيامته لكي يُعزّي تلاميذه ويُشجِّعهم لما اعتراهم من إنباء رفضه وموته. اما هم فلم يُدركوا الخبر المحزن ولا الخبر المفرح. أمَّا عبارة "في اليومِ الثَّالث" فتشير الى الفترة ما بين مساء الجمعة وصباح الاحد كما ورد أيضا في رسائل بولس الرسول " وأَنَّه قُبِرَ وقامَ في اليَومِ الثَّالِثِ كما وَرَدَ في الكُتُب"(1 قورنتس 15: 4)؛ وتتكرر عدة مرات في الكتاب المقدس (تكوين 42: 18، خروج 19: 16، يشوع 2: 6، هوشع 6: 2). وتُستخدم لتعني نقطة تحول وعبور من موقف مأساوي يائس لا سبيل للخروج منه. إن نقطة التحول والخلاص هذه، لا تحدث أبدًا على الفور، في اليوم الأول، بل دائمًا في اليوم الثالث، عندما يكون واضحاً أنه ليس قدرة الإنسان هي الّتي تولد نقطة التحول، بل الرب وحده، ونعمته. أمَّا انجيل مرقس يذكر عبارة خاصة به " وأَن يقومَ بَعدَ ثَلاثةِ أَيَّام" (مرقس 8: 31) ولها مدلولها الكتابي كما ورد في هوشع النبي " بَعدَ يَومَينِ يُحْيينا وفي اليَومِ الثَّالِثِ يُقيمُنا فنَحْيا أَمامَه"(هوشع 6: 2). واوضحت كرازة الرسل الزمن كما جاء في عظة بطرس في بيت قرنيليوس "هو الَّذي أَقامَه اللهُ في اليومِ الثَّالِث، وخَوَّلَه أَن يَظهَر (اعمال الرسل 10: 40) وكما جاء أيضا في عظة بولس الرسول " أَنَّه قُبِرَ وقامَ في اليَومِ الثَّالِثِ كما وَرَدَ في الكُتُب" (1 قورنتس 15: 4). إن انباءات يسوع بآلامه وقيامته تُشدّد على مخطط الله وطاعة المسيح لمشيئة الله في الاحداث. لسنا نحن امام مصير فُرض على يسوع ان يتحمّله كُرها، ولا أمام حدث حصل صدفة لكن يسوع نظر الى هذه الآلام وتقبّلها مسبقاً محبةً للآب (يوحنا 14: 31). هذه هي نقطة التحوُّل في تدريب يسوع لتلاميذه. فقد بدأ يعُلمهم بوضوح ويشرح لهم انه لن يكون المسيح المنتصر الا بعد الامه وموته لأنه يجب عليه ان يتألم ويموت ويقوم ويجيء يوما في مجدٍ عظيمٍ ليقيم ملكوته الأبدي.  وهكذا تشكِّل آلام يسوع وموته وقيامته نواة الايمان في الجماعة المسيحية الأولى، وهي قلب الانجيل. والجدير بالذكر ان متى الانجيلي ينفرد بتكرار هذه الآية.

 

22 فَانفَرَدَ بِه بُطرُس وجَعلَ يُعاتِبُه فيَقول: ((حاشَ لَكَ يا رَبّ! لن يُصيبَكَ هذا!)).

 

تشير عبارة " فَانفَرَدَ بِه " الى التكلم مع يسوع على انفراد وذلك ظنا منه ان المسيح قال ذلك لشدة انفعالاته من مقاومة الرؤساء له حيث أنبأ بتلك المصائب أو لان كلام المسيح يلاشي كل رجائه ورجاء غيره في النجاة والانتصار على يده. امَّا عبارة " يُعاتِبُه " فتشير الى انتهاره وردعه ومنعه حيث يُظهر تناقض بطرس مع اعترافه الصريح ليسوع في قيصرية فيلبس وتحوّله عن وجهة نظر الله ليتخذ نظرة بشرية، فهو في خط التجربة المسيحانية لدى اليهود الذين يرفضون فكرة المسيح المتألم. يريد بطرس أن يمنع سِّيَده من الذهاب إلى أورشليم، ليُسلم فيها للرّومان والفريسيين ويقتلونه.  لا شك ان موقف بطرس يُظهر صعوبة التوفيق بين لقب المسيح وفكرة الآلام والموت، حيث ظنّ بطرس أنه يُعلن محبته ليسوع إذا جعله يرفض آلامه. وعمل بطرس هذا يدل على محبته للمسيح وغيرته في خدمته لكنه كان سريع الكلام والعمل بلا رويَّة.  ويعلق البابا بِندِكتُس السادس عشر، " حين حاول بطرس أن يعترض على كلام الرّب يسوع وعلى ما سوف ينتظره في أورشليم، وتلقى حينها تنبيهاً حاداً: "أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر"، وبعد وقوعه، ندم بطرس ووجد الغفران والنعمة. والجدير بذكر أمرين: الأول: إن الرّب يسوع يحترم حرّيتنا، والثاني: إنّ الرّب يسوع ينتظر جهوزيتنا للتوبة والعودة إليه، فهو مملوء رحمةً وغفراناً" (المقابلة العامّة بتاريخ 18/10/2006). أمَّا عبارة "حاشَ لَكَ" في الأصل اليوناني Ιλεώς σοικύριε: (معناها ارحم نفسك) فتشير الى منع يسوع وإمساكه من التألم والذهاب الى الموت وبالتالي رده عن رسالته ؛ مما يُظهر تفاعل بطرس السريع لتعليم الجديد ليسوع عن تألمه. بطرس لا يحب للمسيح عذابا، بل يحب له المجد والعظمة والجبروت والخلود، وأراد ان يحميه من الآلام التي أنبأ بها؛ أمَّا عبارة "لن يُصيبَكَ هذا!" فتشير الى محاولة بطرس ان يمنع يسوع من الذهاب الى الموت وهي نفس التجربة التي سمعها من الشيطان في البرية: "إِن كُنتَ ابنَ الله فأَلقِ بِنَفسِكَ إِلى الأَسفَل، لأَنَّه مَكتوب: يُوصي مَلائكتَه بِكَ فعلى أَيديهم يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجرٍ رِجلَكَ" (متى 4: 6). يسير بطرس في خط التجربة المسيحانية لدى اليهود الذين يرفضون فكرة "مسيحا" متألما ويريدون مسيحا ملكا ارضيا منتصرا يردّ المجد الى اسرائيل بالقوة حيث ً يفرض الخلاص ومُلك الله على الجميع من خلال الخوارق والأعاجيب.  فكأنَّ شيطان اريحا قد عاد به الى المسيح يجرّبه بالمجد والعظمة ويردّه عن رسالته. ينبغي لنا قبول كل ما يوحي به الله إلينا من أفكار وليس فقط تلك التي تعجبنا وتحظى برضانا.

 

23 فالتَفتَ وقالَ لِبُطرس: ((إِنسَحِبْ! وَرائي! يا شَيطان، فأَنتَ لي حَجَرُ عَثْرَة، لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر)).

