موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٩ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠

تعالوا يا مَن بارَكهم أبي

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
تعالوا يا مَن بارَكهم أبي

تعالوا يا مَن بارَكهم أبي

 

أيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في المسيحِ يسوع. نحنُ اليوم في الأحدِ الخامس والعشرين من زمن السّنة، ونعود، مع كلِّ أسف، للاحتفالِ بصلواتِنا وقداديسنا من خِلالَ وَسائل البَثّ المرئي. فهذهِ الجائحة لا زالت تُلقي بِثِقَلِهَا الرّهيب، على جميع نواحي الحياة، ويبدو أنّها لن تُغادِرَنا سريعًا. ومع ذلك، نشكرُ الله عَلى أنّه يوفّر لنا فرصَ الّلقاء بكم، وإن كان خلف شاشات إلكترونيّة، إلّا أنّه يظلُّ أفضل من لا شيء. ولِسانُ حالِنا يقول: (إبعاد كنتم وإلا قريبين/ المراد إنكم بالقلب دايمًا حاضرين).

 

في هذا الأحدِ الخامس والعشرين، يضرب لنا المسيح مثلًا عن شموليّة الخلاص، فالله يريدُ خلاص كلِّ بشر. هو ليس خلاصًا محصورًا بأصحاب السّاعة الأولى عند الفجر، أي ليسَ لإمّةٍ أو لشعب دونَ سِواه، بل هو خلاصٌ للجميع لا يستثني أحدًا، حتّى لأصحابِ السَّاعة الخامسةِ بعد الظّهر. فاللهُ "ليسَ هواهُ أن يموتَ الشّريرُ، بل أن يرجِعَ عَن طريقهِ فيحيا" (حزقيال 11:33). ولذلك هو يطلبُ خلاصَ الجميع، ويسعى لخلاصِهم جميعًا، عند أي ساعة كانَ رجوعُهم، ومَهما تَأخّرت توبَتُهم. ويبحثُ عن الجميع كما يبحثُ عن الخروفِ الضّال وعن الدّرهم الضّائِع، وينتظر بشوقٍ عودةَ ابنِهِ الضّال إلى البيت الوالِدي في أيّ لحظة كانت (لوقا 1:15-32)، فالله أبٌ "لا يسرُّ بهلاكِ الأحياء" (حكمة 13:1).

 

الله صاحِبُ الكرم. وكما يُنشِدُ صاحِبُ المزمور: "للرّب الأرضُ وكلُّ ما فيها، الدّنيا وساكنوها" (مزمور 1:24). وهذا الكَرم هو الملكوت، الّذي أعدّه الله، منذُ إنشاء العالم، لكلِّ المباركين المدعوّين لأن يرثونَه (متّى 34:25). والملكوتُ هو الخلاص، المُشار إليه بالدّينار الّذي هو أجرٌ مستحقٌّ للجميع. والخلاص غير مربوطٍ بساعة أو بفترة. بل هو مُتاح لكلِّ إنسان، مهما عَظُمَت خطيئتُه، في أي ساعة قَرَّرَ فيها العودة نادمًا. فمجال التّوبة مفتوحٌ دومًا، أمام جَمع الخاطئين، ما دامَ هناكَ وقت مَعهم. أَتذكرونَ الّلصّ الّذي استطاعَ أن يختطِفَ بل يسرقَ الملكوت، قبلَ لَحظاتٍ فقط من موتِه؟! فاستحقَّ كلماتِ التّطويب من المسيحِ، وكِلاهما معلّقان فوقَ صَليبَيهِما: "ستكونُ اليومَ معي في الفردوس" (لوقا 43:23).

 

أُولَئِكَ الّذين اِسْتَأجرَهم ربُّ الكرم عندَ الفَجرِ هُم إشارةٌ إلى شعب إسرائيل. فَلَهُم كَانت المواعِدُ والنّبوءات، ومنهم الآباءُ والأنبياءُ. ثمّ يَستَمرُّ السّيدُ في الخروج، أي في المبادَرة، بَحثًا عن عَمَلةٍ آخرين، في عِدّةِ ساعاتٍ مِنَ النّهار. وهذا يدلُّ على أنَّ الله لا يزالُ يعمل في تاريخ البشرية لأجلِ خلاصِها جمعاء. هذا الخلاص الّذي بَلغ تمامَه وكمالَه في شخصِ يسوعَ المسيح، ففيه اكتَمَلَت المواعِدُ وتمّت النّبوءات. فلا خلاصَ لأحد تحت السّماءِ بأحدٍ سواه.

 

مِن صِفاتِ ربّ الكرم كما يظهرُ من المثل أنّه عادل، فَقَد ساوى بين الجميع، إذ أعطى الجميعَ دينارًا، فخلاصُ الله هو للجميع، بشكلٍ متساوي، ولا يوجد أفضلية لعرق على آخر، أو لإمَّة على أخرى. ثمّ أنّ عدلَه لا يُناقِضُ كرمَه وسخاءَه. فقد أعطى الّذين عمِلوا ساعة واحدةً فقط، كالّذين عمِلوا النّهار كلّه. ولا ظُلمَ في ذلك، كما يفسّرُ البعضُ معتقدين. فَبِمَا أنَّ اتفاقًا أُبرِمَ بينَ رَبِّ الكرم والعَمَلة، وهذا الاتّفاقُ كان بالتّراضي بين الطّرفين، فهو بذلك أعطى الّذين أتوا منذ الصّباح ما كان مُتَّفقًا عليه دون ظلمٍ أو إجحاف. وفي الوقتِ عينه، عندما أعطى أولئِك الآخِرين نفس القيمة، فهو بذلِك يُشير إلى أنّه سيّدٌ كريم، وصاحبُ سُلطة مُطلَقَةٍ على مَالِه الخاص، يتصرّفُ به كما يشاء.

