موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٣ مايو / أيار ٢٠٢٠

اِفرَحوا بقدر ما تُشارِكونَ المسيحَ في آلامِهِ

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
اِفرَحوا بقدر ما تُشارِكونَ المسيحَ في آلامِهِ

اِفرَحوا بقدر ما تُشارِكونَ المسيحَ في آلامِهِ

 

عظة الأحد السابع من الفصح

 

أيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبَّاء في المسيحِ يسوع. نحنُ اليوم في الأحد السّابع من زمنِ الفصحِ المجيد. أتعلمونَ مَعنى ذلك؟ ذلك يعني أنّنا سنحتفِلُ يوم الأحدِ القادِم بِعيدِ العنصرة وحلولِ الرّوح القدس، لنُقفِلَ مع ذلكَ العيد، أو نُعلِنَ اِختتامَ الزّمنِ الاحتفاليّ الأجمل والأعظم، وَقد احتَفَلنا به تحتَ وطأةِ ظروف غريبةٍ عجيبة استثنائيّةٍ للغاية، وفي ظلِّ أحداثٍ قاهرةٍ ومؤلمة ومزعجة جدًّا.

 

يُفتَرَضُ بزمنِ الفصح أَن يَملَأنَا نشوةً وغِبطة! ولكن على النّقيضِ من ذلكَ تمامًا، مَلأَ الحزنُ قلوبَنا هذا العام، كما ملأَ قلوبَ التّلاميذ (يوحنّا 6:16). يُفترضُ بزمن الفصح أن يجعلَنا نفرح ونضحك ونَبتسِم! ولكنَّ الوجوهَ كانت عابسةً بعض الشّيء بِنِسَب مُتفاوِتة، والنّفوسَ منّا مُثقلة والعقولَ مُرهَقة والأجسادَ تَعِبة وكيانَنا كلَّه منقبِض ومَشدود. فَقَدنَا طعم العيد هذا العام!

 

ربّما قَد يَرميني البعضُ بِالتَّشاؤميّة المفرِطَة ويتّهمني البعضُ الآخر بالسّوداوية في رؤيةِ الأمور. ولكنّي أعلمُ بأنّني أُخاطِبُ في هذهِ الّلحظات قلوبَ وأفكارَ كثيرين، مِمّن يشعرون بضيقٍ وكَدرٍ وانقباضٍ وغصّةٍ وألمٍ ومرارة، وأنا أشعرُ بألمِهم وأدرِكُ مشاعِرَهم. ربّما احتفلنا بالفصحِ هذا العام، بَشكلِهِ الكَنَسي والليتورجي فقط، فَتَلونا الصّلوات وَقَرأنا القراءات وأَنشَدنا الأناشيد، من خلال وسائل تكنولوجية مُتاحة بينَ أيدينا.

 

ولكنّنا في الواقع لا نزالُ نمشي في دربِ الآلام، نسيرُ دربَ الصّليبِ الوَعِرة، ونختبر طريقَ الجلجلة! فالعالمُ يرزح تحت وطأةِ ألمٍ شديد، وكثيرونَ يُقاسون ويُعانون ويُنازِعونَ في بستان زيتونِهم، غارقون في ظلمةِ ليلٍ أدهمٍ بهيم، هو ليلُ النّفس كما يَصِفُه القدّيس يوحنّا الصّليبي. نفوسُهم حزينة حتّى الموتِ كنفس يسوع. وكثيرون واقعون كما وقع يسوع، أو مُسمّرون كما سُمِّرَ يسوع، على صليبٍ ثقيلٍ غليظٍ مُوجِعٍ، يصرخون إلى الله: لماذا شَبقتَنا؟ لماذا ترَكتَنا؟! كَلَّلَنَا إكليلُ الألمِ هذا العام. أَشواكُه الطّويلة المُدبّبة، غُرِزت فينا واَختَرَقَتنا حتّى الصّميم، فأدمتنا وأَوجَعَتنا، حتّى أنهَكتنا وأتعَبَتنا.

 

عيدُ الفصحِ وزمنُ القيامة هذا العام، بشكل خاص يا أحبّة، ممزوجٌ بمشاعر من الألم. نالَنا كربٌ، وأصابَنا كَدرٌ، وحلّت بِنا ضربةٌ مُوجِعة. نحنُ في زمن مِحنةٍ بامتياز. ويسوعُ حَذَّرَنا من هذا الشّيء، حين قال: "قُلتُ لَكم هذهِ الأشياءَ لِئلّا تَعثروا. سَتبكونَ وَتَنتَحِبون. تُعانونَ الشِّدَّةَ في العالم. ولكن ثِقوا. إني قَد غلبتُ العالم" (يوحنّا 1:16، 20، 33).

 

ومع ذلك، وبالرّغم من هذهِ الصّورة القاتِمة للواقع الحالي، والرّؤية الباهِتة للظّروف الآنية. يُخاطِبُنا بطرسُ الرّسول في القراءةِ الثّانية من هذا الأحد، المأخوذة من رسالته الأولى، بكلماتِ عزاء ومواساة، قائِلًا: "أيُّها الأحبّاء، اِفرحوا بِقَدرِ ما تُشارِكون المسيح في آلامه"! أن نفرحَ وقتَ النّجاح، عندَ سماع خبر جميل، عندَ تحقيقِ إنجاز مُعيّن، عند بلوغ هدف ما، عندَ حلولِ مناسبة سعيدة أو ذِكرى عَطِرة، هو شيءٌ إنساني طبيعي. ولكن، أن نَفرح عندما نتألّم؟! أن نَفرح عندما نُعيّر ونُهان؟ فهذا شيءٌ يفوق الطّبيعة الإنسانية، وَيَتَخَطّاها.