 

تشير عبارة "إِنسَحِبْ! وَرائي!" في الأصل اليوناني Υπαγε ὀπίσω μου (معناها اذهب خلفي) الى طلب يسوع من بطرس أن يجد مكانه، وهو وراء المعلم وليس أمامه، وألاَّ يكون حجر عثرة بين يسوع والآب السماوي.  في حين في الفصول السابقة لما جاءَ يسوع إِلي تلاميذه ماشِياً على البَحْر. سأله بطرس ان يأتي إليه على الماء " فقالَ لَه: تَعالَ!" (متى 14: 29)! وأمّا اليوم فيقول له العكس: إِنسَحِبْ! وَرائي! يا شَيطان. فماذا جرى؟ إن ما قاله بطرس ليس من عند الله، بل هو تكرار لتجربة ابليس في البرِّية كي يتجنب يسوع الموت على الصليب لهذا السبب قال يسوع لبطرس نفس العبارة التي قالها لإبليس حين جرَّبه في البرية "اِذهَبْ، يا شَيطان" ΥπαγεΣατανᾶ (متى 4: 10). وبينما كانت دوافع الشيطان شريرة، كانت دوافع بطرس هي محبة يسوع وحمايته وربما البحث عن مصلحته الشخصية؛ أمَّا عبارة " يا شَيطان" فتشير الى مُعارض يقف في عُرض الطريق كحاجز ويمنع الناس من المرور. رفض بطرس الصليب فدعاه السيّد المسيح "شيطانًا"، و"معثرة لي" و"مهتمّا بما للناس لا بما لله". ان بطرس، بمعارضته آلام يسوع، يقوم مقام الشيطان الذي يحاول ان يردّ يسوع عن طاعة الله وتأدية رسالته؛ بهذا يهجر بطرس مكانه، لان على التلميذ ان يسير وراء يسوع (مرقس 1: 17). وقد دعاه يسوع شيطانا، وكأنَّ الشيطان جاءه ببطرس مجربا إياه من جديد. بطرس ليس شيطانًا، ولكنه يُرِّدد ما وسوس به الشيطان لهُ لرفض الصليب. أمَّا عبارة "حَجَرُ عَثْرَة" في الأصل اليوناني σκάνδαλον(معناها شك) فتشير الى عائق ومصيدة او فخ يعرقل السير (مزمور 124: 7)، ويسبّب السقوط (أشعيا 8: 14-15)، ومانع عن إتمام الواجبات ، وبهذا لم يرضَ بطرس السير وراء يسوع (متى 5: 29، 16/ 23، 18: 6-9) وإنما عمل على تعطيل يسوع للسير نحو الصليب والفداء.  ولن يسمح يسوع لأفكار بطرس البشرية التي ليست من الآب أن تصبح حجر عثرة في طريقه، هذه الأفكار التي تدّعي وجود خلاص دون المرور من بوابة الآلام والموت وبذل الذات. أمَّا عبارة " لأَنَّ أَفكارَكَ " في الأصل اليوناني φρονεῖς (معناها تفكر او تهتم) فتشير الى تبنِّي وجهة نظر معينة مغايرة عن وجهة نظر الله كما وردت في رسائل بولس "فالَّذينَ يَحيَونَ بِحَسَبِ الجَسَد يَنزِعونَ φρονοῦσιν إِلى ما هو لِلجَسَد، والَّذينَ يَحيَونَ بِحَسَبِ الرُّوح يَنزِعونَ إِلى ما هو لِلرُّوح. (رومة 8: 5)؛ أمَّا عبارة " لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر " فتشير الى بطرس الذي عاد الى افكار البشر تاركا افكار الله. فقد عاد بطرس الى اللحم والدم فكانت نظرته نظرة بشرية مرتبطة بالعالم الذي يعيش فيه حيث أعلن يسوع ان ما يقوله بطرس ليس من عند الله؛ أمَّا عبارة "أفكار الله " فتشير الى نظرة يسوع التي تتوافق مع نظرة الله، والتي تقبل الصليب طريقا للخلاص؛ أمَّا عبارة " أَفكارُ البَشَر" فتشير الى نظرة البشر المتمثلة برد فعل بطرس، والتي ترى أنه من غير المعقول ان خلاص الله ينبغي ان يسلك طريق الاهانة والعذاب والصليب والموت.  أفكار البشر تكمن فيما يشتهيه الناس ويتوقعونه ويقصدونه كالشرف الدنيوي والربح العالمي الى غير ذلك مما يختص الممالك الأرضية كما يتوقع اليهود.  لذلك كان من المستحيل ان يتوقعوا المسيح الملك أن يُذلّ ويتألّم ويُقتَل على الصليب. ونحن هنا امام طريقتين لفهم الحياة: طريقة يسوع التي تكشف كيف يفكر الله، وطريقة بطرس التي تمثل ما يدعوه يسوع "الشيطان".  وكثيرا ما ورد موضوع عدم فهم التلاميذ (مرقس 4: 13، 6: 52، 7: 18). وعندما نتساءل نحن اليوم: لماذا جرى سوء التفاهم هذا؟ فنجد الجواب عند يوحنا الإنجيلي حيث يقول:" ذلك بِأَنَّ بطرس ويوحنا لم يكونا قد فهِما ما وَرَدَ في الكِتاب مِن أَنَّه يَجِبُ أَن يَقومَ مِن بَينِ الأَموات " (يوحنا 20. 9). لقد جاء السيّد يُقيم مملكته خلال صليبه، فمن يرفض الصليب كوسيلة لخلاصنا يرفض الفكر الإلهي. وبعد ان رفض يسوع تجربة بطرس، وبَّخ بطرس على موقفه، وطلب منه ان يتبعه ليكون التلميذ الذي يسير وراء معلمه.  ان معاتبة يسوع لبطرس تضعنا امام سؤال: ما هي صورة الله التي نحتفظ بها في معتقدنا الديني؟

 

24 ثُمَّ قالَ يسوعُ لِتَلاميذِه: ((مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني،

 

