موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٠ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠

اِلبَسوا الرّبّ يسوع

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني، كاهن رعيّة "سيدة الورديّة" للاتين في الكرك، جنوب الأردن

الأب فارس سرياني، كاهن رعيّة "سيدة الورديّة" للاتين في الكرك، جنوب الأردن

 

الأحد الثّامِن والعشرون من زمن السنة-أ

 

أَيُّها الإخوةُ والأخوات الأحبّاء في المسيحِ يسوع. ها قَد بَلغنَا الأحدَ الثّامن والعشرين من آحادِ زمن السّنة. ولَم يعُد يفصِلُنا عن نهاية هذهِ السَّنةِ الكَنَسيّة سوى بضعة أسابيع. لنبتدِأَ سنةً جديدة، نسألُ الله أن يكونَ لنا فيها وللبشريةِ جَمعاء، الخيرُ والبركة والسّلامُ والشّفاء.

 

وفي هذهِ الآحادِ شبهِ الأخيرة، لا نزالُ نقرأُ سلسلةَ الأمثالِ الوارِدة في إنجيلِ متّى، والمرتبِطة بقبولِ الخلاص. فَبَعدَ مجموعةِ الأمثالِ الّتي شَبَّه فيها السّيد المسيح الخلاصَ بِالكَرْم، يحدّثُنا اليوم عن هذا الخلاص كَوَليمة عُرس أُعِدَّت، وإِليها يُدعى الجميع، ولكن المواقِفَ أمامَ الدّعوة تختلِف وتتباين. فهناكَ من يرفض الحضورَ، ولا يُبالي بالعرسِ ولا بصاحبِ العُرس، ويتّخِذ مواقف رفضٍ ومُقاطعةٍ جَذريّة. وفي نفسِ الوقت، مِن ضِمنِ الّذين لبّوا الدّعوة وحَضَروا للمشاركة، بعضُهم قد لا يُلبّيها بالشّكل الّلائِق، وهناك مَن لَم يلتزم ببرتوكولات المشاركة، فأتوا دونَ ثوبِ العُرس!

 

فأمامَ الله كداعٍ إلى العُرس، وأمامَ وليمة المسيح، تتباينُ الرّدود، بينَ رفضٍ قاطِعٍ وجَذري، وبين قبولٍ ولكنّه مُزيَّف ومغشوش، وبين قبولٍ حَقيقي وأصيلٍ وصادِق.

 

للوليمة في مفهومِنا الشّعبي وعُرفِنا الاجتماعي معانٍ كثيرة، ولعلّ أهمّها التّعبير عن المحبة والمودّة، الّتي تربط بين الدّاعي والمدعو. وللوليمة في مفهومِنا الإيماني المسيحي معانٍ أَسمى وأَعلى. فهناكَ المعنى الزّمني المباشِر، أي الوليمة الإفخارستيّة الّتي نُقيمها في كلِّ قُدّاس. وهناكَ المعنى الأُخروي أي تِلكَ الوليمة المعدّة لنا في المجدِ الأبدي. وبما أنّ الوليمة حدثٌ هام على صعيد المجتمع، فَلَها ثوبٌ يليق بها. لتكونَ المشاركُ لائقةً على أكملِ وجه، بما يليق أيضًا مع شَخصِ الدّاعي وكرامتِه. فَكيف هو الحال إذًا، إن كان الدّاعي هو اللهُ نفسه، وإن كانت الوليمة جسدَ ودم المسيح؟!

 

يدعونا الله أوّلًا إلى الوليمة الأبدية، إلى الملكوت الّذي أعدّه لنا نحن أحبَّته قبل إنشاء العالم. ولهذه الوليمة أرتدي ثوبَ (الاستعداد). فللوليمة الأبدية الباقية، أَستعِدُّ طولَ حياتي الأرضية الفانية. أستعِدُّ بأن أَحيا حياةَ قداسةٍ وفضيلةٍ قدر الإمكان. أستعِدُّ بأن أتخلّق بأخلاقِ مَن هو في المسيح يسوع، وبأن أسعى إلى، وأرغبَ في الأمورِ الّتي في العُلى، حيثُ المسيح (قولسّي 1:3-2). فالمسيحُ هو ثوبي؛ لأنّا نحنُ الّذينَ في المسيحِ اعتمدنا، المسيحَ قَد لَبِسنا (غلاطية 27:3).

