موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٤ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠

الوصية الكبرى: المحبة

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد الثلاثون من السنة: الوَصِيَّةُ الكُبرى: المحبة (متى 22: 34-40)

الاحد الثلاثون من السنة: الوَصِيَّةُ الكُبرى: المحبة (متى 22: 34-40)

 

النص الإنجيلي (متى 22: 34 -40)

 

34 وبلَغَ الفِرِّيسيِّينَ أَنَّهُ أَفحَمَ الصَّدُّوقِيِّين فَاجتَمَعوا مَعاً. 35 فسأَلَه واحِدٌ مِنهم لِيُحرِجَه: 36 ((يا مُعلِّم، ما هي الوَصِيَّةُ الكُبرى في الشَّريعة؟)) 37 فقالَ له: ((أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ. 38 تِلكَ هي الوَصِيَّةُ الكُبرى والأُولى. 39 والثَّانِيَةُ مِثلُها: أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ. 40 بِهاتَينِ الوَصِيَّتَينِ تَرتَبِطُ الشَّريعَةُ كُلُّها والأَنِبياء)).

 

المقدمة

 

يُسلط النص الإنجيلي (متى 22: 34 -40) الأضواء على السؤال الثالث الذي طرحه الفرِّيسيّون والصدوقيون في ساحة الهيكل في اورشليم على السيد المسيح: "ما هي الوَصِيَّةُ الكُبرى؟ (متى 22: 34-40)، لإحراجه وإضمار الشر له؛ وهذا السؤال هو اساس الدين المسيحي. فبيّن يسوع لهم ان محبة الله والقريب هي الوصية الكبرى والعظمى. إذ خلقنا الله كي نُحِبَّ ونُحَبّ، وكي نكون محبوبين من قِبَلِه، وكيما نحبّه، ونحبّ معه الآخرين جميعهم. هذا هو "حلم" الله للإنسان كما يقول البابا فرنسيس. والكتابُ المقدّس ليس سوى رواية محبّة الله للإنسان وحبة الانسان لله ولأخيه الانسان. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 22: 34-40)

 

34 بلَغَ الفِرِّيسيِّينَ أَنَّهُ أَفحَمَ الصَّدُّوقِيِّين فَاجتَمَعوا مَعاً

 

تشير عبارة "الفِرِّيسيِّينَ" الى حزبٍ يهوديٍ دينيٍ يُشددّ أعضاؤه على الشريعة وعلى التقوى الشخصية والدين، وأُطلق عليهم هذا الاسم "فِرِّيسيِّون" المشتق من العبرية הַפְּרוּשִׁים (معناها منفصل أو مفروز او منعزل)، لأنهم يُنادون بالفصل بين اليهود والوثنيين. وهم العداوة مع الصَّدُّوقِيِّين الموالين للوثنيين الرومان. أمَّا عبارة الصَّدُّوقِيِّين "فتشير الى حزبٍ ديني سياسي مُوالٍ للسلطة الرومانية، وهم يُنكرون وجود الملائكة والارواح والقيامة، ويخالفون الفِرِّيسيِّينَ في تفسير شريعة موسى. أمَّا عبارة "أَفحَمَ" في الأصل باليوناني ἐφίμωσεν (معناها أبكم) فتشير الى يسوع الذي اسكت بالحجة الصَّدُّوقِيِّين الذين سألوه عن قيامة الاموات (متى22: 23-33). وتوقع الصَّدُّوقِيِّون ان يفحموا يسوع باعتراضاتهم هذه المرة، فرأوا النتيجة ان يسوع أفحمهم ولكن مع انهم أفحموا لم يقتنعوا. ويُعلق العلامة أوريجانوس "فقد أصيب الصدّوقيّون بالبُكْم كعلامة فشل، لم يجدوا بعد كلمة يُمكنهم أن ينطقوا بها ضدّ الحق"؛ أمَّا عبارة "اجتَمَعوا مَعاً" فتشير الى اتفاق معاً الفِرِّيسيِّونَ والصَّدُّوقِيِّون ليُعدُّوا ليسوع فخا جديداً بالرغم من العداء بينهم؛ إذ شعروا بمهابة السيِّد المسيح وخشوا أن يلتقوا به فرادى.

 

35 فسأَلَه واحِدٌ مِنهم لِيُحرِجَه:

 

عبارة "فسأَلَه واحِدٌ مِنهم" في الأصل اليوناني ἐπηρώτησεν εἷς ἐξ αὐτῶν [νομικὸς] (معناها سال واحد من علماء الشريعة) تشير الى أحد الكتبة الذين يدرسون الكتاب كله أي الشريعة والانبياء وينسخونها (لوقا 10: 21). أمَّا عبارة "يُحرِجَه" فتشير الى محاولة هذا الكاتب الايقاع بيسوع ووضعه في مأزق، فيجد سبباً لاتهامه وتقديمه للمحاكمة. لكن جواب يسوع أثَّر في الكاتب كثيرا واقنعه بجودة تعليمه، لانَّ يسوع جعل وصية محبة الله والقريب قبل الطقوس الدينية والشعائر، فيما جعل علماء الشريعة الطقوس والشعائر الدينية في المرتبة الأولى قبل المحبة. فالمحبة أعظم من كل الذبائح تماشيا مع خط الأنبياء كما قال الكاتب "أَحسَنتَ يا مُعَلِّم، لقد أَصَبْتَ إِذ قُلتَ: إِنَّه الأَحَد ولَيسَ مِن دونِه آخَر، وأَن يُحِبَّه الإِنسانُ يِكُلِّ قلبِهِ وكُلِّ عَقلِه وكُلِّ قُوَّتِه، وأَن يُحِبَّ قَريبَه حُبَّه لِنَفْسِه، أَفضَلُ مِن كُلِّ مُحرَقَةٍ وذبيحَة" (مرقس 12: 33)، يوكِّد يسوع ذلك في مثل السامري الرحيم (لوقا 10: 25-37).

