موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٠ مايو / أيار ٢٠٢٣

صلاة يسوع الكهنوتية: من أجل ذاته ومن أجل تلاميذه

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد السابع للفصح: صلاة يسوع الكهنوتية: من أجل ذاته ومن أجل تلاميذه (يوحنا 17: 1-11)

الأحد السابع للفصح: صلاة يسوع الكهنوتية: من أجل ذاته ومن أجل تلاميذه (يوحنا 17: 1-11)

 

النص الإنجيلي (يوحنا 17: 1-11)

 

1 قالَ يسوعُ هذهِ الأَشياء، ثُمَّ رَفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماءِ وقال: ((يا أَبتِ، قد أَتَتِ السَّاعة: مَجِّدِ ابنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابنُكَ 2 بِما أَولَيتَهُ مِن سُلطانٍ على جَميعِ  البَشَر لِيَهَبَ الحَياةَ الأَبدِيَّة لِجَميعِ الَّذينَ وهبتَهم له. 3 والحَياةُ هي أَن يَعرِفوكَ أَنت الإِلهَ الحَقَّ وحدَكَ ويَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح. 4 إِنِّي قد مَجَّدتُكَ في الأَرض فأَتمَمتُ العَمَلَ الَّذي وَكَلتَ إِلَيَّ أَن أَعمَلَه 5 فمَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ بِما كانَ لي مِنَ المَجدِ عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العالَم. 6 أَظهَرتُ اسمَكَ لِلنَّاسِ الَّذينَ وَهَبتَهُم لي مِن بَينِ العالَم. كانوا لَكَ فَوهبتَهُم لي وقَد حَفِظوا كَلِمَتَكَ 7 وعَرفوا الآنَ أَنَّ جَميعَ ما وَهَبتَه لي هو مِن عِندِك 8 وأنَّ الكلامَ الَّذي بَلَّغَتنيه بَلَّغتُهم إِيَّاه فقَبِلوه وعَرَفوا حَقّاً أَنِّي مِن لَدُنكَ خَرَجتُ وآمنوا بِأَنكَ أَنتَ أَرسَلتَني. 9 إِنِّي أَدعو لَهم ولا أَدعو لِلعالَم بل لِمنَ وَهبتَهم لي لأَنَّهم لَكَ. 10 وجَميعُ ما هو لي فهو لَكَ وما هو لَكَ فهو لي وقَد مُجِّدتُ فيهِم. 11 لَستُ بَعدَ اليَومِ في العالَم وَأَمَّا هُم فلا يَزالونَ في العالَم وأَنا ذاهِبٌ إِليكَ. يا أَبَتِ القُدُّوس اِحفَظْهم بِاسمِكَ الَّذي وَهَبتَه لي لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد.

 

 

مقدمة:

 

في أمسية الخميس المقدس بعد العشاء الأخير وقبل بدء آلامه، رفع سيدنا يسوع المسيح صلاته من أجل ذاته ومن أجل تلاميذه الحاضرين ومن أجل الَّذينَ يؤمنون به لكلامهم (يوحنا 17: 1-26)؛ ويدعو القديس إقليمنضس الإسكندري هذه الصلاة "الصلاة الكهنوتية"، وهي تلخِّص هدف حياته ورسالته على الأرض. ويتناول إنجيل اليَومِ الجزء الأول من صلاته من أجل ذاته ومن أجل تلاميذه حيث نتعلم البركات التي أن نسألها في صلاتنا، ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 17: 1-11)

  

1 قالَ يسوعُ هذهِ الأَشياء، ثُمَّ رَفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماءِ وقال: ((يا أَبتِ، قد أَتَتِ السَّاعة: مَجِّدِ ابنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابنُكَ

 

"قالَ يسوعُ هذهِ الأَشياء" في الأصل اليوناني (Ταῦτα ἐλάλησεν Ἰησοῦς (معناها تكلم يسوع بهذه) تشير هذه العبارة إلى الخُطب التي قالها يسوع في الفصول السابقة (13-16)، وقد شارف على نهاية توصياته وتعاليمه.  أمَّا عبارة "رَفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماءِ" فتشير إلى علامة حِسيَّة لارتفاع النفس إلى الله حيث يدخل يسوع في الصلاة والمناجاة مع آبيه السَّماوِيّ، كما فعل قبل معجزة تكثير الخبز والسمك الأولى (مرقس 6: 41)، وقبل شفاء الأصم (مرقس 7: 34) وقبل إحياء عازر (يوحنا 11: 41)، وتدل هذه الحركة هنا على توجَّه يسوع نحو الآب، الذي منه أتى إلى العالَم، وإليه سيعود (يوحنا 16: 28). ودخلت هذه العلامة في كثير من الطقوس، وهي تعبّر عن موقف الإنسان الذي يتَّجه إلى الله الذي في السماوات. وأصبحت من ميزات التقليد الطقسي المسيحي (أعمال الرُّسُل 7: 55) حيث اعتاد المؤمنون في الكنيسة أن يرفعوا أياديهم وعيونهم إلى السَّماء لدى صَلاتهم " أبانا الذي في السماوات" (متى 6: 99). ونحن أيضًا لا نتردَّد من رفع أعيننا مع عيون يسوع، فهو يرفع قلوبنا إلى السَّماء كي نترنّم مع صاحب المزامير "إِلَيكَ يا رَبِّ أَرفَعُ نَفْسي" (مزمور 25: 1). في حين أنَّ اليهود في صلاتهم يلتفتون بالأحرى إلى هيكل اورشليم، والمسلمون إلى الكعبة المشرفة.  أمَّا عبارة "عَينَيهِ" فتشير إلى كامل كيان يسوع، لأنَّ العَين هي رمز للإدراك الفكري وللنظر الداخلي والضمير. أمَّا عبارة "السَّماءِ " فتشير إلى كل ما هو ليس أرضاً، وتدل على السَّماء الروحية التي هي مسكن الله الخاص، ولذلك يُقال أنَّ الله في السَّماء وأنَّه إله السَّماء، ومشيئته نافذة هناك ولذلك نصلي قائلين: " لتكن مشيئتك كما في السَّماء كذلك على الأرض “، ويقال عن المسيح أنَّه الرَّبّ من السَّماء (متى 5: 45 و1 قورنتس 15: 47) وقد نزل المسيح من السَّماء وصعد إليها وهو فيها (يوحنا 3: 13)، وهناك تسكن الملائكة، ويسود الفرح والسلام. وقد هيأ المسيح فيها منازل كثيرة للمؤمنين به (لوقا 19: 38 ويوحنا 14: 2) وقد صعد إيليا في عاصفة إليها (2 ملوك 2: 1)، كما أنَّ لكل مؤمن ميراثاً فيها وهو يكنز فيها كنوزه (1 بطرس 1: 4 ومتى 6: 20). وهنا كلمة السَّماء ترمز إلى الحضرة الإلهية؛ أمَّا عبارة " يا أَبتِ" فتشير إلى الله الذي يدعوه يسوع ست مرات في صلاته الكهنوتية "الآب"، وزاد على ذلك "القدوس" مرَّة واحدة (يوحنا 17: 11) و"البار" مرة واحدة (يوحنا 17: 1)؛ وقد احتفظ إنجيل مرقس باللفظة الآرامية אַבָּא " آبا" (مرقس 14: 36). إنها اللفظة التي يستعملها الطفل في علاقاته الوُدِّية مع آبيه. وكان اليهود يرفضون استخدامها في صلواتهم، لِمَا فيها من مودَّة حميمة. ويسوع صلَّى مثل طفلٍ، وكانت صلاته بمثابة مناجاة الابن لأبيه، إذ يدعو السيد المسيح الآب أباه، وهو الآب بالطبيعة، وهو الابن الوحيد للآب، الذي نرفع نحن أعيننا معه، ونتطلع إلى الله كأبٍ لنا، وذلك بالتبنِّي الذي نلناه بروحه القدوس (يوحنا 17:20)؛ أمَّا عبارة " السَّاعة" فتشير إلى الوقت الذي عيَّنه الآب لموت ابنه عن الخطأة ثم تمجيده، كما ورد سابقا ( يوحنا 12: 23و 27و 13: 1)، حيث أنَّها كانت الساعة الأخيرة للتدخل الإلهي الأخير، في موت يسوع وقيامته، في آخر الأزمنة (دانيال 8: 17-19)؛  تبدأ هذه الساعة بالصلب وتنتهي بالمَجْد، دلالة على ساعة آلام المسيح وصلبه من ناحية،  وساعة تمجيده من ناحية أخرى  (متى 19: 28 و25: 31)؛ إنها ساعة رجوع الآبن إلى الآب، ساعة اللقاء ، ساعة ظهور مَجْده الإلهي، كما صرّح يسوع "أَتَتِ السَّاعَةُ الَّتي فيها يُمَجَّدُ ابنُ الإِنسان" (يوحنا 12: 23). هذه الساعة حدّدها الآب وسمَّاها يسوع "ساعته" (يوحنا 2: 4، 5: 25، 7: 6 و8: 20 و11: 9)، وهو يعترف بها ويتقبَّلها راضيًا (يوحنا 12: 23و27). وهذه الساعة التي وعد الله بها شعبه قبل أربعة آلاف سنة وانتظرها الناس منذ سقوط آدم (التكوين 3: 15)، ورآها إبراهيم بالإيمان حين منعه الله من ذبح اسحق ابنه (التكوين 22: 2)، وأشار إليها برفع الحيَّة النحاسية في البرِّية (العدد 21: 9) وبذبيحة الخروف اليَومِية وسائر الذبائح في الخيمة (خروج 10: 25) وفي الهيكل (2 أخبار 7: 1)؛ وهي الساعة التي تكلم عنها موسى وإيليا مع يسوع على جبل التجلي (مرقس 9:2).  أمَّا عبارة "قد أَتَتِ السَّاعة" فتشير إلى ساعة طريق الصليب ويسوع يَعرِفها. وكثيرًا ما كان يُكرِّر في كلامه أن ساعته لم تأت بعد. أمَّا الآن وقد بدأ طريق الصليب فيقول: "قد أتت الساعة"، وهو يَعرِفها، بعكس الإنسان الذي لا يَعرِف ساعته (الجامعة 9: 12).  ولمَّا أتت الساعة سلم يسوع ذاته إلى الناس لصلبه. وأمَّا عبارة "مَجْد" في الأصل اليوناني δόξα,  فتشير إلى عِزَّةٍ ورِفعة وشرف وما  يُواكبه من الشهرة مما يجعل الأمر ساطعًا. و"مَجْد" في العبرية כְבוֹד فتدل على فكرة "الوزن"، والاحترام والاعتبار إلى الكيان الحقيقي، ويُعلق القديس أوغسطينوس قائلا: "عندما يكشف الابن عن الآب ويظهر حقيقته، وتتعرف الخليقة على حقيقة بهائه فتسبحه".  وتكرَّرت لفظة "مَجْد" في إنجيل يوحنا 18 مرة أكثر من أي سفر آخر في العهد الجديد، والفعل "يُمجّد" تكرر هنا 23 مرة. إنه إنجيل المَجْد الحقيقي الذي فيه أخلى يسوع نفسه حتى نلتقي به ونتعرف عليه وعلى حبِّه ونتحد به فنتمجد معه! أمَّا عبارة "مَجِّدِ ابنَكَ" فتشير إلى طلب يسوع من الآب أن يمجّده، أي أنَّ يرفعه في المَجْد، وذلك أن يوافق الآب على عمله بختمه فيظهر في ملئه ويشاهده الجميع على أنَّه انعكاس حياة الآب. وقد تكرَّر فعل "يُمجِّد" نحو 23 مرة.  وبدا مَجْد الابن بطاعته للآب وقبوله للصليب، وبالصليب النصرة " فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب لِذلِك رَفَعَه اللهُ إلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء" (فيلبي 6:2-7)، وكان الصليب مَجْد الرَّبّ يسوع، لأنّ فيه تتويج عمله وكماله، كما صلى يسوع أمام أبيه السَّماوِيّ "إنِّي قد مَجدتُكَ في الأَرض فأَتمَمتُ العَمَلَ الَّذي وَكَلتَ إِلَيَّ أَن أَعمَلَه (يوحنا 17: 4)، وهذا المَجْد هو إعلان محبّة الرَّبّ الإله للبشر.  ومجَّد الآب ابنه في وسط الآلام التي قبلها الابن بمسرَّة أثناء آلامه.  فهزم إبليس وشهّر بقوات الظلمة، ورفض مَجْد مَمالك العالَم الذي أراد الشيطان تقديمه له (لوقا 4: 7). ومَجْد الابن ظهر أولاً أنَّه فعل ما فشل الإنسان أن يقوم به، وهو طاعة الله والنُصْرة على الشيطان والموت، وهذا ما قام به المسيح بناسوته.  وكل ما يريده يسوع من آبيه، هو أن يُظهر هذا المَجْد الإلهي عند ساعة موته بالذات.  أمَّا عبارة " لِيُمَجِّدَكَ ابنُكَ" فتشير إلى إظهار يسوع مَجْد الآب من خلال مَجْده على الصليب، أي من خلال طاعته الكاملة ومحبته في تحمل آلام الصليب.  وكان الصليب بمفهوم الرَّبّ يسوع هو مَجْد الحَياة الحاضرة، والطريق إلى أمجاد الحَياة المُقبلة، لأنّ جاذبيّة الصليب قد اجتذبت إليه الجموع أكثر ممّا اجتذبتهم حياته وتعاليمه ومعجزاته " إِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة "(يوحنا 3: 16). ومجَّد الآب ابنه، إذ أقامه من الأموات، وأرسل الروح القدس على تلاميذه وأسس مملكته في قلوب البَشَرية. ويُعلق القديس أوغسطينوس قائلاً: "لو أن الابن قد مات (بالجسد) ولم يقم، فإنه بلا شك لا يكون قد تمجَّد بواسطة الآب، ولا هو مَجْد الآب. الآن إذ يتمجَّد بقيامته بواسطة الآب، يُمجَّد الآب بالكرازة بقيامته. وانكشف هذا الأمر بترتيب الكلمات: " مَجِّدِ ابنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابنُكَ"، بمعنى أقمني حتى بي يَعرِفك العالَم كله".

