موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٧ مارس / آذار ٢٠٢٠

اليوم، إلامَ يدعونا الله (4)

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
لنرعى أبناءنا بحسب حب قلب يسوع، ونكون لهم رعاة أمناء وخدمًا أوفياء

لنرعى أبناءنا بحسب حب قلب يسوع، ونكون لهم رعاة أمناء وخدمًا أوفياء

 

الله، في المسيح يسوع، يدعونا نحن الكهنة، إلى أن نكون شهودًا للحق وشهداء لمسيرة تجسد المسيح ومجيئه إلى هذا العالم حيث ذاق كل أنواع الأوجاع من طرد وشتم واضطهاد وإهانات كثيرة وحتى وهو في أرضه بين شعبه وصحبه. هو الذي طُرد من المدن من قبل الناس الذين لم يريدوا سماع الحقيقة وكانوا يجتمعون ليوقعوا به من سطح الجبل، هو مَن شفى المرضى من أوجاعهم وقالوا أن عمله من الشرير.

 

نعم، تألم المسيح لهذا الحد ليعزّينا في كل مراحل حياتنا، ويقول لنا مهما شعرنا بالخوف والوحدة والضعف "لقد غلبتُ العالم، ثقوا وآمنوا بي" (يو33:16). وتلك قدسية مسيرتنا وعظمة دعوتنا حيث بدأت تظهر تعاليم غريبة، وتعلو أصواتٌ تعتبر النبوّة رسالتها، كما ظهر مسلّطون يعتبرون أنفسهم أنبياء يتاجرون بشعب الله ومؤمنيه. فالدعوة تناشدنا اليوم أن ننتبه من الحقائق المزيفة التي يتبنّاها كبار زماننا، ورؤوساء دنيانا ،وأمراء بلاطاتنا، فدعوتنا هي سهرنا على شعوبنا كي نعطيهم القوت في حينه (متى45:24)، ولنرعى أبناءنا بحسب حب قلب يسوع، ونكون لهم قادةً شجعانًا وليس رؤساءً، رعاةً أمناء، وخدمًا أوفياء، نزيّنهم بغيرة إيليا وجرأة يوحنا ووداعة الرسل والفقراء وحقيقة الإنجيل والبشارة، ونعلن مسيرة المسيح شهادة للحقيقة في سيرتنا الذاتية في أن نفتش عن الجائع والعطشان، ونسأل عن المريض والجريح والبريء المظلوم، وندافع عن العريان المسكين، ونزور السجين حاملين إليه تعزية السماء، ولا نطرد الفقير من أبوابنا بحجّة أنه لا يحق أن يستعطي أمام أبواب ديارنا، دون أن نخاف الزمان وكباره والأيام ومناصبها وأوامرهم وأهدافها، وما علينا إلا أن نشهد  للحقيقة في وجه الأقوياء كما فعل ربنا يسوع المسيح حينما قال لحرس حنان "لماذا تضربني الأني قلتُ الحق" (يوحنا 23:18)، "فالرب أرسلنا لنهيء الطريق للمسيح الحق كما قال يوحنا المعمدان" (مرقس 1: 1-8) فالخوف كل الخوف من الذئاب وفراخها والتي تدخل سياج الرعية وتفتك بالقطيع والشعب فتسرق وتقتل بنداءات مزيفة ومصالح فاسدة، فتضيع مسيرة حياتنا وتضيع معنا دعوتنا، وبالتالي تفرغ قلوبنا من المسيح الحي وتمتلئ من الروح الشيطانية التي تأتينا "بثياب الحملان" (متى 15:7). ولنعلم جيدًا أنه مَن اعتصم بالبشر وترك الاعتصام بالله خاب ظنه، فحتى لو إتّكلنا على العظماء والرؤوساء والأغنياء والمقتدرين ومهما كانت وسائلنا فما ذلك إلا ضعف، وفي أي حال فهي لا تدوم وإنما ما يدوم ويبقى هو حقيقة السماء فالحياة مسرح كبير، الفقير يمضي والغني يمضي ولن يبقى إلا صوت السماء وهو حقيقة الشهادة، فما علينا إلا أن نجعل من أرضنا سماءً شاهدة على أعمالنا الصالحة وغيرتنا المتفانية ومحبتنا غير المتناهية فنحن شهود للحقيقة وشهداء لمسيرتها. وفي هذا الصدد يقول البطريرك ميشيل صبّاح "يجب أن لا نشعر أبداً أننا غرباء عن الشهادة لدعوتنا وان لا نُشعر شعبنا أن الذي دعانا هو غريب عنّا فما نحتاجه أن نحياة حقيقة دعوتنا".