 

36 يا مُعلِّم، ما هي الوَصِيَّةُ الكُبرى في الشَّريعة؟

 

تشير عبارة "مُعلِّم" في الأصل اليوناني Διδάσκαλε الى شخص صاحب موهبة خاصة من أجل التعليم والفقة انطلاقًا من نصوص الكتب وتأكيدات الإيمان. اما عبارة "الوَصِيَّةُ الكُبرى" فتشير الى اهم المسائل عند الفِرِّيسيِّينَ وللجواب عليه انقسموا بأجوبتهم احزاباً.  فذهب بعضهم الى ان أكبر الوصايا هي وصية الختان، وبعضهم الى انها وصية التطهير، وآخرون الى انها الوصية المتعلقة بأهداب الثياب كما جاء في تعليمات موسى النبي" كَلِّمْ بَني إِسْرائيلَ ومُرْهم أَن يَصنَعوا لَهم أَهْدابًا على أَذْيالِ ثِيابِهِم مدى أَجْيالِهم ويَجعَلوا على هُدْبِ الذَّيْلِ سِلْكًا مِنَ البِرْفيرِ البَنَفْسَجِيّ" (عدد 15: 38)، وغيرهم جعل الوصية الرابعة من الوصايا العشر الاهم.  والوصايا تُقسم الى وصايا أدبية ووصايا طقسية (مرقس 12: 33)؛ والوصايا الأدبية هي "الوصايا العشر" (خروج 34: 28)، وهي ما نطق به الله في سيناء. وكتبت على لوحي حجر (خروج 31: 18). وقد صيغت الوصايا في شكلين: الشكل الأول ورد ذكرها في سفر الخروج (20: 2-17). والشكل الثاني ورد ذكرها في سفر تثنية اشتراع (5: 6-21). وقد جرت العادة أن تُقسم الوصايا، باعتبار الموضوع، إلى لوحين، يحتوي أولهما على أربع وصايا، والثاني على ست، ولكن الكنيسة الكاثوليكية ومعها الكنيسة اللوثرية، حذتا حذو أوغسطينوس في تقسيم الوصايا، وجعلتا الوصايا الثلاث الأولى تختص بواجبات الإنسان نحو الله في اللوح الأول، والوصايا السبع الأخيرة تختص بواجبات الإنسان تجاه الإنسان في اللوح الثاني. واما الوصايا الطقسية فهي الوصايا الشعائرية (خروج 34: 1-6). وقد جعل يسوع الانسان قبل الطقوس الدينية.  وتدعى الوصايا أيضاً كلمات العهد (تثنية الاشتراع 29: 1)، ولوحي الشهادة (خروج 31: 18)، (والشهادة) (خروج 25: 16). وتنطوي على حكمة اجتماعية روحية اعتبرت من مميزات الشعب العبراني (تثنية الاشتراع 4: 6 -8)، وتنطوي ايضا على توجيهات وإرشادات للحياة الصالحة، وهي موجز لكثير من تعاليم العهد القديم. بالإضافة الى ذلك قسّم الربِّيون فرائض الشريعة الى "ثقيلة" و"خفيفة" بحيث وصلت عدد الوصايا نحو 613 وصية، منها 365 (بحسب عدد ايام السنة) و248 (بحسب عدد عظام الانسان). وهكذا فُرضت الوصايا على المؤمن كل ايام السنة وبكل كيانه وطاقاته. وكان جدال بين الفِرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقِيِّين حول أكبر هذه الوصايا وأعظمها. أمَّا عبارة "ما هي الوَصِيَّةُ الكُبرى في الشَّريعة" فتشير الى السؤال الذي طرحه أحد الفِرِّيسيِّينَ على يسوع، لأنهم اختلفوا على ذلك، فمنهم من قال إنها حفظ السبت، ومنهم من قال تقديم الذبائح، ومنهم من قال إنها الختان؛ فالمسألة الكبرى التي كانت قائمة بين فِرق الصَّدُّوقِيِّين والفِرِّيسيِّينَ هي "الأمانة للشريعة". فلقد كان هناك العديد من الواجبات الى جانب الممنوعات التي لا تحصى. فما هي الوصايا الأكثر أهمية من غيرها؟ سألوه لكي يُبين جهله، او لكي يقول رأيا يُعارض المُعلمين الرابيين الكبار فيخلق العداوة حوله.

 

37 فقالَ له: أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ

 

