موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٢ يوليو / تموز ٢٠٢٠

باع كل ما يملك ليشتري لؤلؤة مخفيّة

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
باع كل ما يملك ليشتري لؤلؤة مخفيّة

باع كل ما يملك ليشتري لؤلؤة مخفيّة

 

الأحد السابع عشر، أ (متّى 13: 44-52)

 

"كل شيء أو لا شيء"، كان اسم برنامجِ مسلسل حزازير أسبوعي، في التلفزيون الألماني. كان اللاعب المشترك يجازف إما بكل ما ربح في الحلقة السابقة، أو أقلّه بأكبر كمية منه، على أمل أن يربح كمّيّةً أكبر. المجازفة هي خطر كبير، ولها وجهان: إذ قد يخسر الإنسان كل شيء، كمن يجازف بلعب القمار، أو يضرب الجظ معه ويكسب أكثر مّما كان يتوقّع. المجازفة هي عمل شجاع، على ما فيها من خطر بعكس التّاجرين الإثنين اليوم، فهما يخاطران بكل ما يملكان، دون أن يعرفا نتيجة مخاطرتهما، وذلك ليستطيعا من شراء كنز ثمين.

 

ماذا عنى يسوع بمثليه اليوم، ألا يحثُّ سامعيه أيضًا على المجازفة؟ ألا يطلب منّا المستحيل، دون أن يؤكِّد لنا أننا سنربح شيئا؟ ألا نتذكر في هذا المجال ما قاله في موقع آخر: من أراد أن يخلِّص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يُخلِّصها(مر 8: 35). هل يطلب يسوع فعلا منّا أن نجازف ونبيع كل شيء، من أجل كنز مدفون في الحقل أو لؤلؤة ثمينة؟ أليس هذا تهور غير معقول؟ وإن تبيّن أنه لم يربح، فسيتألم من الخسارة العمرَ كلَّه؟ لكن الكنز الذي حكى عنه يسوع، لا علاقة له بالكنوز المادية. هو كنز الإيمان الحقيقي، إذ من اشترى الإيمان اشترى كل شيء ضروري للخلاص. بالإيمان نعرف أن الله معنا. وإن كان الله معنا فمن علينا؟ فلهذا الكنز الثمين يحق التضحية بكل شيء.

 

كل نصوص توراة العهد القديم المُعترف بها، هي إعلان إيمان الشعب بإلهه القوي، الذي خلّصه من العبودية ورافقه إلى أرض الميعاد. كما ونصوص العهد الجديد هي إعلان إيمان المؤمنين الأوّلين بما عمله الله، لِنَجِد فيه مثلا نقتدي به. فعلى قول الإنجيلي يوحنا: لقد كُتِبت هذه، لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم الحياة باسمه (يو 20: 30). هذا الإيمان لا يمكن شراؤه، لا من الأسواق التّجارية ولا من أي مصنع، بل هو هدية من الله. ومن هذا الإيمان نقدر أن نكتشف بالتالي، ما علينا عمله لنخلص أو نهلك في النهاية. بالإيمان نبني ملكوت الله على الأرض، مع يسوع المسيح، الذي جاء وسكن بيننا.

 

مثل ملكوت السّموات، كمثل كنزٍ دُفن في حقل... إنَّ التفتيش عن كنز مدفون، هو غريزة متأصّلة في طبيعتنا. فمن لا يحلم، صغيراً كان أم كبيراً، بالتفتيش عن وجود كنز يوماً ما. نعم إن التّفتيش عن كنز، هو غريزة فينا، هو حلم عريق وجذّاب. فكم من كِتاب خيالي كُتِب، لتسلية الأولاد، محتواه مخاطرات وبطولات حدثت مع الأطفال في تفتيشهم عن كنز ما. من لا يعرفها خرافة: إفتح يا سمسم! أو قصة علي بابا والأربعين حرامي. إن قراءة هذه الكتب تُحدِث تفاعلا وشعورا مُزدوجاً، بين أبطالها وقرّائها.

 

هذا ولأن الكنوز المخفية حقيقية، فقد صارت التكنولوجيا اليوم تهتم باختراع آلات ألكترونية حسّاسة، للتفتيش عن هذه الكنوز، الّتي دفنها أصحابها، إمّا لتخبئتها عن السرقة، أو لأيام الضيق، لكنهم ماتوا ونسوها، دون أن يُعلِموا غيرهم عن وجودها. إن التفتيش عن الكنوز، ولو كان مُرتبطاً بتعب مضني، إلا أنّ الأمل بوجودها يبعث على الفرح، إذ كما قال يسوع: حيث كنزك فهناك قلبك! (لو 12: 34)

 

وهنا يتدخّل يسوع بمثليه اليوم ليعطينا تعليما للحياة. إنّه كعالِمٍ نفسي، يعرف كيف يُحرِّك قلوب سامعيه، باستعماله أمثالا بسيطة من صلب حياتهم، يفهموها بسهولة، ويتعاملوا معها ببساطة. مَثَل ملكوت السّموات، ابتدأ اليوم يسوع ، كَمَثل كنزٍ دُفِن في حقل. هذه كانت العوائد قديما حيث ما كان من بنوك لتأمينها من السرقات  فأول ما يخطر على بال السّامع هو: يجب أن نُفتِّش عن هذا الكنز! كنز ويبقى مخفي؟ لا، الآن يجب التفتيش عنه وإخراجه.

