موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٥ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠

رسالة يوحنا المعمدان للعالم: يسوع المسيح

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
رسالة يوحنا المعمدان للعالم: يسوع المسيح

رسالة يوحنا المعمدان للعالم: يسوع المسيح

 

الاحد الثاني من المجيء (مرقس 1: 1-8)

 

النص الإنجيلي (مرقس 1: 1-8)

 

1 بَدءُ بِشارَةِ يسوعَ المسيحِ آبنِ الله: 2 كُتِبَ في سِفرِ النَّبِيِّ أَشَعيا: ((هاءنذا أُرسِلُ رَسولي قُدَّامَكَ لِيُعِدَّ طَريقَكَ. 3 صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وَاجعَلوا سُبُلَه قَويمة)). 4 تَمَّ ذلكَ يَومَ ظَهَرَ يوحَنَّا المَعمَدانُ في البَرِّيَّة، يُنادي بِمَعمودِيَّةِ تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا. 5 وكانَت تَخرُجُ إِليه بِلادُ اليَهودِيَّةِ كُلُّها وجَميعُ أَهلِ أُورَشَليم، فيَعتَمِدونَ عن يَدِه في نَهرِ الأُردُنِّ مُعتَرِفينَ بِخطاياهم. 6 وكانَ يوحنَّا يَلبَسُ وَبَرَ الإِبِل، وزُنَّاراً مِن جِلْدٍ حَولَ وَسَطِه. وكانَ يَأكُلُ الجَرادَ والعَسلَ البَرِّيّ 7 وكانَ يُعلِنُ فيَقول: ((يَأتي بَعدي مَن هو أَقوى مِنيِّ، مَن لَستُ أهلاً لِأَن أَنَحنِيَ فأَفُكَ رِباطَ حِذائِه. 8 أَنا عَمَّدتُكم بِالماء، وأَمَّا هُوَ فيُعَمِّدُكم بِالرُّوحِ القُدُس)).

 

المقدمة

 

يصف مرقس الانجيلي في الاحد الثاني من زمن المجيء رسالة يوحنا المعمدان وشهادته في إعداده لمجيء يسوع وقبوله مسيحا مخلصا وابن الله العلي (مرقس 1:1-8). ويعلق القدّيس أوغسطينوس "كان هنالك نبوءات عن المجيء الأوّل للربّ؛ قبل يوحنا المعمدان، لم نعدْ نَتَنبّأ بهذا المجيء، بل أصبَحنا نعلنُ عنه". (مطالعة ضدّ الدوناطيّة، الكتاب الثاني) فزمن المجيء هو وقت الله هو وقت التوبة والرحمة والنعمة والخلاص، هو الوقت المناسب بأن نهيئ للمسيح الطريق في حياتنا ونفتح وقلوبنا له معلنين توبتنا وإيماننا بيسوع المسح ابن الله الحي مُخلص العالم.  ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته. 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (مرقس 1: 1-8)

 

1 بَدءُ بِشارَةِ يسوعَ المسيحِ آبنِ الله

 

تشير كلمة "بدء" في الأصل اليوناني Ἀρχὴ (معناها البداية) الى خلق جديد وحياة جديدة كما ورد في افتتاح سفر التكوين "في البَدءِ בְּרֵאשִׁית خلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأَرض"(التكوين 1: 1)؛ وتذكِّرنا هذه العبارة في مقدمة إنجيل يوحنا " في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله"(يوحنا 1: 1). كما كانت في البدء كلمة الله، التي بها خلق الله كل شيء من العدم، كذلك توجد الآن الكلمة التي يوجّهها الله إلى ابنه، المسيح، في لحظة دخوله إلى العالم. أنه بمجيء يسوع في العالم، قد ابتدأ تاريخ جديد. أمَّا كلمة "بشارة" في الاصل اليوناني εὐαγγέλιον (معناها " إنجيل" أي بشارة او خبر سار) فتشير الى بشارة الله الذي أعلنها يسوع (مرقس1: 14)، وهذه البشارة هي يسوع نفسه، وهكذا يتلاقى الإعلان والمُعلِن معا.  وردت هذه اللفظة 75 مرة في العهد الجديد، ولها ثلاثة معان ٍ: الأول : الخبر السار بملكوت الله على الأرض "كانَ يسوع يَسيرُ في الجَليلِ كُلِّه، يُعَلِّمُ في مَجامِعِهم ويُعلِنُ بِشارَةَ المَلَكوت" ( متى 4: 23) ؛ والمعنى الثاني خبر يسوع وعمله الفداء شفاهاً وكتابة ً: "اذكُرْ يسوعَ المسيحَ الَّذي قامَ مِن بَينِ الأَموات وكانَ مِن نَسْلِ داوُد، بِحَسَبِ بِشارَتي"( 2 طيموتاوس 2: 8)؛ والمعنى الثالث :  دين المسيح كله "أُذَكِّرُكم أَيُّها الإِخوَةُ البِشارةَ الَّتي بَشَّرتُكم بِها وقَبِلتُموها ولا تَزالونَ علَيها ثابِتين" ( 1قورنتس 15: 1) . ولفظة انجيل هنا لا تدل على السِفر ذاته، بل على محتوياته، أي البشارة السارة للعالم وسرها الخلاصي الذي قدَّمه المسيح للبشر؛ ومرقس هو الإنجيلي الوحيد الذي أعطى لسفره عنوان "إنجيل " ناسبًا إياه ليسوع المسيح ابن الله.  وهذا الانجيل هو نفس البشارة التي أعلنها الرسل بان الخلاص قد تمَّ عبر حياة يسوع المسيح وموته وقيامته كما جاء في رسالة بولس الرسول "مِن بولُسَ عَبْدِ المسيحِ يسوع دُعِيَ لِيَكونَ رَسولاً وأُفرِدَ لِيُعلِنَ بِشارةَ الله"(رومة 1: 1).  فالإنجيل يُعلن خبر حضور الله بيننا، وهكذا لم نَعدْ وحدنا، ان الله يسير معنا.  أمَّا عبارة "يسوع" في الأصل اليوناني ιησους، (مشتقة من اللفظة العبرية יֵשׁוּעַ أي الرب يُخلص) فتشير الى الاسم التاريخي البشري وهو يسوع الناصري، وقد سلم الملاك ليوسف مهمة إعطاء هذا الاسم اسم للولد وكأنه ابوه لا على المستوى الطبيعي بل على المستوى الشرعي (تبنى يوسف الولد). فيسوع، كإبن الله، هو علامة حضور الله الخلاصي في قلب البشرية: إنه المخلص عمانوئيل أي الله معنا. أما عبارة "المسيح " فتشير الى يسوع الذي مسحه الآب بروحه القدوس (متى 1: 1) لتتميم عمل الفداء وإعلان محبة الثالوث القدوس الواقعية خلال الصليب. وفي إنجيل مرقس، بطرس وحده اعترف أنَّ يسوع هو المسيح عندما سأَلَ يسوع رسله: ((ومَن أَنا، في قولِكم أَنتُم؟)) فأَجابَ بُطرس: أَنتَ المسيح" (مرقس8: 29)، أمَّا عبارة "ابن الله" فتشير الى لقب يسوع والذي يدلُّ على بنوَّته للآب، هو كلمة الله الأزليّة، ويُعلق القديس هيلاري أسقف بواتيه "شهد الإنجيلي أن المسيح هو ابن الله حسب الطبيعة اللائقة به، وليس بمجرد الاسم. نحن أبناء الله، لكنه هو ليس ابنا مثلنا، إذ هو الابن ذاته بالطبيعة لا بالتبني، هو الابن بالحق لا بالاسم، بالميلاد لا بالخلقة".  وكشف الله لقب "ابن الله " عند العماد إذ "انطَلَقَ صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت"(مرقس 1: 11)، والشياطين أذاعوا هذا اللقب "وكانتِ الأَرواحُ النَّجِسَة، إِذا رَأَته، تَرتَمي على قَدَمَيه وتَصيح: أَنتَ ابنُ الله! "(مرقس3: 11)؛ ويسوع وافق على هذا اللقب اثناء محاكمته عندما "سأَلَه عظيمُ الكَهَنَةِ: أَأَنتَ المسيحُ ابنُ المُبارَك؟ فقالَ يسوع: أَنا هو "(مرقس 14: 61-62). وقد أعلن قائد المائة هذا اللَّقب بعد موت يسوع على الصليب مصرِّحا "كانَ هذا الرَّجُلُ ابنَ اللهِ حَقّاً! "(مرقس 15: 39). ولأنَّ انجيل مرقس كُتب من اجل المؤمنين في روما، حيث كانوا يعبدون آلهة كثيرة، أرادهم مرقس ان يعرفوا حقيقة شخص يسوع، أنَّه ابن الله الحقيقي الوحيد. وعليه نوى مرقس الانجيلي ان يروي بدء البشارة في التاريخ منذ كرازة يوحنا المعمدان. وكان الهدف من كرازة يوحنا المعمدان إعداد الشعب لقبول يسوع كإبن الله. وهذه الآية هي عنوان لإنجيل مرقس كله علما ان محور رسالة يوحنا المعمدان هو يسوع (اعمال الرسل 1: 22). ولم يفتتح القديس مرقس الإنجيل بعرض أحداث الميلاد أو نسب السيد المسيح كما هو الحال في إنجيلي متى ولوقا، إنما هو يكتب للرومان أصحاب السلطة فقدّم لهم السيد المسيح "ابن الله" صاحب السلطان الحقيقي على النفس -الحياة الداخلية-كما على الجسد أيضًا.