 

2 بِما أَولَيتَهُ مِن سُلطانٍ على جَميعِ البَشَر لِيَهَبَ الحَياةَ الأَبدِيَّة لِجَميعِ الَّذينَ وهبتَهم له.

 

تشير عبارة "أَولَيتَهُ" في الأصل اليوناني ἔδωκας ، وهي مشابهة للعبارات "لِيَهَبَ" في الأصل اليوناني δέδωκας و"وهبتَهم" في اليونانية δώσῃ. وهذه العبارات تشير كلها إلى فعل δίδωμι (أعطى) حيث تكرَّر فعل العطاء في إنجيل يوحنا 76 مرة، وجاءت في هذه الصلاة 17 مرة، منها 13 مرة تتكلم عن عطاء الآب للابن، وأربع مرات عطاء الابن لتلاميذه. وتِكرار هذا الفعل يحمل معانٍ كثيرةٍ في مفهوم يوحنا الإنجيلي. يتكلم يوحنا عن "الكلمة" كونه ابن الله الوحيد، ويصف الآب الذي يلد الابن أزليًا فيُعطيه كلَّ ما له، لأنَّه يحمل ذات الجوهر، فهو يُعطي ليس بالمنحة أو الهبة أو النعمة المقدَّمة، كما من الخارج، لكنه عطاء الآب للابن، وهما أقنومان متمايزان لكنهما واحد في الجوهر. كلُّ ما للآب فهو للابن، وما للابن فهو للآب ـ إذ لهما نفس السمات الإلهية. ولذلك فإن الابن الذي تجسَّد يفيض بالعطاء خلال النعمة الإلهية كهبة لمؤمنيه. وهذا العطاء مجاني، مُقدَّم من الآب والابن والروح القدس.  ويُعلق القديس كيرلس الكبير قائلاً: " كل عطية إلهية تقدم لنا من الآب بالابن في الروح القدس ". والعطاء من مساو لمساوٍ وَفق تقسيم عمل الفداء بين الأقانيم: فالآب هو المرسل والابن هو رسوله والروح القدس رسُولهما. أمَّا عبارة " سُلطانٍ على جَميعِ البَشَر" فتشير إلى العطية الأولى، وهي سُلطانٍ يسوع المُطلق الذي يدلّ على ألوهيته، لانَّ الله وحده له سُلطانٍ على جميع البَشَر، كما جاء في ترنيم صاحب المزامير "إِهتِفوا لِلهِ يا أَهلَ الأرضِ جَميعًا إِعزِفوا لِمَجدِ اسمِه واْجعَلوا تَسْبيحَه تَمْجيدًا" (مزمور 65: 1-2)، والله الآب الذي "يُحِبُّ الابن فجَعَلَ كُلَّ شيءٍ في يَدِه" (يوحنا 3: 35)؛ أمَّا عبارة "البَشَر" في الأصل اليوناني " σαρκός," (معناها جسد) فتشير إلى "الإنسان" ككل (التكوين 6: 3)، أي الجنس البَشَري (متى 25: 22) فالسيد المسيح هو صاحب السُلطانٍ على البَشَرية، على الأجساد كما على الأرواح. ومن حيث أنَّه المسيح، مخلص العالَم الذي صار إنسانًا لتحقيق الخلاص، نال من الآب سُلطانًا عامًا على كل جسدٍ، أي على كل الجنس البَشَري. إنه صاحب سُلطانٍ على بني البَشَر ليهبَ الحَياة لأبناء الله، ويجعل كل شيء لهم (2 قورنتس 4: 15)، بما فيها الوعود الإلهية. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم قائلاً: "ماذا يعنى " على جَميعِ البَشَر "؟ بالتأكيد لم يؤمن الكل، لكن من جانب يسوع، هو قدَّم تعليمه للجميع لكي يؤمن الكل به، فإن لم يبالِ الناس بكلماته، فالخطأ ليس من جانب المعلم، بل من جانب الَّذينَ لم يقبلوا كلماته". ومن هذا المنطلق، للمسيح سُلطانٌ على الكلِّ ليهبَ الحَياة الأَبدِيَّة لأنَّه مات لأجل الجميع، ودعا الجميع إليه، وهو يُخلص كلَّ من يؤمن به. أمَّا عبارة "يَهَبَ" فتشير إلى تقديم الابن ذاته هبةً لنا، هي عطية حاضرة الآن؛ نقبلها ونعيشها ونتمتع بها وننمو فيها، حتى ننعم بها بصورة أعظم وأبهى يوم لقائنا معه وجهًا لوجه. أمَّا عبارة "الحَياةَ الأَبدِيَّة" فتشير إلى العطية الثانية إلى تلاميذه واتباعه. العطية الأولى هي سُلطانٍ المسيح باعتباره الوسيلة إلى العَطيَّة الثانية التي هي الحَياة الأَبدِيَّة؛ لانَّ المسيح بناء على هذا السُلطانٍ امر تلاميذه بتبشير الأمم وتعميدهم، كما أوصاهم: "إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماء والأَرض.  فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس" (متى 28: 18-19). الحَياة الأَبدِيَّة تشتمل على كل نتائج الفداء من تبرير وتقديس وتمجيد في السَّماء.  أمَّا عبارة "لِجَميعِ الَّذينَ وهبتَهم له" فتشير إلى المختارين (يوحنا 6: 37-40) الَّذينَ يُشاركون يسوع في الحَياة الأَبدِيَّة، وهم جميع أولئك الَّذينَ هم منفتحون على الآب، ومستعدُّون لقبول كلمة يسوع ويؤمنون به ويتَّحدون معه (أفسس 30:5). فان عمل الآب مرتبطٌ كله بعمل الابن، وعمل الابن يكشف عن نشاط الآب كشْفًا كاملاً (يوحنا 3: 35 و5: 19-30 و6: 42-44). الآب هو الإرادة، والابن هو إرادة الآب كونه يُعطي الحياة لمن يريد، الآب يريد والابن يفعل. " فكَما أَنَّ الآب له الحَياة في ذاتِه فكذلِكَ أَعْطى الِابنَ أَن تَكونَ له الحَياة في ذاتِه" (يوحنا 5: 26)، والمعنى أنَّه طالما أن الابن له حياة في ذاته فهو له السُلطانٍ أن يعطي هذه الحَياة لمن يريد. إن مَجْد الابن يظهر حين يعطي الحَياة الأَبدِيَّة للتلاميذ الذي سلّمهم الآب إليه. فمَجد الله هو خلاص البَشَر، وخلاص البَشَر يكمن في معرفة الله. أمَّا عبارة "جميعِ " فقد تكرَّرت مرتين في هذه الآية: الأولى تشير لسُلطانٍ المسيح على جَميعِ البَشَر، وأمَّا الثانية فتشير لِجَميعِ الَّذينَ وهبتَهم له أي المؤمنين الَّذينَ هم خاصة المسيح.