تشير عبارة "أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ" الى جواب يسوع عن سؤال الكاتب مستشهداً بثنية الاشتراع الذي يُشدِّد على محبة الله " فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بكُلِّ قَلبكَ كلِّ نَفسِكَ كلِّ قُوَّتكَ" (تثنية الاشتراع 6: 5). ويُعلق القدّيس أمبروسيوس "يمكننا أن نُمسِك الله بأذرع المحبّة" (العظة الثامنة لتساعيّة الميلاد). ولعل مراد المسيح بذكر القلب والنفس والذهن لتجميع قوى الانسان لمحبة الله وخدمته. وتعبّر هذه الكلمات عن محبة الله بجميع الطاقات الحيويَّة جسداً ونفسا؛ وهذه الصلاة هي שְׁמַע (أي اسمع) التي يتلوها اليهود الاتقياء يوميا مرتين في الصباح والمساء. وهي قانون الإيمان اليهودي الأساسي، وبهذه العبارة تبدّا بها كلّ خدمة يهوديّة إلى الآن، كما أنّها أول آية يحفظها الطفل اليهودي. أمَّا في انجيل لوقا فإن الفرِّيسي المحاور هو الذي يُدلي بالجواب "أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ، وكُلِّ نَفسِكَ، وكُلِّ قُوَّتِكَ، وكُلِّ ذِهِنكَ وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ "(لوقا 10: 27)؛ ويحرص لوقا الانجيلي ان يُظهر هنا كيف ان العهد القديم مهَّد للعهد الجديد. اما عبارة "بِكُلِّ" باليونانية ὅλῃ وفي العبرية כָל فتشير الى كُلية الانسان البشري. يجب ان تملآ محبة الله كل كياننا بمعنى أنه لا يجوز ان نحبَّه جزئيا بإعطائه تعالى جزءً من حياتنا ووقتنا. ويُعلق القدّيس أنطونيوس البادوانيّ "فكلمة "كل" تعني أنّه ليس بإمكانك أن تحتفظ لنفسك بأية قطعة منك. أنه يريد تقدمة نفسك كاملة. لقد اشتراك يسوع كاملاً بكلّ نفسه، لكي يمتلكك، وحده، أنت بكاملك. هل ترغب إذاً بامتلاك كل شيء؟ أعطه ما أنت، فيعطيك ما هو. لن يكون لك شيء منك؛ لكن سيكون لك كلّه مع كلّك أيضا" (عظات لأيّام الآحاد وأعياد القدّيسين). أمَّا عبارة "قَلبِك" فتشير الى مصدر عواطف الانسان وانفعالاته حيث يُطلب من تمسُّك في داخله بكمال هذا الحب وأفكاره وأعماله؛ فلا يكفي عبادة ظاهرة وطاعة خارجية انما المطلوب محبة باطنية تفوق محبتنا لله محبتنا لغيره حيت نكون مستعدين ان نترك كل شيء سواه لأجله كما جاء في تعليم صاحب الامثال " يا بُنَيَّ، أَعطِني قَلبَكَ ولتطِبْ عَيناك بِطرقي" (أمثال 23: 26). ويُعلق القدّيس أنطونيوس البادوانيّ "أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قلبِكَ" إذًا. لا تحتفظ لنفسك، كحننيا وسفيرة، بقسم من نفسك، لأنك عندها يمكن أن تهلك مثلهما (أعمال الرسل 5: 1). أحبب إذاً كليّاً وليس جزئياً. إذا أبقيت لنفسك جزءاً من نفسك، فأنت لنفسك، ولست له" (عظات لأيّام الآحاد وأعياد القدّيسين). أمَّا عبارة "إِلهَكَ" فتشير الى إله الذي هو واحد حق لا كآلهة الوثنيين الباطلة، الاله الواحد خالقك وحافظك، ونسبته اليك توجب عليك المحبة له تعالى، وتُبين تلك النسبة انه يستحق تلك المحبة. وانه يطلب بناء علاقة شخصية  معه، كونه إلٌهٌ مصالحٌ بدم ابنه، وذلك زيادة على ما كان لليهودي. أمَّا عبارة "نَفْسِكَ" فتشير إلى مصدر حياة الإنسان، فمحبة الله من كل النفس يؤثر في كل طبيعة الانسان حتى ضميره ومشيئته فتقضي انه ان عاش الانسان يعيش للرب وان مات يموت له كما جاء في تعليم بولس الرسول "فإِذا حَيِينا فلِلرَّبِّ نَحْيا، وإِذا مُتْنا فلِلرَّبِّ نَموت: سَواءٌ حَيِينا أَم مُتْنا فإِنَّنا لِلرَّبّ" (رومة 14: 8). محبة الله بكل النفس يعني استعداد المرء أن يبذل نفسَه من أجل الخدمة لله الذي خَلق كلَّ شيء عندما يتطلّب ذلك نشر كلمته؛ أمَّا عبارة "ذِهِنكَ" فتشير الى قوى الانسان العقلية، فحبة الله بكل ذهنك تقتضي ان تدخل دروسك واعمالك وان تكون مستعد ان تتعلم منه تعالى كل شيء وان تفضل تعليمه على كل احكام عقلك كما يترنَّم صاحب المزامير " إٍنِّي في أَوامِرِكِ أتأمَّل وفي سُبُلِكَ أَنظُر" (مزمور 119: 15). محبة الله تقتضي ان يكون تفكير المرء في المرتبة الأولى في الله والإلهيّات؛ أمَّا عبارة "أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ" فتشير الى محبة الله من خلال أفعال عبادة وطاعة كما ورد في التوراة " إِن سَمِعتُم لِوَصايايَ التي أَنا آمُركم بِها اليَومَ، مُحِبِّينَ الرَّبَّ إلهَكم وعابديه بكُلِّ قُلوبِكم وبِكُلِّ نُفوسِكمَ" (تثنية الاشتراع 11: 13)؛ وتتطلب محبة الله اختيارا جذرياً وتضحية كاملة (تثنية الاشتراع 4: 15-31). وهذا الحب يتجاوب مع حب الله لشعبه "أَحَبَّ آباءَكَ واختارَ نَسلَهم مِن بَعدِهم وأَخرَجَكَ بحَضرَته وبِقُوَّته العَظيمة مِن مِصرَ" (تثنية الاشتراع 4: 37)، ويتضمن مخافة الله وخدمته وحفظ وصاياه. ووصية المحبة هذه لا ترد صراحة خارج تثنية الاشتراع، ولكن لها مُعادل في سفر الملوك (2ملوك 23: 25) وفي الاسفار النبوية لا سيما في سفر هوشع (6: 6) وفي سفر ارميا والمزامير. ويُعلق القدّيس أوغسطينوس "أعطني حبّك ونعمتك فحسب، فأكون غنيّا للغاية. اجعَلني أحبّك وأكون محبوبًا منك؛ لا أرغب وليس عليّ أن أرغب في شيء آخر".

 

38 تِلكَ هي الوَصِيَّةُ الكُبرى والأُولى

 

تشير عبارة "الوَصِيَّةُ الكُبرى والأُولى" الى الواجب نحو الله، وهو اول واجب على الانسان، فمحبة الله هي أسمى المواهب وأكبر الوصايا، لان "الله محبة" (1 يوحنا4: 8)، ولان "مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" (رومة 5: 12)، والمحبة رباط الذي يوحِّد المؤمنين ويحثهم على الوحدة "لأَنَّ مَحبَّةَ المسيحِ تَأخُذُ بِمَجامٍعِ قَلْبِنا" (2 قورنتس 5/14). فما هي المحبة؟ المحبة كلمة مشتقة من اللاتيني Amore وهي عبارة من جزئيين A – Mortis أي لا للموت، لن أدعك تموت. الحب هو ما يُحييك ويجعلك تعيش أفضل مما أنت عليه؛ الله هو الحب، لأنه هو الوحيد القادر أن يقول: "معي لن تموت أبدا" وكما تقول القديسة تريزا للطفل يسوع "الحب قوي، قوي جداً، أقوى من الموت". امَّا عبارة "الكُبرى" فتشير الى علة الوصايا بمعنى ان من حفظها حفظ سائر الوصايا. والله هو الأعظم فتستحق ان تكون محبتنا له الكبرى. امَّا "الأُولى" فتشير الى المقدَّمة على كل ما سواها في أهميتها وشمولها ودوامها. ويعلق القدّيس ألفونس ماري دو ليغوري "إذا أردتَ أن تحبّ الله كثيرًا في السماء، عليك أوّلاً أن تحبّه كثيرًا على الأرض" (العظة الثامنة لتساعيّة الميلاد).