 

2 كُتِبَ في سِفرِ النَّبِيِّ أَشَعيا: ((هاءنذا أُرسِلُ رَسولي قُدَّامَكَ لِيُعِدَّ طَريقَكَ

 

تشير " كُتِبَ " الى ربط مرقس هنا شهادة أشعيا بشهادة يوحنا المعمدان لوحْدة الموضوع مع انه كان بينهما فرق نحو 740 سنة. مصدر الشهادتين واحد وهو روح القدس. فقد كسر يوحنّا الصمت النبوي للقرون السابقة عندما بدأ يتحدّث عن كلمة الربّ إلى شعب إسرائيل.  امَّا عبارة " النَّبِيِّ أَشَعيا " في العبرية יְשַׁעְיָהו (معناه الرب يُخلص) فتشير الى النبي العظيم الذي تنبأ في يهوذا في أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا -ملوك يهوذا. وكان اسم أبيه "آموص" (أشعيا 1: 1) ويقول التقليد العبري أن آموص هذا كان أخ أمصيا ملك يهوذا. وكان ذا ثروة طائلة، وثقافة عالية. ويدل تاريخه على أنه كان يقطن أورشليم، وأنه كان يعرف الهيكل والطقوس التي كانت تجري فيه تمام المعرفة. وفي سنة وفاة عزيا الملك (سنة 740 ق.م. تقريبًا) رأى أشعيا في الهيكل رؤيا فيها وسمع دعوة الله له للعمل النبوي (أشعيا 6: 1-7).  وفي سنة 736 ق.م. تقريبًا وعد أشعيا الملك آحاز بأن الله سيُنقذ يهوذا من الهجوم المزدوج الذي يشنَّه إسرائيل-المملكة الشمالية-وآرام، على يد آشور ولكنه في نفس الوقت أنذر بأن آشور ستُخرِّب يهوذا أيضًا (أشعيا 7). وبما أن آحاز رفض أن يقبل تعاليم النبي أشعيا فقد سلّم النبي شهادته ورسالته لتلاميذه (أشعيا 8: 16).  وخصَّص أشعيا النصف الثاني من سفره لوعد الخلاص. وتنبأ بمجيء المسيح سبع مائة سنة قبل الميلاد ومجيء يوحنا المعمدان، رسول الله المكلَّف بإعداد طريق الرب. أمَّا عبارة "هاءنذا أُرسِلُ رَسولي قُدَّامَكَ لِيُعِدَّ طَريقَكَ" فتشير الى آية مقتبسة من ملاخي النبي (ملاخي 3: 1)، ويطبقها ملاخي على ايليا النبي (ملاخي 3: 23)، وأمَّا مرقس الانجيلي فيُطبقها على يوحنا المعمدان، ايليا الجديد. وقد وعد الله أشعيا النبي بان مخلصا سيأتي وسيَعدَّ يوحنا المعمدان الطريق امامه.  ان العالم فسد فلذلك لم يكن مستعداً لقبول ملاك عهد الرحمة الإلهية ما لم يأتِه ملاك التوبيخ والانذار ليُعد له الطريق.  امَّا عبارة "رَسولي " ففي الأصل اليوناني ἄγγελόν (معناها ملاك) الى يوحنا المعمدان كما قال المسيح " فهذا الَّذي كُتِبَ في شَأنِه: ((هاءَنَذا أُرسِلُ رَسولي قُدَّامَكَ لِيُعِدَّ الطَّريقَ أَمامَكَ " (متى 11: 10)؛ أما عبارة " هاءنذا أُرسِلُ " فتشير الى قول الله الآب. اما عبارة "قُدَّامَكَ " في الأصل اليوناني πρὸ προσώπου σου (معناها امام وجهك) فتشير الى يسوع المسيح الذي سُمِّي في نبوءة ملاخي ملاك العهد ورب الهيكل (ملاخي 3: 1).

 

3 صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وَاجعَلوا سُبُلَه قَويمة

 

تشير الآية "صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وَاجعَلوا سُبُلَه قَويمة" الى اقتباس من النبي أشعيا (أشعيا 40: 3)؛ ويُعلق القديس يوسابيوس القيصري " يبيِّنُ هذا الكلامُ بصراحةٍ ما جاء في النبوءة، وأنَّ ما جاءَ فيها سيتمُّ في الصحراءِ لا في أورشليم. ويبيِّنُ أيضا ما يجب أن يَحدُثَ ليَظهَرَ مجدُ الربِّ، وليَعرِفَ كلُّ ذي جسدِ خلاصَ الله"، جاء المسيح هناك في الصحراء وأظهر مجده للجميع لدى عماده. كما كان من الضروري ان يسبق الامبراطور الروماني شخص يعلن قدومه الى مدينة، فيعرف الناس ان شخصا بارزا على وشك الوصول كذلك بدأ يوحنا المعمدان مهمته بإعلان مجيء يسوع "هاءنذا أُرسِلُ رَسولي قُدَّامَكَ لِيُعِدَّ طَريقَكَ" حيث أنَّ إنجيل مرقس كُتب اساسا للمسيحيين الرومانيين؛ ويضيف القدّيس مكسيمُس الطورينيّ: " ها هو يوحنا المعمدان يصرخ اليوم أيضًا في داخِلنا ورَعْدُ صوتِه يَهُزُّ صحراء خطايانا... وصوتُه ما زال يُدَوّي اليوم، قائلاً: "أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وٱجعَلوا سُبُلَه قويمة". وهو يطلب منَّا أن نُعِدَّ طريقَ الرَّبِّ ليس بشقّ طريقٍ بل من خلال نقاوة إيمانِنا" (العظة 88).  أمَّا عبارة "صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة " فتشير الى تطبيق مرقس الإنجيلي هذه العبارة على يوحنا المعمدان الذي دعا الشعب الى التوبة استعدادا لمجيء المسيح القريب؛ أمَّا عبارة "صَوتُ" فتشير الى صوت يوحنا الذي كان يوجّه نظر الناس ليسوع عن طريق المناداة بالكلام والعظة؛ ويُعلق القديس كيرلس الكبير "كان يوحنا صوتًا لا كلمة، يتقدم المسيح، كما يتقدم الصوت الكلمة"؛ وأمَّا عبارة "البَرِّيَّة" فتشير الى بَرِّيَّة يهوذا الواقعة قرب البحر الميت، والبعض يشير اليها في بَرِّيَّة عين كارم، والبعض في منطقة صحراء الاردن. لم تكن البَرِّيَّة صحراء رملية، ولكن ينقصها الخصب الذي يجعل زرعه مُجدياً.  واختار يوحنا منطقة البَرِّيَّة لإتمام نبوءات العهد القديم التي ذكرت ان يوحنا سيكون " صوت صارخ في البَرِّيَّة (أشعيا 40: 3).  في حين ان لوقا الإنجيلي كتب ان يوحنا المعمدان اقام أولا في البَرِّيَّة (لوقا 1: 8) ثم غادر البَرِّيَّة لينادي في ناحية الأردن، وكان فيها عدد لا بأس فيه من السكان، نتيجة للأبنية التي شيّدها هيرودس الكبير وابنه أرخلاوس (لوقا 3: 3). وتحمل البَرِّيَّة في الكتاب المقدس رنة عميقة. هناك عاش شعب العهد القديم بداية مسيرته مع الرب. والى هناك أراد الرب ان يُعيد شعبه كما قال "هاءَنَذا أَستَغْويها وآتي بِها إِلى البَرِّيَّة وأُخاطِبُ قَلبَها" (هوشع 2: 16). وأمَّا عبارة " أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وَاجعَلوا سُبُلَه قَويمة " فتشير الى نصوص بابلية تتكلم بألفاظ مماثلة على طرق يُقام فيها الطواف او يُحتفل بالانتصار للإله او الملك الظافر. والنبي أشعيا يقصد بهذه العبارة الطريق الذي يقود الرب شعبه عبر البَرِّيَّة في الخروج من مصر (أشعيا 10: 25-27). وأمَّا مرقس الانجيلي يُطبّق هذه العبارة على مجيء المسيح المنتظر. فهذه الآية تُظهر طبيعة رسالة يوحنا المعمدان، وهي إعداد الطريق لمجيء المسيح المنتظر الذي يُعدَّ له يوحنا الطريق. وإعداد الطريق لمجيء المسيح هي تهيئة خلقية وروحية بواسطة خدمة يوحنا المعمدان التي شدّدت على التوبة وغفران الخطايا والحاجة الى مخلص.  وكانت كلمات أشعيا مصدر تعزية لأناس كثيرين الذين كانوا يتطلعون الى مجيء المسيح.  ويعلق الأب ثيوفلاكتيوس" أن طريق الرب هو إنجيله أو العهد الجديد، أمَّا سبله فهي النبوات التي تقودنا إليه، فكأن غاية يوحنا المعمدان أن نتقبل إنجيل الرب خلال الإدراك المستقيم لنبوءات العهد القديم ورموزه".