 

3 والحَياة الأَبدِيَّة هي أَن يَعرِفوكَ أَنت الإِلهَ الحَقَّ وحدَكَ ويَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح.

 

تشير عبارة " الحَياة الأَبدِيَّة " إلى معرفة الآب المباشرة، الاله الحقيقي، ويسوع المسيح ابنه الوحيد، لأنَّه لمَّا دخلت الخطيئة إلى العالَم فقدَ العالَم معرفة الله الحقيقية.  فالحَياة الأَبدِيَّة هي معرفة الآب والابن معًا؛ والآب والابن إلهٌ واحدٌ، لهما نفس جوهر الألوهية. هذه المعرفة هي ليست مجرد معرفة عقلية، بل محبة واتحاد أيضًا. ولذلك تنمو الحَياة الأَبدِيَّة على قدر ما نتعمّق في المعرفة التي هي ليست منهجاً فكرياً، بقدر ما هي اتحاد كياننا بالله. لقد حجب الله هذه المعرفة عن العلماء وكشفها للناس البسطاء، كما صرّح يسوع: "أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَواتِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وكَشفتَها لِلصِّغار" (متى 11: 25). وتستلزم الحَياة الأَبدِيَّة منَّا أن ندخل في علاقة شخصية مع الله من خلال ابنه يسوع المسيح. ويُعلق القديس أمبروسيوس قائلاً: " تقول الكتب المقدسة أن الحَياة الأَبدِيَّة تستند على معرفة الإلهيات وعلى ثمر الأعمال الصالحة". أمَّا عبارة "يَعرِفوكَ " فتشير في الكتاب المقدس إلى الاتحاد الذي يُثمر حياة، فالمعرفة هي حياة وشركة مع من نتعرف عليه، فمعرفة الآب الإله الحقيقي هي العبادة والطاعة له. أمَّا عبارة "أبدية" فتشير إلى حياة خلود المؤمن نفسًا وجسدًا التي تتحدَّى الموت. المسيح يُقدِّم نفسه ذبيحة يُبطل بها مفعول الخطيئة أي الموت، ويُثبِّت فيه المؤمنين فيتمتعوا به بكونه الحَياة التي لا تُقاوم، ولأنها تتعدَّى حدود الزمن. أمَّا عبارة "الإِلهَ الحَقَّ " فتشير إلى الله الذي هو ليس اسمًا مجردًا أو فكرة في الذهن، لكنَّه الإله الحقيقي الثابت غير المُتغيِّر الذي يهتم بالبَشَر، وقد أرسل ابنه الوحيد خلاصًا لهم.  لا يميّز يسوع هنا الآب والابن كأن الآب هو الاله الحق والابن ليس كذلك، إنما يُميِّز الاله الحقيقي الوحيد عن الآلهة الكثيرة الكاذبة. أمَّا التمييز بين الآب والابن فلا ينفي وحدانية الله، لانَّ من أهم تعليم الإنجيل هو التوحيد والتثليث.  أمَّا عبارة " وحدَكَ " فتشير إلى الله مثلث الأقانيم تمييزا عن الآلهة الوثنية وإبليس وكل ما يؤلهه الإنسان في حياته كالذات والشهوات.  أمَّا الابن فهو الله، وهو ابن الله الذي يدعى "الإله وحده"، ولو كان الابن ليس الإله الحقيقي فكيف يكون هو "الحق"؟ الحَياة الأَبدِيَّة هي أن نعرف الإله الحقيقي وحده ونعرف ذاك الذي أرسله، يسوع المسيح؛ أمَّا عبارة "يَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح" فتشير إلى قبول السيد المسيح المُعلم والذبيحة والكاهن والمُخلص، الذي يتم فيها تجلي الله إلى اقصى الحدود (يوحنا 4: 14-36). لأنَّ الآب لم يُعْرَفْ إلاّ بتجسد المسيح الذي هو القيامة والحَياة (يوحنا25:11).   فالمسيح اشترى تلك الحَياة بموته ووهبها للناس بروحه مُظهرا محبة الله للناس " فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحَياة الأَبدِيَّة" (يوحنا 3: 16) والحدث الفصحى يفتح أمَّام التلاميذ إمكانية لقاء يسوع ومعرفته ومعرفة الآب به. والمعرفة تفترض المحبة المتبادلة.  يعلق القدّيس أوغسطينوس قائلاً: " كيف سيعرفون يسوع المسيح نفسه بغير طبيعة الإله الحقّ الأوحد، هو الذي سيُظهر نفسه لهم؟ فهو سيظهر كلّي الطيبة في الرؤية التي ستكشفه لأطهار القلوب. "ما أَطيَبَ اللهَ... لِذَوي القُلوبِ الطَّاهِرَة" (مزمور 73: 1) " (الثالوث، الجزء الأوّل). وهذه الآية الوحيدة التي بها سمَّى الله نفسه بيسوع المسيح.

 

4 إِنِّي قد مَجَّدتُكَ في الأَرض فأَتمَمتُ العَمَلَ الَّذي وَكَلتَ إِلَيَّ أَن أَعمَلَه

 

تشير عبارة "مَجَّدتُكَ في الأَرض" إلى إعلان يسوع محبة الآب للبشر وأبوته لهم (يوحنا 18:1)، وكان ذلك، من خلال إتمامه عمل الفداء؛ إذ مجَّد يسوع الآبَ على الأرض مدة حياته عليها، ومجّده بإعلانه إياه للناس وحفظه الشريعة بطاعة كاملة عن الخاطئ وشهادته للحق بأقواله وأعماله وبتواضعه وقداسته وخاصة بالموت الذي أوشك أن يتمَّ. وأمَّا عبارة "أَتمَمتُ العَمَلَ" فتشير إلى عمل مشيئة الله، كما صرحّ يسوع "طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه "(يوحنا 4: 34)، وقال أيضا " فقَد نَزَلتُ مِنَ السَّماء لا لِأَعمَلَ بِمَشيئتي بل بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني" (يوحنا 6: 38)، " إِنَّ الَّذي أَرسَلَني هو معي لَم يَترُكْني وَحْدي لأَنِّي أَعمَلُ دائِماً أَبَداً ما يُرْضيه" (يوحنا 8: 29). ومشيئة الله هي الخلاص الذي أعطاه الآب ليسوع ليعمله في عهد الفداء. ويُعلق القديس أوغسطينوس قائلا: " استخدم يسوع كل الكلمات السابقة الخاصة بالمستقبل، وصاغها في الماضي".  لقد تمَّم السيد المسيح عمل الآب وإرادته لنتمتع بالخلاص، والآن لا يزال يُتمِّمه فينا لكي يتجلى في داخلنا فنشاركه أمجاده.

 

5 فمَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ بِما كانَ لي مِنَ المَجدِ عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العالَم.

 

تشير عبارة "مَجِّدْني " إلى تكرار طلب المسيح للمَجْد الذي أعدَّه الآب له ككلمته المتجسد منذ البدء، لحساب الإنسان (يوحنا 36:13). وتجلى هذا المَجْد في عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 11)، ثم في الصلب وأخيرًا في القيامة والصعود وجلوسه عن يمينه في العلى فوق كل خليقة، كما جاء في تعليم بولس الرسول "المَسيحِ يَسوع الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب، لِذلِك رَفَعَه اللهُ إلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء"(فيلبي 2: 6-9). وهنا يطلب المسيح من آبيه أن يكون الناسوت له نفس مَجْد اللاهوت وذلك لحساب الكنيسة جسده السِّرِّي. أمَّا عبارة "الآن" فتشير إلى بعد أن أكمل يسوع عمله. أمَّا عبارة "عِندَكَ "في الأصل اليوناني παρὰ σεαυτῷ (معناها عند ذاتك) فتشير إلى "لدى الله"، كما ما ورد في مقدمة إنجيل يوحنا "الكَلِمَةُ كانَ لَدى الله ... الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب " (يوحنا 1: 1، 18). وبعد أن أخلى الابن ذاته من مَجْده آنَ الوقتُ أن يدخل الابن بالجَسد إلى أحضان الآب بكل المَجْد الذي كان له وعنده ومعه قبل تكوين العالَم.  إن المسيح مجَّد الآب على الأرض (يوحنا 17: 4) ويسال الآب إن يمجٍّده بالمقابل عند ذاته في السَّماء. أمَّا عبارة " يا أَبتِ " فتشير إلى الله الآب، أب يسوع وحده بالطبيعة لا بالتبني، بعكس البَشَر الذي الله هو أبوهم بالتَّبني. فالله أب للبشر في زمان، أمَّا للمسيح فالله هو أب له قبل كل زمان. أمَّا عبارة " المَجْد" فتشير إلى المَجْد الذي كان الابن يتمتع به في وجوده منذ البدء لدى الآب (يوحنا 1: 1)، أو إلى المَجْد الذي اعدّه الآب. وتجلى مَجْد الابن يسوع المسيح طوال حياته على الأرض (يوحنا 2: 11، 11: 4)، وسطع بهاء هذا المَجْد ابتداء من آلامه وصلبه وقيامته (يوحنا 3: 14). وكشف يسوع لنا كيان الله ومحبته من خلال آلامه وتواضعه حتى الموت، كما جاء في تعليم بولس الرسول "وضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب. لِذلِك رَفَعَه اللهُ إلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء" (فيلبي 2: 8-9). وقد تكرَّرت لفظة المَجْد لأهميتها في النص.  أمَّا عبارة "كانَ لي مِنَ المَجدِ " فتشير إلى مَجْد المسيح الذي كان له كالابن الأزلي، لأنَّه واحد من الأقانيم الثلاثة المتساوين بالمَجْد والقُدرة. يعلق القدّيس أفرام السريانيّ قالاً: " يكتشف يسوع لتلاميذه أنّه لم يلقَ هذا المجد تعويضًا عن آلامه، بل إنّ هذا المجد كان عائدًا له قبل الدهور مع الآب وإلى جانب الآب، كما قال بنفسه عند اقتراب آلامه الطوعيّة: " فمَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ بِما كانَ لي مِنَ المَجدِ عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العالَم"(يوحنا 17: 5). فبطبيعة يسوع الإلهيّة هو مُمجّدٌ منذ الأزل وإلى الأبد؛ أمّا الآن، فقد مُجِّد [بطبيعته البشريّة] لأنّه استحقّ الإكليل بثباته في التجربة. يسال يسوع الآب رفع حجاب ناسوته الذي اخفى مَجْده لكي ينتشر أشعته، كما تؤكده صلاته " يا أَبَتِ، إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد لأَنَّكَ أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العالَم (يوحنا 17: 24). ويُعلق القديس أوغسطينوس قائلا: "أن المَجْد الذي لناسوته وهو قابل للموت يصير خالدًا مع الآب". وهذه العبارة تصريح واضح عن لاهوت يسوع الأزلي.