 

يسوع يستغلّ الظرف، حيث كان كل الشعب ينتظر مجيء ملكوت الله، أن يحثّهم على التفتيش عن هذا الملكوت، الذي هو بينهم، لكنهم لم يعرفوه بعد، كاكنز الذي لا يزال محفيّأ في الأرض. وللحال راح كثيرون يتساءلون: ملكوت الله؟ ما هذا؟ وكيف هو؟ وهل نحتاج لملكوت جديد؟، وهل يستحقُّ التفتيش عليه؟ ... كل الشّعب كان يُفتِّش عن علامات حلول هذذا الملكوت، أي ملكوت الله.

 

اليوم نحن نستغرب، كيف أن البشر نسوا ضرورة حلول ملكوت الله، بينما الشعوب القديمة فكانت تنتظر أي إشارة، تدلّ على حلول بل وجود هذا الملكوت، وأمّا اليوم، فمن يخطر على باله، أن يفتش عن هذا الملكوت؟ من يُشغل بالَه بالتفكير في حلول ملكوت الله؟ من بعد ما كان هدف كل إنسان، الإستغناء عن كل الأفراح الدنيوية، مقابل الحصول أو الدّخول في ملكوت الله؟ إذ ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟..  لا تكنزوا لكم كنوزا على هذه الأرض بل بيعوا ما لكم وأعطوه صدقة. إعملوا لكم أكياسا لا تفنى وكنزا لا ينفُذ في السّماء، حيث لا يقرب سارق ولا يُبلي سوس، لأنّه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضًا" (لو 12: 33).

 

عندما كان الناس يقعون في ضيق أو مأزق، بأشكالها، سواء ماديّة كانت أو جسدية، كانت أنظارهم أوّل ما تتّجه إلى السّماء، لطلب المعونة والنّجاة. وأمّا اليوم، فبسبب الرّفاهية والرّغد، الّذي يعيشون فيه، فقد راحوا يُعالجون هذه المشاكل، إما مادّيا، إذ باستطاعتهم ذلك، وإمّا طبّيا، إذ الطّب اليوم مفتوح لعلاج كل مرض، جسدي أم نفسي، على حدٍّ سواء. لقد تبدّلت الأدوار وما عاد لا للإيمان ولا للكاهن ولا للكنيسة أيُّ دورٍ في توجيه البشر نحو الخلاص، وأمّا الّذين ينطرون مساعدة السّماء فهم قِلّة. وإذ يفتكر الكثيرون أن السّماء صعبة المنال، فهم بالتّالي يتحاشون التفكير في ما عليهم عملُه، إذ الله مع الكل رحيم، يقولون! فهذا التفكير هو ليس موقف الإيمان، وخلاص الإنسان، ليس مرتبطا بمصيرٍ غيرِ واضح

 

من يختلط مع الناس اليوم ويسمع إلى حديثهم أو يتصفّح الإعلام، يتعجب من المواقف المُضادّة لموقف الدّين والكنيسة. حتى الجدال حول السياسة، هو غير واقعي، فالجدالات هي دوما مشروطة: لودخلت السياسة او عُرِض عليّ وظيف سياسية، لأصلحت كذا وكذا. لا يرى في الوضع الحالي إلاّ سلبيات: الشبيبة فاسدة، وهي تحتاج إلى قوانين صارمة لضبطها وردعها، تَحِلُّ مَحلَّ المربّين، لأنّ هؤلاء فشِلوا في أدّاء مُهمتِهم. كما ولا تَسلَمُ الكنيسة من الإنتقاد، فإنَّ أقلَّ ما يُقال فيها، إنَّها رجعيَّةٌ بأفكارها وتعليمِها، اللّذين لا يُماشيان العصر. لا تقبل بالإقتراحات الجديدة أو أي تنفيذ لرغبة الشعب، كأن الإيمان يَنقبل أو يُرفض بالأكثرية أو بالأقلية، لا بفهم تعليم الله والإنجيل، الّذي لا يَدْخُله خطأ ولا يَخْرُجُ منه أيُّ عِلْم خطأً. فهو أبدي لا يتبدّل.

 

علم الدين والكنيسة هو كنز ثمين، وما علينا إلا بيع أي تعليم آخر في عقولِنا، وشراء تعليم الكنيسة الثمين. إذ فيه فقط، يجد الإنسان السعادة والمحبة الكاملة، والكمال والأطمئنان والأمان. وهذا ربح الأبدية التي نشتاق إليها. آمين