 

4 تَمَّ ذلكَ يَومَ ظَهَرَ يوحَنَّا المَعمَدانُ في البَرِّيَّة، يُنادي بِمَعمودِيَّةِ تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا

 

تشير عبارة "تَمَّ ذلكَ يَومَ ظَهَرَ" الى بدء كرازة يوحنا المعمدان في سنة 26 ب. م. ومن المرجح أنها كانت السنة السبتية مما مكّن الشعب الذي كان منقطعًا عن العمل، من الذهاب إليه في غور الأردن؛ إذ يبدأ إنجيل مرقس معلنا رسالة يوحنا المعمدان دون ذكر خبر طفولته.  فذكر مرقس يوحنا المعمدان متمما للنبوءتين السابقتين (مرقس 1: 1، 2) وجعل كرازته مقدمة لإنجيل يسوع وجزءً منه. أمَّا عبارة "يوحَنَّا " في الأصل اليوناني Ἰωάννης (لفظة مشتقة من العبرية יוֹחָנָן ومعناها الله حنون) فتشير الى يوحنا المعمدان الذي وُلد تقريبا سنة 7 ق. م. وهو ابن زكريا الكاهن وأليصابات ونسيب ليسوع، دُعي وكُرِّس منذ ولادته ليكون سابق المسيح (لوقا 1: 5 -25 و57 – 85). وتقول التقاليد أنه ولد في قرية عين كارم المتصلة بأورشليم من الجنوب (لوقا 1: 39)، وكان أبواه يسكنان اليهودية، يطَّا القريبة من حبرون(الخليل)، مدينة الكهنة. وكانا محرومين من بركة النسل فانعم الله عليهما بابن في شيخوختهما أسمياه يوحنا؛ وأن مصدر عظمته الشخصية هو امتلاؤه من الروح القدس، ومصدر عظمته الوظيفية يكمن في انه مُعدَّ لطريق الرب، ومتممًا النبوة التي كان يتوق إليها كل يهودي، وهي أن إيليا، يأتي قدام المسيح، ويهيئ للرب شعبًا مستعدًا " إِن شِئتُم أَن تَفهَموا، فهُو إِيلِيَّا الَّذي سيَأتي. (متى 11: 14). ونراه في رجولته ناسكًا زاهدًا على خطى إيليا النبي؛ وهناك تقارب بين ما نادى به إيليا وما نادى به يوحنا؛ والتشابه ايضا في مظهرهما الخارجي ولبسهما ومعيشتهما واضح للعيان من مقارنة قصة حياتهما. ويُقال أنّ يوحنا المعمدان، كان لمُدّة من الزمن أحد اعضاء ألأسّينِيّين الذين اتخذوا مركزهم خربة قمران قرب بحر الميت. وحوالي نهاية سنة 27 أو مطلع سنة 28 ب.م. أمر هيرودس انتيباس رئيس الربع بزجه في السجن في مكاور لأنه وبَّخه على فجوره (لوقا 3: 19 -20). وبعد ثلاثة أشهر امر بقطع رأسه حسب رغبة هيروديا وابنتها سألومه؛ ويقول ايرونيموس "ان تلاميذه حملوه إلى سبسطية ودفنوه هناك بجانب ضريح اليشاع وعوبديا".   ويذكره القرآن الكريم باسم يحيى" المُغَطِّس: "يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا" (سورة مريم 7:19). أمَّا عبارة " ظَهَرَ يوحَنَّا المَعمَدانُ في البَرِّيَّة " فتشير الى إتمام نبوءات العهد القديم التي ذكرت ان يوحنا سيكون" صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة" (أشعيا 40: 3)؛ أمَّا فعل "ينادي" κηρύσσων  ( معناها يكرِز) فيشير الى المناداة باسم الملك (التكوين 41: 43)، وانتقل المعنى على الصعيد الديني، وهو المناداة باسم الله (يوئيل 2: 1). وهي المناداة العلنية بإعلان البشارة، والبشارة في المفهوم المسيحي هي الكرازة بمجيء يسوع المسيح على الأرض موجّهة الى جميع الناس (لوقا 2: 1)، وهذه البشارة هي عمل الله في يسوع المسيح. وهذا الاعلان هو مُهمة الرسل كما صرّح بولس الرسول "فقَد لَقِينا في فيلِبِّيَ العَذابَ والإِهانَةَ كما تَعلَمون، ولكِنَّنا جَرؤْنا، لِثِقَتِنا بِإِلهِنا، أَن نُكلِّمَكم بِبِشارةِ الله في جِهادٍ كَثير"(1 تسالونيقي 2: 2). فقد نادى يوحنا المعمدان الشعب بمعمودية التوبة، ودعا الناس الى قبولها وطالب الناس ان يقوِّموا حياتهم، ويتخلّوا عن طرقهم الانانية، ويتركوا خطاياهم، ويطلبوا المغفرة من الله. وهذا يسترعي الانتباه بأن البشرى السارة عن مجيء المسيح بدأت بانتفاضة دينية، وليس بثورة سياسية كما ينْتظر عادة.  والمناداة بالبشارة هي من لغة المسيحية القديمة (1 تسالونيقي 2: 9)، وقد أطلقها لوقا الإنجيلي على مناداة يسوع الأولى العلنية (لوقا 4: 18-19) وعلى تبشيره العادي (لوقا 4: 44) وعلى تبشير الرسل (لوقا 9: 2) وتبشير بولس الرسول (اعمال الرسل 9: 20) وسائر المرسلين (لوقا 8: 39). أمَّا كلمة "معمودية" فهي تستعمل في العهد الجديد على ثلاث دلالات: تشير اولا الى الاغتسال الذي يُمارسه اليهود للتطهير من النجاسات الطقسية كما ورد في الانجيل "وإذا رجَعوا مِنَ السُّوق، لا يَأكُلونَ إِلاَّ بَعدَ أَن يَغتَسِلوا بِإِتْقان. وهُناكَ أَشياءُ أُخرى كَثيرةٌ مِنَ السُّنَّةِ يَتمسَّكونَ بها، كَغَسْلِ الكُؤُوسِ والجِرارِ وآنِيَةِ النُّحاس"(مرقس 7: 4)؛ والدلالة الثانية هي معمودية يوحنا وهي معروضة لجميع الناس وليس لليهود فقط ولا تُمنح الا مرّة واحدة، وكان الشخص المُعَّمد قد قرَّر تغيير حياته متخلّيا عن حياة الخطيئة والأنانية وعائدا الى الله، وهي معمودية التوبة وتقوم بضع الماء على الشخص إشارة الى توبته عن الخطيئة وكرهه إياها وإصلاح سيرته. وبالتالي تُعدُّ هذه المعمودية الناس لعطية الملكوت، وهي عطية معمودية السيد المسيح "أنا عَمَّدتُكم بِالماء، وأَمَّا هُوَ فيُعَمِّدُكم بِالرُّوحِ القُدُس"(مرقس 1: 8). أمَّا الدلالة الثالثة فتشير الى معمودية يسوع؛ وهي ترتبط بموت المسيح وقيامته " وهي رَمزٌ لِلمَعْمودِيَّةِ الَّتي تُنَجِّيكُم ُالآنَ أَنتم أَيضًا، إِذ لَيسَ المُرادُ بِها إِزالَةَ أَقْذارِ الجَسَد، بل مُعاهَدةُ اللهِ بضميرٍ صالِح، بِفَضْلِ قِيَامَةِ يسوعَ المسيح" (1بطرس 3: 21)، وتحتوي على التحوّل الباطني " توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات" (متى 3: 2)، وتهدف الى مغفرة الخطايا. وهي هبة من ملكوت الله المُعلن عنه. أمَّا كلمة " التوبة " في الأصل اليوناني (μετάνοια) (معناها تغيير في العقلية، في النظر الى الأمور وتغيير في القلب ثم في العمل) فتشير في العهد الجديد الى معنى أعمق وهو رجوع الانسان متعمدا الى نفسه وينتج عنه تغيير في السلوك (لوقا 3: 1-20).  وهي تدلُّ على موقف به يتحوّل الانسان من الخطيئة الى البِرِّ، وتبديل الحياة والانفتاح على ذاك الذي يُهيئ له يوحنا الطريق، وعودة غير مشروطة الى المسيح. وعلامة التوبة هي قبول المعمودية من يد يوحنا.  ومن هنا يُستدل على ان يوحنا كان يقف في خط الانبياء الذين نادوا بالتوبة (هوشع 5: 3-4). وقد بدأ يوحنا يكرز بالتوبة في منطقة الاردن مستخدما المعمودية علامة للتوبة متمِّما بذلك نبوءة أشعيا "أغتَسِلوا وتَطَهَّروا وأَزيلوا شَرَّ أَعْمالِكم مِن أَمامِ عَينَيَّ وكُفُّوا عنِ الإِساءَة"(أشعيا 1: 16). وهذه التوبة هي استعداد لنوال، وهي تُعدُّ الناس لعطيَّة الملكوت.  أمَّا عبارة "غُفرانِ الخَطايا" فتشير الى تبدُّل القلب، والاقرار بالخطايا والانطلاقة في حياة جديدة. وتوضِّح هذه الآية ماهية خدمة يوحنا المعمدان الاعدادية وتأثيرها ورسالته وقوتها الأدبية، وهي" ِمَعمودِيَّةِ تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا" لإعداد قلوب الناس لملاقاة المسيح.

