موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ١٤ يونيو / حزيران ٢٠٢٠

حتّى أنتَ يا بروتوس؟!

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
نحن تلاميذ المسيح، ولكن كم من المرات غدرنا به، وأنكرنا حبّه، وطعنّاه بحراب الخيانة!

نحن تلاميذ المسيح، ولكن كم من المرات غدرنا به، وأنكرنا حبّه، وطعنّاه بحراب الخيانة!

 

أيّها الإخوة والأخواتُ الأحبّاء في المسيحِ يسوع. بعدَ أن احتفلَنا بعيدِ العَنصرة وبعيدِ الثّالوثِ الأقدس، نحتفِلُ في هذا الأحد بِعيدِ جَسدِ الرّبّ ودَمِه الأقدَسَين. وإذا أَمعَنّا النّظرَ جيّدًا في طبيعةِ هذهِ الأعياد، نجدُها أعيادًا ذات طبيعة عقائديّة. فهذهِ المناسبات تختزِلُ جوهرَ عبادَتِنا وجُلَّ إيمانِنا وعقيدتِنا المسيحية. فبعدَ إعلانِ إيمانِنا بقيامة المسيح من بينِ الأموات، أَعلَنّا إيمانَنا بالعنصرةِ وحلول الرّوحِ القُدس. ثمَّ إيماَنَنا بالله الآبِ والابن والرّوحِ القدس، إلهٍ واحد في جوهرٍ واحد. وها نحنُ اليوم نُعلِنُ إيمانَنا بالمسيحِ خبزِ الحياة، الحاضِر مَعنَا بجسدِه ودمِه، تحت شَكليّ الخبزِ والخمر.

 

ولكنَّني لن أتحدّث اليوم عن هذا العيد بِشقِّه العقائدي. إنّما سأتحدّثُ عن موقِف الجموع ومزاجيّة الجماهير واختلافِ ردودِ فعلِ المُصغيين إلى المسيح، بينَ مُؤيِّدٍ وتابِع وبين مُعارِض ومُرتَد.

 

دعونا نعود إلى بدايةِ الواقِعة حتّى نفهمَ النَّص بِشَكلٍ أعمق. نحنُ في الفصلِ السّادِس من بشارةِ يُوحَنَّا الإنجيلي. ونجِدُ معجزةَ تكثيرِ الخبزِ والسَّمَك وإطعام الجموع الجائِعة. وهي الآيةُ الّتي وَرَدت في الرّواياتِ الإنجيليّة الأربع. الجموعُ كانت تتبعُ المسيح، لِما رَأوا من آياتِ الشّفاء، كما يقولُ النّص. فهذهِ الجموعُ كانت تَنتَفِع من يسوع. تجِدُ عنده تلبيةً لغاية وهدف، وتحقيقًا لمصلحة ومَنفعة. وربّما البعضُ كان يتبَع ليرى بدافعٍ من الفضول وحبِّ التّطفّل.

 

وحتّى لا نُصدرَ حكمًا عامًّا، نقول أنَّ جزءًا من الجموع كانت تتبع المسيح لرغبة صادقة في الاستماع إلى كلامِ النّعمة الّذي كانَ يَفيضُ من فيِهِ، "فإلى مَن نذهب يا رب وكلامُ الحياة الأبدية عندك" (يوحنّا 68:6). مِن هُنا نستنتِجُ أنَّ أَسبابَ اِتّباعِ المسيح كانت تختلف وتتباين بينَ الجموع. وهو كانَ على درايةٍ بذلِك. فها نحنُ نراهُ مخاطِبًا الجموعَ قائِلاً: "أنتُم تطلبونَني، لا لأنَّكُم رأيتُمُ الآيات، بَل لأنَّكم أكلتُم الخُبزَ وَشَبِعتُم" (يوحنّا 26:6). فالجموعَ، كما يَسرِدُ يوحنّا، وبعد أن رَأَت مُعجزِةَ التّكثير، هَمّت في أن تُقيمَ يسوعَ مَلِكًا عليها، لأنّها وَجَدَت من يستطيعُ أن يُطعِمَها بِوَفرةٍ وَمجّانية، ويَسُدَّ رَمَقَها ويُشبِعَ جوعَها. ولكنَّ رغبةَ يسوع كانت غير ذلك. فالجموعُ تبحثُ عن طعامٍ أَرضيّ يَفنى، ويسوع يريدُ أن يرفَعَهم إلى مستوى أسمى من الطّعام الّذي يبقى، فيصيرُ حياةً أبدية (يوحنّا 27:6).