 

يدعونا اللهُ أيضًا إلى الوليمة الإفخارستية. ففي كلِّ قداس نُصلّي: طوبى للمدعوّين إلى وَليمة عُرس الحمل! هذهِ أعظمُ دعوةٍ وأشهى وأطيبُ وليمة في حياتي كمؤمن، وخسارة كُبرى لِمن لا يُلبّيها مُتَذَرِّعًا بحجج كثيرة! أمّا نحن، فقد اخترنا النّصيب الأفضل. فنحنُ عندما نأتي إلى القُدّاس، إنّما نُلبّي دعوةَ الحمل، ونُشارِكُ في عشاءِ الرّب، وهذا شرفٌ عظيم خَصَّنا اللهُ به. أتُدرِكونَ كم هي عظيمة دعوةُ القدّاس، وَكم مُنعَمٌ علينا إذ نشارِك في وليمة المسيحِ نفسِه!

 

فيا تُرى، كيفَ نَتَحَضّرُ لقبول المسيح في سرّ جسدِه ودمِه؟ ما هي طبيعة استِعدادِنا لهذهِ الوليمةِ الإفخارستية؟ كيفَ نَتَهَيّأ وكيفَ نَتَأهّب للمناولةِ المقدّسة؟ الهيئة الدّاخلية مهمّة، والهيئة الخارجية لا تقلّ أهميّة أيضًا.

 

على مُستوى الهيئةِ الخارجيّة، يوجد مُشكلة، إن لَم تَكُن أزمة، لدى كثيرين، في تميز وإدراك طبيعةِ المكان وقدسيّته أي الكنيسة، وفي احترام المناسبةِ والحدثِ الّذي إليه نحن ذاهبون وفيه مشارِكون، أي وليمة القدّاس. يوجد نوع من عدم الوَعي في كَيفيّة تحضير الهيئة الخارجية، بالإضافة إلى غياب مفاهيم ومبادئ أساسيّة، لدى كثيرٍ من العائِلاتِ وَالمعمَّدين.

 

عندَ القدوم إلى القدّاس يجب أن ندرِكَ جيّدًا أنّ للمكانِ قُدسيّة ووَقار، وأنَّ للحدثِ احترام وهَيبَة. وهذا ما يجب أن نَعكسَه في الهيئةِ الّتي نحضرُ فيها. هناكَ مظاهر غير مقبولة، ولا تَليق بالعُرس، بل تحمِل إهانة إلى صاحب العرس وإلى وليمتِه. فكما أنَّ لكلّ مَقام مَقال، فأيضًا لكلِّ مقام مَظهر وهيئة وحَركة، وأيضًا مَلبس وهِندام. ومقامُ الكنيسة والقدّاس، غير مقام الشّارع أو المطعم أو الحفلة...

 

أمّا على مستوى الهيئة الدّاخلية، فأيضًا هناك أزمة واضِحة لدى العديد من المؤمنين، مُكرّسين وغير مُكرّسين، في مُختلف الرّعايا والمواقِع، تَستطيع تَلَمُّسَها والإحساسَ بها جيّدًا. هناكَ نوع من الانفصام الإيماني، وشرخ عميق وعدم انسجام وتضارُب، بينَ طبيعة المناسبة أو وليمة العُرس، وبينَ طبيعة الاستعداد أو ثوب العُرس! إنّ رفضَك للدّعوة من الأساس، خيرٌ لكَ من القدوم إليها بقلبٍ وسخ حاقِد، وفكرٍ نَجِس قَذِر، وَنيّات مُدَنَّسة قبيحة. لأنّ: "مَن أَكَلَ وشَرِبَ وهو لا يُميّز جسدَ الرّب، أَكَلَ وشَرِبَ الحُكم على نفسِه" (1قورنتوس 29:11).