تشير عبارة "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني" الى جملة شرطية يطلب يسوع من بطرس ان يتبعه بحرية ليسير وراء معلمه وان لا يكون "حجر عثرة" يقف عائقا في الطريق الى اورشليم. وكان الإنباء الاول هو الذي حدَّد شروط إتباع المسيح. طلب يسوع من تلاميذه ان يتبعوه في طريقه الى اورشليم ويتألموا معه. كل إنباء بالآلام تبعته أقوال يسوع الذي يستخلص النتائج لتلاميذه. يفصل قول يسوع بين مَن يتبعه بالحق ومَن لا يتبعه.  أمَّا عبارة "يَتبَعَني" فتشير الى الدعوة للسير على خطى يسوع ومعه والعيش وفق أسلوبه كي يكون تلميذا ويخلص بواسطة يسوع. تأتي الدعوة من يسوع، حيث ان المعلم هو الذي يختار التلميذ، وليس التلميذ الذي يختار معلمه، وعندما يُلبي التلميذ الدعوة يتبع يسوع، لا كسامع فقط، بل كمعاون وشاهد لملكوت الله (متى 10: 1-27). فالتلميذ لا يتمسك بتعليم المعلم فقط، بل يلازم شخصه. ومن هذا المنطلق "إتباع يسوع لا يعني سيرا خارجيا وراء شخص يتعلق التلميذ به، بل الزهد في الذات وحمل الصليب. أمَّا عبارة "يَزْهَدْ في نَفْسِه " في الأصل اليوناني " ἀπαρνησάσθω ἑαυτὸν(معناها يرفض حقوقه على نفسه وحقه في الخيرات الزمنية) فتشير الى تنحية الذات تنحية كاملة عن الخيرات  الزمنية لكي يصبح المسيح مركز حياة التلميذ.  ولا تكون راحته ولذَّته الغاية العظمى بل يُطلب من التلميذ ان يترك الشهوات وكل شيء يمنعه من خدمة الله الكاملة، لان الحياة مع يسوع اختيار، وكل اختيار تضحية، لانَّ حياة التلميذ الأصيل تُحدّدها حياة يسوع: والزهد في النفس لا يعني احتقار الذات ولا هدمها، انما عدم تركيز على الذات بل بذل الذات في سبيل المسيح عن طريق الاخوة. عندئذ لا نعتبر الذات خير ما نريد الاحتفاظ به لنا وحدنا، بل هبة يجب ان نبذلها. ومن هنا جاء قول القديس أوغسطينوس "إنّ تاريخ العالم صراع بين شكلين من الحبّ، حبّ الذات حتى فناء العالم، وحبّ الآخرين حتى التخلي عن الذات".  ليس الزهد في النفس هدفا بحد ذاته، إنما هو شرط لبلوغ ملء الحياة. لا يدعونا يسوع بالصليب والزهد في الذات الى الهلاك، بل الى الحياة الأبدية. أمَّا عبارة " نَفْسِه" في الأصل اليوناني ψυχή (معناها النفس) فتشير الى حياته، كما ورد في نص آخر من انجيل متى " لا تَخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد ولا يَستَطيعونَ قَتلَ النَّفْس"(متى 10: 28). أمَّا عبارة "يَحمِلْ صليبَه" فتشير الى إحدى الوسائل الرومانية لتنفيذ الإعدام. وكان على المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام أن يحملوا صلبانهم ويسيروا في الشوارع الى موقع تنفيذ الحكم تعبيرا عن الخضوع لسلطة روما. واستخدم يسوع تشبيه حمل الصليب لإعطاء صورة عن غاية الخضوع المطلوب من أتباعه. فحمل الصليب يعني ان حياة التلميذ الاصيل تُحدِّدها حياة يسوع: فلا بد له ان يتبعه في الزهد في النفس المعبّر عنه بقبول الصليب بالتواضع والصبر ومخاطر الحياة في سبيل يسوع والبشارة. وهذه البشارة قد تحمل التلميذ على التضحية بحياته، كما ان رسالة يسوع بلغت به الى الصليب. من يتبع يسوع عليه التسليم الكامل والمخاطرة على الموت، دون أي رجوع او نكوص. فالصليب ثمن للأمانة لله وللإخوة. فينبغي للتلميذ الا يموت في ذاته فحسب، فان الصليب الذي يحمله هو العلامة على انه يزهد في الدنيا ايضا وأنه يقطع كل علاقاته الطبيعية (متى 10: 33-39) ويقبل وضعه كمضطّهد (متى23: 24). وإذا كان الصليب عارٌ عند اليهود، وحماقةٌ عند الوثنيّين؛ فهو عند المؤمنين رمز الخلاص (1قورنتس 1: 23-24). في الواقع، حمل يسوع صليبه، وهناك مسيحيون فعلوا مثله على ما يقول التقليد عن بطرس واندراوس. وأمَّا انجيل لوقا فقد أضاف عبارة "كل يوم" كما ورد في النص "يَحمِلْ صَليبَهُ كُلَّ يَومٍ ويَتبَعْني" (لوقا 9: 23) وذلك للدلالة على ان الصليب هو الرفيق اليومي للمسيحي.  ولا بد ان ذكر الصليب أذهل تلاميذ يسوع، لأنهم كانوا يعلمون جيداً ان الصليب لم يكن يُحمل لمجرد انه ثقل على حامله، بل على انه شيء يُسمّر عليه حتى يموت.  أمَّا في إنجيل مرقس فالصليب لا يعني الضيقات والاتعاب فحسب، بل الموت أيضا. وهذا ما يجب ان يتوقعه كل تلميذ تجاه العالم. من يختبر عداوة لا بد منها ينتج عنها اضطهادات (مرقس 8: 34).  قبول الصليب شرط لا بد منه لحصولنا على المجد. أمَّا عبارة "يَحمِلْ" في اصل اليوناني   ἀράτω(معناها يرفع) فتشير الى رفع الصليب عاليا لكي يراه الجميع. وهو فعل اقوى من فعل ما ورد في موقع آخر في انجيل متى" ومَن لم يَحمِلْ λαμβάνει صَليبَه ويَتبَعْني، فلَيسَ أَهْلاً لي (متى 10: 38). اما عبارة "صليبَه" فتشير الى تعيين الرب نوعية الصليب الذي على التلميذ ان يحمله هو صليبه الخاص، وليس صليب المسيح الذي لا ولن يقدر أحد أن يحمله سواه. وهو الذي يحمله وحده بإرادته وكامل رضاه ومسرَّته عن البشرية كلها " لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة " (يوحنّا 3: 16).  أمَّا عبارة "يَتبَعْني" في الأصل اليوناني ἀκολουθείτω (معناه ان يكون قريبا من ويلتصق بي) فتشير الى التسليم الكامل والمخاطرة حتى الموت دون أي رجوع او نكوص، إذ ربط يسوع بين مصيره ومصير تلميذه.  فعلى التلميذ ان يتبع الرب بالخضوع لإرادته وبالاقتداء بحياته. ويقول اللاهوتي ثيودورس المصّيصي "لا تدعوا الصليب يخيفكم، يقول الربّ يسوع، ولا تدعوه يُشَكِّكُم في أقوالي" (شرح لإنجيل القدّيس يوحنّا). فان لم يكفر من أجله بنفسه ويجعل حياته ثمنا للخلاص فلن يستطيع أن يكون تلميذه.  ويُعلق القدّيس أوغسطينوس "يحبّ الجميع الارتفاع بالمجد، لكن التواضع هو السّلّم التي يجب تسلّقه للوصول. لذا، فيسوع لم يقل فقط: "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه"، لكنّه أضاف: "فليَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني "(العظة 96).  وهناك ثلاثة شروط ينبغي ان يتممها من يريد ان يتبع يسوع: الاستعداد للزهد في الذات، وحمل الصليب، وتسليم حياته للمسيح اي طاعة كاملة لكل ما يسمح به الله. لا سلامَ للنفس ولا رجاءَ بالحياة الأبديّة إلاّ بالصليب. وفي هذا الصدد يقول كتاب الاقتداء بالمسيح "إن حملت الصليب طوعًا، حملك هو".  فلا يمكن ان يكون الانسان مسيحيا الاّ بإنكار الذات وحمل الصليب.

 

25 لأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها.