 

والمُراد من ذلك، أنَّ الله يا أحبّة عادل يُجازي كلّ شخص بما يستحق. وَعَدلُه لا يتناقض مع رحمتِه الواسِعة، الّتي هي مفتوحة للجميع، ومُتاحة للجميع، وتُرحّبُ بالجميع حتّى لِتَائبي الوقتِ الأخير، ما دام الوقتُ متاحًا بين أيديهم. فسواء عِشت مسيحيًّا صالِحًا طولَ عمرِك، وعاشَ غيرُكَ خاطِئًا بعيدًا عن حظيرة المسيح، ثمَّ قرّرَ أن يتوب ويعودَ إلى الحظيرة الواحِدة، فَعَلَيكَ أن تفرحَ وتبتِهج، "لأنَّ أخاكَ هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالًّا فوُجِد" (لوقا 32:15).

 

ولكن، كما يظهر من المثل المُعطَى، فأصحابُ السّاعة الأولى، لم يَطِب ولم يَرُق لهم، أن يساوي السيّدُ بهم، أصحابَ السّاعة الأخيرة. فهم عمِلوا أكثر، ولِذلك يعتقِدون أنّهم يستحقّون أكثر. ولكنَّ الاتّفاقَ أُبرِم بتراضٍ وبعدل. ولكنَّ المعنى المقصود من تذمُّرِ أولئك العَمَلة، هو أنَّ البعض يتّخِذون مواقِفَ متشدّدة من إخوتِهم الخطأة، وخصوصًا تلك الفئة الّتي تعتقدُ أنّها بارّة. تمامًا كَمثلِ الفريسي والعشّار. ذاك الفريسي الّذي كانت صَلاتُه مجرّد انتقادات وإدانات لاذِعه لأخيه العشّار، السّراق الظّالم الفاسِق (لوقا 11:18).

 

هذهِ الفئة الّتي تدّعي البرارة، والّتي تحاول أن تُزكّي نفسها، مُدَّعيةً الطّهارةَ والأمانةَ والقداسةَ على ظهور غيرِها، منتشرة بكثرة في كنائِسنا ورعايانَا! هم فئة المكفّرينَ غيرهم. أخاف عليهم يومَ الدّينونة، أنَّ يكونَ برّهم غيرُ كافٍ لتبريرهم أمامَ ربِّ الكَرم. يقول المفكّر الإيراني عَلي شريعَتي: (خَيرٌ لَكَ أن تَقضي وَقتَكَ بالسّعيِ لإدخالِ نَفسِكَ الجنّة، على السّعيِ في إثباتِ أنَّ غَيركَ سَيدخُلُ النّار). أُتركوا القَضَاءَ لربّ العرش، واهتمّوا بخلاصِ أنفُسِكم، عِوضًا عن تكفير وإدانة غيرِكم من النّاس، فيا خوفي أن يَسبِقَنا أُولئك إلى الملكوت، ونُلقى نحنُ في الظّلمة البرّانيّة.

 

يقول أولئك العملةُ السّيئون جملة مُقزّزة للغاية: "سَاوَيتَهم بِنا!" يكرهون فكرة أن يُساوى أحدٌ بهم. هذه هي العقلية الفوقية، والنّظر باحتقار إلى الآخرين. وهي عقلية موجدةٌ أيضًا لدى فئاتٍ في كنائِسنا وبين بعضٍ مِن مؤمنينا. وهي فئة مزعجة جدًّا للكاهن وللرّعية. في الكنيسة لا يوجد انغلاق وتقوقع، ولا يوجد نُخَب ولوبيّات. الكنيسة كَرمٌ للجميع، فالله هو ربُّ الكرم وسيّد البيت، والكُل أمامَ الله، متساوٍ في الكرامة والإنسانية، وفي الحصول على دينارِ الخلاص.

 

كَفانَا رفضًا وحَسدًا لبعضِنا البعض، كفانَا سُخطًا وحِقدًا على بعضِنا البعض. كفانا إداناتٍ وانتقادات، نميمة وافتراءات، خصومات وعداوات. كفانا تكفيرًا لبعضِنا البعض. كفانًا نهشَا وقَضمًا وطَمَعًا. كفانا تذمُّرًا على بعضنا البعض، وعلى الله أيضًا. كفانًا نظراتٍ حسودة. لَيتَنا نتحلّى بنظرات رحومة رؤوفة رؤومة شفوقة. لَيتَنا نبحثُ عن الخير للجميع. صدّقوني، هناك دنانيرُ تكفي للجميع، لأنَّ الخلاصَ هو للجميع، والمشكلة تكمُن دومًا في طمع الإنسان الّذي لا يعرف حدًّا ولا يُشبِعُهُ شيء!