 

5 وكانَت تَخرُجُ إِليه بِلادُ اليَهودِيَّةِ كُلُّها وجَميعُ أَهلِ أُورَشَليم، فيَعتَمِدونَ عن يَدِه في نَهرِ الأُردُنِّ مُعتَرِفينَ بِخطاياهم

 

تشير عبارة " بِلادُ اليَهودِيَّةِ كُلُّها " الى كل سكان اليهودية (متى 3: 5) ومن جملة من خرج الى يوحنا المعمدان الفريسيون والصدوقيون (متى 3: 7) والعشَّارون (لوقا 3: 12) واغنياء وفقراء (لوقا 3: 10)، وتشير هذه العبارة أيضا الى أرض يهوذا بما فيها الجليل (لوقا 7: 17) مما يدل على الاهتمام الكبير الذي لقيته كرازة يوحنا في العالم اليهودي. اما عبارة " وجَميعُ أَهلِ أُورَشَليم " فتسر الى ترك أهل أورشليم الهيكل والذبائح لأنها لم تعد تروي ظمأ الحياة. ويخرجون إلى البرِّية حيث يصدح صوت يوحنا المعمدان الذي يدعو الى التوبة والاعتراف بالخطايا ونيل المغفرة.  أمَّا عبارة "فيَعتَمِدونَ " فتشير الى عماد يوحنا المعمدان الذي يُعطى مرة واحدة، ويُعطى للجميع، وبالتالي يتميَّز عن الاغتسال الطقسي اليهودي، وبما انه يرتبط بالتوبة، فهو يُهيَّأ للمعمودية التي حملها يسوع "أنا أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة، وأمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار"(متى 3: 11). أمَّا عبارة "نَهرِ الأُردُنِّ " فتشير الى أكبر نهر في فلسطين الذي يفصل بينها وبين الأردن، وينبع من جبل الشيخ (حرمون)، وله أربعة روافد: الرافد الشرقي في بانياس، والرافد الأوسط وهو تل القاضي (دان)، وهو أكبر الروافد جميعًها، والرافد الشمالي هو نهر الحاصباني. والرافد الغربي هو نبع براغيث، أصغر هذه الروافد. ويخترق نهر الاردن بحيرة الحولة وبحيرة طبرية ويصب في البحر الميت.  ويبلغ طول المسافة بين الطرف الجنوبي لبحيرة طبرية إلى البحر الميت تبلغ نحو 105 كم. واما طوله الإجمالي نحو 251 كم، وقد وقعت هناك الاحداث الهامة في تاريخ شعب العهد القديم. فعند نهر الأردن جَدّد هذا الشعب عهدهم مع الله (يشوع 1، 2) ودعاهم يوحنا المعمدان في نفس المكان ان يفعلوا نفس الشيء. أمَّا عبارة "مُعتَرِفينَ بِخطاياهم" فتشير الى اعتراف الانسان بخطاياه بالقول، لا بمجرد القيام بالحركة كرتبة التكفير (أحبار 5: 5). فكان الناس يُقرّون بخطاياهم بفَمِهم، وفي الوقت عينه يغتسلون كعلامة خارجية رمزية للتوبة. نشير هنا ان العهد القديم عرف الاعتراف بالخطايا الذي يدلُّ على عودة الانسان الى الله للحصول على الغفران. ويعبّر الاعتراف عن التوبة الى الله لنيل الغفران كما يؤكد ذلك صاحب المزامير: "ْأَبَحتُكَ خَطيئَتي وما كَتَمتُ إِثْمي"(مزمور 32: 5). وحافظت الكنيسة على هذا الإقرار بالخطايا (الاعتراف) منذ انطلاقتها الأولى مع بطرس الرسول الذي دعا المؤمنين الى التوبة والعماد لتُغفر خطاياهم "توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس" (أعمال الرسل 2: 38). يُبين مرقس الإنجيلي في هذه الآية كيف يقبل الناس معمودية التوبة.