 

تشير عبارة "يُخَلِّصَ" الى الربح او الحصول على شيء من حياته لنفسه من ناحية، ومن ناحية أخرى هو الهروب من الاستشهاد، او الشدائد ليتمتع بملذات الدنيا، او رفض الصلاة والصوم للتمتع الدنيوي.  أمَّا عبارة "حَياتَه" فتشير الى الحياة الذاتية او الحياة الطبيعية او الحياة السطحية كما نراها وكما نحكم عليها يوميا بالمقابلة مع الحياة الروحية كما يراها الله وكما يخطط لها. أمَّا عبارة "يَفقِدُها" فتشير الى الهلاك حيث ان من يريد ان يعيش حياته من نظرة بشرية من خلال غناه وملذاته وفرض نفسه على الآخرين والحصول على مراكز قوة وموارد اقتصادية، هو في نظر الله انسان فقَدَ حياته. فالغنى المادي لا يضمن السعادة ولا الراحة في الحياة كما يترنم الصاحب المزامير " لا يَفتَدي أَخٌ أَخاه ولا يُعطي اللّهَ فِداهفِديةُ نُفوسِهم باهِظة وهي لِلأبدِ ناقِصَة.  أَ فبَعدَ ذلِكَ لِلأَبَدِ يَحْيا والهوةَ لا يَرى؟ "(مزمور 49: 8 -10). لا يستطيع أحد ان يدفع ثمنا للحياة الأبدية او ان يعيش للأبد.  ولا تستطيع جميع الكنوز الأرضية لن تحميه من الموت.  ان لم نزهد في نفوسنا، فإننا نصنع سجوننا بأنفسنا، لأننا نبدأ في الموت روحيا وعاطفيا، ونخسر هدفنا المنشود.  يريدنا يسوع ان نختار ان نتبعه ولا نختار ان نحيا حياة الخطيئة وإرضاء الذات. من يهتم بحياته فقط، فلن يجد الضمان. فمن رفض الصليب ربح العالم وخسر الأبدية كما ترنم صاحب المزامير "تِلكَ طريقُ المُعتَدِّينَ بِأَنفُسِهم وعاقِبَةُ الرَّاضينَ بِمَصيرِهم. كالغَنَمِ تُرِكوا في مَثْوى الأَمْوات والمَوتُ يَرْعاهم والمُستَقيمونَ يَسودونَهم. في الصَّباحِ تَتَلاشى صورَتُهم ومَثْوى الأَمواتِ سُكْناهم" (مزمور 49: 14 -15). أمَّا عبارة "الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها " فتشير الى من يقبل ان ينظر الى الحياة نظرة الله نفسه ويقبل ان يتبع المسيح في بذل الذات حتى الصليب، ويتقدم للاستشهاد ويقدم جسده ذبيحة حيَّة أو يقمع جسده ويستعبده أو يصلب أهواءه وشهواته، فانه يُخلص حياته.   وفي هذا الصدد يقول يوحنا الرسول "لا تُحِبُّوا العالَم وما في العالَم. مَن أَحَبَّ العالَم لم تَكُنْ مَحَبَّةُ اللهِ فيه. لأَنَّ كُلَّ ما في العالَم مِن شَهوَةِ الجَسَد وشَهوَةِ العَين وكِبرياءِ الغِنى لَيسَ مِنَ الآبِ، بل مِنَ العالَم. العالَمُ يَزولُ هو وشَهَواتُه.  أمَّا مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ الله فإِنَّه يَبْقى مَدى الأبد" (1يوحنّا 12: 15-17). يستعمل متى الانجيلي معنيان متقابلان: خلص حياته، فقد حياته. فمن كان شريكاً للمسيح في الألم والعذاب والموت كان شريكا له في القيامة والحياة. نعرف ان آلامنا تخلصنا، كيف؟ ان آلامنا يُصبح لها مفعول خلاصي إن هي اندمجت مع آلام المسيح. وفي الواقع عندما نقدم حياتنا لخدمة يسوع نكتشف الهدف الحقيقي للحياة. أمَّا عبارة " يَجِدُها" فتشير الى حياة ابدية يجدها المؤمن في العالم الآتي. فمن يكرّس حياته في خدمة المسيح في هذا العالم يجدها في الحياة الأبدية.  ومن يرضى بأن يفقد نفسه، مقدما إياها "ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً " (رومة 12: 1) وصَلَب جسده "وما فيه مِن أَهْواءٍ وشَهَوات" (غلاطية 5: 24) ستكون مجازاته في مجد سماوي كما جاء في تعليم يسوع "أَنتُم أَيضاً تَحزَنونَ الآن ولكِنِّي سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح" (يوحنا 22:16) وقد اكّد بولس هذ القول "لأَنَّنا، إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا" (رومة 8: 17). ومن المتناقضات الظاهرية ان الخضوع للرب هو ربح اكيد لا يفنى. ليست الحياة في الاخذ او الاحتفاظ بل في العطاء. عندما نتبع يسوع الى النهاية فنحن لا نتبعه الى الموت فقط، بل الى المجد، حيث ان فقدان الحياة من أجل المسيح هو الحياة. هذه الآية هي من اقوال يسوع الاكيدة لأنها تتكرر في الانجيل 6 مرات (متى 10: 39، 16: 25، ومرقس 8: 35، ولقا 9: 24، 17: 33 ويوحنا 12: 25). استعدادنا ان نموت لأجل المسيح يفتح لنا أبواب الحياة الأبدية، والخسارة لأجل المسيح ربح (متى 3: 7-8).  بالعار وبالصليب نحصل على اكليل المجد.

 

26 ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ وماذا يُعطي الإِنسانُ بَدَلاً لِنَفسِه؟

 

تشير عبارة "ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟" إلى سؤال هام ومصيري لان النفس في نظر يسوع أهم من العالم أجمع. الحياة في نظر الإنسان لها قيمة لا تنازع. لذلك ينبِّه المسيح الانسان بهذه السؤال الانسان لان يستعمل الحكمة والنظر في المستقبل في الامور الروحية كما يستعملها في الامور التجارية.  أمَّا عبارة " ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه " فتشير الى السؤال ما النفع من الحياة الحاضرة دون الأبدية؟ ان ما نكدسه على الارض لا قيمة له في شراء الحياة الأبدية. ان النجاحات على المستوى الشخصي والعائلي والاقتصادي والسياسي لا يمكن ان تضمن لنا الحياة الأبدية.  حتى لو حصل الإنسان على امتلاك كل كنوز الدنيا، فجميع هذه الكنوز لا تحميه من الموت، ولا يمكن حتى أعلى مراتب الشرف الاجتماعية او المدنية ان تضمن له الحياة الابدية. إن عالم المتعة الذي يتركز في الممتلكات والمركز والسلطة، لا قيمة له في النهاية.  فالحياة الحاضرة هي اتي تقرِّر مصيرنا الابدي، إذ هي مقدمة للحياة الأخرى. امَّا عبارة " العالَمَ كُلَّه" فتشير الى كل ما يمكن الانسان ان يحصل عليه او يتوقعه في هذه الأرض من لذة او شرف او غنى او رتبة او رئاسة.  أمَّا عبارة " خَسِرَ نَفسَه؟"  فتشير الى الموت او الى العبور بجانب ما هو أساسي وجوهري. إن خسارة النفس في هذه الحالة لا تعوَّض. لكن نفس واحدة أثمن من العالم كله. أمَّا عبارة "ماذا يُعطي الإِنسانُ بَدَلاً لِنَفسِه؟ فتشير الى الانسان الذي لا يستطيع ان يفدي حياته بشيء حيث ان الغنى المادي لا يضمن له السعادة والراحة في الحياة، ولا أحد يستطيع ان يدفع ثمنا للحياة الابدية. الأموال إن ضاعت فيمكن أن تعود، أمَّا هلاك النفس فخسارتها لا تعوَّض. فإن هلكت النفس، أي ذهبت للجحيم بعد موتها فلا فداء لها. فإن خسر الانسان نفسه من خلال تركه المسيح رغبة في العالم فاين يجد فداء آخر له؟ أمَّا عبارة "بَدَلاً لِنَفسِه؟" في الأصل اليوناني ἀντάλλαγμα (معناها ثمن شراء) فتشير الى شراء او فداء او استعادة الحياة المفقودة كما جاء في سفر المزامير "لا يَفتَدي أَخٌ أَخاه ولا يُعطي اللّهَ فِداهفِديةُ نُفوسِهم باهِظة وهي لِلأبدِ ناقِصَة"(مزمور 49: 8-9). وقيمة النفس غير محدودة فلا شيء في العالم يصلح ان يكون فداء عنها الا موت المسيح عنها. الربح والخسارة كلاهما كفنا ميزان الحياة فأي الاثنين ترجح؟

