موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٠ يوليو / تموز ٢٠٢٠

خرج الزارع ليزرع

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
المسيح يتطلب القبول بكلمته عن قناعة واقتناع

المسيح يتطلب القبول بكلمته عن قناعة واقتناع

 

الأحد الخامس عشر، الإنجيل متّى 13: 1-9

 

كم مرةً ذكر الإنجيل: كلّمهم كثيراً يسوع بأمثال (متى 13. 3) مثلُ اليوم هو من أشهر وأسهل أمثال يسوع. أنا شخصيا أفهم هذا المثل بحذافيره. ففي طفولتي قد مارستُ الفلاحة مع والدي المرحوم وأنا نفسي رميت البذار بيدي على جميع أنواع السهول المذكورة في الإنجيل. أذكر اننا سنة الحرب 1948 ما حصل فلاح على أي ثمر من زرع القمح، إذ انحبس المطر تلك السنة كليّا، فما أثمرت الحقول. إنّ نوع الفلاحة اليوم مختلف عن زمان الأجداد ، فقد صار عند الفلاحين، تراكتورات فلاحة حديثة، تُنهي في ساعة ما كان الفلاح يحتاج له في أيام. وأما في زمان يسوع، في إسرائيل وفي ذلك الزّمان فما كان احد يفتكر بالفلاحة بالماكنة، لأنها ما كانت موجودة. ولكن حتى الأولاد كانوا يعرفون أنَّ ليس كلَّ ما نزرعه أو نرميه في الأرض من بذار، ينمو ويُعطي ثمرا. فالأرض التي يقع فيها الزرع، ليست أرضا صالحة: صخور وشوك، وحر قارص بسبب انحباس الأمطار لمدة طويلة، كما الحال في البلاد التي عاش فيها يسوع، ولمعرفته لطبيعة الأرض تلك، قال أين يقع الزرع ويُعطي ثمرا (ثلاثة أرباع البذار ضاعت، وربع فقط أعطى ثمراً). فالفلاحون الّذين سمعوه، فهموه أحسن منّا اليوم، إذ عمل الفلاحة ما كان لهم غريبا، ككثيرين من مُستمعيِّ هذا المثل اليوم. نعم فهموا، أنَّ البذار الّذي يُعطي ثمارا يحتاج إلى شروط: يحتاج الماء والهواء والنّو والأرض الجيدة، وطبعا العناية المتواصلة. هذا المثل فيه عبرة لنا، عبّر عنها يسوع في آخر المثل حيث أنهاه بقوله: من له أُذُنان سامعتان فليسمع.

 

حين حكى يسوع هذا المثل، كانت حياته التبشيرية في أوجها: كان صيته قد انتشر وه ونفسه قد انعرف، سواءً من خلال خطاباته، التي كانت تختلف عن خطابات رؤساء الشعب، أو أيضا من خلال عجائبه الكثيرة، التي كان قد استفاد منها عدة مرضى، إذ في ذلك الزّمان، ما كان لا مستشفيات ولا علاجات معروفة. هذا وكان قد تجوّل في الجليل طولا وعرضا، فسمعت به الجماهير، وخرجت لرؤيته، وكثيرا ما كانت ترافقه، إذ ما كانت من وظائفٍ منتظمةٍ تمنعهم من الترحال والتجوال، يوما هنا ويوما هناك. هذا وكان أساس الدّيانة، التي يبشّر بها، قد انفتح في كل القرى والمدن، التي مرّ بها. فلو كان هناك صحفيّون مثل اليوم، لكانوا كتبوا عنه وبجّلوه على نجاحه في كسب الجماهير. لكننا نفهم من خلال مثل اليوم، أنّ النجاح كان محدودا: قسم قليل، من كل البذور الّتي رماها الفلاّح في حقله، أعطت ثمرها.

 

كرازته وتبشيره شبّهها هو نفسه بالزّرع، الذي يقع في الأرض. هذه الأرض هي عقول السامعين له وقلوبهم، فنادرا ما تكون هذه العقول والقلوب، مفتوحة لسماع هذه الكلمة، وتؤثّر فيها، بل وتأتي بثمر مُرضٍ. هذه الكلمة زُرعت قبل أكثر من ألفي سنة على أرضنا وفينا، لكن أين الثمار التي أنتجتها؟ كثيرون يتساءلون: ماذا جابت رسالة يسوع بالألفي سنة من جديد ؟ ماذا أحدثت ومن تجديد في الألفي سنة الماضية على أرضنا؟

 

النّاس، كانت تتلهّف لمجيء ملكوت الله على الأرض. لكنَّ الخطأ انّه ما كان عندهم فكرة، كيف وبأيِّ طريقة، سيأتي وسيحل هذا الملكوت بينهم. فما كان عندهم من خبر لامتداد أي ملكوت، إلاّ بالقوة والحرب. مملكة كانت تهفي مملكة بالحروب والقتال، وملك ينهي مُلك مَلِكٍ بانقلاب وقتل. هذا أيضا، كان تفكير الشعب المختار، كانوا ينتظرون مجيء ملك قويٍّ جبّار، يحارب المُستعمِر ويطردُه من بلادهم، التي كانت تدرُّ لبناً وعسلاً، لكنهم كانوا محرومين منه. هذا ولا يزال أهلُها الفلسطينيون اليوم أيضاً محرومين من لبن وعسل بلادهم، بل من يريد أن يشرب من هذا اللبن ويأكل من ذلك العسل، يجب عليه أن يأخذ بقراتِه ونحلَه معه.