 

6 أَظهَرتُ اسمَكَ لِلنَّاسِ الَّذينَ وَهَبتَهُم لي مِن بَينِ العالَم. كانوا لَكَ فَوهبتَهُم لي وقَد حَفِظوا كَلِمَتَكَ

 

تشير عبارة "أظهَرتُ اسمَكَ لِلنَّاسِ" إلى إخْبار الابن عن الآب، كما جاء في مقدمة إنجيل يوحنا "إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ، الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه "(يوحنا 1: 18)، كما تشير إلى إشعار بحقيقة الآب (يوحنا 17: 26) من خلال ما يقوله يسوع وما يعمله وما هو عليه (يوحنا 12: 28)؛ فلا تقوم رسالة يسوع في الأساس على عرض كلام جديد، إنَّما على إظهار طبيعة الله الآب كما ورد في الإنجيل : "ما مِن أَحَدٍ يَعرِفُ الابنَ إِلاَّ الآب، ولا مِن أَحدٍ يَعرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْن ومَن شاءَ الابنُ أَن يَكشِفَه لَه" (متى 11: 27). يسوع وحده القادر أن يكشف عن الحّق ِّويُدخل الحَّقَّ إلى أعماق تلاميذه. وكان إظهار أفكار الله وإرادته وصفاته غاية المسيح الأولى من تعليمه على الأرض. أمَّا عبارة " اسمَكَ " فتشير إلى شخص الله نفسه وإلى الحضور الإلهي ذاته وكل إمكانياته وصفاته وقدراته وقوته وحكمته وقداسته ورحمته ومحبته الأبوية للمؤمنين كما ترنَّم صاحب المزامير ""سأُبَشِّرُ أُخوَتي باْسمِكَ وفي وَسْطِ الجَماعةِ أُسَبِّحُكَ" (مزامير 22: 23).  فالاسم ليس مجرد تمييز بين شخص وآخر بلقبٍ معين، وإنَّما يحمل كيانه كله. لانَّ الاسم في العقلية السامية يعبِّر عن الشخصية بكل ما تحمل من ميزة ودينامية خاصة. واسم الله هو الجدير بالمحبَّة، كما يترنَّم صاحب المزامير "يَبتَهِجُ بِكَ مَن يُحِبُّونَ اْسمَكَ"(مزمور 5: 12)، وجدير بالتسبيح أيضًا (مزمور 7: 18)، والتقديس (أشعيا 29: 23). إنه اسم رهيب (تثنية 28: 58)، أبدي (مزمور 135: 13). وكان اليهود يكتفون باسمه من خلال الإشارة إليه لكي يتفادوا ما لا يليق بالله (تثنية 12: 5) أو لئلا يخطئ الشخص في نطقه أو بدافع من الاحترام المتزايد.  أمَّا عبارة "الناس" فتشير مبدئيًا إلى التلاميذ الَّذينَ قبلوه، لكن الأمر يمتد إلى كل الَّذينَ يقبلونه عبر الأجيال ويسمعون كلماته ويتجاوبون معه. أمَّا عبارة " كانوا لَكَ" فتشير إلى هؤلاء التلاميذ الَّذينَ كانوا يَعرِفون الله ويؤمنون به كخالقهم، إذ هو صنعهم، كما يقول بولس الرسول "لأننا مِن صَنْعِ الله (أفسس 2: 10)؛ قبلوا تعليم الله من خلال موسى والأنبياء واستعدوا الآن لقبول التعليم الذي أعطى ابنه إيَّاه.  أمَّا عبارة "وهبتَهُم" فتشير إلى من انفتحت أعينهم وقبلوا رسالة المسيح واجتذبهم الآب (يوحنا 6: 44) ليكونوا للمسيح رُسُلاً ينادون بإنجيله.  وينسب يسوع لله آبيه التلاميذ الَّذينَ صاروا له خلال الإيمان به، ويقدِّمهم الآب له كعطيَّة ليكونوا ورثة المسيح فيمتلئوا بالحَياة، إذ اختار يسوع الرُّسُل، والآب أعطاه إياهم. "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يُقبِلَ إِليَّ إِلاَّ بِهبَةٍ مِنَ الآب "(يوحنا 6: 65). ويتكرر فعل "وهب" عشر مرات في هذا النص مما يدلُّ على أهميته. فعمل يسوع هو إن يِهب للإنسانية كل ما تسلمه من الآب. فالعطاء وبذل الذات هما موقفان يجسّمان محبة يسوع. أمَّا عبارة " حَفِظوا كَلِمَتَكَ " فتشير إلى وصف للتلاميذ الَّذينَ اصغوا إلى كلمة الله وقبلوها داخل قلوبهم وأطاعوها وعملوا بها. وهذا الأمر يُميِّزهم عن سواهم فيَعرِفهم به الناس.  ولقد أودع يسوع كلمته في حياة تلاميذه ورسله الَّذينَ اختارهم، فحفظوا الكلمة، وتقبلوا في حياتهم الكلمة المُتجسد يسوع المسيح، لذلك يرذلهم العالَم ويقاومهم. فان الطاعة للمسيح هي البرهان الأول أنَّ الإنسان تلميذ المسيح.

 

7 وعَرفوا الآنَ أَنَّ جَميعَ ما وَهَبتَه لي هو مِن عِندِك

 

تشير عبارة " عَرفوا الآنَ " إلى معرفة التلاميذ التي حصلوا عليها نتيجة تعليم المسيح إيَّاهم، وهو أساس لزيادة علمهم لدى حلول الروح القدس عليهم (يوحنا 16: 30). يُعلِّق القديس أوغسطينوس قائلاً: "عندما قال يسوع "عرفوا الآن" أراد أن يفسرها: "وآمنوا".  أمَّا عبارة " أَنَّ جَميعَ ما وَهَبتَه لي هو مِن عِندِك" فتشير إلى علم التلاميذ أنَّ يسوع هو ليس ابنُ نجَّار من النَّاصرة ولا نبِيٌ من الجليل فحسب، إنما هو ابن الله من السَّماء، المسيح الموعود به. عرف التلاميذ كلام يسوع فعرفوا فيه كلام الحَياة كما "الكَلامُ الَّذي كلَّمتُكُم به رُوحٌ وحَياة" (يوحنا 6: 63).  يصلي يسوع من أجل تلاميذه كي يملأهم الآب القدوس بالحَياة، ويقودهم إلى المَعرفة الكاملة لوجه الآب.

 

 8 وأنَّ الكلامَ الَّذي بَلَّغَتنيه بَلَّغتُهم إِيَّاه فقَبِلوه وعَرَفوا حَقّاً أَنِّي مِن لَدُنكَ خَرَجتُ وآمنوا بِأَنكَ أَنتَ أَرسَلتَني.

 

تشير عبارة " الكلامَ " إلى الحقائق المتعلقة بالله وبخلاص البَشَر التي أعطاها الآب للابنَ في عهد الفِداء ليُعلنها للعالم. هذا الكلام هو كلام الحكمة والتعزية والقُوَّة والحَياة، كلامٌ لا يزول ولو زالت السَّماوات والأرض كما صرّح يسوع "السَّماءُ والأَرضُ تَزولان، وكلامي لن يَزول" (متى 24: 35). أمَّا عبارة "أنَّ الكلامَ الَّذي بَلَّغَتنيه بَلَّغتُهم إِيَّاه" فتشير إلى ما ورد على لسان يسوع "إنَّنا نتكلَّمُ بِما نَعلَم، ونَشهَدُ بِمَا رَأَينا" (يوحنا 3: 11). وهذا ما أكّده صاحب الرسالة إلى العبرانيين " كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين" (عبرانيين 2:1). أمَّا عبارة " فقَبِلوه " فتشير إلى قبول التلاميذ لتعليم يسوع والترحيب به قلبيًا والإيمان به مِمَّا يدل على فرحهم ومشاعرهم تجاهه، بعكس غيرهم الَّذينَ سمعوا تعليمه ورفضوا قبوله وتصديقه. والفرق بين الفريقين لا يتوقف على التعليم ولا على العلم، بل على استعداد السامع للقبول أو للرفض.  أمَّا عبارة " عَرَفوا حَقّاً أَنِّي مِن لَدُنكَ خَرَجتُ" فتشير إلى معرفة التلاميذ أصل يسوع الإلهي، وقبولهم إيَّاه فقادهم ذلك إلى الحَق. إذ بدأ التلاميذ التَّمييز والحُكم بالعقل فحكموا على أقوال المسيح أنَّها سماوية. فأمنوا بالمسيح أنَّه من عند الله. وأنَّه الله المُتجسَّد. أمَّا عبارة "مِن لَدُنكَ خَرَجتُ " فتشير إلى يسوع الذي أتى إلى الأرض مُتجسِّدًا، فهو ابنه وهو المسيح، مُخلص العالَم وهذا ما صرَّح به نيقوديمُس وكانَ مِن رُؤَساءِ اليَهود: " راِّبي، نحنُ نَعلَمُ أَنَّكَ جِئتَ مِن لَدُنِ اللهِ مُعَلِّماً، فما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَأَتِيَ بِتِلكَ الآياتِ الَّتي تَأتي بِها أَنتَ إِلاَّ إِذا كانَ اللهُ معَه " (يوحنا 3: 2 )، وهذا الأمر آمن به تلاميذه  أيضا " نُؤمِنُ بِأَنَّكَ خَرَجتَ مِنَ الله " (يوحنا 16: 30) أمَّا عبارة " آمنوا بِأَنكَ أَنتَ أَرسَلتَني" فتشير إلى إيمان التلاميذ بيسوع  أنَّه المسيح ابن الله المنتظر الذي أتى من السَّماء . عرف التلاميذ يسوع وأقروا بقدرته ودعوه رباً ومخلصا كما اكّد ذلك يوحنا الرسول "أمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه" (يوحنا 1: 12). والإيمان هو غاية إنجيل يوحنا "كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحَياة بِاسمِه" (يوحنا 20: 31).  فالتلاميذ قبلوا التعليم، وعرفوا الأصل الإلهي ليسوع فوصلوا إلى الحق، وأخيرا أمنوا " جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس" (يوحنا1: 7). نلاحظ هنا درجات الإيمان: قبلوه ثم عرفوه ثم آمنوا أي اتخذوا القرار والإرادة بعزيمة ثابتة ملتهبة بنار القلب وملهمة بنور العقل. أمَّا عبارة " أَرسَلتَني" فتشير إلى العمل الذي أُرسِل يسوع من أجله وهو الفداء.