 

27 ((فسَوفَ يَأتي ابنُ الإِنسانِ في مَجدِ أَبيهِ ومعَه مَلائكتُه، فيُجازي يَومَئِذٍ كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه.

 

تشير عبارة "فسَوفَ يَأتي" فتشير الى المجيء الثاني للمسيح من اجل دينونة العالم. اما عبارة "ابنُ الإِنسانِ" فتشير الى المسيح الذي هو وجه سماوي أعطاه الآب سلطته ومجده وقدرته، وسلطة القضاء كديان الحياة الأخرى في نهاية العالم كما أعلنه دانيال النبي "كنتُ أَنظر في رُؤيايَ لَيلاً فإِذا بِمِثلِ آبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء فبَلَغَ إِلى قَديمِ الأَيَّام وقُرِّبَ إِلى أَمامِه " (دانيال 17: 13). وقد ورد هذا اللقب (84) مرة في الاناجيل. أمَّا عبارة "ابنُ الإِنسانِ في مَجدِ أَبيهِ" فتشير الى المسيح (دانيال7: 13) في صورة بشرية ارتفعت في المجد بعد ان عرفت الانحدار. أما عبارة "مَلائكتُه" فتشير الى اتباع السماويين "تواكِبُه مَلائِكَةُ قُدرَتِه" (2تسالونيقي 1: 7). أمَّا عبارة "يُجازي يَومَئِذٍ كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه" فتشير الى يسوع، ابن الانسان، الذي يُدين كل واحد منا في اليوم الاخير (متى 25: 31-46)، يجازي الذين تألموا معه بان يجعلهم شركاء مجده لأنه الديان الذي له السلطان ليدين كل العالم، ويُكافئ كل واحد منا على أعماله الصالحة (متى 7: 18) ويؤكِّد ذلك صاحب المزامير بقوله "لَكَ الرَّحمَةُ أيّها السَّيِّد فإِنَّكَ تُجازي الإِنسانَ بِحَسَبِ عَمَلِه" (مزمور 62: 13). ان الجزاء الشخصي مبدأ ادبي متجذر في العهد القديم (أمثال 24: 12). وقد اوضحه يسوع في نقطتين: النقطة الأولى: أنَّ يسوع، ابن الانسان هو الذي يُدين كل واحد منا في اليوم الاخير (متى 25: 31-46). والثانية، يسوع يجازي كل واحد منا بحسب اعماله الصالحة (متى 6: 4). ومن هذا المنطلق، للمسيح سلطان ليدين كل العالم، حيث سينقذ الابرار ويدين الاشرار في وقت الدينونة.  ولا يحسن ان يتوقع الابرار ثوابهم في هذا العالم، لانهم لم يوعدوا بنواله الاَّ عند مجيء الثاني للمسيح كما جاء في تعليم بولس الرسول "وقَد أُعِدَّ لي إِكْليلُ البِرِّ الَّذي يَجْزيني بِه الرَّبُّ الدَّيَّانُ العادِلُ في ذلِكَ اليَوم، لا وَحْدي، بل جَميعَ الَّذينَ اشْتاقوا ظُهورَه" (2 طيموتاوس 4: 8).

 

 ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 16: 21-27)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 16: 21-27)، نستنتج انه يتمحور حول إنباء بصليب يسوع وبصليب أتباعه

 

1) الإنباء بصليب يسوع

 

بعد إعلان بطرس لإيمانه في قيصرية فيلبس (متى 16: 13 – 20) بألوهية المسيح أصبح ايمان التلاميذ ثابتاً وكافياً، "وبَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إِلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلاماً شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث" (متى 16: 21). وقد استخدم الرومان الصلب لإعدام العبيد عقاباً لهم عن أشنع الجرائم، ولإعدام الثوار في البلاد المحتلة. وكان يُعلَّق عليه المجرم حتى يموت من الجوع والعطش والإجهاد.

 

وكان الذي يُعلَّق على الصليب يُحسَب ملعوناً من الربّ حسب المعتقدات اليهودية كما جاء في سفر التثنية "وإِذا كانَت على إِنْسانٍ خَطيئَةٌ تَستَوجِبُ المَوت، فقُتِلَ وعلَّقتَه على شَجَرَة עֵץ، فلا تَبِتْ جُثَّتُه على الشَّجَرَة، بل في ذلك اليَومِ تَدفِنُه، لأَنَّ المُعَلَّقَ لَعنَةٌ مِنَ الله" (تثنية الاشتراع 21: 22-23). لذلك فقد جاء المسيح "وافتَدانا مِن لَعنَةِ الشَّريعة إِذ صارَ لَعنَةً لأَجْلِنا، فقَد وَرَدَ في الكِتاب: ((مَلْعونٌ مَن عُلِّقَ على الخَشَبَةξύλου)) (غلاطية 3: 13). إذاً، فهذا الصليب الذي كان أداة التعذيب وعلامة اللعنة صار أداةً للخلاص والفداء، ولكنه ما زال "عِثارٍ لِليَهود وحَماقةٍ لِلوَثنِيِّين وأَمَّا لِلمَدعُوِّين، يَهودًا كانوا أَم يونانِيِّين، فهُو مسيح، قُدرَةُ اللّه وحِكمَةُ اللّه،" (1 قورنتس 1: 23-24). لقد ضحَّى يسوع بحياته على الصليب من أجل خلاص البشرية محبة لهم (يوحنا 19: 26). ويُعلق البابا بندكتس "إن الصليب هو الإعلان المؤكد للمحبة والرحمة الإلهية".