 

نَعم، أنا لا أُنكِر ضعفي كإنسان، ولا اتنصَّلُ من كثرةِ سقطاتي وزلّاتي، ولكنّ الله وضعَ لي (دراي كلين) في سرّ المصالحة وكرسيّ الاعتراف، لكي أغتسِلَ من نجاستي وأزيلَ عنّي قذارتي، وأكونَ مُستَعِدًّا لابِسًا ثوبَ البرارةِ والنّقاوة، بشكل يليق بقدسيّة هذهِ الوليمة الإفخارستيّة الثّمينة. لذلك من غير المنطقي ولا هو من صنوف المعقول، أن يأتيَ سين أو تأتيَ صاد إلى كلِّ قدّاس، على مدار أشهر، دونَ مناولة! ما الفائدة إذًا من حضور الوليمة، دون أن تتناول منها؟! لا أظنَّ أنّ ذلك نابِع عن حِمية وصفها لك الطّبيب، بالامتِناعِ عن تناول القربان الأقدس!

 

يقول النّص أنَّ عبيدَ الملك جَمعوا الجُلساءَ من الطّرق ومفارِقِها، بناءً على أمرِ الملك! وفي هذا القول مَغزى ودلالة. نحن إذا أَرَدنا تَأنيب شخص نقول عنه: (ابن شوارع أو ترباية شوارع). فالشّوارع أو الطّرق تدل في المفهوم الشّعبي على سُوءِ تربية، وفقرٍ بالأخلاق، وشُحٍّ في الأدب. لِذلك يا أحبّة، أَنْ يَدعو المسيح الكُلَّ من الطّرق، يعني أن نخلعَ الإنسان القديم، وَنَتَخلّى عن طُرقِه وأعمالَه وأساليبِه الّتي فينا، لِنَلبس الإنسانَ الجديد، بثوب جديد، هو المسيحِ يسوع.

 

أختم بمقتطفات مِمّا جاء في رسالة القدّيس بولس إلى أهل أَفَسس، عن هذا الإنسان الجديد الّذي دُعينا لأن نلبسَه: "أُناشِدُكم أَن تَسيروا سيرةً تَليقُ بِالدَّعوَةِ الَّتي دُعيتُم إِلَيها، سيرةً مِلؤُها التَّواضُعُ والوَداعَةُ والصَّبْر، مُحتَمِلينَ بَعضُكُم بَعضًا في المَحبَّة. أستحلِفُكم أَن تُقلِعوا عن سيرَتِكمُ الأُولى، فتَخلَعوا الإِنسانَ القَديمَ، فَتَلبَسوا الإِنسانَ الجَديدَ الَّذي خُلِقَ على صُورةِ اللهِ في البِرِّ وقَداسةِ الحَقّ. ولِذلِك كُفُّوا عنِ الكَذِب، لا تَغرُبَنَّ الشَّمْسُ على غَيظِكم. لا تَجعَلوا لإِبليسَ سَبيلاً. مَن كانَ يَسرِقُ فلْيَكُفَّ عنِ السَّرِقَة، بلِ الأَولى بِه أَن يَكُدَّ ويَعمَلَ بِيَدَيه بِنَزاهة. لا تَخرُجَنَّ مِن أَفْواهِكم أَيَّةُ كَلِمَةٍ خَبيثَة، بل كُلُّ كَلِمةٍ طيِّبةٍ تُفيدُ البُنْيانَ وتَهَبُ نِعمَةً لِلسَّامِعين. ولا تُحزِنوا رُوحَ اللّه القُدُّوسَ. أَزيلوا مِن بَينِكم كُلَّ شَراسةٍ وسُخْطٍ وغَضَبٍ وصَخَبٍ وشَتيمة وكُلَّ ما كانَ سُوءًا. ولْيَصفَحْ بَعضُكم عن بَعضٍ كما صَفَحَ الله عنكم في المسيح" (أفسس 1:4-32)