 

الأنبياءُ كانوا بشّروا بقرب قدوم مخلِّص شعب الله. وآخيراً قد سمع الله آ تنهّدهم، وأرسل لهم، ليس أيَّ ملِك، بل ابنَه بالذات. فلقد افتكرنا، أنّه سيلاقي كل التّرحيب والقبول، ويفتحون له جميعُهم قلوبَهم. لكن يا للعجب، إنه رغم فورة الفرح، الّذي ملأ قلوبهم في البداية، حينما سمعوا أن هذا المُرسل، هو ما تنطبق عليه الصّفات التي أخبرهم عنها أنبياؤهم: "في عهده العميُ يبصرون والعرج يمشون والبرصُ يطهرون والصّمُّ يسمعون والموتى يقومون والمساكين يُيشّرون"، تراجع الكثيرون، خاصة الطبقة العالية من رؤساء الشعب والهيكل، بل تحوّل فرحهم إلى مُقاومة له، وصلتْ حدَّ البُغض وتهيج الشعب عليه، لأنّه ما اكترث لمطالبهم، بمُحاربة المُستعمِر، بل أيضا بالدِّفاع عن خدماته لهم: أدّوا ما لقيصرِ لقيصر.... فبهذا المعنى، جاء مَثَلُ اليوم. كثيرون سمعوه بتلهّف، لكن بالتّالي، عددٌ قليلٌ بقي مخلِصاً له. كرازاتُه كلُّها ما كانت تمتُّ للتحرير السّياسي والمقاومة العسكرية بصلة، لكن بمقاومة الشرّ، وتوطيد السّلام بطُرُقٍ سلميّة. كان لهم آذان تسمع، لكنّهم لم يسمعوا، وعيونا ترى ولم يروا. فكما هو واضح بهذا المثل: ليس كل حقل يقبل الزرعُ يعطي ثمرا مُرضياً

 

يسوع شبه الزّرع الذي يقع في الأرض، بكلمته الّتي تزرعُها الكنيسة في العقول والقلوب. وهي مختلفة في التّجاوب، كالأرض التي وقع عليها البذار. لذا فالفرق شاسع في الثّمر. كلمة الله، لا تأتي ولم تأتِ بثمر كثير. ونتساءل لماذا؟ نعم من لم يخطر على باله هذا السؤال: الكنيسة تبذُرُ وتزرعُ كلمة الله منذ أكثر من ألفي سنة في العالم، فماذا تغيّر بوجود المسيحية فيه؟ هل حدث شيٌ جديد في هذا العالم؟ أما زال الشرُّ شرّاً؟ أما زال الظلمُ ظلماً؟ أما زالت الحروب والمناوشات، الوسيلة المستعملة لحل المشاكل فيه؟ فكيف نفسِّر ذلك؟ الجواب نجده عند يسوع إذ فسّره هو بالتالي لتلاميذه: فكما أنّه ليس كلَّ أرضٍ يقع فيها الزّرع جيّدة، لتعطي ثمرا مئة بالمئة، كذلك قلوب البشر هي أيضا ليست دائما أرضا صالحة، لتؤثّر فيها كلمة الله، وتعطي التّجاوبَ الكاملَ معها. المبشّرون والكنيسة يرمون كلمة البشارة، كالفلّاح على أرضٍ ليست كلُّها صالحة. لذا فليس كلُّ سامع يُصبح رأسا مُؤمِنا ومن أتباع يسوع، ومن المحافظين على وصاياه، كما وليس هم الآخرون الّذين يجعلونا مسيحيين، إنّما نحن أنفُسُنا. إنّ الله عارف أنْ ليس كلُّ ما يُسمَع من كلامه، يقع في أرض طيبة، ويُعطي ثمرا مباشراً. كلامه يحتاج إلى قناعة واقتناع، ولا ننسى أيضاً، يحتاج إلى وقت. فبالمعمودية وحدَها، ولو كانت أساس الحياة المسيحية، لا يحدث شيٌ خارق، إذْ أنْ يصبح الإنسان مسيحيا، يختلف تماما، عن الإنضمام إلى حزب سياسي أو فريقٍ رياضي، بل أن يصبح الإنسان مسيحيّاً، هي مهمّةٌ للعمر كلِّه، لا مهمّةُ يوم أو لفترة قصيرة من العمر. والأسوأ من ذلك، أنّه تحدُثُ نكساتٌ ومُعاكساتٌ، تُعيق التّقدم، كما في عصر تلإضطهادات ومنع التبشير، بل مرّات يجب على المسيحي أن يبدأ من جديد من نقطة الصّفر.