 

واشار مرقس الإنجيلي أيضا في هذا الإنباء الى المعاملة السيئة التي لقيها يسوع " فَيسخَرونَ مِنه، ويَبصُقونَ علَيه ويَجلِدونَه ويَقتُلونَه، وبَعدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَقوم" (مرقس 10: 34). ويتطابق موت المسيح مع نبوات دانيال. فالمسيح يجب ان يُقتل " يُفصَلُ مَسيحٌ ولا يَكونُ لَه" (دانيال 9: 26) ثم يأتي وقت ضيق " تكونُ شَناعَة الخَراب" (دانيال 9: 27)، وسيأتي اخيراً في المجد " فإِذا بِمِثلِ آبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء"(دانيال 7: 13). ان كلمات الانباءات قريبة من اعترافات الايمان المسيحي الأولى، قريبة مما يُسمَّى الكرازة الأولى Kerygma وهي ملخص ما كان يقوله المسيحيون حين يبشرون بيسوع " مات وقام". ويذكرون كل مرة القيامة بعد الآلام.

 

بهذا الانباء أفهم يسوع تلاميذه انه لن يقوم بمهمته كمسيح الا عن طريق الالام والموت على الصليب؛ سر الصليب هو إيفاء العدل الإلهي حقَّقه بموت المسيح وتحصيل الحياة الأبدية للمؤمنين بذلك.  ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبي الفم: " صحيح. الصليب هو سرّ يفوق العقل البشري، وعلامة قوّة تتخطّى إدراكنا" (العظة رقم 4 عن الرسالة الأولى إلى أهل قورنتس)أعلن يسوع لتلاميذه ما سيعانيه في اورشليم من المٍ وعذابٍ وظلم واضطهاد.  كما أوضح لتلاميذه من هو وأنه أتى ليؤسس كنيسته، وان ثمن تأسيس الكنيسة هو الصليب. وقبل أن يتوهم تلاميذه إذ سمعوا أنه المسيح المنتظر، أنهم سيملكون معه إذ يصير ملكًا وقائدًا عظيمًا، ها هو يشرح لهم أنه حقًا سيملك ولكن على قلوب كنيسته بصليبه، حاملًا الرئاسة على كتفه كما تنبأ أشعيا: "لِأَنَّه قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ فصارَتِ الرِّئاسةُ على كَتِفِه ودُعِيَ أسمُه عَجيباً مُشيراً إِلهاً جَبَّاراً، أَبا الأَبَد، رَئيسَ السَّلام" (أشعيا 9: 5)، فبصليبه هدم مملكة الخطيئة ومملكة إبليس وأقام ملكوت قيامته. وفي الصدد قال القديس بطرس الرسول" وهو الَّذي حَمَلَ خَطايانا في جَسَدِه على الخَشَبة لِكَي نَموتَ عن خَطايانا فنَحْيا لِلبِرّ" (1بطرس 2: 24). وهذا الإنباء بالآلام والموت على الصليب والقيامة تكرَّر ثلاث مرات (متى 17: 22، 20: 18) كلازمة تتردَّد في طريق صعود يسوع الى اورشليم، مكان آلامه وصلبه وموته وقيامته.

 

وكان الهدف من تلك الإنباءات هو تبديد ظنون التلاميذ ان المسيح المنتظر ليس مسيحاً سياسياً بل مسيحاً متألماً. لذا لم تكن آلام يسوع حدثا طارئا او صدفة ولا مصيرا محتوما، انما هو مخطط الله الذي يُحقِّقه يسوع بطاعته لمشيئة الله في هذه الآلام لأجل خلاص البشر.  ويُشدِّد يسوع من خلال هذه الإنباءات على الطريق التي تقود المؤمن الى مجد، لآن الآلام والصليب والرذل والتعيير والموت الشنيع، كل هذه الأمور تتبعها القيامة.  ومن هذا المنطلق، لم يُقدِّم يسوع سر آلامه قيامته كوحي عن رسالته فحسب، إنما أيضا دلالة على الطريق الواجب تلاميذه إتباعه.  فطريق الآلام هي طريق للقيامة، ولا طريق آخر غير هذا له ولتلاميذه. ان طريق يسوع هو طريقهم. وفي كل إنباء بيّن يسوع لتلاميذه ان عليهم ان يسيروا على الطريق نفسه.  وهكذا جمع متى الإنجيلي تعليم يسوع بين سلوك عملي ومتطلبات الايمان بالمسيح المصلوب والقائم من الموت.

 

2) الإنباء بصليب أتباعه 

 

طلب يسوع من تلاميذه ان يتبعوه ويتألموا معه وذلك من خلال أربعة اقوال ليسوع؛ الأقوال الثلاثة الأولى تتركز على الزهد في الذات وحمل الصليب مع يسوع. والقول الأخير يتناول مجد القيامة.

 

ا) الزهد في الذات وحمل الصليب

 

القول الأول: "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني"(متى 16: 24).

 

يشترط يسوع لمن يتبعه ان يزهد في نفسه. وهذا الامر يتطلب منه أن يقطع كل ما يشدُّ الإنسان إلى العالم الأرضي والأسرة والمال ومسرَّات هذا الدهر:" لا تُحِبُّوا العالَم وما في العالَم. مَن أَحَبَّ العالَم لم تَكُنْ مَحَبَّةُ اللهِ فيه. لأَنَّ كُلَّ ما في العالَم مِن شَهوَةِ الجَسَد وشَهوَةِ العَين وكِبرياءِ الغِنى لَيسَ مِنَ الآبِ، بل مِنَ العالَمالعالَمُ يَزولُ هو وشَهَواتُه. أَمَّا مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ الله فإِنَّه يَبْقى مَدى الأبد." (1 يوحنا 2: 15-17).  ويعلق الراهب الدومنيكاني جان تولير "عليك التخلّي أوّلاً عن كلّ خيرٍ خارجيّ أو داخليّ تعلّقتَ به، واضعًا فيه كلّ الرضى. هذا التخلّي صليب مؤلم، وهو أكثر إيلامًا كلّما كان التعلّق أشدّ وأقوى"(العظة 59، الرّابعة بمناسبة عيد ارتفاع الصّليب). فالزهد في النفس معناه أنّنا في كلّ لحظة من حياتنا نقول (لا) للذات، ونقول (نعم) للربّ. فالزهد في النفس يعني إنزال الذات من على العرش، وتمليك الربّ على هذا العرش وبكلمة أخرى هو اتخاذ إنجيل التطويبات قاعدة للحياة.

 

ويشترط يسوع لمن يتبعه ان يحمل صليبه كما حمله، وان يكون مستعداً لحَمْل صليب طبيعته الساقطة ومفتخرا بضعفه التي لا خلاص له إلاَّ بالثبات في المسيح. وبدعوة يسوع تلميذه لحمل صليبه فإنه يدعوه إلى معرفة يسوع وقوة قيامته وشركة آلامه متشبِّهين بموته كما جاء في تصريح بولس الرسول" فأَعرِفَهُ وأَعرِفَ قُوَّةَ قِيامتِه والمُشارَكَةَ في آلامِه فأَتمثَّلَ بِه في مَوتِه (فيلبّي 3: 10)، وإنّ حَمْلنا لصليبنا هو شركة في آلام المسيح وموته وقيامته.  وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول " فإِنِّي أَفتَخِرُ راضِيًا بِحالاتِ ضُعْفي لِتَحِلَّ بي قُدرَةُ المَسيح" (2 قورنتس 12: 9).  