 

9 إِنِّي أَدعو لَهم ولا أَدعو لِلعالَم بل لِمنَ وَهبتَهم لي لأَنَّهم لَكَ.

 

عبارة "أَدعو لَهم" في الأصل اليوناني ἐρωτῶ (معناها اسأل) تشير إلى صلاة يسوع الذي يشفع من أجل التلاميذ الَّذينَ اختارهم من العالَم وقبلوه وأمنوا به. فاستودعهم إلى أبيه السَّماوِيّ بالصلاة (يوحنا 1: 10).  أتى يسوع ومات وقام وصعد من أجل العالَم كلِّه، لكن الرَّبّ يَعرِف تمامًا من يُصرُّون على رفضه، فهم ليسوا له. لذلك يدعو الرَّبّ للذين وهبهم الله له. إنه لا يشفع فيمن رفضوا عمله فيهم وامتلئوا بالشر والتمرد وعدم الإيمان؛ أمَّا عبارة "العالَم" في الأصل اليوناني κόσμου فتشير إلى معانٍ مختلفة في إنجيل يوحنا. فتعني العالَم أحيانًا الكون الذي خلقه الله (يوحنا 1: 10)، وأحيانًا تعني الجنس البَشَري الذي أحبه الله لدرجة أنَّه جاد بابنه الوحيد (يوحنا 3: 16)، وأحيانًا أخرى تعني مجموعة الكائنات التي تقف في وجه ملكوت الله وفضلت أن تعيش تحت سيطرة سيْد هذا العالَم الشرير. أمَّا عبارة "لا أَدعو لِلعالَم" فتشير إلى يسوع الذي لا يصلي للناس الَّذينَ يُغلقون على أنفسهم في الكِبرِياء ويرفضون الله، لأنَّه لم يأتِ لهذا العالَم إلاَّ لينتزع البَشَر من عبودية سيد هذا العالَم ويرميه خارجا، كما صرّح يسوع المسيح "اليَومَ يُطرَدُ سَيِّدُ هذا العالَمِ إلى الخارِج" (يوحنا 12: 31)، وبموته يتأهَّب يسوع للانتصار على هذا العالَم كما صرَّح: " ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم " (يوحنا 16: 33). لا يصلي يسوع للعالَم الذي لا يزال يحيا في شرِّه، غير مؤمن به، بل لجماعة التلاميذ المؤمنين به. فالمسيح حقًا مات من أجل كل العالَم، ولكن ليس كل العالَم تمتَّع بالغُفران. فكيف يصلي المسيح لمن لا يزالون في شرهم لكي يحفظهم الآب؟  يسوع صلى هنا لتلاميذه خاصة، وهذا لا يعني أنَّه لم يصلِّ من أجل العالَم بدليل صلاته "فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني" (يوحنا 17: 21)، وأنَّه صلَّى من اجل قَاتليه (لوقا 23: 34)؛ أمَّا عبارة " لِمنَ وَهبتَهم لي " فتشير إلى التلاميذ الَّذينَ كانوا للاب قبل إن يكونوا للمسيح، كما ورد في الآية السابقة (يوحنا 17: 6)، لذلك يصلي من أجلهم.  وأمَّا عبارة " لأَنَّهم لَكَ " فتشير إلى الَّذينَ قبلوا كلمة السيد المسيح وآمنوا بها فدخلوا في ميثاق جديد مع الآب، فهم للآب بالتَّبني لكونهم أخوة يسوع، وهم عطيَّة الآب للابن لانَّ " ما هو لي فهو لَكَ وما هو لَكَ " (يوحنا 17: 10).

 

10 وجَميعُ ما هو لي فهو لَكَ وما هو لَكَ فهو لي وقَد مُجِّدتُ فيهِم

 

تشير عبارة "ما هو لي فهو لَكَ" إلى كل ما يملكه يسوع هو ملك الله الآب، ويمكن لأيَّة خليقة أن تقول للآب: "كل ما هو لي فهو لك"؛ أمَّا عبارة "وما هو لَكَ فهو لي"  فتشير إلى كل ما يملكه  الآب فهو مُلك المسيح، والسيد المسيح وحده القادر أن يقول "ما هو لَكَ فهو لي"، لأنَّه الواحد مع الآب في ذات الجوهر والطبيعة الواحدة، وهما واحد ومتساويان في القُدرة والسُلطانٍ والمَجْد، كما جاء في تعليم السيد المسيح " إن "جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي ولِذلكَ قُلتُ لَكم إِنَّه يأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه" (يوحنا 16: 15)؛ يُعلق القديس أوغسطينوس قائلاً: "أن كل ما يخصُّ الآب يخصُّ الابن أيضًا".  فهذه العبارة تدل على لاهوت المسيح والحُبِّ والشَّركة بين الآب والابن. أمَّا عبارة " مُجِّدتُ فيهِم" فتشير إلى تمجيد يسوع في تلاميذه الَّذينَ يسمعون له، ويطيعونه، ويؤمنون به ويُحبُّونه ويعملون باسمه ويُكرزون بإنجيله ويُعلنون عن علاقة الآب بالابن إلى العالَم كله، وسيمجِّدونه أكثر بعد حلول الروح القدس عليهم ويكونون شهودًا له، في حين رفضه العالَم وابغضه (يوحنا 17: 6-8)؛ ومن هذا المنطلق، يسوع يصلي من اجل تلاميذه. وظهر مَجْد المسيح في تجديد المؤمنين وفي ثمارهم، كما جاء في تعليم بولس الرسول: " قد لَبِستُمُ المسيح" (غلاطية 3: 27). فصار الناس يرون فيهم صورة المسيح، كما جاء في تعاليم يسوع " لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات" (متى 5: 16). هذا المَجْد مُقدَّم للآب أيضًا. وهذا التمجيد هو تجلِّي قدرة الآب والابن، والتَّجلي هو وحْدة حبِّ الآب والابن الذي للتلاميذ نصيب فيها. ويُمجّد المسيح بقدر ما يَهدي التلاميذ تدريجيًا إلى مَعرفة الحقيقة المتجلية فيه، بالتالي يُنجز عمله القائم على تمجيد الآب. وهكذا تظهر وحدة الوحي بين الآب والابن. وهنا تجلت محبَّة يسوع في التلاميذ دلالة على محبَّة الآب والابن. ويُقدّم يسوع حقيقة وَحدة الآب والابن ومعرفتهما المتبادلة حتى يتيقّن التلاميذ أنَّهم للآب، فيتمجّد يسوع بإيمانهم. إنَّ فرح يسوع يكبر لرؤية تلاميذه يشهدون بحضورهم وإيمانهم. يُعلق القديس أوغسطينوس قائلاً: “يحدِّث يسوع الآب عن تمجيده كأنَّه قد تمَّ، (مُجِّدتُ فيهِم) مع أن ذلك حدث في المستقبل. منذ قليل طلب من الآب أن يُحقِّق مَجْده بقوله إنه قد تحقَّق فعلاً، مُظهرًا أنَّه قد تمَّ تدبير ذلك فعلاً، وأراد أن يُظهر أنَّه ما سيتحقق في المستقبل هو أمر أكيد".

 

11 لَستُ بَعدَ اليَومِ في العالَم وَأمَّا هُم فلا يَزالونَ في العالَم وأَنا ذاهِبٌ إِليكَ. يا أَبَتِ القُدُّوس اِحفَظْهم بِاسمِكَ الَّذي وَهَبتَه لي لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد.