 

هذا، ولا ننسى أن نذكرَ هنا، إخفاقَ التّربية في كثير من العائلات. فكم وكم، من النصائح والإرشادات، يسمع الأولاد من أهلهم أو مربّيهم في البيوت والمدارس، وكم من درس دين يحضرون ويسمعون، وبالتالي لا يستطيعون الإيجابة على أبسط السؤالات الدينية أو مبادئ الدين، كأن إرشادات الأهل، لا تقع في القلوب لكن على صخر يرتدُّ صداه إليهم كالطّبل فارغاً. وفي آخر الوقت، يعيشون خيبة أمل كبيرة وغير مُتوقَّعة، كأنّ النصائح ما كانت. أو أيضا في أحسن العائلات، رغم المواعيد والتخطيط لحياة مشتركة، إذا أحد الطّرفين يُعلن الإنفصال، عن هذه المشاريع، لأنه لا يريد الإرتباط للمدى البعيد، كما في الزواجات اليوم، فما عاد الكثيرون يريدون أن يوعدوا الإرتباط لجميع أيام حياتهم، فينهدم أساس العائلة.

 

كذلك عمل الكنيسة مع المؤمنين، فكم وكم من زارعٍ لكلمة الله، في الرعايا وفي المجتمعات وفي بلاد التبشير، يتحمّلون حرّ النّهار، وإذا هم بالتالي ،لا يحصدون إلاّ زؤاناً ونُكرانَ الجميل من الكثيرين! إذ بالتّالي ما في رأسههم إلاّ آراءٌ خاطئة عن الكنيسة، كأنها سبب الشرّ والفُقر والسؤ في العالم.

 

هذه اللحظات عاشها يسوع بنفسه، إذ رغم عجائبه وشعبيّته وانتشار صيته الواسع وأسلوبه الشيّق، بالتّالي نسمع احتجاج الفريسيين عليه: هذا كلام قاسي، من يستطيع سماعَه؟ وابتعدوا عنه. ألا يجوز أن نعتبر هذا فشلا له؟ وأنّ بذارَ كلمتِه لم يأتِ بثمر نفتخر به، لا في هذا االعصر ولا في أي عصر آخر؟ إنني أقرأ مرارا مَثَلَ اليوم، خاصة تفسير يسوع له في القسم الثاني، حيث اختلى بتلاميذه وفسّر لهم المقصود، الذي عزّاهم وشجّعهم. فهل نعجب من كلام بطرس في موقع آخر، حيث طلب منه يسوع أن يذهب ويصطاد سمكا ليأكلوا، فقال: لقد تعبنا الليل كله ولم نصطد شيئاً، ولكني بالإتكال على كلمتك، ألقي الشبكة. وألقاها فامتلأت، حتى أنه هو وعمّالُه لم يستطيعوا سحبها إلى الشاطئ، حتى اضطرّوا إلي معونة الصّيادين الآخرين بجانبهم. فالدرس أو العبرة من هذا المثل هي، كما قال يسوع: بدونب لا تستطيعون أن تعملوا شيئاً. ولكن أيضا، أنه لا أمر مستحيل عند الله، ولو أنه أحيانا يبدو، وكأنّه بحاجة لمعونتنا وعملنا نحن.

 

والسبب في أن قبول رسالة المسيح هو بطيء كما يقول القرآن "لا إكراهُ في الدّين". المسيح يتطلب القبول بكلمته عن قناعة واقتناع. بهذه الطريقة، تسير كلمتُه ببطء، لكنَّ نجاحَها مُحقّق. فهي، مهما تأخّر تقدُّمُها، فهي تحمل في طياتها قوة البذور، حيث أن هذه تموت لتتفتح لحياة جديدة. هذا وقد قال عُلماء الكتاب المقدّس: إنَّ الله خلق الوقت، لكنّه لم يتكلّم عن السّرعة. فأملنا أن عدد المؤمنين وإن كان قليلا يبقى بنموٍّ دائم. ولنقل هو كالخميرة: "ملكوت الله يشبه خميرة، أخذتها امرأة ووضعتها في ثلاثة أكيالِ دقيق، حتى اختمر الجميع" (متى 13. 33). إن كلمة الله نور لقدمي. وفي مكان ثانٍ قال الله: إنّ كلمتي لن ترجَع لي فارغة. هذا أملنا أن تُخمِّر كلمة الله كل الثقافات والعقول، لنعيش بالتالي عالَماً سليماً سالِماً من كلِّ شر. آمين.