 

 39والثَّانِيَةُ مِثلُها: أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ"

 

تشير عبارة "الثَّانِيَةُ" الى الوصية "أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ" وقد اقتبسها السيد المسيح من سفر الاحبار "أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ" (الاحبار 19: 18)، وهي تُشدِّد على محبة القريب.  وهذه الوصية تمتُّع بسمة داخلية، حياة داخلية يعيشها الإنسان في أعماقه، وتُعْلَن خلال إيمانه ومحبته للربّ ومعاملاته مع الناس.  في العهد القديم اكتملت وصية محبة الله بالوصية الثانية، ولكن لم تعطَ لهذه الوصية الاهمية التي أُعطيت للوصية الاولى (الاحبار 19: 1-37). أمَّا عبارة "مِثلُها" في الأصل اليوناني ὁμοία (معناها شبيهة) فتشير الى التماثل التي لا تدل على شبه في المحبة ولا على نوعية هذه المحبة ولا على التطابق بين الوصيتين، بل على التساوي في الأهمية والمضمون، أي المحبة بين هاتين الوصيتين لا تنفصل، كما تدل أيضا على ضرورة إظهار المحبة التي تعني تكريسا مطلقا لصالح الآخرين، كما جاء في تعليم بولس الرسول "فالمَحبَّةُ لا تُنزِلُ بِالقَريبِ شرًّا، فالمَحبَّةُ إِذًا كَمالُ الشَّريعة"(رومة 13: 10).  فليست الوصيتان قابلتين للتبادل، كما لو كانت محبة القريب هي محبة الله، والعكس بالعكس لكن يسوع ربط الوصية الثانية بالوصية الأولى ووحَّد بينهما حيث ان محبة القريب هي امتداد لمحبة الله. فقد جاء قوله واضحا: "الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه "(متى 25: 40). وان مصدر الوصية الثانية والأولى واحد هو الله، وان أساسها واساس الأولى واحد هو المحبة وهي نفسها لا تقوم بدون الأولى، لأنه لا يمكن ان نحب اخانا حق المحبة الاَّ بان نحب الله أولا. ويسوع جعل محبة القريب هامة مثل محبة الله. ويقدِّم محبة القريب كامتدادٍ لمحبة الله وعلامة عن صِدق محبتنا لله. وحبُّ الله لا يصحّ الاَّ بحبِّ القريب، وحبُّ القريب لا يصح الا بحبَّ الله؛ ومحبة القريب هو مقياس محبتنا لله "إِذا قالَ أَحَد: إِنِّي أُحِبُّ الله، وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه" (1 يوحنا4: 20). هكذا أجاب يسوع بطريقة مميزة وفريدة، جامعاً ما بين محبة الله ومحبة القريب، فالربط بين محبة الله ومحبة القريب تضع الانسان ليس امام مجموعة من الأوامر والنواهي الصادرة عن الشريعة، إنما امام موقف الانسان بكامله أمام الله. وفعلًا تتفق إجابة المسيح مع الوصايا العشر المنقسمين للوحين، الأول يختص بالله والثاني يختص بالإنسان. يطلب الربّ أن تتم المحبة الأخوية بنفس القدر وبنفس الاحترام الذي يكنَّه الإنسان لله.   يجعل المسيح من محبة الله ومحبة القريب واقعاً واحداً. أمَّا عبارة "أَحبِبْ قريبَكَ" فتشير الى محبة القريب التي هي الموهبة العظمى بين المواهب كلها كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَعظَمَها المَحبَّة" (1 قورنتس 13: 13). للمسيحي واجب أساسي: محبة القريب ويوضِّحه بولس الرسول بقوله "لا يَكوَننَّ علَيكم لأَحَدٍ دَيْنٌ إلاَّ حُبُّ بَعضِكُم لِبَعْض، فمَن أَحَبَّ غَيرَه أَتَمَّ الشَّريعة " (رومة 13: 8). إذا كانت محبة القريب تُعد تمام العمل بالشريعة كلها، فلانّ الشريعة لم يكن لها غاية أخرى، “لأَنَّ تمامَ الشَّريعةِ كُلِّها في هذهِ الكَلِمةِ الواحِدة: أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ " (غلاطية 5: 14).  