 

ويستخدم يسوع أسلوب الاقناع مع تلاميذه، حيث ان قبل تقرير المصير لمن يريد ان يتبعه ويصير تلميذا له يطلب منه ان يعرف بمن يقتدي به ويُبرهن عن انه يستطيع ذلك فيشترط عليه الزهد: "فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه"(متى 16: 24). 

 

وهناك وجهان للزهد: الوجه الداخلي هو ان يزهد الانسان بنفسه، ويُعلق أحد المفسرين "يزهد الانسان في نفسه عندما يُحبُّ الله، ويُحبُّ الله عندما يُبغض المرء شهواته الجسدية. تكمن في داخلنا وفي أفكارنا وقلوبنا وإرادتنا قوّة غير عادية تعمل دائمًا كل يوم، وفي كل لحظة، لإبعادنا عن الله؛ تقترح هذه القوة علينا أفكارًا ورغبات واهتمامات ونيّات ومشاغل وكلمات، وأعمال باطلة تثُير فينا الشهوات وتدفعها بعنف فينا مثل المكر والحسد والطمع والكبرياء والمجد الباطل والكسل والعصيان والعناد والخداع والغضب".  أمَّا القديس يوحنا الذهبي الفم فيُعلق "يزهد الانسان في نفسه عندما لا يهتمّ بجسده متى جُلد أو احتمل آلامًا مشابهة، إنّما يحتملها بصبر".

 

 والوجه الخارجي في اتباع يسوع هو ان يحمل صليبه. الصليب الذي عليه أن يحمله: إنه صليبه الخاص؛ صليب طبيعته الساقطة الضعيفة التي لا خلاص لها إلاَّ بالثبات في المسيح والاعتراف الدائم بدونه بعجزه عن البلوغ إلى البرِّ والقداسة كما صرّح يسوع " بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً" (يوحنّا 15: 5). ويعلق

القدّيس قيصاريوس ، راهب وأسقف آرل " ما معنى "يَحمِلْ صليبَه"؟  فيجيب باسم يسوع "أن يتحمّل كلّ ما يزعجه، هكذا سيتبعني. حين يتبعني، ملتزمًا بحياتي وبوصاياي، سيجد على الطريق أشخاصًا كثيرين سيعارضونه ويحاولون تغيير مساره، أشخاصًا لن يكتفوا بأن يسخروا منه، لكنّهم سيضطهدونه" (العظة 159).

 

 لا ولن يقدر أحد أن يحمل صليب المسيح سواه، وهو الذي حمله وحده بإرادته وكامل رضاه ومسرَّته عن البشرية كلها " لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة "(يوحنّا 3: 16)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " كأن يسوع يقول لبطرس: أنت تنتهرني لأني أريد أن أتألّم، لكنّني أخبرك بأنه ليس فقط من الخطأ أن تمنعني عن الآلام، وإنما أقول لك أنك لن تقدر أن تخلُص ما لم تمُت أنت أيضًا". لا يقدر أحد أن يتبع السيد المسيح ما لم يدخل دائرة الصليب، وقد أكد ذلك يسوع بقوله " مَن لم يَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني، فلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 38). ويوضح القدّيس بونافَنتورا من خلال سيرة القديس فرنسيس معنى حمل الصليب " فليس عذاب جسد فرنسيس مَن سوف يحوّله ليتشبّه بالمسيح مصلوبًا، إنّما المحبّة التي تلهب قلبه هي التّي سوف تقوم بذلك "(حياة القدّيس فرنسيس).

 

 

القول الثاني: "لأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها" (متى 16: 25)؛

 

لماذا يطلب يسوع من الانسان ان يضحي بنفسه؟ يطلب يسوع من تلميذه ان يضحي بنفسه لكي يكون مستعدا لبذل الذات حتى الموت. وهذا الامر يقتضي من التلميذ تخصيص جميع الموارد الفكريّة، والإرادة، والقلب، والخيرات الروحيّة والماديّة، والحريّة الشخصيّة، للربّ، لأن يسوع وحده يستطيع ان يخلص حياة الانسان، كما جاء في تعليم يوحنا الرسول "مَن أَحَبَّ حياتَهُ فقَدَها ومَن رَغِبَ عنها في هذا العالَم حَفِظَها لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة " (يوحنّا 12: 25).   لقد جاء المسيح إلى العالم " لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم" (يوحنّا 10: 11).  لا تتوقف النظرة عند حد الآلام بل تتجاوزها الى القيامة. فالمسيح قام والتلاميذ سيقومون كما قام المسيح " لذا صرّح يولس الرسول عن إيمانه بقوله "الحَياةُ عِندي هي المسيح، والمَوتُ رِبْح" (فيلبي 1: 21).

 

القول الثالث: "ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ وماذا يُعطي الإِنسانُ بَدَلاً لِنَفسِه؟ (متى 16: 26).

 

وما فائدة زهد المرء في نفسه وحمل صليبه؟ يجيب المسيح فمن يحمل صليبه ويضحى بحياته أمانة ليسوع والانجيل لا يخسر حياته إنما يربحها للحياة الابدية.  وهذا ما اختبره بولس الرسول "أَنَّ ما كانَ في كُلِّ ذلِكَ مِن رِبْحٍ لي عَدَدتُه خُسْرانًا مِن أَجلِ المسيح" (فيلبّي 3: 7)؛ إن صليب التلاميذ هو صليب التناقض بين من "يربح يخسر؛ وبين "يخسر يربح"؛ وخير مثال على ذلك فإن إسكندر المقدوني استطاع ان ينطلق في مغامرة رائعة فاحتل الكون كله، ولكنه مات.  فماذا نردُّ لمن فقد حياته؟  ماذا ندفع له لكي يجدها ثانية؟ هذا مستحيل. الحياة أثمن ما لدى الانسان، أمَّا المسيح فهو الذي يعطي الانسان سبيلا لتخليصها، وهذا السبيل هو ان يزهد المرء في حياته ويحمل صليبه من أجل الانجيل.

 

ان كل موت في سبيل يسوع تعقبه قيامة وحياة. لذلك كتب القدّيس أغناطيوس الأنطاكي في رسالته إلى أهل روما في وقت استشهاده: "ماذا تفيدني ملذّات العالم؟ ما لي وفتنة ممالك هذا العالم؟ إني أُفضِّل أن أموت مع المسيح من أن أملك أطراف المسكونة، إني أطلب المسيح الذي مات من أجلنا، وقام أيضًا من أجلنا. ... إني أريد أن أكون لله. لا تتركوني في العالم، لا تتركوني ومغريات الأرض. دعوني أبْلغ إلى النور النقي".  هذا هو الصليب الذي ينتظر يسوع، وهذا هو الاضطهاد الذي ينتظر المسيحيين. يجب ان نضحي بحياتنا في سبيل ولائنا وإخلاصنا ليسوع والانجيل.

 

 إن دعانا يسوع الى التضحية بحياتنا، هذا يعني ان ليسوع القدرة على خلاصها، وهذه هي القيامة حقاً التي تنتظر يسوع، كما تنتظر تلاميذه. لا يقتصر حمل الصليب على التلاميذ فقط، بل على الجموع أيضا. إن يسوع يوجّه كلامه الى الجميع، ولا يستثني أحداً، لان الوجود المسيحي هو رهن بوجود يسوع، ولذلك يتوجب على المسيحي ان يتبع المسيح ويقتدي به ويتحد به اتحادا وثيقا لينال القيامة معه.

