موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٩ أغسطس / آب ٢٠٢٠

ذكرى استشهاد القديس يوحنا المعمدان

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
أيها القديس يوحنا المعمدان، الشهيد وسابق السيد المسيح، صلّ لأجلنا

أيها القديس يوحنا المعمدان، الشهيد وسابق السيد المسيح، صلّ لأجلنا

 

أيّها الحق، لم تترك لي صديق

 

أيّها المؤمنونَ والمؤمنات الكِرام. بعد أن احتَفلنا بعيد ميلاد القدّيس يوحنّا المعمدان، في الرّابع والعشرين من شهر حزيرانَ المنصرم. تدعونا الكنيسة أمُّنا مجدَّدًا لإحياء ذكرى عَطرة أخرى، مرتبِطَة بهذا القدّيس العظيم، ألا وهي ذكرى استشهادِه مقطوعَ الرّأس. ففي التّاسع والعشرين من شهر آب، نُحي هذه الذكرى المهيبة، ذكرى استشهاد أعظم مواليدِ النّساء. فهذا الحدثُ الجَلَل جَرت أحداثُه على ثرى الأردن، فَارتَوت حبّاتُ أرضه الطّهور، بدماءِ المعمدان، فأصبحَ بحقّ أبرز شفعاء شرقيّ الأردن.

 

في عِيدِه الأوّل أَحيَينا ذكرى ميلادِه على الأرض، وفي الثّاني نُحي ذكرى ميلادِه في السّماء. فاستشهادُ المؤمنِ على الأرض هو يوم ميلادِه المجيدِ في السماء. فكلاهما ميلاد، متشابهان في التّسمية، مُختلِفان في الطّريقة والأسلوب. ميلادٌ أوّل من ظلمةِ الرّحم إلى نورِ العالم. وميلادٌ ثانٍ أعظم من ظلمةِ هذا العالم، إلى نورِ الحياة الأبدية. ميلادٌ أوّل بينَ زغاريد النّسوة الفاضِلات، وأهازيجِ الفرح وصيحاتِ السّرور. وميلادٌ ثانٍ بين أغانٍ مَاجِنة ورقصاتٍ خالِعة، وَأَلبابٍ أسكرَتها لذّةُ الشّراب. فكانَ الأوّل ميلادًا من الرّحم، وكان الثّاني ميلادًا بسيفٍ ودَم.

 

دعونا نتحدّث قليلًا عن تاريخية هذا العيد. كلُّنا نعلم، بحسب إنجيل لوقا، أنّ ميلادَ يوحنّا كان بتدخُّلٍ إلهي مباشر (لوقا 5:1-25). فأبوه وأمُّه، كانا طاعِنينِ في السّن. ولكنَّ الله، القادر على كلِّ شيء، شاءَ لزكريا وأليصابات أن يُرزقا بطفل، وقد اشتعلَ الرّأس شَيبا، وَبَلَغَا من الكِبرِ عتيّا. فكانت بشارة ملاك الله جبرائيل لزكريّا في الهيكل، بولادةِ امرأتِه أليصابات ابنًا يُدعى يوحنّا، علامة على تحنّن الله ورأفتِه بهما، حتّى يزيل عنهما العار الّلاحق بهما أمامَ النّاس.

 

لم يَسِر يوحنّا على خُطى أبيه زكريا الكاهن، بل اعتزلَ حياةَ النّاس. واتّخذَ من برية يهوذا مَسكِنًا له ومُقامًا. وقامَ بدور تبشيري نبوي، إذ كان يُعدُّ طريقَ مَن هو آتٍ بَعده، ومَن هو ليس أهلًا لأن يفكَّ رباط حذائه. وبالرّغم من بُعد المسافة ووعورة المنطقة القاحلة، إلّا أنّ الجموع رأت فيه محلّ ثقة، أكثرَ من رؤسائهم، من كتبة وكهنة وفريسيين. فكانت تحجُّ إليه نزولًا من كلِّ حدب وصوب، لتقبل المعمودية عن يده في مياه الأردن (لوقا 1:3-18).