 

لذا علينا  أن نحب شخصيتنا ودعوتنا ورسالتنا ونكون أمناء لسيامتنا، فما نحن إلا جسر ناقل للإنسان من جانب إلى آخر وليس عائقاً وصدّاً أمام مبتغى الآخرين في لقاء الإنسان مع يسوع المبشر والمتجول في أزقة الحياة. لا نخاف الدنيا، لنقيم علاقات بشكل ناضج مع المهمَلين والبؤساء والعشّارين والخطأة لكي نربحهم لمسيرة الحياة وحقيقتها ومع كبار الدنيا لمصالح أبناءنا ورعايانا، وإنْ قالوا عنا يوماً ما قالوه لربنا وإلهنا يسوع المسيح "إن سيدكم يأكل مع العشّارين والخطأة" (مر16:2). فذلك يدلّ على عمق قضيتنا وإيماننا وأندفاعنا المميت، فالغنى الحقيقي هو في حمل كنز الله الخلاصي والشهادة الامينة لتمس قلوب البشر العطشى الى الخلاص، فهذا ما يجعلنا ندرك حقيقة إنسانيتنا ومواهبنا والقدرة على تفاعلنا مع رسالتنا الكهنوتية ودعوتنا السماوية، فنحن لسنا من المشترين للذمم والمناصب بمصالح ومجاملات بل نحن محبّون لجميع الذين من حولنا لأننا دعامة أكيدة لبيت الرب الذي نخدمه، فتفاعلنا الكهنوتي وقدرتنا السيامية لا يتفاعلان إلا مع جماعتنا في العائلة كما في مجتمعنا، وكنائسنا وأبناءها ورعايانا ومؤمنيها، ووطننا وشعبه ومكوِّناته، ومدعوون أن نجعل الحياة في أرضنا الجريحة فنحن دواء لها، وقديسوها مثالاً لآل بيتها، فلا نفقّر شعبنا بفقرنا لمسيرتنا ولأمانة سيامتنا ولوفاء دعوتنا، فنحن في هذه الأرض حجّاج ارضيون بدأنا مسيرتنا لنصبح من آل بيت الرب. ولنسأل دائماً: هل نجعل مسيحنا خلف ظهرانينا ثم نعود إليه بعد انتهاء احتفالاتنا ومناسباتنا كوننا الهة الزمان! أم نحن شخصيات صماء! هل تعلمون أن الحقيقة هي حقيقة مسيحنا وليس حقيقة أنفسنا وأنانيتنا وكبريائنا. فإذا ما ركعنا قدّام أرجل الناس فنحن أقوى منهم وأجرأ لأن معلّمنا سبقنا في ذلك. فلا نتقاعس عن تأدية واجب إنسانيتنا وعيش حقيقة دعوتنا، ولا نخون المسيح الذي أحبنا ونسلّمه مرة ثانية لبيلاطس، ونأمر بجلده، ونضع إكليل الشوك على رأسه، ليحاكمه قيافا الزمن وحنان كبير المنافقين، ونسلّمه إلى الموت من جديد، ففي ذلك نشترك في إهانة وتشويه وجه المسيح الحق وهذا يدلّ على مدى أبتعاد المسيحية الحقيقية عن الرؤوساء الارضيين الزائلين ومدى توغلها في الشهرة والامجاد الارضية للتفاخر والتباهي ليظهروا أنفسهم للناس البسطاء ما مدى تقواهم وورعهم بينما الروح المسيحية ماهي إلا لاجل عمل المسيح وأنجيله... ليس إلا!