 

ب) مجد القيامة

 

 القول الرابع "فسَوفَ يَأتي ابنُ الإِنسانِ في مَجدِ أَبيهِ ومعَه مَلائكتُه، فيُجازي يَومَئِذٍ كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه" (متى 16: 27).

 

ربط يسوع بين مصير التلاميذ ومصيره حيث انهم إن لم يزهدوا من أجله في أنفسهم ويحملوا صليبهم، فهم ليس تلاميذه ولا هم محبُّوه.  وحيث ان كل موت من اجل المسيح تعقبه قيامة وحياة يلزم أولًا هدم الإنسان القديم ليقوم الإنسان الجديد، خلال صليب ربّنا يسوع المسيح وقيامته.  فما نعيشه الآن في المسيح يسوع خلال الإيمان ننعم به في كمال المجد خلال القيامة.  ويعلق القدّيس كيرلُّس الأورشليمي "نحن نعترف بالصليب لأنّنا اختبرنا القيامة. لو بقي المصلوب ميتًا، لما كنّا اعترفنا بالصليب، بل كنّا أخفيناه وأخفينا سيّدنا يسوع المسيح. لكنّ القيامة جاءت بعد الصليب، ولا نخجل من الحديث عنه" (التعليم المسيحي العمادي الثالث عشر).

 

إن كان الإيمان هو أساس الملكوت يلزم أن يكون "عمليًا" أي من خلال الزهد في النفس وحمل الصليب واتباع يسوع حتى يقدّم لنا السيّد الأكاليل الأبديّة مجازيًا " الإِنسانَ بِحَسَبِ عَمَلِه"(مزمور 62: 13).  فالملكوت السماوي ليس غريبًا عن الملكوت الداخلي بل اِمتداد له. إن كان السيّد المسيح قد دفع تكلفة الملكوت على الصليب، فإنّنا لا ننعم بهذا الملكوت ولا ننمو فيه ما لم نشترك إيجابيًا فيه بحمل الصليب مع عريس الملكوت المصلوب.

 

نستنتج مما سبق ان يسوع يتنبأ هنا عن صليبه وها هو يتحدث مباشرة عن صليب تلاميذه، لان الصليب هو طريق المجد الوحيد، أليس هو من قال "أَما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟"  (لوقا 24: 26)، وهو أيضا صليب تلاميذه، كما هو طريقه أيضا. وسيتحمل التلاميذ نفس الآلام كمعلمهم وسيكافئون مثله في النهاية. فالألم والموت سيتحوَّل الى مجد القيامة. الموت والقيامة هما قلب الانجيل ونواة الايمان في الجماعة المسيحية الاولى. ان حدث الصليب والقيامة يدوم ويجتذب الى الحياة كل شيء كما جاء في تعليم المسيحي الكاثوليكي (بند 1085).

 

الخلاصة

 

بعد ان اعترف بطرس والرسل ان يسوع هو المسيح، اخذ يعلمهم انه مع كونه نبيا وملكا يجب ان يمارس وظيفته الكهنوتية أي لا بد من انه يتألم قبل ان يملك بدليل قوله: "يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إِلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلاماً شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث" (متى 16: 21).

 

وكان من الصعب على بطرس، ومن الصعب علينا ايضا قبول طريق الآلام التي تكلَّم عنها يسوع.  أعلن السيّد ملكوته بكونه هدمًا وبناءً، اِقتلاعًا وغرسًا، فيه يُهدم الإنسان القديم بأعماله لكي يقوم الإنسان الجديد؛ فإن تكلفة هذا الملكوت هو "الصلب".

 

ونحن نتصعب ايضا في قبول الصلب، لأنه يناقض ما نشعر به طبيعيا من ميل الى إثبات الذات. إنّ المسيح موجودٌ على الصّليب، وطالما نحن لا نحبّ الصّليب، فإنّنا لن نراه ولن نشعر به. لذلك فإن اول ما يطلبه الانجيل منا هو تغيير عقليتنا في النظر الى يسوع. وإن دخلنا أكثر في عمق إيماننا، والذي هو آلام المسيح وموته وقيامته، نرى أنه يجب علينا الا نعتبر المسيح مجرّد صانع المعجزات او نبيا، بل علينا أن نكتشف ان المسيح من خلال الامه وموته وقيامته حقَّق خلاصنا من الموت الابدي. ويعلق القدّيس أفرام السريانيّ " الصليب، جسرٌ ٱمتد فوق هاوية الموت" (عظة عن الربّ).

 

وإننا بغير الصليب لا نكون من تلاميذ المسيح ومحبِّيه، وقد جُعل الصليب آلة للحياة، ووسيلة للنجاة. "الكنيسة لا يمكن أن تستمرّ بدون الصليب تمامًا كالسفينة التي تفقد صلابتها بدون السارية" كما يعلق القدّيس مكسيمُس الطورينيّ (العظة 38 ).  نذهب ّ صوب المجد بالآلام والصليب. فالصليب كان طريق المسيح نحو السّماء وهو طريق تلاميذه، لذلك افتخر بولس الرسول بالصليب بقوله: " أَمَّا أَنا فمَعاذَ اللهِ أَن أَفتَخِرَ إِلاَّ بِصَليبِ رَبِّنا يسوعَ المسيح! ِ" (غلاطية 6: 14). ومن هذا المنطلق إن قلب الايمان المسيحي هو قبول الصليب والموت كما قبلهما المسيح للحصول على الخلاص والحياة الابدية.

 

دعاء

 

جدّدنا، أيّها الآب السماوي كي نترك افكارنا الشخصية البشرية ونستجيب لنداء ابنك يسوع المسيح فنزهد في نفوسنا ونحمل صليبنا كلّ يوم ونسير على خُطاه هو الذي مات من اجلنا على الصليب مُتيقّنين ً أن الصليب هو الطريق المؤدي للحياة الأبدية. فليعضد الربّ بصليبه المقدس جميع الّذين يعانون في الجسد والروح، والمشرّدين والمهجّرين والمهمّشين، والعاطلين عن العمل، والمرضى والمنازعين. آمين.

 

قصة: التاجر وبطرس

 

يُروى أنّ تاجراً اهتمّ بتجارته بحيث جعلته ينسى حياته الروحية، فلمّا مات كتب أحدهم على قبره "وُلد إنساناً ومات تاجرا كبيراً". لقد صُنع الإنسان على صورة الربّ، فما أتعس حالة ذاك الّذي يفقد ايمانه بالحياة الأبدية في سبيل الحياة الأرضية.

 

والعكس ما أعظم من يبذل حياته في سيبل الحياة الأبدية. يقال إن الامبراطور نيرون حين أراد قتل بطرس الرسول، اقنع المؤمنون في روما بطرس بالهرب، فهرب بطرس، وعلى أبواب روما رأى السيد المسيح متجهًا لروما.  فسأله إلى أين؟ فقال أنا ذاهب لأصلب بدلًا منك. فعاد بطرس وسلم نفسه وطلب أن يصلب معكوس الرأس تشبُّها واحتراما لمعلمه يسوع المسيح المصلوب.