 

6 وكانَ يوحنَّا يَلبَسُ وَبَرَ الإِبِل، وزُنَّاراً مِن جِلْدٍ حَولَ وَسَطِه. وكانَ يَأكُلُ الجَرادَ والعَسلَ البَرِّيّ

 

 تشير عبارة " وَبَرَ الإِبِل " الى جلد الإبل فكان يوحنا شبيه بإيليا النبي في ملابسه (2 ملوك 1: 8) وهو لباس الأنبياء (زكريا 13: 4) وذلك ليُميِّز بينه وبين القادة الدينيِّين الذين كانت ثيابهم الفَضْفاضة الكبيرة الطويلة تعكس كبرياءهم العظمية في مراكزهم.  وقد رأى يسوع إيليا في شخص يوحنا المعمدان "إِنَّ إِيلِيَّا قد أَتى، فلَم يَعرِفوه، بَل صَنَعوا بِه كُلَّ ما أَرادوا ...فَهِمَ التَّلاميذُ أَنَّه كَلَّمهم على يُوحَنَّا المَعمَدان" (متى 17: 12-13). اما عبارة "زُنَّاراً مِن جِلْدٍ حَولَ وَسَطِه." فيعلق عليها القدّيس مَكسيمُس الطورينيّ " إنّ حزام الجلد يعني أنّ جسدنا الضعيف، المائل نحو الرذيلة قبل مجيء المسيح، سوف يقوده الرّب نحو الفضيلة" (العظة 88). وأمَّا عبارة "الجَرادَ والعَسلَ البَرِّيّ " فتشير الى طعام يوحنا المعمدان وهو طعام الفقراء الذين يعيشون في البَرِّيَّة (الاحبار 11: 21-22)، ومن هذا المنطلق فإن ملابس يوحنا وطعامه كانت تدل على الزهد والتخلي عن اهتمامات العالم.

اما عبارة " الجَرادَ " في الأصل اليوناني ἀκρίδας فيشير الى نوع من الحشرات من فصيلة الجندب مشهور بكثرة عدده وشدة شراهته. والنوع المذكور بكثرة في الكتاب المقدس هو النوع الاعتيادي المسمّى باللاتينية Oedipoda Migratoria. وصفه: طول الواحدة منها 5سم أو أكثر لها أربعة أجنحة، الاماميان أضيق والخلفيان واسعان شفافان، وللواحدة ست أرجل تمشي على أربع، وتقفز باثنين. وللجراد فم قارض يقرض أوراق الشجر والأعشاب والبراعم والزهور والثمار، وكان الجراد يعتبر في الشريعة من الحشرات الطائرة (لاويين 11: 21 و22). كان يوحنا المعمدان يأكله ولا يزال يؤكل في بعض بلدان الشرق (متى 3: 4) وغالباً كان الاسينيون يأكلونه، وكيفية أكله هو أن تقطع أرجله وأجنحته ورأسه وتنزع أمعاؤه ويسوى اللحم الباقي على نار هادئة، وقد يقلى في الزيت أو يجفف في الشمس ويسحق، ثم يحفظ إلى حين الحاجة فيستعاض به عن الدقيق. امَّا عبارة " العَسلَ " فتشير الى نتاج النحل، الذي يأوي إلى الاشجار وشقوق الصخر. وورد ذكره في الكتاب المقدس في مواضع متعددة، منها عن استعماله كطعام، مع اللبن والزبد (2 صموئيل 17: 29 وأشعيا 7: 15). ويعلق القدّيس مَكسيمُس الطورينيّ على ملابس وطعام يوحنا بقوله " أيَّ علامة للتواضع لدى نبيّ أكبر من احتقار الملابس الناعمة وارتداء الوبر الخشن؟ أي علامة للإيمان أعمق من أن يكون المرء دائم الجهوزيّة للخدمة، وزنّاره حول وسطه؟ هل هناك علامة عن العفّة أكثر إشعاعًا من التخلّي عن ملذّات الحياة ليكون الطعام جرادًا وعسلاً بريًّا؟ " 


7 وكانَ يُعلِنُ فيَقول: ((يَأتي بَعدي مَن هو أَقوى مِنيِّ، مَن لَستُ أهلاً لِأَن أَنَحنِيَ فأَفُكَ رِباطَ حِذائِه

 

 تشير عبارة "يَأتي بَعدي مَن هو أَقوى مِنيِّ" الى يسوع المسيح الذي هو أعظم من يوحنا المعمدان بالرغم من ان يوحنا المعمدان يعتبر اول نبي بعد اربعمائة سنة، أي بعد ملاخي النبي الذي كتب آخر أسفار العهد القديم.  فالأقوى يأتي في الأخير؛ أمَّا عبارة "مَن هو أَقوى مِنيِّ" فتشير الى صفة الله في العهد القديم (دانيال 9: 4) والى المسيح المنتظر في العهد الجديد أيضا، وتدل هنا على شهادة يوحنا على قوة المسيح، والقوة هي من صفات المسيح المنتظر (أشعيا 11: 2)، وستظهر هذه القوة في مقاومة يسوع للشيطان (مرقس 3: 27). ويُعلق القديس أمبروسيوس " لا يوجد من هو أقوى من المسيح، دليل ذلك أن يوحنا لم يشأ أن يقارن نفسه بالمسيح بقوله: لَستُ أهلاً لِأَن أَنَحنِيَ فأَفُكَ رِباطَ حِذائِه"؛ والجدير بالذكر ان الرومان يُحبُّون القوة فنجد إنجيل مرقس يُصوِّر لهم المسيح القوي، بل الذي يعطي للمؤمنين به قوة "والَّذينَ يُؤمِنونَ تَصحَبُهم هذهِ الآيات: فبِاسْمي يَطرُدونَ الشَّياطين، ويَتَكَلَّمون بِلُغاتٍ لا يَعرِفونَها، ويُمسِكونَ الحَيَّاتِ بِأَيديهِم، وإِن شَرِبوا شَراباً قاتِلاً لا يُؤذيهِم، ويضَعونَ أَيديَهُم على المَرْضى فَيَتَعافَون"(مرقس 17:16-18)؛ أمَّا عبارة "مَن لَستُ أهلاً لِأَن أَنَحنِيَ فأَفُكَ رِباطَ حِذائِه" فتشير الى يوحنا  الذي اعتبر نفسه خادما غير مستحق ان يكون عبد للمسيح؛ أمَّا المسيح فقد قال عن يوحنا المعمدان أنه " لَيسَ في أَولادِ النَّساءِ أَكبَرُ مِن يوحنَّا " (لوقا 7: 28)؛ أما عبارة " أَنَحنِيَ "  فتشير الى  طَأْطَأَة  رَأْسَ يوحنا المعمدان أَمامَ يسوع  إِجْلالاً وَاحْتِراماً، وهي إضافة ما قاله لوقا ويوحنا البشيرَين. وأمَّا عبارة "أَفُكَ رِباطَ حِذائِه " فتشير الى ربط الحذاء او حلّه الذي هو كان من اعمال العبيد (يوحنا 13: 4-17) ذاك هو موقف يوحنا امام يسوع. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " اليد التي أكد يوحنا المعمدان أنها غير مستحقة أن تمس حذائه وضعها المسيح على رأسه "، وفي الواقع ما بدأ به يوحنا أكمله يسوع، وما اعدَّه يوحنا أتمَّه يسوع. اتى يسوع ليغفر الخطايا بالحقيقة، وهو دور الذي لا يقدر على إدائه وإتمامه سوى يسوع المسيح، ابن الله.

 

8 أَنا عَمَّدتُكم بِالماء، وأمَّا هُوَ فيُعَمِّدُكم بِالرُّوحِ القُدُس

 

تشير عبارة "أَنا ...، وأمَّا هو" الى تشديد يوحنا الى الفرق بين معموديته بالماء ومعمودية المسيح بالروح القدس. أمَّا عبارة "أَنا عَمَّدتُكم بِالماء " فتشير الى معمودية يوحنا بالماء أعدت الناس لقبول رسالة يسوع، وكانت معمودية يوحنا فقط بالماء، وفقط للبالغين الخاطئين، تغطيساً استعداديّاً لمجيء المسيح المنتظر، وهي معمودية التائبين. وأخذ يسوع تلك المعمودية ليعطينا المثال الصالح متمِّما بالتواضع "كل بِرّ". أمَّا عبارة " هُوَ فيُعَمِّدُكم بِالرُّوحِ القُدُس " فتشير الى معمودية يسوع التي تقوم على ارسال الروح القدس الى كل مؤمن.  يسوع لا يُعمّد بالماء، بل بالروح القدس. إنّها معموديّة ذات طبيعة إلهيّة، وليست بشريّة. وهي ليست معمودية توبة فقط للكبار بل هي ميلاد جديد للصغار والكبار. وتنتهي رسالة يوحنّا لحظة بداية رسالة يسوع. وتهدف معمودية يوحنا الى التوبة، أي الارتداد عن الخطيئة وسلوك طريقاً جديداً للحياة بحسب كلمة الربّ. وتهدف معموديّتنا في يسوع المسيح بالماء والروح الى ميلاد جديد ودخول إلى ملكوت الربّ كأبنائه المحبوبين " الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكَ: ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَدخُلَ مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِنَ الماءِ والرُّوح" (يوحنّا 3: 5). ويريد مرقس الانجيلي بمعمودية الروح القدس ان يُشدِّد على عمل الخلاص الذي افتتحه يسوع بالروح القدس ليُطهرنا من الخطايا ويُقدّسنا. وقد سلَّم يسوع مهمة التعميد بالروح القدس الى الرسل كما ورد على لسانه بعد القيامة: " بِأَنَّ يوحَنَّا قد عَمَّدَ بِالماء، وأمَّا أَنتُم ففي الرُّوحِ القُدُسِ تُعَمَّدونَ بَعدَ أَيَّامٍ غَيرِ كثيرة" (اعمال الرسل 1: 5).