 

الله، في المسيح يسوع، يدعونا نحن الكهنة، أن نكون شجعاناً كي لا نيأس من الحياة ولا ينطفئ ضوء شمعتنا في مسيرة الدنيا، فالحياة مليئة بالأشرار والمصالح وفساد القيم، كما هي مليئة باناس صالحين وقديسيين،  وهناك مَن يسير عكس أفكارنا وتياراتنا المُحِبَّة، ويقولون فينا سوءاً قدر ما أستطاعوا ، ويحاولون جهدهم كي يغيروا الأمور نحو مساراتهم الأنانية والتدميرية،بسبب غرورهم من حقيقتنا، ويجعلونا أحياناً محاصَرين كي يكونوا سبب إحباطنا أو تشاؤمنا، فلا نيأس فقد أبغضوا قبلنا معلّمنا (يو18:15). فما علينا إلا أن نكون لهم مثالاً، فاليوم كثيرون فقدوا الأمل في الحياة، ويرون حياتهم تموت أمام قسوة مجتمع لا يُصغي، فدروس الأخلاق الآن لا تنفع، وقد ارتفع صوت الكثير على وسائل التواصل الاجتماعي ضدنا، وعلى نوعية الكلام والشتائم التي نسمعها (وللأسف) على الهواء وتحت الهواء وفوقه، وإن ذلك لأمر مشين، ولكن لندرك مهما كان فأولئك هم أولادنا، وتربّوا في رعايانا وهم يحبون كنيستهم ويعيشون إيمانهم .وهذا ما يدعونا إلى أن نبدّل واقعنا فقدْ فقدَ الكثيرون ثقتهم بكل ما حولهم وما ذلك إلا لندرك  لومهم لنا ونفحص ضميرنا أفراداً ومؤسسات لنعيد بناء هذه الثقة وبعدها نحاسبهم. إنهم أملُنا وغدُ كنائسنا ومجتمعنا، إنهم أولادنا، لنفحص ضمائرنا. فمهما كان فلنكن لهم إيماناً يحوّلهم إلى نور الحياة ورسالة تحملهم إلى حقيقة الشهادة،وليس سبباً في إبتعادهم عن معابد الله وهياكل الصلاة، ولنؤمن أن ظلام الدنيا مهما كان كبيراً ومخيفاً ستزول معالمه وتفنى هيبة الظلمة ونجد دعوتنا شمساً تضيء لنا طريق الحياة فلا يمكن أن نكون عبيداً لأن العبد لا يعلم ما يصنع سيده، أما نحن فدعانا الرب أحباء أحراراً لأنه أعلمنا بكل شيء (يو15:15). فلنتحمل مسؤولياتنا بأمانة، ونكون أوفياء للذي دعانا، مملوئين من عطاء الأباء والقديسين ونحمل مواهبنا في "آنية من خزف" (2كو7:4). فشجاعتنا عبر مسيرة أيماننا كي نشهد بها أمام ثعالب الزمن وذئاب الدنيا شهادة لحقيقة ايماننا بالمسيح الاله .فرسالتنا ليست النظر إلى الوراء وإلى التافهات من الأمور بل إلى الأمام فمَن ينظر إلى الوراء لا يستحق أن يكون تلميذاً للمسيح الرب الذي دعانا (لو62:9). فالقرار بأيدينا، والنعمة من الحي القيوم.في أن نكون "ملحاً ونوراً" (متى 13:5-14)، وهذا ما يدعونا اليه البطريرك ميشيل صبّاح قائلاً: "في أن نكون بشراً ناضجين ونتعلم كيف نكون شعباً بشجاعة لا مثيل لها " إذ بقدر ما نكون أمناء لمشيئة الله يقول البابا فرنسيس "نكون أكثر فرحاً ونحمل ثماراً وافرة" وأيضاً حينما نكون ذلك نُبعد عن المجتمع الذي نحن فيه جراثيم الفساد ونقاوم التردي الأخلاقي والخطيئة"، لأننا بذلك نؤدي شهادة لقيم النزاهة والأخوّة بدون السقوط في الإغراءات الدنيوية مثل الأصولية والسلطة والثراء والمحسوبية والوثية الصنمية، وإن سقطنا (لا سمح الله) وأخفقنا في مسيرة ما ننهض من تراب أخطائنا لنسير بشجاعة مجدَّدة وصبر أمين لنكون من جديد حضوراً ولو متواضعاً، وما ذلك إلاّ بناء أمين. فنحن هنا نور لنزيل ظلام الدنيا ونفسح المجال لرؤيانا، فالمسيح الذي دعانا يحمل نوره إلينا لنضيئ بدورنا ونعلن إنجيله عبر أعمالنا الصالحة (متى16:5).