أمَّا الشريعة الانجيلية كلها فموجودة في وصية يسوع الجديدة "أْعطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً" (يوحنا13: 34) وان نحب بعضنا كما احبنا الله "وصِيَّتي: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً كما أَحبَبتُكم " (يوحنا 15: 12). أمَّا موقف اللامبالاة او العداء نحو الغير فيُعد إهانة موجّهة لله (تكوين 3: 12، 4: 8). ولا يستطيع المرء ان يُرضي الله بدون احترام سائر البشر وخاصة المنبوذين والمهمَّشين والفقراء والمساكين وبدون إجراء الحق والعدل كما تُوصي الشريعة (خروج 20: 12-17) وكلام الانبياء (ارميا 22: 15-16). ولم يركز يسوع على النواهي أي عمَّا يجب ان لا نفعله، إنما ركَّز على ما يجب ان نفعله لإظهار محبتنا لله وللآخرين.  هذا ما يثبته أيضًا نصٌّ من سفر الخروج، مسمّى بـ "قانون العهد"، حيث يقال إنه لا يمكن البقاء بعهدٍ مع الربّ وإساءة معاملة أولئك الذين يتمتّعون بحمايته. ومن هم هؤلاء الذين يتمتّعون بحمايته؟ يقول الكتاب المقدّس: الأرملة، واليتيم والنزيل، واللاجئ، أي الأشخاص الوحيدين والعُزّل (خروج 22: 20-21).  أمَّا عبارة "قريبَكَ" في الأصل اليوناني πλησίον σου المأخوذة من العبرية לְרֵעֲךָ فتشير الى فكرة المشاركة مع شخص ما والرغبة في معاشرته. ولا ينتسب القريب إلى الأسرة. وهو آخر يتمّيز عني، ويمكن أن يظل بالنسبة إليَّ "الغريب". وفيما بعد، أخذت كتب تثنية الاشتراع والشريعة تخلط بين "الغير" وبين "الأخ" (الاحبار 19: 16-18)، مستهدفة بتلك التسمية الإسرائيليين وحدهم (الاحبار 17: 3). وليس معنى ذلك تضييق حب القريب، بحصره في حب الأخوة وحدهم، بل بالعكس، فإن هذه النصوص تتّجه نحو التوسع في نطاق وصيّة الحب، مطلقة على الغريب المستوطن جميع حقوق الإسرائيليين (الاحبار 17: 8 و10 و13، 19: 34). وبعد السبي يظهر اتّجاه مزدوج، فمن جهة، تنحصر دائرة "الأقرباء"، وينصبّ واجب المحبّة على الإسرائيليين والدخلاء دون سواهم. ففي اللحظة التي يتم فيها اللقاء بين شخصين يصبح كل منهما القريب بالنسبة إلى الآخر، بغض النظر عن علاقة القرابة بينهما، أو عن تصوّرات الواحد بالنسبة إلى الآخر. كان العهد الجديد يقصر لفظ القريب على "أخيه" الإسرائيلي، وهذا ما يتضح عندما سأل أحد الكتبة يسوع "من هو قريبي" (لوقا 29:10). أجرى يسوع تحوُّلاً في مفهوم القريب. فليس لي أن أحدد من هو قريبي. وإنما كل إنسان واقع في الشدة حتى وإن كان عدوّاً لي يدعوني إلى أن أصبح قريباً له. أمَّا عبارة "حُبَّكَ لِنَفْسِكَ" فتشير الى اقتباس من سفر الاحبار " أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ:" (الأحبار 19: 18). محبة النفس ليست إثما لان المسيح جعلها قياس محبتنا للقريب ولكنها تكون إثما إذا قادتنا الى اهمال واجباتنا لله وللناس. وتقتضي محبتنا للقريب خير جسده ونفسه مع إكرامه واعتباره اللائق واجتناب كل ما يؤذيه او يظلمه فرحين مع افراحه باكين مع بكائه كما جاء في تعليم بولس الرسول (رومة 12: 15). وهكذا "حب القريب كنفسك" لا تشير الى توصية حب النفس أولا للوصول الى محبة القريب بعدئذ، او بالقدر نفسه، إنَّما تشير الى انه يجب حبَّ القريب حبا تاما، بكل القلب أي محبة لا حدود لها، وغير مشروطة، تُلزم الانسان كله. وهنا نتذكر القاعدة الذهبية "فكُلُّ ما أَرَدْتُم أَن يَفْعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم" (متى7: 12). ويوضح بولس الرسول ذلك بقوله " لأَنَّ تمامَ الشَّريعةِ كُلِّها في هذهِ الكَلِمةِ الواحِدة: أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ " (غلاطية 5: 14). ويضيف انجيل مرقس على لسان أحد الكتبة الذي حاور يسوع: ((أَحسَنتَ يا مُعَلِّم، لقد أَصَبْتَ إِذ قُلتَ: إِنَّه الأَحَد ولَيسَ مِن دونِه آخَر، وأَن يُحِبَّه الإِنسانُ يِكُلِّ قلبِهِ وكُلِّ عَقلِه وكُلِّ قُوَّتِه، وأَن يُحِبَّ قَريبَه حُبَّه لِنَفْسِه، أَفضَلُ مِن كُلِّ مُحرَقَةٍ وذبيحَة" (مرقس12: 33).  لم يسأل الكاتب عن الوصية الثانية لكن يسوع انتهز الفرصة ليُعلمه الشريعة كلها.