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 1: 1-8)

 

  بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (مرقس 1: 1-8)، نستنتج انه يتمحور حول بشارة يوحنا المعمدان وشهادته عن يسوع المسيح ابن الله.

 

1) بشارة يوحنا المعمدان عن يسوع: "المسيحِ ابنِ الله "(متى 1: 1)

  

في مطلع إنجيل مرقس يظهر يوحنا المعمدان في البَرِّيَّة، وهو يُبشِّر بانَّ يسوع هو المسيح ابن الله. "بِشارَةِ يسوعَ المسيحِ ابنِ الله "(متى 1: 1). ليس هذا بعنوان، بل هو الجملة الأولى التي يبدأ بها إنجيل مرقس، ولم يكن الانجيل في ذلك الوقت كتابا، بل البشرى التي يُكرز بها فيتقبلها المسيحيون في الايمان، وهذا ما يؤكده بولس الرسول "إِنِّي لا أَستَحيِي بِالبِشارة، فهي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن"(رومة 1: 16). فالبشرى يُكرز بها، ونقبلها بالإيمان.

 

واختار مرقس ان يبدأ انجيله في مقاصد الله المتعلقة بخلق الانسان وفدائه بعد السقوط بواسطة موت ابنه يسوع المسيح، وذلك بخلاف متى الإنجيلي الذي ابتدأ بذكر نسب المسيح (متى 1: 1-16)، وبالخلاف لوقا الإنجيلي الذي ابتدأ بذكر ميلاد المسيح (لوقا 2: 1-7)، وبالخلاف يوحنا الذي ابتدأ بذكر الكلمة الازلية قبل أنشاء العالم (يوحنا 1: 1-18).  يُبشرنا مرقس الانجيلي أن يسوع هو المسيح الموعود، المُرسَل من عند الربّ، ذاك الّذي وُعد به كملك من سلالة داود، والّذي سيحقّق كتب الأنبياء. ثم يقول أيضاً أن هذا الإنسان هو ابن الله وأنّه هو الرب نفسه.  ومن هذا المنطلق ليسوع لقبين هما: المسيح وابن الله.

 

(ا) يسوع هو المسيح

 

المسيح في اليونانية Χριστός مشتقة من العبرية הַמָּשִׁיחַ المشيح، الذي أنبأ به الأنبياء ومهّدوا له السبيل، ومنهم يوحنا المعمدان في الزمن الذي دوّن فيه مرقس إنجيله، وكان هذا اللقب يُعبّر عن إيمان الكنيسة بيسوع. والمسيح في الأصل هو الممسوح بالزيت من اجل خدمة معيَّنة. ويُمسح الملك (1 صموئيل 16: 10) والكاهن (خروج 40: 13-15) والنبي، ولكن الشعب لم ينتظر مسيحا مثل سائر المسحاء، بل انتظر المسيح. وفي المسيحية، المسيح هو الكلمة المتجسدة والمتألم والقائم من بين الأموات.   وكتب متى الإنجيلي إنجيله الى اليهود فبينَّ لهم ان يسوع هو المسيح الموعود في نبوءات العهد القديم باقتباس خمسا وسبعين نبوءة تمَّت به.

 

وفي إنجيل مرقس ورد مرة واحدة حقيقة ان يسوع هو المسيح، وذلك لمّا شهد بطرس بان يسوع هو المسيح في قيصرية فيلبس جوابا لسؤال يسوع "ومَن أَنا، في قولِكم أَنتُم؟)) فأَجابَ بُطرس: ((أَنتَ المسيح" (مرقس 8: 29)، فباسم التلاميذ أجاب بطرس. وهي المرة الأولى الذي يظهر هذا اللقب منذ بداية انجيل مرقس. هذا هو الجواب الذي توصّل اليه التلاميذ، وهو الجواب لسؤال طرحه التلاميذ على أنفسهم بعد تسكين العاطفة "مَن تُرى هذا حتَّى تُطيعَه الرِّيحُ والبحر؟ " (مرقس 4: 41).  ولكن يسوع أرغمهم حالا على السكوت "فنَهاهُم أَن يُخبِروا أَحَداً بِأَمرِه" (مرقس 8: 30)، لان هذا السر المسيحاني مرتبط مع اعلان الآلام والقيامة حيث ان يسوع له رسالة يجب ان يتمِّمها، والى ذاك الوقت يجب الاّ يُعلن انه المسيح. فقد جاء المسيح الى الأرض كالعبد المتألم، ولكنه سيأتي ثانية كالملك الديَّان ظافرا على كل الأرض.

 

 ولم يقبل يسوع بهذا اللقب إلاّ خلال محاكمته لما سأَلَه عظيمُ الكَهَنَةِ قالَ له" أَأَنتَ المسيحُ ابنُ المُبارَك؟ فقالَ يسوع: أَنا هو. وسَوفَ تَرونَ ابنَ الإنسانِ جالِساً عن يَمينِ القَدير، وآتِياً في غَمامِ السَّماء" (مرقس 14: 61). عندئذٍ قبل يسوع لقب "المسيح" للدلالة على نفسه، ولكنه يضيف “وسَوفَ تَرونَ ابنَ الإنسانِ جالِساً عن يَمينِ القَدير، وآتِياً في غَمامِ السَّماء" (مرقس 14: 62).  ينسب يسوع لنفسه عرشا سماويا ليمارس دينونة تشمل الكون كله. انه يجلس عن يمين الله فيقاسم الله صلاحياته الإلهية ووظائف محفوظة له تعالى. وهكذا صرَّح يسوع انه المسيح بصورة مباشرة وبصورة غير مباشرة؛ وفي انجيل مرقس كان جواب يسوع مباشرا واضحا " أَنا هو" (مرقس 14: 61)؛ أمَّا في إنجيل متى فجواب يسوع كان غير مباشر "هو ما تقول" (متى 26: 64)، وأوضح يوحنا ذلك بقوله " قالَ يسوع إِنَّ اللهَ أَبوهُ، فَساوى نَفْسَه بِالله" (يوحنا 5: 18).

 

(ب) يسوع هو ابن الله

 

كتب مرقس إنجيله الى الامم فأخذ يُبيِّن لهم ان يسوع ابن الله وسمَّاه كذلك. وبرهن على ذلك بأعمال يسوع الخارقة الطبيعة فيما اظهره من المعجزات واعمال الرحمة. وليس المراد بكون المسيح ابن الله انه مخلوق او مجرد الحبيب اليه بل المراد به ان جوهر الابن هو جوهر الآب، وانه مساوٍ له في القدرة والمجد "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت" (متى 3: 17).