 

تشير عبارة "لَستُ بَعدَ اليَومِ في العالَم " في الأصل اليونانية οὐκέτι εἰμὶ ἐν τῷ κόσμῳ (معناه مع أنني لا أعود أظهر في العالَم) إلى إتمام العَمَلَ الَّذي وَكَل إِلَيَّه أَن يعمَلَه (يوحنا 17: 4) بمعنى أنَّه حُسب يسوع ذاق الموت لفرط قُربه منه.  أمَّا عبارة "أمَّا هُم فلا يَزالونَ في العالَم" فتشير إلى التلاميذ الَّذينَ هم باقون في العالَم بما فيه من مِحن وأخطار تُشتتهم وانقسامهم بعضهم على بعض. فالشيطان يُهاجم المؤمنين بوسيلتين: الإغراء والخداع بملذات العالَم، والعنف بآلام والاِضْطِهاد (رؤيا 13).  إنَّ يسوع في ساعة ذهابه إلى آبيه، لا يُفكِّر في نفسه، أنَّما يفكر في تلاميذه، لا يتركهم، إنَّما يحملهم في صلاته، لأنَّه يَعرِف الهجمات التي سيتعرضون لها، كما أعلن لهم " إذا أبغَضَكُمُ العالَمُ فَاعلَموا أَنَّه أَبغَضَني قَبلَ أَن يُبغِضَكم"(يوحنا 15: 18)، وعرف يسوع الإغراءات التي تنتظرهم في العالَم " لأَنَّ كُلَّ ما في العالَم مِن شَهوَةِ الجَسَد وشَهوَةِ العَين وكِبرياءِ الغِنى لَيسَ مِنَ الآبِ، بل مِنَ العالَم" (1يوحنا 2: 16). وقداسة الله هي قُوَّة قادرة أن تحفظ أبناءه من إغراءات واضطهاد العالَم. أمَّا عبارة " وأَنا ذاهِبٌ إِليكَ " فتشير إلى مقارنة حالة يسوع مع حالة تلاميذه. فيسوع أكمل شوطه أمَّا هم فيشرعون الآن في شوطهم. فلما كانوا معه كان يعزِّهم ويحميهم، ولكنه لما قرب مغادرته اخذ يهتم بهم ويستودعهم للاب.  أمَّا عبارة "يا أَبَتِ القُدُّوس" فتشير إلى الله المتسامي عن الأرضيَّات، وهو ابتهال ورد مرة واحدة هنا في العهد الجديد. والقداسة هي مِيزة جوهر الله. ولأنَّ الله القريب بأبوته فهو المحبوب، ولأنَّه البعيد بقداسته فهو المرهوب. وتقوم قداسة التلاميذ على قداسة الآب "كونوا قِدِّيسين، فإِنِّي أَنا قُدُّوس" (أحبار 11: 44). وقد استعملت الليتورجيا المسيحيَّة هذه العبارة في وقت مبكر (تعليم الرُّسُل 10: 2).  أمَّا عبارة "اِحفَظْهم بِاسمِكَ الَّذي وَهَبتَه لي" فتشير إلى قُوَّة الله التي تحيط بالإنسان وتحرِّره، وصلاة يسوع لتلاميذه هي أن يُدخلهم في مجال قُوَّةٍ عمله وحضرته كي يكونوا مُخلصين فلا يرتدَّوا عن الإيمان، وبالتالي فلا يكونوا فريسة للعالم الشرير.  لأنهم كانوا على وشك أن يُتركوا في هذا العالَم الشرير، لأنَّهم ليسوا منه (يوحنا 15: 19). وكان التلاميذ مُخلصين للمسيح ما عدا يهوذا "ابن الهلاك". فهنا يصلي يسوع حتى يدخل تلاميذه في اتحاد وثيق مع الآب بحيث لا تستطيع أية إرادة شريرة في العالَم أن تفصلهم عنه تعالى. فقد سلَّمهم الآب إلى يسوع، وها هو يسوع بدوره يُسلّمهم إلى الآب. ويُكرِّر يسوع في صلاته فعل "يحفظ" ثلاث مرات، فهو يعلم الصعوبات الجمَّة التي تساور الرُّسُل عندما يحتجب عنهم. ولذا يطلب يسوع من الآب أن يحفظ تلاميذه، لأنَّه سيتركهم. أمَّا عبارة " لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد" فلا تعني أن يصيروا واحداً، بل أن يكونوا واحداً، واحداً في المحبة والإرادة والغاية والفكر والاهتمامات والتسليم لله بلا خصومة ولا انتقام؛ فالوحدة تنطلق من يسوع، ومثالها الوحدة التي تجمع بين الآب والابن. فيطلب يسوع أن يكون المؤمنون واحداً كما أن الآب والابن والروح القدس هم واحد، فالوحدة أقوى من كل الروابط لان الوحدة في المحبة المتبادلة هي نتيجة الاتحاد الذي يجمع بين الآب والابن " فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا (يوحنا 17: 21).

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 17: 1-11)     

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 17: 1-11)، يمكن أن نستنتج أنَّه يتمحور حول قسم من "صلاة يسوع الكهنوتية: يسوع يُصلي من اجل ذاته ومن اجل تلاميذه. 

 

1) صلاة يسوع من أجل ذاته (يوحنا 17: 1-5)

 

صلّى يسوع كإنسانٍ حقيقي كامل، وكمُمثِّلٍ لنا، كما يقول الرَّسول بولس: " وهو الَّذي في أَيَّامِ حَياتِه البَشَريَّة رفعَ الدُّعاءَ والاِبتِهالَ بِصُراخٍ شَديدٍ ودُموعٍ ذَوارِف إلى الَّذي بِوُسعِه أَن يُخَلِّصَه مِنَ المَوت، فاستُجيبَ لِتَقْواه" (عبرانيين 5: 7). وهو شاعر الآن أن "ساعته" كانت تقترب (يوحنا 12 :23). إنها ساعة تمْجيده عن طريق الآلام والموت، كما وضَّح في صلاته: "يا أَبتِ، قد أَتَتِ السَّاعة: مَجِّدِ ابنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابنُكَ" (17: 1)، ويتكرَّر هذا الطلب عدَّة مَرَّات في هذا المقطع الإنجيلي (يوحنا 17: 5، 22، 24). المَجْد الذي يطلبه يسوع ليس مَجْدًا بشريًا ودنيويًا بما فيه الغنى والسلطة والشهرة والعظمة، بل مَجْد الخدمة والتواضع وفقدان الذات والتضحية على الصليب، الذي هو أعظم التجليات الإلهية.  يعلق القدّيس أنَسطاس بطريرك أنطاكية قائلاً: " أتى يسوع ليخلّص شعبه، وتخلّى "عمّا كانَ له مِنَ المَجدِ عِندَ الآبِ قَبلَ أَن يَكونَ العالَم" (يوحنا 17: 5). هذا الخلاص يجب أن يتمّ بالآلام، والذي سيُمنح لخلق حياتنا، وَفق تعاليم بولس الرَّسول: "كانَ يَحسُنُ به أَن يَجعَلَ مُبدِئَ خَلاصِهم مُكَمَّلاً بِالآلام" (عبرانيين 2: 10)" (العظة رقم 4 عن الآلام). في هذا المفهوم يطلب يسوع من الآب أن يُمجّده، أي أن يرفعه في المَجْد الإلهي، وذلك للغايات التالية:

 

ا) الغاية الأولى: تمجيد ألاب 

 

"لِيُمَجِّدَكَ ابنُكَ": طلب يسوع إلى أبيه  السَّماوِيّ أن يُمجّده ليس عن كِبرِياء، ولا سَعيَا وراء ذاته إنما رغبة في طلب مَجْد آبيه، كما صرّح يسوع "الَّذي يَتَكَلَّمُ مِن عِندِ نَفْسِه يَطلُبُ المَجدَ لِنَفْسِه أمَّا مَن يَطلُبُ المَجدَ لِلَّذي أَرسَلَه فهُو صادِقٌ لا نِفاقَ فيه" (يوحنا 7: 18)،  " أَنا لا أَطلُبُ مَجْدي فهُناكَ مَن يطلُبُه وَيَحكُم  (يوحنا  8: 50)، ومَجْد الآب لا ينفصل عن مَجْد الابن، إنَّهما في الواقع واحد، كما صرّح يسوع لدى أحياء لعازر "هذا المَرَضُ لا يَؤُولُ إلى المَوت، بل إلى مَجْدِ الله، لِيُمَجَّدَ بِه ابنُ الله" (يوحنا 11: 4).

 

ويتسأل القديس أوغسطينوس: " كيف أنّ الابن مجّد الآب... في الواقع، إنّ مَجْد الآب، بحدّ ذاته، لا يمكنه أن يزيد ولا أن ينقص. ومع ذلك كان مَجْده أقلّ عند البَشَر، عندما لم يكن الله معروفًا إلاّ "في اليهوديّة" وعندما "لم يكن خدّامه يسبّحون اسم الرَّبّ من مشرق الشَّمس إلى مَغْربها" (مزمور 76: 2؛). فهذا حصل بواسطة إنجيل الرَّبّ يسوع المسيح الّذي جعل الأمم تعرف الآب بواسطة الابن: وهكذا مجّد الابنُ الآب. وهذا ظاهر في ترتيب الكلمات: "يا أَبتِ، قد أَتَتِ السَّاعة: مَجِّدِ ابنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابنُكَ"، وكأنّه يقول: "أقِمنِي من الموت، لكي تُعرَف في العالَم كلّه بواسطتي" (عظات حول إنجيل القدّيس يوحنّا، رقم 104 – 105). فالآب مَجّد الابن من خلال قيامته، والابن يُمَجّد الآبَ ببشارة قيامته.

 

ب) الغاية الثانية: تمجيد الكنيسة

 

ابتدأ يسوع صلاته لأجل رسله وكنيسته بطلب تمجيد نفسه كونه أساس الكنيسة، والكنيسة تحصل على كل بركة روحية وسماوية باستحقاقاته.  وغاية طلب تمجيد نفسه هو تمجيد كنيسته "مَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ" (يوحنا 17: 5) وهذا التمجيد لا يحصل عليه ما لم يجتاز طريق الألم وعار الصليب والموت.  والمسيح علم ذلك، وقدَّم نفسه طوعًا رغبة بالصعود بواسطة الموت إلى المَجْد.  ويعلق القديس أوغسطينوس قائلا: " إنّ الآب مَجّد الابن كما جاء في تعليم بولس الرسول "لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا" (رومة 8: 32). ولكن، إن كان قد مجّده في آلامه، فكم بالأحرى في قيامته " (عظات حول إنجيل القدّيس يوحنّا، رقم 104 – 105).