 

فكرُ تلكَ الجموع وعقليةُ البشر بشكل عام، هي: "لنأكُل ونشرب، فإنّنا غدًا نموت" (أشعيا 13:22). فَهَمُّ الإنسان، خصوصًا في الشّرق، هو تلبيةُ الحاجات اليوميّة الأساسيّة من أَكلٍ وشُرب وغيرِها. وهي حاجاتٌ طبيعيّة لا غِنى عنها، وبشكلٍ أكبر ومُلِح في أيّام الجائحة هذه.

 

أَسمى رغباتِنا وأكبرُ أُمنياتِنا مرتبِطة بالحياةِ الأرضية. نعملُ ونكدحُ كلَّ العمر مِن أجل الطّعامِ الّذي يَفنى، وهو مُهمٌّ وأساسي. ولكنّنا في المقابِل نُغفِل ونُهمِلُ العملَ والسّعيَ وراءَ الطّعامِ الّذي يبقى، وراءَ الحياةِ الأبدية الّتي لا تزول. حياتُنا قَيّمَة وغالية، وحاجاتُنا مُهمّة وضروريّة، ولكن دون أن نَكون فقط في همٍّ إليها، غافلينَ عن الاهتمامِ بتلكَ أيضًا. "فاطلبوا أوَّلًا ملكوتَ الله وبرَّه، والباقي يُزادُ لكم" (متّى 33:6).

 

ولكن، عندما بدأ يسوعُ يُحدِّثُهم عن المستوى الأسمى من الطّعامِ الباقي، وعن كَونِه هو نفسُه الطّعام الّذي يصيرُ حياة أبدية، إذ أنّه: هو خبزُ الحياةِ النّازِل من السّماء، مَن يأكل منه فلا يموت بل يَحيَ للأبد. هُنا، بدأَ اليهودُ يتذمّرون عليه، يسخرونَ منه، بل صاروا يَشمَتونَ من أصلِه وفصلِه: "أليسَ هذا يسوعَ ابنَ يوسف، ونحن نعرِفُ أباهُ وأمَّهُ؟" (يوحنّا 42:6). إلى أنْ قالوا جُملتَهم الَّلئيمة: "هذا كلامٌ عسير، مَن يُطيق سماعَه" (يوحنّا 60:6) ثمَّ ارتدّوا عنه وانقطعوا عن السّيرِ مَعه!

 

وهنا نصِلُ إلى النّقطةِ المحوريّة في هذهِ العِظة! فالجموعُ الّتي تَبِعَتهُ لترى أو تنالَ حِصَّةً من معجزات الشّفاء، ثمَّ أَكَلَت ومَلَأت بُطونَها حتّى أتخَمَها الطّعام، وطَلَبَته حتّى تُملِّكَهُ عليها، انقَلَبت عليه بكلِّ وقاحة وسفاهة! وأساءَت القولَ فيه! ثمَّ ارتدّت عنه نهائيًّا! هذهِ هي مواقِفُ الازدواجيّة الّتي كان يواجِهُها يسوع في الجموع الّتي كانت تتبعُه. كانوا كالموجِ بينَ مَدٍّ وجزر. يوم الشّعانين فَرشَت الجموعُ الأردية والأغصان في الطُّرقات، وصاحت هاتفة للملِك ابنِ داودَ الآتي باسمِ الرّب. ثمَّ ما لَبِثَت أن انقَلَبَت عليه شرَّ انقلاب يومَ الجمعةِ العظيمة فصاحت: اِصلبُه، أُقتله! حتّى أنَّ مواقِفَ التّلاميذِ أنفسِهم تبايَنت هي أيضًا، وتبدّلت في لحظة من الّلحظات! إذ أنكرَه أحدُهم، وخانَهُ أحدُهم الآخر، والبقيّةُ ولّوا مُدبرين من الذُّعرِ والهلع، وبقيَ يسوعُ يواجِهُ مصيرَه، وحيدًا في تلكَ الّليلة الظلماء.