 

40 بِهاتَينِ الوَصِيَّتَينِ تَرتَبِطُ الشَّريعَةُ كُلُّها والأَنِبياء

 

تشير عبارة "بِهاتَينِ الوَصِيَّتَينِ" الى جوهر الشريعة والانبياء، وهما العهد القديم بالإضافة الى العهد الجديد لان المسيح جاء مكمِّلاً الشريعة والانبياء "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل "(متى 5: 17) وجاء في تعليم بولس الرسول ايضا "المَحبَّةُ إِذًا كَمالُ الشَّريعة" (رومة 13: 10). امَّا عبارة "الشَّريعَةُ" فتشير الى الناموس او التوراة، وهي اسفار موسى الخمسة حيث ان الصَّدُّوقِيِّين لم يكونوا يؤمنون إلا بهذه الاسفار لا غير. والشريعة تتناول العبادة والذبائح تجاه الله؛ أمَّا عبارة "تَرتَبِطُ" فتشير الى جمع كل الوصايا في هاتين الوصيتين وربطهما ببعض وإعطاء الأهمية نفسها لهاتين الوصيتين، وهو الأمر الجديد في تعليم السيد المسيح. أمَّا وصية محبة لله ومحبة القريب فهي معروفة من العهد القديم (احبار 19: 18 وتثنية الاشتراع 6: 5). كان في إمكان الربانيين، ان يستشهدوا بكليهما الواحد بعد الآخر، ولكنه من المستبعد ان يولُّوا للثاني ما يولونه للأول من أهمية.  أمَّا في نظر سيدنا يسوع المسيح فالله والقريب متقاربان كالشريعة والانبياء. فبحفظ هاتين الوصيتين، يحفظ الانسان سائر الناموس وكلام الانبياء، فهما خلاصة الوصايا، وكل الشرائع الادبية في العهد القديم، لان الوصايا أعطيت لكي تساعدنا ان نحب الله ونحب الآخرين كما ينبغي. ولذلك فإنَّ الوصايا العشر يجب أن تُشرح في ضوء هذه الوصية المزدوجة الواحدة، وصية المحبة، كما يوضّح القديس بولس الرسول: "ان من أحب القريب قد أتم الناموس. فإِنَّ الوَصايا الَّتي تَقول: ((لا تَزْنِ، لا تَقتُلْ، لا تَسْرِقْ، لا تَشتَهِ)) وسِواها مِنَ الوَصايا، مُجتَمِعةٌ في هذِه الكَلِمَة: أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ. فالمَحبَّةُ لا تُنزِلُ بِالقَريبِ شرًّا، فالمَحبَّةُ إِذًا كَمالُ الشَّريعة" (رومة 13: 9-10). وقد أوضح لنا بولس الرسول طبيعة المحبة وعظمتها (1 قورنتس 13)، وأكَّد لنا ان لا شيء له قيمة بدون محبة الله ومحبة القريب (1قورنتس 13: 4-6) التي تجعل الانسان كاملا في يوم الرب (فيلبي1: 9-11). وقد رَّكز يسوع المسيح الشريعة كلها في إطار المحبة. وهكذا أعاد يسوع كل شيء الى المحبة، لان "الله محبة" (1 يوحنا 4: 8). وهذا يدعونا الى نظرة جديدة الى العهد، الى قراءة التوراة كوحدة لا تتجزأ. أمَّا عبارة "الانبياء" فتشير الى الاسفار التي ندعوها تاريخية ونبوية في اسفار العهد القديم (متى 5: 17)، ويؤمن بها الفريسيون. قد زاد يسوع في جوابه " الأنبياء" على "الشريعة". فالأنبياء لا يقدّرون كثيرا الذين لا يتحدّثون الاّ عن الشريعة أي العبادة والذبائح ولا يهتمون بالحق والعدل، فهم يتكلمون عن الحق والعدل تجاه القريب. الله والقريب هما اخوان متشابهان كالشريعة والانبياء. وهذ امر له معناه. فالوصيتان متساويتان في الأهمية وتلخصان كل الوصايا الأخرى في المحبة. ورسالة يسوع مؤسسة على هذه الوصية، وصية المحبة.

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 22: 34-40)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 22: 34-40)، نستنتج انه يتمحور حول أهمية وصية المحبة: محبتنا لله ومحبتنا للقريب ومحبتنا لنفوسنا. ليست وصايا الله حملا ثقيل في عددها او تفصيلها، فقد لخّصها يسوع بوصيتين: محبة الله ومحبة القريب وهما خلاصة الشريعة والانبياء، وهاتان الوصيتان تتلخصان في كلمة واحدة هي "محبة"، أولا نحو الله وثانيا نحو القريب.

 

المحبة هنا ليست بالمعنى العاطفي، بل كمبدأ فعّال يشمل كل نواحي الشخصية" بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ" (متى 22: 37). المحبة هي جوهر الانجيل والحياة الانجيلية.  وبحسب اللاهوت اليهودي الرابيين، "الكونُ خُلِقَ ليس لأنّ هناك العديد من الكواكب وأمورٍ كثيرةٍ أخرى، بل لأنّ هناك مجالٌ للعهد، و"نعم" الحبّ بين الله والإنسان تستجيبُ له". ويعلق البابا بندكتس السّادس عشر بقوله: الحبّ ليس فقط وصيّة، إنّما جواب لعطاء الحبّ الذي من خلاله يأتي الله للقائنا" (المنشور البابويّ "الله محبّة"). ومن هنا نتناول ثلاث نقاط: محبة الله ومحبة القريب، ومحبة الانسان لنفسه:

 

1) محبة الله: أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ (متى 22: 37)

 

كشف الله عن نفسه لشعب العهد القديم على انه الوحيد: "اِسمَعْ يا إِسْرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو رَبٌّ واحِد فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بكُلِّ قَلبكَ كلِّ نَفسِكَ كلِّ قُوَّتكَ" (تثنية الاشتراع 6 :4-5). وعن طريق الأنبياء دعا الله جميع الامم الى التوجه نحوه، هو الوحيد كما جاء في نبوءة أشعيا " تَوجَّهوا إِلَيَّ فتَخلُصوا يا جَميعَ أَقاصي الأَرض فإِنِّي أَنا اللهُ ولَيسَ مِن إِلهٍ آخر" (أشعيا 45: 22-24). ودعا بولس الرسول الله "إِلهَ المَحبَّةِ" (2 قورنتس 13: 11).

 

الله أحبنا اولاً بكشف ذاته. والوصايا "الكلمات العشر" تشرح جواب المحبة المطلوب من الانسان تأديته له تعالى. ومن هنا جاء التفسير التطبيقي في التعليم المسيحي الكاثوليكي" ان نحب الله لأجل الله ونحبه فوق كل شيء وبسببه نحب ُّمن يحبه الله" (بند 201). يجب ان تملأ محبة الله كل كياننا وكل طاقاتنا؛ ولا يجوز ان نحب الله جزئيا بمعنى ان نعطيه جزءاً من حياتنا ووقتنا، وهذا ما تعنيه الوصية "أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ". ويعلق البابا فرنسيس "المحبّة تعطي دفعًا وخصوبةً للحياة ولمسيرة الإيمان: دون المحبّة تبقى الحياة والإيمان عقيمين"(عظة الاحد 29/10/2017).  ونحب الله خاصة بالصلاة وبعمل ارادته القدوسة.

 

أ) محبة الله بالصلاة وشعائر العبادة

 

نحن نستطيعُ أن نحبَّ الله أولا بالصلاة، لأنه بادرنا بمحبته، والمحبةُ المطلوبة منا ان نجيب على محبة الله لنا، لذا يتوجب علينا ان نتوجه إليه تعالى بالثقة نفسها التي كان يسوع يُناديه بها: " أبا" أيها الآب. وتعلق القديسة الام تيريزا دي كالكوتا "أحبِبْ الربّ إلهك من كلّ قلبك وكلّ روحك وكلّ نفسك". تلك كانت وصيّة الله الكبرى، وهو لا يمكن أن يوصي بالمستحيل. فالمحبّة هي دائمًا في متناول اليد وبإمكان الجميع بلوغ هذه المحبّة من خلال التأمّل وروح الصلاة والتضحية وعمق الحياة الداخليّة. (شيء جميل لله).  