 

لذا لنتوجّه بشعوبنا نحو الله لاختبار صلاحه ورحمته من أجل إزالة الأحكام المسبَقَة والتشهير، ونجعل نور الحقيقة يعود إلى أوضاع لوَّثها الرياء والكذب، والذين يخلطون الدين بالسياسة، فما نحن إلا أدوات كي نوصل نور المسيح إلى الآخرين وليس التبشير بنورنا. فقد قال قداسة البابا فرنسيس، لا نخاف من العيش في العالم حتى وإن كانت في العالم نزاعات وخطايا، فنحن أمام العنف والظلم والقمع، لا يمكننا الانغلاق على ذواتنا أو نختبئ من أجل أماننا، ولا نجعل كنيستنا تنغلق على ذاتها وتغلق أبوابها بسبب الاوبئة والتهجير والحروب، فلا يمكن أن نهجر كنيستنا ولا أن نهجر دعوتنا، فدعوتنا رسالة بشارة وخدمة، فنحن في العالم من أجل العالم وخلاصه، والرب يحمينا من روح هذا العالم لنسمع صراخ البائسين وآهات المرضى والحزانى، ونكون لهم ملحاً ونوراً... إنها دعوة البشارة كي نتفوّق في عمل البِرّ لأننا متفوقون "في كل شيء، في الإيمان والبلاغة والمعرفة والإقدام على كل شيء" (2كو7:8)، فلنحفظ الوديعة (1طيم21:6) بأن نمتلئ من نور المسيح ونكون ملحاً للشعب البائس ولا نحابي الوجوه أو نخاف من الملوك والسلاطين والمسؤولين كبار زمننا أو صغار دنيانا، فيوحنا قاوم سلطاتهم الدينية والمدنية اليهودية إذ قال "يا اولاد الافاعي من دلّكم على الهرب من الغضب الأتي" (لوقا 7: 7-9) فقد كان يوحنا بطلَ الأنبياء ثائراً وشاهدا للحق، وشهيدا من أجل الحقيقة ففي ثورته كانت ثورة التوبة والتغيير لاعادة اصلاح مفاهيم الايمان ومنظومة الحياة وإخلاقية الجمال والغنى لان الايمان هو الحياة والعمل، والجمال هو وجه الله في وجه الانسان والغنى الحقيقي هو الفقر بالروح من أجل الله والانسان. فنحن بذرة نبوية في أيامنا هذه فلا نساوم على مبادئنا بمجاملة مصلحية زائلة، في سلطان كبير أو صغير في عبوديتنا لكبار زماننا، فالوضع الحالي يحتاج من يرعى مؤمنينا جميعاً على السواء دون تفرقة  وتمييز اجتماعي، ويخدمها ويحمل عنها الضيم والكبرياء والانانية والمصلحة بالتواجد معها والعيش بجوارها ومقاسمتها الحياة بمرّها وحلوها كما يقول البابا فرنسيس "أن يشمَّ ريحة (رائحة) خرافه"، وليس رائحة عطره ونوعه، -ومن المؤسف هذا ما يحصل اليوم- ومهما كان لا نيأس من الحياة بل فلندرك أننا لسنا لأنفسنا (1كو19:6) ولا يمكن أن يفتح لنا الرب باب السماء دون غيرنا، فنحن نورٌ وملحٌ لشعبنا لنضي له درب الحياة في شهادة لحقيقة ايمانه بالاله إبن مريم القديسة، أم الله ، فصراعنا مع الارواح الشريرة وحيلها العالمية ومع كبار الزمن وسلاطينه والذين يعملون من أجل مصالحهم ومناصبهم لن ينتهي إلا بحقيقة مثالنا في أن نكون أيليا النبي حامل حقيقة الله ويوحنا شاهد الحقيقة الجريء، ليس إلا!.

 

(شكرًا لمتابعتكم، وإلى الحلقة الخامسة)