 

 ولم يوحي الله في انجيل مرقس انَّ يسوع هو المسيح المنتظر فحسب، بل أوحى أيضا أنه ابن الله، وأكَّد ذلك في أثناء عماده "انطَلَقَ صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت"(مرقس 1: 11). هذا هو وحي إلهي يعلمنا منذ البداية بان يسوع هو ابن الله حقا. لكن الناس يتساءلون حول ذلك والشياطين يعرفون.  إذ يعلن يسوع تعليمه في ملكوت الله ويُعطي علامات لهذا لملكوت بأقواله وأفعاله، ولكنه لم يتكلم عن شخصه (مرقس 1: 14-15)؛ ولما شفى الرجل الذي فيه روح نجس في مجمع كفرناحوم صاح الشيطان "ما لَنا ولكَ يا يَسوعُ النَّاصِريّ؟ أَجِئتَ لِتُهلِكَنا؟ أَنا أَعرِفُ مَن أَنتَ: أَنتَ قُدُّوسُ الله" (مرقس 1: 24). الله وحده قدوس وقداسته تشمل كل ما هو له او ما كُرِّس له: يسوع هو قدوس الله بكل معنى الكلمة، لأنه المسيح ابن الله.

 

 وأعلن الله بانَّ يسوع هو ابن الله أيضا عند التجلي "انطَلَقَ صَوتٌ مِنَ الغَمامِ يَقول: هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب، فلَهُ اسمَعوا "(مرقس 9: 7)، هذا الإعلان يستعيد إعلان العماد. والصوت هو صوت الله. فلا مجال الى الالتباس. ويذكّر هذا الإعلان للبنوة الإلهية بالإعلان نفسه عند اعتماد يسوع (متى 17: 5).

 

وعبارة الابن الحبيب تعني الابن الوحيد الذي يرتبط بالآب بعلاقة لا مثيل لها، بعلاقة لا يُمكن ان تكون لأي إنسان.  في العماد وُجِّه الصوت الى يسوع: انت هو ابني الحبيب. وفي انجيل مرقس، لم يكن أحد حاضرا او شاهداً. كان الوحي سرِّياً موجّه الى يسوع. أمَّا هنا في التجلي فوُجّهت كلمة الله الى التلاميذ الثلاثة: وهي وحي خاص منحه الله لثلاثة شهود فقط، وهذا الوحي هو سري أيضا كما اوصاهم يسوع بعد التجلي "بَينَما هم نازِلونَ مِنَ الجَبَل أَوصاهم أَلاَّ يُخبِروا أَحداً بِما رَأَوا، إِلاَّ متى قامَ ابنُ الإِنسانِ مِن بَينِ الأَموات" (مرقس 9: 9). نحن أمام سر الى ان يتحقق برنامج الآلام والقيامة. ونبوءة يسوع حول سر موته وقيامته لا يُفهم إلاّ عندما يتم مشروع الخلاص.

 

 ومنذ ذلك الوقت لا يتلفظ إلاَّ الشياطين بلقب "ابن الله". لانَّ الشياطين كانوا يعرفون يسوع على حقيقته: انه هو ابن الله، واخذوا يذيعونه "وكانتِ الأَرواحُ النَّجِسَة، إِذا رَأَته، تَرتَمي على قَدَمَيه وتَصيح: َأنتَ ابنُ الله!"(مرقس 3: 11)، لكن هذا الامر يجب ان يبقى سرّاً، لذلك "كانَ يَنهاها يسوع بِشِدَّةٍ عن كَشْفِ أَمرِه" (مرقس 3: 12).

 

 الشياطين يعرفون ان يسوع هو ابن الله والناس لا يعرفون وكانوا يتساءلون: من هذا؟  بعد ان شفى يسوع الرجل النجس في كفرناحوم، وكشف عن سلطانه " دَهِشوا جَميعاً حتَّى أَخذوا يَتَساءَلون: ما هذا؟ إِنَّهُ لَتعليمٌ جَديدٌ يُلْقى بِسُلْطان! حتَّى الأَرواحُ النَّجِسَةُ يأمُرُها فَتُطيعُه" (مرقس 1: 27). وبعد ان سكَّن يسوع العاصفة، قال التلاميذ فيما بينهم "مَن تُرى هذا حتَّى تُطيعَه الرِّيحُ والبحر؟ " (مرقس 4: 41).

 

 لم يُعلن يسوع لقب ابن الله الا خلال محاكمته امام رئيس الاحبار إذ "فسأَلَه عظيمُ الكَهَنَةِ ثانيةً قالَ له: أَأَنتَ المسيحُ ابنُ المُبارَك؟ فقالَ يسوع: أَنا هو. وسَوفَ تَرونَ ابنَ الإنسانِ جالِساً عن يَمينِ القَدير، وآتِياً في غَمامِ السَّماء" (مرقس 14: 61-62). وأخيرا تلفظ بهذا اللقب الضابط الروماني الوثني عند قدم الصليب "كانَ هذا الرَّجُلُ ابنَ اللهِ حَقّاً!" (متى 15: 39).

 

ونستنتج مما سبق ان يسوع هو المسيح ولكن طريقته تختلف عن طريق البشر، فهو ليس كما ينتظرونه يستولي على المُلك، بل هو المسيح المصلوب، ابن الله. هذه هي الفكرة الاساسية في انجيل مرقس، والتي يريد ان ينشرها بين المسيحيين. وفي الواقع، يمكن تقسيم إنجيل مرقس إلى جزأين: ينتهي الأول بإعلان بطرس إيمانه بان يسوع هو المسيح "سأَلَهم يسوع: ومَن أَنا، في قولِكم أَنتُم؟ فأَجابَ بُطرس: أَنتَ المسيح" (مرقس 8: 29). أما الجزء الثاني، يدور حول اعتراف قائد المائة بان يسوع هو ابن الله " فلَمَّا رأَى قائِدُ المِائَةِ الواقِفُ تُجاهَهُ أَنَّه لَفَظَ الرُّوحَ هكذا، قال: ((كانَ هذا الرَّجُلُ ابنَ اللهِ حَقّاً! " (مرقس 15: 39). اكتشف قائد المئة من خلال ذلك الموت حضور الله وظهوره بين البشر. اكتشف عند الصليب حقيقة جديدة تتمثّل في موت الله من أجل الإنسان. وحاول يوحنا المعمدان ان يُعلن عن هذه الحقيقة وقبولها وذلك بالتوبة عن طريق الاعتراف بخطايانا وحاجتنا للمغفرة. فلا بد من مسيرة توب والتخلص من تصوراتنا الزائفة عن الربّ وعن أنفسنا من أجل الوصول إلى اعلان الإيمان على مثال قائد المئة الوثني.

 

2) رسالة يوحنا المعمدان: التوبة  

 

لم يكتفِ يوحنا المعمدان في البشارة بان يسوع هو المسيح وابن الله، إنما اعد الطريق الى قبول يسوع المسيح ابن الله بكرازته بالتوبة. فكانت رسالة يوحنا مبنية على التوبة: " توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات " (متى 3: 2). وقال للذين جاؤوا ليعتمدوا منه: " أَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم، ولا تُعَلِّلوا النَّفْسَ قاِئلين: إِنَّ أَبانا هوَ إِبراهيم)). فإِنِّي أَقولُ لَكم إِنَّ اللهَ قادِرٌ على أن يُخرِجَ مِن هذهِ الحِجارَةِ أَبناءً لإِبراهيم" (لوقا 3: 8). ويسوع بالذات افتتح دخوله في العالم بأول الكلمات: "تُوبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات " (متى 4: 17).

 

وبناء على دعوة من الله بدأ يوحنا يكرز بالتوبة في منطقة الأردن مستخدما المعمودية علامة للتوبة، مُتمما بذلك نبوءة أشعيا (40: 3-5). انه حذَّر الجماهير الذين جاؤوا ليعتمدوا بالماء ان يصنعوا ثمارا تليق بالتوبة، وأعلن ان المسيح المنتظر آتٍ بعده من جهة الظهور التاريخي، ولكن كان قبله من جهة المقام والاسبقية، وانه سيُعمِّد بالروح القدس مشيراً الى الفرق بين معموديته بالماء ومعمودية المسيح بالروح القدس، وهذا ما ورد في كل الاناجيل (متى 3: 11، مرقس 1: 8، يوحنا 1: 33).