 

كانَ هيرودس أنتيباس أميرًا للرُّبع. إذ كان حاكِمًا على الجليلِ شمالًا حتّى البحرِ الميت جنوبًا. وهي المساحة الّتي تضمُّ حوالي ربعَ بلادِ فلسطين. ثمّ أنّه كانَ متزوّجًا من ابنةِ الحارث الرّابع ملك الأنباط آنذاك. ولكنّه وقع في حُبِّ هيروديّا زوجة أخيه فيلبّس. فاتّفقَ الاثنان على الزّواج. فقام بتطليق زوجتِه الأولى، ليتّخذَ من هيروديّا زوجةً له. الأمر الّذي جعلَ يوحنّا يوبِّخُه بشدّةٍ، إذ لا يحلّ بأن يتّخِذَ زوجةَ أخيه امرأةً له. ما جعلَ هيروديّا ناقِمةً عليه. فيوحنّا كانَ حجرَ عثرة في طريقها الظّلامي، وصخرةَ سدٍّ وشوكةً مُدبّبة في حلقِها. لِذلِك سَعَت لقتلِهِ والتّخلص منه، حتّى يحلو لها فعل ما تشاء. إذ وَظَّفَت ابنتَها سالومي وسيلة رخيصة، لخدمة مصالِحها القَذِرة. أمّا هيرودس الغبي، فقادته تلك المرأة الزّائغة عن الحق، صوب الهلاك. فارتكبَ حماقة كُبرى وجريمة عُظمى، بِهَدرِهِ لدم رجل بارٍّ قدّيس، إرضاءً لهيروديّا، المدنَّسَة بالإثمِ الملطّخةِ بالباطِل.

 

وقف يوحّنا دون خوفٍ أو تردّد في وَجهِ الطّاغية هيرودس، وفي وجهِ الماكرة هيروديا. لم يُحابي يوحنا هيرودس لأنّه حاكِم، ولم يُجامِله على حِساب الحق، طمعًا في مكسبٍ خسيس. فدفعَ الثّمن مِن أجل موقفِه ذاك غاليًا، إذ سُفِكَ دمه النّقي، شهادةَ حقّ في وجهِ باطل.

 

وَقعت هذهِ الجريمةُ النّكراء، كما يروي المؤرّخ اليهودي الرّوماني يوسيفيوس فلافيوس، مِن تلك الفترة، سنة 29 للميلاد، في حِصن مكاور، الواقع إلى الجنوب الغربي من مدينة مادبا على بعد نحو ثلاثين كيلومتر. وقَد بناهُ القائد الاسكندر جانيوس، على قمّة تلٍّ مُشرفٍ على البحرِ الميّت، لصدِّ غزوات قبائل الصّحراء الشّرقية. وسُمّيَ بمكاور المأخوذة من الّلغة اليونانية القديمة (Machaerus) والّتي تُشير إلى السّيف. أمّا العرب فأطلقوا عليه اسم (جبل المشنقة).

 

يروي التّقليد، أنَّ تلاميذَ يوحنّا أخذوا جُثمانَهُ، وَدَفنوه في مدينةِ سَبسطية، الواقِعة شمال غرب مدينة نابلس. وِمن هناك نشأَ عيد اليوم. فمنذ القرن الخامس، كانَ المسيحيّون يحتفلون بذكرى تأسيس كنيسةٍ دُشّنت في سبسطية، حيث وُضِعت رُفاتُه، وشُيّدت على اسم قطعِ رأسِ القدّيس يوحنّا المعمدان. ومنذُ القرنِ السّادس والسّابع للميلاد، انتشرَ الاحتِفالُ بهذا العيد، عندَ المسيحيين شرقًا وغربًا، إحياءً لذكرى استشهادِ المعمدانِ.

 

ومنذ القرن السادس، استوطن الرّهبانُ موقع مكاور وبنوا كنائسَ هناك لا تزال أثارُها موجودة، بالإضافة إلى بقايا ما كان قديمًا قصر هيرودس. وقد أدرجَ الكرسي الرسولي مكاوِر ضمن مواقع الحجّ المسيحي في الأردن.

 

يا أحبّة، يوجد مقولة تحكي: (إذا لم تستطِع قولَ الحق، فلا تُصفّق للباطِل). في تلكَ الّليلة الظلماء، جلساءُ هيرودس والمدعوّون جميعًا، صفّقوا للباطل. ظلّوا صامتين، لم يقولوا كلمة حق في وجه أميرٍ ظالم، وامرأة ماكِرة، وابنةٍ لعوبة، بل صفّقوا وضحكوا للباطل.

 

أحيانًا كثيرة، ما يؤلم ويُوجِع، عندما تكون في موقِف حَق، تناظِرُ النّاس من حواليك، وهم يدركون جيّدًا، ويعلمون علم اليقين بأنّك على حق، ومع ذلك لا تجد أحدًا يقف معك، ويقول كلمة حقّ تنصِفك، بل ربّما تجد نفسَك عرضة للملامة من بعضِهم وكأنّك مذنبٌ ومُخطِأ! فجميعهم مشارِكون في التّصفيق الحار. لذلك يا صديقي، لا تستوحِش طريق الحق لقلّة سالكيه، كما قالها علي بن أبي طالب، فالحق لَن يتركَ لكَ صديق! والمعمدان على ذلك أكبر مثال.