 

  كل محاور يسوع في الصلاة تدور حول "اِسمَعْ يا إِسْرائيل" שְׁמַע יִשְׂרָאֵל (ثنية الاشتراع 6: 4) التي يصليها اليهود وعليهم تلاوتها مرتين يوميًا باعتبارها من وصية من 613 وصايا آخر. فهذه الوصية تعني الله حصرا، بدون تحديد حول شروط تطبيق الشريعة. لا شك في اننا نحب الله بالصلاة وشعائر العبادة

 

 نحنُ ايضاً نستطيعُ، مثل يسوع، أن نتحدث غالباً إلى الآب طارحينَ حاجاتنا وقراراتنا ومشاريعنا أمامه، من خلالِ الصلاةِ التي هي عبارة عن حوار ومشاركة وعلاقة صداقة عميقة معه؛ ونستطيعُ بالصلاة أن نعبِّر عن محبتنا ونسجد لله مُتجاوزينَ حُدود المخلوق، ونُمجِّده هو الحاضر في كل الكون، ونعبدهُ ساكناً في أعماقِ قُلوبنا، أو حياً في بيت القربان، ونفكر به أينما وُجدنا، في البيت أو في المكتب، وحيدين كنا أو مع آخرين.

 

ب) محبة الله بالعمل بإرادته الإلهية

 

يُعلمنا يسوع ايضاً سبيلاً آخر لمحبة الله، وهي العمل بإرادته الإلهية حيث يتوجب علينا ان نضع في تصرفهِ فكرنا وقلبنا وطاقاتنا وحياتنا بكليتها؛ أن نحب يعني أن نعمل بمشيئة الشخص المحبوب، بالمقياس الكامل وبكل كياننا: " بكل قلبك، وبكل روحك، وبكل ذهنك "؛ حيث ان المحبة بنظر يسوع لا تقتصرُ على العاطفة وحسب، إنما بعمل إرادة الله. فهو يوبّخ من يحب بالكلام فقط " لِماذا تَدعونَني: يا رَبّ، يا رَبّ! ولا تَعمَلونَ بِمَا أَقول؟ " (لوقا 6: 46). عندما نحبّ الله نضعه على رأس أولوياتنا، وتلقائيًّا نتجنّب كلّ ما يغضبه بالقول أو بالفعل.

 

نحن نعيش وصية محبة الله بالمحافظة على علاقة بنوّةٍ وصداقةٍ مع الله وخصوصاً بالعمل بما يُريد، حيث ينبغي علينا في هذا المجال ان نهب الله كل شيء، كل قلبنا، كل روحنا، كل ذهننا، ومعنى ذلك أن نقوم بما يطلبهُ منا على أكمل وجه، ونكون على أهبة الاستعداد لَما يُطلب منا في اللحظة الحاضرة حتى نتمكن من القول في كل دقيقةٍ من نهارنا: " نعم يا رب في تلك اللحظة وفي ذلك العمل، أحببتك من كل قلبي ومن كل ذاتي".

 

كان أرسطو يقولُ إنّ اللهَ يحرّك العالم "بقدر ما يُحَب"، أي بقدر كونه موضوع حبّ والعلّة الأخيرة لجميع الخلائق. ولكن الكتاب المقدس يقولُ تمامًا العكسَ؛ فاللهُ يخلق ويحرّك العالم بقدر ما يُحبُّ العالمَ. فالمهم في محبة الله ليسَ إذًا محبةُ الإنسان لله، بل محبة الله للإنسان أولاً: " وما تَقومُ عَلَيه المَحَبَّة هو أَنَّه لَسنا نَحنُ أَحبَبْنا الله بل هو أَحَبَّنا" (1 يوحنا 4: 10). وعلى هذا يتوقفُ كلُّ شيء، حتّى إمكانيّة حبّنا لله: " أَمَّا نَحنُ فإِنَّنا نُحِبّ لأَنَّه أَحَبَّنا قَبلَ أَن نُحِبَّه"(1 يوحنا 4: 19).

 

ويقوم العمل بإرادة الله بتجنب الخطيئة وحفظ وصاياه. وفي هذا الصدد يقول القديس افرام السرياني "إنّ محبة الربِّ تنقذنا من الموت، ومحبّة الإنسان تبعدُ عنّا الخطيئة لأنّ ما من أحدٍ يُخطئُ بحقّ من يُحبّه". ووجاء التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية يؤكد ذلك بقوله "الخطيئة المميتة تقضي على المحبة في قلب الانسان بتعدٍ كبيرٍ لشريعة الله. وتصْرف الانسان عن الله الذي هو غايته القصوى وسعادته بتفضيل خير أدنى عليه"(بند 1855). ويعلق القدّيس أنطونيوس البادوانيّ "لقد قيل " أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ "، وهذا سبب لتحبّه أكثر؛ نحبّ أكثر ما هو لنا، نحبّ أكثر ما هو لنا مما هو غريب عنّا. إن الرب إلهك يستحق أن يُحَب؛ هو الذي صنعك، وجعل نفسه خادماً لك، خلال ثلاثين سنة، بسبب خطاياك، لكي ينتشلك من عبودية الشيطان. لقد بذل نفسه كاملة لك، لكي تبذل نفسك لأجلك. بذل نفسه لأجلك لكي يعيد نفسك إليك" (عظات لأيّام الآحاد وأعياد القدّيسين).  لنتأمل في محبّة الله الذي خلق الإنسان ليكون سعيدًا.