 

وشهادة يوحنا هي أفضل وسيلة للإعداد لمجيء يسوع المسيح ابن الله. فقد شهد بسيرة حياته وتعليمه وعلاقته بالمسيح. واوضح الملاك الذي بشّر زكريا الكاهن بولادة يوحنا أن هذه الطفل سيكون نذيراً لخدمة الله. وقد ظلَّ يوحنا أمينا لهذا النذر. ورسالته في العالم هي إعلان لمجيء يسوع المُخلص والمناداة به، وقد شحذ كل طاقاته من أجل هذه المهمة فشهد ان يسوع هو المسيح ابن الله " فهَتف: "هذا الَّذي قُلتُ فيه: إِنَّ الآتيَ بَعْدي قد تَقَدَّمَني لأَنَّه كانَ مِن قَبْلي"(يوحنا 1 :15) وانه حمل الله بقوله "هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم" (يوحنا 1: 29). وقد طلب يسوع من يوحنا ان يعمّده، لا لأنه كان محتاجا الى التوبة، بل ليقدِّم يسوع بذلك الدليل على اندماجه في الجنس البشري وصيرورته أخا للجميع معلنا بذلك بداية تبشيره العلني.

 

وما رسالة يوحنا المعمدان الاَّ اعداد الناس بالتوبة لمجيء يسوع المسيح، ابن الله. كان يوحنا المعمدان يدعو الناس الى ما هو أكثر من مجرد كلمات او طقوس حيث طلب منهم ان يغيّروا حياتهم.  كانت المعمودية علامة خارجية، اما العلامة الحقيقية الداخلية هي التوبة.  وللتوبة جانبان: البعد عن الخطيئة، والاقتراب من الله.  ولكي لننال المغفرة يجب ان ننفِّذ كلا الامرين، فلا يمكن القول إننا نؤمن بالله ثم بعد ذك نحيا كما نشاء (لوقا 3: 3: 7-8).  فلا بد ان ترتبط التوبة بالعمل، وإلا فلا تكون توبة فعلية.  ويعلق الراهب الطوباويّ غيريك ديغني "يوحنا المعمدان هو أوّل مَن ثقَّفَ الكنيسة، وبدأ بتنشئتها على التوبة، وحضَّرَها من خلال العماد؛ وبعد أن انتهى من تهيئتِها على هذا الشكل، سلَّمَها للرّب يسوع المسيح وضمَّها إليه (يوحنا 3: 29). لقد علَّمَها كيفيّة العيش في الزهد، وبموته منَحَها القوّة على الموت بشجاعة. بهذا كلِّه، أعدّ يوحنّا "لِلرَّبِّ شَعباً مُتأَهِّباً" (لوقا 1: 17)" (العظة الأولى عن مولد القدّيس يوحنّا المعمدان.

 

وتقوم شهادة يوحنا المعمدان على المناداة " يُنادي بِمَعمودِيَّةِ تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا" ومعنى هذا ان نحوّل وجوهنا الى الجهة المقابلة، ان نتحول 180 درجة، أي من حياة التركيز على الذات، التي تقوم على تصرفات خاطئة مثل الكذب، والخداع، والسرقة، والنميمة، والانتقام، والفساد وخطايا الجنس، الى حية التركيز على الله بإتباع طرقه ووصاياه.  وأول خطوة في طريق العودة الى الله، هي الاعتراف بالخطايا.

 

وكانت المعمودية في مفهوم يوحنا المعمدان علامة منظورة على ان الشخص المتعمد قد قرّر تغيير حياته متخليا عن حياة الخطيئة والأنانية، والرجوع الى الله. وبهذا اعدَّت معمودية يوحنا الناس لقبول يسوع مسيحاً وابن الله. والناس الذين لا يعرفون المسيح، قد يحتاجون الى إعدادهم لمقابلته، بتصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تعطلهم عن الاقتراب من المسيح وبتوضيح لهم حاجتهم الى الغفران، وان المسيح يستطيع ان يعطي حياتهم معنى.

 

إن الله يدعونا للدخول في شركة معه. الاّ إن تلبية نداء الله يتطلب التوبة. والتوبة تتطلب منا "البحث عن الرب" (عاموس 5: 4)، "البحث عن وجهه" (هوشع 5: 15)، "الاتضاع أمامه" (1 ملوك 21: 29،)، "توطيد القلب فيه" (1 صموئيل 7: 3) تغيير الطريق، والعودة، والتراجع. وبكلمة أخرى، نحيد عما هو شرير ونتجه نحو الله. والعودة إلى الله، ينجم عنها تغيير في السلوك العملي. إذا عرفنا ان نستقبل سيدنا يسوع المسيح بالتوبة وحفظ الوصايا، ونعدَّ الطريق له ونشهد له على مثال يوحنا المعمدان فسيكون مجيئه قوتنا وراحتُنا وفرحنا وعزاؤُنا وسلامنا.

 

لقد اعطى الله لكل واحد فينا هدفا يحيا لأجله ورسالة يؤديها في الحياة. والهدف الأسمى لكل واحد فينا هي "بِشارَةِ يسوعَ المسيحِ آبنِ الله " حيث ان الخلاص قد تمَّ بيسوع المسيح. فهل نؤمن ببشارة الانجيل، بشارة الخلاص، بشارة مجيء يسوع مسيحا على الارض كي يُخلصنا. هذا هو هدفنا الأسمى في الحياة. فهل نتمِّم رسالتنا تجاه مجيء يسوع المسيح مخلصا لنا ثم ديانا بقبول بالإيمان والتوبة والشهادة لذاك الذي "جاء إلى العالم ليشهد للحق (يوحنا 37:18)؟

 

الخلاصة

 

يوحنا المعمدان لم يكن لديه أية قوة او جاه في النظام السياسي اليهودي إلاَّ أنه كان شجاعاً لا يخاف المواجهة ولا يقبل انصاف الحلول. فكان يتحدَّث بسلطان لا يُقاوم. لأنه كان يتكلم بالحق (لوقا 1: 17).  وكان يحثُّ الناس على ترك خطاياهم ويُعمّدهم كرمز لتوبتهم (متى 3: 9) كي يقبلوا يسوع المسيح ابن الله.

 

فكان يوحنا صوت التوبة المُعلن لا بكلماته فحسب، وإنَّما حتى بلباسه وطعامه، فكانت حياته كلها صوتًا صارخاً يقود النفوس نحو يسوع المسيح. وكون بشارة يوحنا نهاية للعهد القديم، فإنها لنا خُلاصة العهد القديم وجذب ودعوة العالم كله للمسيح.

 

ومناداة يوحنا للشعب أن يقوِّموا حياتهم، كان معناها أنه يجب ان يتخلّوا عن طرقهم الأنانية، ويتركوا خطاياهم، ويطلبوا المغفرة من الله، وأن تصبح لهم علاقة بالله القدير بالإيمان والطاعة لكلمته كما هي في الكتاب المقدس لا سيما في سفر أشعيا " تَعالَوا نَتَناقَش، يَقولُ الرَّبّ لَو كانَت خَطاياكم كالقِرمِزِ تَبيَضُّ كالثلج ولو كانَت حَمْراءَ كالأُرجُوان تَصيرُ كالصُّوف" (أشعيا 1: 18-19). وكانت شهادته تلخّص كل بشارته رغماً من انها كانت مرفوضة من العالم غير المؤمن كما قال يسوع الى نيقوديموس: "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكَ: إنَّنا نتكلَّمُ بِما نَعلَم، ونَشهَدُ بِمَا رَأَينا ولكِنَّكُم لا تَقبَلونَ شَهادَتَنا. (يوحنا 11:3).  ولما جاء المسيح الذي كان يوحنا المعمدان ينادي به وبدأ خدمته، أتمَّ يوحنا إرساليته. فاستحقَّ من سيدنا يسوع المسيح أعظم شهادة إذ قال " لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحَنَّا المَعمَدان " (متى 11: 11).

 

الدعاء

 

ايها الاب السماوي، إنك تحيي فينا الرجاء في رؤية يوم ابنك يسوع المسيح، أشركنا في قوة الروح القدس الذي ملأ يوحنا المعمدان، كي نعرف كيف ننتظر مجيء الرب بروح الصلاة والتوبة والمحبة، فنكون شهوداً ليسوع المسيح في حياتنا، وذلك من خلال أعمالنا، وسيرتنا الحميدة، وإيماننا القوي والراسخ بيسوع ابن الله الحي. استجبنا ايها الرب المبارك الى دهر الدهور. آمين.