 

هذهِ هي ازدواجيةُ الجموعِ والأشخاص أيضًا، والتّبدّلُ السّريع والتّأرجُحُ في مواقِف الجماهير. قبلَ لَحظاٍت تجدها مع المسيح، وبعدَ لحظاتٍ تجِدُها على المسيح! لا يُؤمَنُ جانِبُها. مواقِفُ غدرٍ وخيانة، مواقِفُ إنكارٍ وتخلٍّ، مواقِفُ طعنٍ في الصّميم من دُبُرٍ، وأحيانًا مِن أقربِ المقرّبين.

 

وهُنا تَستَحضِرُني الجملة الشّهيرة: (Et tu, Brute?!/ حتّى أنت، يا بروتوس؟!). الّتي وَرَدَت في مسرحية الأديب الإنجليزي وليام شكسبير، بعنوان: يوليوس قيصر. والّتي تصوّر خيانةَ الأصدقاءِ، وغدرَ مَن كانوا يومًا أحبّة! حيثُ تألّب الأعداءُ على القيصر ساعةَ اغتالوه، وعالجوه بعدّة طعنات. وقبلَ وفاتِه تعرّف على صديقه الحميم بروتوس كواحدٍ من القَتلة، فنطقَ بهذهِ الكلمات، الّتي تُعبّر عن خيانةٍ مُفاجِأة وصادِمة، من حيثُ لم تتوقَّع يومًا!

 

أيّها الأحبّة، ليسَ مُستَغربًا أن يُغدَرَ بكَ وأن تَتعرَّضَ للخيانة، من قِبَلِ أشخاصٍ بنوا علاقاتِهم معكَ على أُسُسٍ مَنفَعيّة. فساعة تنتهي المصلحةُ والفائدة، يَسهُلُ عليهم التّخلّي عنك والإلقاءَ بك! ولكن كم هو مُحزنٌ ومؤلِم، أن يُطعنَ بك مِن أحبِّ النّاس إليكَ وأقربِهم إلى قلبِك، مَن كانوا يومًا مَوضِعَ ثِقَتِك، وَمن جَمَعَتكَ بهم أطيبُ مُعاشرة وأجملُ مُنادَمَة!

 

نَعم، نحنُ تلاميذُ المسيح، ولكن كَم من المرّاتِ غَدَرنا به، وأَنكَرنَا حُبَّه، وَطَعَنّاهُ بحرابِ الخيانة، وانقلبنا عليه وتخلّينا عنه، وارتَدَّينا وانقَطَعنا عن السّيرِ مَعَهُ؟! عندَ العشاءِ الأخير، صاحَ بطرسُ كعادتِهِ مُفاخِرًا: "لستُ بناكِرِكَ وإن وَجبَ عليَّ أن أموتَ معَكَ" (متّى 35:26). وبعد هُنيهة أنكرَ المسيحَ ثلاث مرّات! قَد نكونُ كبروتوس وكبطرس وأحيانًا كيهوذا أيضًا. ولكن، أُذكّرُ نفسي وأُذكِّرُكم بكلماتِ يسوع لبطرس بعدَ القيامة: "يا سِمعانُ بنَ يونا، أَتُحبّني أكثرَ مِمّا يُحبُّني هؤلاء؟!" (يوحنّا 15:21)

 

إن كُنتُ أنا وإن كنتَ أنتَ وأنتِ قد اِنقَلَبنا أو تَخلّينا عن المسيحِ هُنيهةً أو حتّى بُرهةً، عند موقفٍ مُعيّن أو أمام تجربةٍ ما، فهو لَن يتخلّى عنّا، ولَن يفقِدَ ثِقتَه فينا، ولَن تنتقِصَ محبّتُه لنا. هناكَ دومًا فرصةٌ للتوبةِ ومجالٌ للرّجوع من جديد.

 

هذا شهرُ حُزيران، شهرُ قلبِ يسوع الأقدس. فلا نُحزِنَنَّ القلبَ الأقدس بتقلُّبِ الأمزجةِ واختلاف الأهواء، إنّما نُبادلُه الحُبَّ حُبًّا وثباتًا وَوفاء.