 

الألم هو شعور نَختَبِرُه في حياتِنا، شِئنا أم أبينا، رَضينا أم كَرِهنا. وأنواعُه تختلف مِن ألم جسدي وألم نفسي ومعنوي وألم فِكري. والكُلّ يَمر بمواقف وظروف مؤلِمة جِدًّا وخيبات أمل قاسية للغاية. لماذا نتألّم، لماذا نُقاسي؟ هذا سؤال قد نعيش العمرَ كلَّه دون أن نجدَ إجابةً شافية تُقنِعُنا، بالرّغم من كلِّ التّفسيرات الفلسفية والإيمانية أيضًا. ويبقى الألم جزءًا صعبًا من حياةِ الكائِنات، وسُنّة من سُننِ الطّبيعة لا بدّ أن نَتكيَّفَ ونتأقلمَ معها.

 

وبالمناسبة، لَسنا نحن الكائنات الوحيدة الّتي تتألّم على هذا الكوكب. النّباتات أيضًا تتألّم، الحيوانات أيضًا تتألّم. وأحيانًا كثيرة، نحن بني البشر، نكونُ سببَ تألّمِ كثير من الكائنات الحيّة ومُعاناتها، بسوء مُعاملتِنا وتعامُلنا الرّديء مع الطّبيعة وكائناتها، نكون حاملي ألم لِغيرِنا كالعدوى المُمرِضة. على مستوى قِط صغير أو كَلب في الشّارع، الحركة الأولى لكثيرين تكون رَميُه بحجر! الإيذاءُ متأصّلٌ ومُتجذّر في طبيعتِهم، مُتسرطِن ومُستوطِن في تركيبتِهم. نَتقصّد ونتعمّدَ إيذاءَ غيرِنا، وإلحاقَ الألم بغيرنا! سهلٌ جدًّا على الإنسان أن يؤلِمَ غيره، مع المعنى الواسع لكلمة غيرِه، وأن يكونَ سببًا في مُعاناةِ غَيره، وخصوصًا مَن هم أضعف منه. ولكن، صعبٌ جدًّا أن يقبلَ هو الألمَ والمعاناةَ حينَما تُصيبه والحجرَ حينما يُرمَى به! لذلك، كما ترفضُ الألم لنفسِك، لا تَكن أنت سببًا في آلام غيرك، أيًّا كان.

 

يا أحبّة، الألم وإن كان جُزءًا من طبيعتِنا الإنسانية الواهية، إلّا أنّه في حياتِنا نحن المؤمنين بالمسيح، يَأخُذُ معنىً أَسمَى. لذلك، عندما نتألّم، لا يَبقى أَلَمُنا مجرّدَ شعور إنساني صِرف، إنّما يَتجلّى ويتحوّل ليُصبِحَ مشاركة في آلامِ المسيح. وآلامُ المسيح كانت آلامًا خلاصيّة سامية، قادت إلى فدائِنا وتحرِيرِنا.

 

المسيحيّ، أمامَ الألم ومَشقّاتِ الدّهر الحاضر، أمامَه خياران اثنان: إمّا أن يتذمّرَ ويكفُر، وإمّا أن يحتَمِلَ ويصبر. فإن كان لا بدَّ لنا أن نتألّم، فعَلينا أن نُحسِن التّصرف وأن نُتقِنَ فنَّ الثّبات. يقولُ القدّيس يعقوب في رسالته: "أُنظروا يا إخوتي إلى ما يُصيبُكم من مُختَلفِ المِحن نَظَركم إلى دواعي الفرحِ الخالِص. فأنتم تَعلمونَ أنّ امتحانَ إيمانِكم يَلِدُ الثّبات. وَليَكُن الثّباتُ فعّالًا على وجهٍ كامِل، لتكونوا كاملينَ سالمينَ لا نقصَ فيكم" (يعقوب 2:1-4)  

 

يا إخوتي وأخواتي، هنا يَكمن الفرق. إن كانَ واجِبًا علينا أن نتألّم، فلنُعطِ أَلَمَنَا معنىً خلاصيًّا، عندما نَضُمُّ آلامَنَا إلى آلامِ المسيح المخلّص. وهنا يجب أن نفرحَ ونبتهج، لأنَّ أَلَمَنا الّذي نَقبَلُه بإيمان وصبر مع المسيح، يُصبِحُ سببَ خلاصٍ وعِلّةَ نجاةٍ لنا. يقول القدّيس بولس في رسالته إلى أهل رومة: "لأنّنا، إذا شَارَكنَاهُ في آلامِهِ، نُشارِكُه في مَجدِه أيضًا. وأرى أنَّ آلامَ الدّهر الحاضِر، لا تُعادِلُ المجدَ الّذي سَيَتَجلّى فينا" (رومة 17:8-18).

 

وأخيرًا، أختمُ وإيّاكم بهذهِ الباقة الشّعرية الجميلة للشّاعر الحُسين البغدادي عن الصّبر، فيقول:

 

تَلَقَّ بِالصّبرِ ضَيفَ الهَمِّ حَيثُ أَتَى                       إِنَّ الهمُومَ ضُيوفٌ أَكلُها المُهَجُ

 

فَالخَطْبُ إن زَادَ يَومًا فَهو مُنتَقِصٌ                      وَالأمرُ إنْ ضَاقَ يَومًا فَهوَ مُنفَرِجُ

 

فَروِّحِ النَّفسَ بِالتَّعليلِ تَرضَ بِهِ                           وَاعلَم إلى ساعةٍ من سَاعةٍ فَرَجُ