 

 

ج) الغاية الثالثة: منح الحَياة الأَبدِيَّة

 

يطلب يسوع من الآب أن يُمجِّده من خلال تجسِّده وصلبه وقيامته وصعوده، لأنَّه من خلال تمجِّده يمنح الحَياة الأَبدِيَّة للبشر "لِيَهَبَ الحَياة الأَبدِيَّة لِجَميعِ الَّذينَ وهبتَهم له" (يوحنا 17: 2). وهذا التمجيد شرط ضروري من اجل خلاص البَشَرية جمعاء.  لان يسوع تولَّى من الآب سُلطانًا أن يهب الحَياة الأَبدِيَّة للبشر كما ورد في الإنجيل:" كَما أَنَّ الآبَ يُقيمُ الموتى ويُحيِيهِم فكَذلِكَ الِابنُ يُحيِي مَن يَشاء (يوحنا 5: 21)، لانَّ يسوع هو "الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة" (يوحنا 14: 6)، ولكن سُلطانٍ منح الحَياة يقتضي تمْجيد الابن، لان ذلك يُظهر الآب في محبته للابن، وهذا الإعلان هو مصدر الحَياة للبشر. فالمَجْد الذي يطلبه المسيح هو لنا، إذ يتمجَّد يسوع ليعطينا هذا المَجْد. والدليل على ذلك، حين طلب اليونانيون أن يروا يسوع.  أجاب يسوع " يا أَبتِ، مَجِّدِ اسمَكَ "، فجاء صوت من السَّماء "قَد مَجَّدتُه وسَأُمَجِّدُه أَيضاً" (يوحنا 12: 28) فقال المسيح "لم يَكُنْ هذا الصَّوتُ لأَجلي بل لأجلِكُم." (يوحنا 12: 30) أي لتعرفوا أن المَجْد الذي أطلبه هو لكم.  وهذا ما يوكّده بولس الرسول " لأَنَّنا، إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا" (رومة 8: 17).

 

تكمن الحَياةُ الأَبدِيَّة في "أَن يَعرِفوكَ أَنت الإِلهَ الحَقَّ وحدَكَ ويَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح" (يوحنا 17: 3). فالحَياة الأَبدِيَّة هي ليست مجرد معرفة عقلية، إنَّما هي معرفة شخصية وحياتية، إنّها اتَّحاد الرُّوح والقلب والإرادة، وإنَّها عطاء الذات. وبلوغ هذه المعرفة للإله الحقيقي هي الحَياة والسعادة الحقة وتحقيق الإنسان لذاته؛ لكن الإنسان لا يستطيع أن يبلغ هذه المعرفة إلاَّ بواسطة يسوع المسيح، ابن الإنسان.  لهذا يجب أن يُمجّد وبدونه نحن في ظلام دامس، كما جاء في تعليم بولس الرسول: " اُذكُروا أَنَّكم كُنتُم حِينَئذٍ مِن دُونِ المسيح مَفْصولينَ، غُرَباءَ عن عُهودِ المَوعِد، لَيسَ لَكم رَجاءٌ ولا إِلهٌ في هذا العالَم" (أفسس 2: 12).  والحَياة الأَبدِيَّة هي حياة المسيح التي قام بها من الأموات وهي أبدية، لأنَّه لن يموت ثانية. والروح القدس يُعطينا هذه الحَياة ويُثبتنا فيها بالمعمودية.

 

نستنتج مما سبق أنَّ يسوع صلى لكي يتم رسالة فداء الإنسان وخلاصه بموته على الصليب، ولكي يُظهر مَجْد الآب والابن، وينال الحَياة الأَبدِيَّة لكل من يؤمن به.  والحَياة الأَبدِيَّة هي انتقال من حياة الإيمان إلى حياة المشاهدة، ومن حياة غُربة في الزمن إلى حياة بقاء في الأَبدِيَّة، ومن حياة في الشفاء إلى الحَياة في الراحة، ومن ممارسة الأعمال إلى حياة الثواب في معرفة الله ومشاهدته والتمتُّع به إلى الأبد.

 

ج) الغاية الرابعة: تكليل لمشيئة الآب

 

يسوع لا يطلب التمجيد مكافأةً لعمل صالح، بقدر ما يطلبه تكليلا للعمل الذي أوكل إليه الآب "إِنِّي قد مَجَّدتُكَ في الأَرض فأَتمَمتُ العَمَلَ الَّذي وَكَلتَ إِلَيَّ أَن أَعمَلَه (يوحنا 17: 4). فتمجيد يسوع ضروري، لانَّ عمل الابن لم يكن إلا لإظهار الآب للناس، كما جاء صوت من السَّماء يقول "قَد مَجَّدتُه وسَأُمَجِّدُه أَيضاً" (يوحنا 12: 28).

 

د) الغاية الخامسة: العودة إلى حضن الآب

 

صلّى يسوع أيضا لأجل ذاته ليتقدم إلى حالة المَجْد التي تمتع بها مع الآب قائلاً: "مَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ بِما كانَ لي مِنَ المَجْد عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العالَم" (يوحنا 17: 5). إن المَجْد الذي يتوق إليه يسوع ليس إلاَّ العودة إلى الآب في المَجْد الذي كان يتمتع به قبل أن يكون العالَم. "فمَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ بِما كانَ لي مِنَ المَجْد عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العالَم" (يوحنا 17: 5)، أنَّه يتوق إلى الرجوع إلى حِضن الآب" (يوحنا 1: 18) حيث يشرق مَجْده ويُنير هذه البَشَرية، كما جاء في مقدّمة إنجيل يوحنا " الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجْده مَجْداً مِن لَدُنِ الآب لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ "(يوحنا 1: 14). فقد اتَّخذ يسوع هذه البَشَرية لكي يُظهر لنا الآب. وكان طريق الرجوع إلى الآب السَّماوِيّ من خلال طريق الصليب، ولذلك فقد كان الصليب طريق المَجْد.  والآن قد قرُبت رسالة يسوع على الانتهاء، فأنَّه يطلب من الآب إن يردَّه إلى مكانته معه. وشهد إسطفانس أثناء استشهاده وهو ممتلئ من الروح القدس أن الرَّبّ يسوع قد عاد إلى مكانه المُمَجَّد عن يمين عظمة الله " إِنِّي أَرى السَّمواتِ مُتَفَتِّحَة، وابنَ الإِنسانِ قائِمًا عن يَمين الله" (أعمال الرُّسُل 7: 56).

 

 

2) صلاة يسوع من أجل التلاميذ: (17: 6-11)

 

بعد أن صلى من أجل نفسه ليس عن حاجة، إنَّما علامة الشركة بينه وبين الآب، والمَجْد المتبادل بينهما، الآن يصلي من أجل تلاميذه كونهم المُبشِّرين بإنجيله الطاهر. وقبل صلاته وصف عمله معهم مُظهرًا لهم اسم الآب: "أَظهَرتُ اسمَكَ لِلنَّاسِ الَّذينَ وَهَبتَهُم لي مِن بَينِ العالَم. كانوا لَكَ فَوهبتَهُم لي وقَد حَفِظوا كَلِمَتَكَ" (يوحنا 17: 6)، واظهر لهم أن الله آب، لانَّ له ابنًا، ويسوع هو هذا الآبن الذي اتَّخذ وجهًا وجسدًا يعكس حبَّ أبيه.

 

عرف التلاميذ كلام الله، وقبلوه من خلال تعليم يسوع وأعماله وحياته. وقد "حفظوا كلامك" كما كانوا يحفظون كلام الشريعة "طوبى لِلَّذينَ يَحفَظونَ شَهادَتَه وبِكُلِّ قُلوبِهِم يَلتَمِسونَه (مزمور 119: 2). صلى يسوع لتلاميذه بكونهم عطيّة الآب للابن "اِحفَظْهم بِاسمِكَ الَّذي وَهَبتَه لي" (يوحنا 17: 11)، لكي يحرِّك روح الرَّبّ قلوبهم ليستجيبوا لنداء "يسوع".  صلى يسوع إلى أبيه السَّماوِيّ من اجل هؤلاء التلاميذ المجتمعين حوله والَّذينَ على وشك أن يبتدأ عملهم التبشيري فهم بحاجة إلى نعمة وقُوَّةٍ. صلى من أجلهم كي يحفظهم الرَّبّ في الإيمان والنعمة ويثبِّتوا في الوحدة.

 

  • حفظ التلاميذ

 

حفظهم من فساد العالم:

 

كان على المسيح أن يذهب إلى الآب، بينما هم يجب أن يبقوا في العالَم لإتْمَام مهمة يسوع "كَمَا أَرسَلَتني إلى العالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إلى العالَم" (يوحنا 17: 18).  فصلى يسوع من أجلهم ليحفظهم الله "لَستُ بَعدَ اليَومِ في العالَم وَأمَّا هُم فلا يَزالونَ في العالَم وأَنا ذاهِبٌ إِليكَ. يا أَبَتِ القُدُّوس اِحفَظْهم بِاسمِكَ الَّذي وَهَبتَه (يوحنا 17: 11). ولم يطلب يسوع لهم الغنى، ولا المَجْد الزمني، ولا النصرة الأرضية، لكنَّه طلب من الآب السَّماوِيّ أن يحفظهم في اسمه من الخطيئة والعالَم الشرير، حتى يجتازوا أيام غُربتهم، ويبلغوا إلى حضن الآب.

 

لم يصلِّ يسوع كي يأخذ تلاميذه من العالَم بموتٍ مفاجئٍ سريعٍ كي يعبروا إلى عالم أفضل. هذا ما اشتهاه بعض رجال الله مثل أيوب وإيليا ويونان وموسى عندما ضاق بهم الأمر واشتدت بهم الضيقات والتجارب. لكن السيد المسيح صلى لتلاميذه أن يحفظهم من فساد العالَم، "لا أَسأَلُكَ أَن تُخرِجَهُم مِنَ العالَم بل أَن تَحفَظَهم مِنَ الشِّرِّير" (يوحنا 17: 15). وذلك أن يعهد بهم في حضن الآب، فلا يقترب إليهم الشرير. إنه لم يطلب حفظهم بإزالة التجارب والضيقات من طريقهم، وإنما لينعموا بالنصرة في صراعهم ضد الشرير؛ ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم قائلاً: " أحفظهم من الشرير"، يعني من الشر الأخلاقي، من الرذيلة، وضعف القلب".

 

الشر الذي في العالَم نابع من سيطرت الشيطان على نفوس الناس، كما جاء في تعليم يوحنا الرسول "العالَمُ كُلُّه تَحتَ وَطْأَةِ الشِّرِّير" (1يوحنا 19:5). والمسيح هنا يسأل الآب أن يحفظ تلاميذه من سُلطانٍ الشرير وقوته وتأثيره المخادع، ويعلم تلاميذه أن يصلوا قائلين " نَجِّنا مِنَ الشِّرِّير" (متى 6: 13). 

 

حفظهم في الإيمان والنعمة:

 

صلى يسوع إلى أبيه ليحفظهم في الإيمان، وفي النعمة التي تسلموها فيقيهم من روح العالَم بما فيه من السلطة والشهرة والعظمة (لوقا 22: 24)، ومن سيِّد هذا العالَم (يوحنا 12: 31)، لأنَّه كِبرِياء وجحود. 

 

فالتلميذ بحاجة أن يفسح المجال لله لكي يعمل في داخله. لان المَجْد الحقيقي هو مَجْد من يخدم، ومن يأخذ المكان الأخير، ومن يُقدّم حياته دون الاحتفاظ بأيّ شيء لنفسه على خطى معلمهم يسوع المسيح.

 

وصلاة يسوع لتلاميذه أن لا يكونوا منفصلين عن العالَم بل أن يندمجوا في العالَم حتى يلعبوا دورا نبويًا هامًا فيه. إذ أرسل المسيح تلاميذه نورًا للعالم وملحًا للأرض، لنشر معرفة المسيح. لذلك يجب أن يعيشوا وسط العالَم. لذا ينبغي أن يمارسوا عملهم في العالَم كالخميرة في العجين بفضل قُوَّة ونعمة المسيح الذي تحفظهم من كل شر.

 

ولم يهمل المجمع الفاتيكاني الثاني هذا الدور الهام "إن كهنة العهد الجديد، بموجب دعوتهم وسيامتهم، أصبحوا مفروزين بنوع ما وسط شعب الله، ولكنَّهم لا ليكونوا في عزلة عنه أو عن أي إنسان، وإنما ليكونوا مُكرَّسين كليًا للعمل الذي يدعوهم إليه الرَّبّ: " كَرِّسْهُم بالحَقّ إِنَّ كلِمَتَكَ حَقّ " (يوحنا 17: 15). وإنَّهم لا يستطيعون أن يكونوا خدَّاما للمسيح، إن لم يكونوا شهودًا وموزِّعين لحياة أخرى غير هذه الحَياة الفانية. ولكنهم لن يستطيعوا أن يخدموا الناس، إذا ظلوا غُرباء عن حياتهم وأحوالهم" (المجمع الفاتيكاني في حياة الكهنة وخدمتهم الراعوية، 3).

 

نستنتج مما سبق أن يسوع طلب في صلاته ست بركات لتلاميذه: أن يحفظهم أمناء في الإيمان ونعمته وان ينصرهم على الشر والشرير وان يقدِّسهم وأن يملئهم فرحا وان يقدِّرهم على تمجيده وتمجيد الآب وأخيرًا أن يكونوا معه في المَجْد. 

 

ب) وحدة التلاميذ في الله وفيما بينهم

 

لم يصلِّ يسوع من أجل حفظ تلاميذه من الشرير فحسب، إنما صلى من اجل وحدتهم أيضا. إن موضوع الوحدة شغل قلب السيد المسيح، وها هو يطلبها من الآب "لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد" (يوحنا 17: 11). ويكون اتحادهم انعكاس للوحدة والحب الكائنة بين الآب والابن. فالآب في الابن والابن في الآب وهما واحد بالحب الذي هو طبيعة الله.  يطلب يسوع أن قُوَّة الوحدة التي بينه وبين الآب تعمل في التلاميذ وتوحِّدهم، لأنَّه بدون عمل المسيح والآب والروح القدس لا يستطيع التلاميذ وحدهم أن يتَّحدوا.

 

لِمَا كان الروح القدس هو روح الآب، وروح الابن هو روح الوحدة، إذ يجمع الكل معاً ليعمل الكل في الكل (1قورنتس 12: 4)؛ والروح القدس يهب المحبَّة، وبالمحبَّة يتَّحد التلاميذ معًا بل يتَّحدوا مع الله، فالله طبيعته المحبَّة، ومن هو مملوء بالمحبَّة يستطيع أن يتَّحد بالله، الذي هو محبَّة. لذلك على التلاميذ أن يحافظوا على وحدة الروح، كما يوصي الرَّسول بولس " ومُجتَهِدينَ في المُحافَظَةِ على وَحدَةِ الرُّوحِ بِرِباطِ السَّلام. فهُناكَ جَسَدٌ واحِدٌ ورُوحٌ واحِد" (أفسس 4: 3).

 

يطلب يسوع أن يكون التلاميذ واحدًا، كما أن الآب والابن والروح القدس هم واحد، وهي أقوى كل الروابط. 

وأعظم أمنية يطلبها يسوع لتلاميذه هي أن يكونوا واحدًا. فقد أرادهم أن يكونوا متَّحدين كشهادة قُوَّة لحقيقة محبَّة الله. "فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني" (يوحنا 17: 22).

 

والوحدة ضرورية حتى تُعلن عن طريقها للعالم محبَّة الآب، التي أظهرها الله تعالى ببذل ابنه الوحيد (يوحنا 3: 16) ولكي يُصبح كل البَشَر واحدًا في المسيح "فنَصِلَ بِأَجمَعِنا إلى وَحدَةِ الإِيمانِ بِابنِ اللهِ" (أفسس 4: 13). وعلى هذا الأساس تتحقق أُمنية يسوع السامية: "أيها ألآب، لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد" (يوحنا 17: 22). فيتوجب على تلاميذ المسيح أن ينمُّوا هذه الوحدة، التي تمزِّقها الانشقاقات والبدع والاختِلافات التي تُفرّق وتُبعد عن الرَّبّ، وتُفرّق بين التلاميذ وتُبعدهم عن بعضهم بعضا (1 قورنتس 1: 10)، وتنمو وحدة بين التلاميذ بتجديد إيمانهم الواحد في يسوع المسيح ربنا "هُناكَ رَبٌّ واحِدٌ وإِيمانٌ واحِدٌ" (أفسس 4: 5). الوحدة التي يطلبها المسيح، هي وحدة بين التلاميذ فيما بينهم ثم وحدة بينهم وبينه وبين الآب السَّماوِيّ، وبهذا يبلغ يسوع مَجْده (يوحنا 17: 11، 21)، وأخيراً الامتلاء من الله، كما جاء في تعليم بولس الرسول: "فتَمتَلِئوا بِكُلِّ ما في اللهِ من كَمَال" (أفسس 3: 19).

 

نستنتج مما سبق أن الوحدة ليست علاقات اجتماعية أو ما شابه ذلك، بل هي مؤسَّسة على اتحاد بالمسيح والروح القدس.  والوحدة التي تجمع التلاميذ تكمن في انفصالهم عن العالَم وانجذابهم المُشترك نحو الآب. وهذه الوحدة لا تأتي إلاّ بالالتصاق بالله في صلاة بلا انقطاع بالمسيح وفيه. والمحبّة الإلهيّة وحدها، وليس سواها، هي الّتي تُحطّم الحواجز بين التلاميذ.  لذا صلي يسوع إلى أبيه ليحفظ تلاميذه مجتمعين في محبَّته، وقد اظهر لهم محبَّة الآب، واسمه وقد آمنوا به. فهل نحن نؤمن أن المسيح صلى من أجلنا؟ وإن كان المسيح قد صلى ولا يزال يصلي من أجلنا، فلماذا الخوف من المستقبل المجهول ولماذا لا نتكل عليه، ونعيش في ظل محبَّته لنا ووحدته تعالى والوحدة فيما بينا؟

 

 

الخلاصة

 

قدِّم يسوع الصلاة الكهنوتية للآب أبيه في الهيكل (يوحنا 1:18) في بيت الله، بيت أبيه، بيت الصلاة. رفع الرَّبّ يسوع صلاته من أجل ذاته ومن التلاميذ ومن أجل كنيسته. وفيها نرى علاقة ابن الله بأبيه. وكيف أنهما واحد، جوهر واحد مُتَّحد في كيانٍ واحدٍ.

 

قدَّم السيد المسيح هذه الصلاة قبل تسليم نفسه للموت ذبيحة عن خطايانا، ولذلك فان صلاته تنتهي، وآلامه تبدأ.  إنّه شيء مُعزٍّ لنا، نحن مؤمنين القرن الحادي والعشرين، أن نُفكّر في حقيقة أنّ الرَّبّ يسوع قد صلّى من أجلنا أيضاً، صلّى من أجل إيماننا، ومن أجل وحدتنا.

 

وصلاة يسوع فيها مَجْد للابن وللآب، وللإنسان؛ فقد كان عمل المسيح الذي تمَّمه هو أن يعطي للإنسان مَجْدا. ومَجْد الابن أن نتمتَّع بصليبه فنشاركه أمجاده. ويكشف الصليب هذا المَجْد. نحن نرى، في الصليب، شكلاً جديداً للمحبّة – محبّة غير مشروطة، ومُضحّية، وسخيّة، تتجاوز الإدراك.   

 

وصلاة يسوع فيها مَجْد الآب أيضًا، " إِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحَياة الأَبدِيَّة " (يوحنا 3: 16). الحَياة الأَبدِيَّة هي أكثر من مجرّد زمن لا نهاية له، هي معرفة الرَّبّ، الإله الحقيقي الوحيد، ومعرفة يسوع المسيح، المرسل من قبله. وتتكوّن هذه المعرفة من المحبّة والشركة واختيار الانتماء إلى الله.

 

 

 

دعاء

 

أيها الآب السَّماوِيّ، يا من أرسلت ابنك الوحيد يسوع المسيح لكي يصلي من أجلنا كي تحفظنا من الشرير ونعيش في الوحدة، ضع في قلوبنا الروح القدس لنعمل على تحقيق صلاة الرَّبّ يسوع الأخيرة، ونُحيي الصلاة في جماعاتنا المسيحية وفي بيوتنا كي تكون كنائسنا وبيوتنا بيوت صلاة فتتعزَّز الوحدة في الكنيسة، والمحبَّة في العالَم تمجيدًا الله الآب وأبنه يسوع المسيح مخلصنا.

 

يا رب،

لا نسألك أن تعفيني من التعب، بل أن تمنحنا القُوَّة على عمل ما علينا،

ولا نسألك الخلو من التجارب، بل النعمة لنقوى عليها،

ولا نسألك عدم حلول المصائب، بل التعزية والفرح والثبات في محبَّة الله

ولا نسألك أن تخرجننا من العالَم، بل أن نفيد العالَم مدة بقائنا فيه.