 

2) محبة القريب: أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ

 

بدأ ترابط وصية محبة الله ومحبة القريب بشكل ضمني في العهد القديم ولكنه لاقى اكتماله ووضوحه في تحديد يسوع له. لأن يسوع كما قال "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل" (متى 5: 17). وتصدر محبة القريب عن الوصية "أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ" (متى 22: 39)؛ وهذه الوصية تنبع من وصية محبة الله (متى 22: 37). فمحبّة الربّ تأتي أوّلاً، ثمّ تأتي محبّة القريب ثانياً، ذلك لأنّ الإنسان يصير ذا قيمة، عندما يحبّ الربّ. لذلك المتديّن الصحيح هو من يحبّ الربّ ويحبّ الإنسان المخلوق على صورة الربّ. فالإنسان هو انعكاس لمحبة الله. ويعُلق القديس العلامة توما الأكويني أن مبعث المحبة، محبة الله ومحبة القريب ومحرّكها الأول إنما هو كمالات الله. نحن نحب الله لأجل كمالاته، ونحب كل ما تتجلَّى فيه كمالاته. وتتجلّى كمالات الله في مخلوقاته، ولاسيما في الإنسان الذي جعله على صورته ومثاله وأقرب المخلوقات إليه تعالى. فعندما نحبّ الله يتوجب علينا أن نحب القريب الذي تظهر فيه كمالات الله".

 

والقريب في ضوء الكتاب المقدس هو مخلوق على صورة الله ومفتدى بدم المسيح وابن الله ومدعو للتبني الالهي (1 يوحنا 4: 20). فتظهر محبة القريب متجسِّدة في محبة المسيح على الصليب فهي محبة مجانية شاملة لكل طبقة او جنس او لون او عرق او مذهب وبدون تمييز اجتماعي او عنصري كما جاء في تعليم بولس الرسول: "لَيسَ هُناكَ يَهودِيٌّ ولا يونانِيّ، ولَيسَ هُناكَ عَبْدٌ أَو حُرّ، ولَيسَ هُناكَ ذَكَرٌ وأُنْثى" (غلاطية 3: 28). فالقريب هو ليس فقط ابن عشيرتي أو هو قريب الدم او المنتمي إلى كنيستي، انما أيضا بحسب مفهوم المسيح هو أي إنسان قريب مني، هو الذي نتقابل معه في الطريق، هو الإنسان ككل.

 

ويعلق البابا فرنسيس "أن محبة الله ليست فقط نموذجًا لمحبة القريب وإنما هي أيضًا الدافع، وبالتالي أنا أحبُّ قريبي، كائنًا من كان، لأنني أحبُّ يسوع المسيح! ومحبة المسيح هذه هي الدافع لمحبتنا البشريّة التي غالبًا ما تعترضها مخاوفنا ومصالحنا" (عظة الاحد 24/10/2014).  وفي هذا الصدد يكتب يوحنا الرسول: " أَمَّا نَحنُ فإِنَّنا نُحِبّ لأَنَّه أَحَبَّنا قَبلَ أَن نُحِبَّه.  إِذا قالَ أَحَد: ((إِنِّي أُحِبُّ الله)) وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه.  إِلَيكُمُ الوَصِيَّةَ الَّتي أَخَذْناها عنه: مَن أَحَبَّ اللهَ فلْيُحِبَّ أَخاه أَيضًا" (1يوحنا 4: 19-20).

 

وأمَّا مميزات وصية محبة القريب فإنها وصية كمحبة الانسان لنفسه، محبة بلا حدود، وصية جديدة، ومحبة شاملة ومحبة تصفح ومحبة تهب ذاتها ومحبة في هي خدمة للجميع: 

 

أ) محبة كنفسك

 

يربط يسوع بين وصية محبة القريب وبين وصيّة محبة الله برباط لا ينفصم (متى 22: 34-40). أولئك الذين يحبّون الرب لا يستطيعون سوى أن يحبّوا قريبهم. أمّا محبة القريب كمحبة النّفس، فهي تفترض أن يحبَّ الإنسان نفسه كي يستطيع أن يحبّ قريبه، يقول القدّيس أوغسطينوس " عندما طلبَ الربّ منكَ أن تحبَّ قريبكَ، هو لم يقلْ لكَ: أحبِبْه من كلّ قلبكَ وروحكَ ونفسكَ؛ لكنّه قالَ لكَ: أحبِبْ قريبكَ كنفسِكَ. إذًا، أحبِبْ ربّكَ بكليّتِكَ لأنّه أكبر منكَ؛ وأحبِبْ قريبَكَ كنفسِكَ لأنّه صورة عنك" (عظة غير منشورة عن رسالة القدّيس يعقوب)، ويُعلق الأب يوحنا من كرونستادت " إنسان مثلي على صورة الله، يليق بي أن أُحبّه كما أُحِب نفسي... يلزمني أن أهتم به كما بجسدي ودمي، وأتعامل معه بالحب واللطف والحنو، غافرًا له أفكاره كما أغفر لنفسي أفكاري، وكما أشتاق إلى العفو من الآخرين عن ضعفي".

 

ب) محبة بحفظ الوصايا

 

يقول الرب "إِذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي" (يوحنا 14: 22)؛ ونحن نحبّ القريب بناءً على شريعة العدل والمحبّة. وشريعة العدل هي أن نحبّ القريب بالعمل بوصايا الله: أكرم أباك وأمّك، لا تقتل، لا تزني، لا تسرق، لا تخدع، لا تشهد بالزور، لا تشتهي مقتنى غيرك ولا امرأة قريبك. تعني محبة القريب رفع الآخر إلى ذات مستوى حياتنا.

 

وعلى خطى يسوع، يجاهر بولس بأن وصيّة المحبة هي " تمامَ الشَّريعةِ كُلِّها" (غلاطية 5: 14)، وأنها تحتوي على الوصايا "مُجتَمِعةٌ" (رومة 13: 8-10)، ويصفها يعقوب بأنها " الشَّريعَةِ السَّامِيَةِ" (يعقوب 2: 8).   وفي هذا الصدد يقول البابا العلامة بندكتس السادس عشر " الله يحرّك فينا المحبَّة ويفتح حياتنا على الآخر، فلا تعودُ محبّتُنا للقريب وصية مفروضة، إذا جاز التعبير، من الخارج، بل نتيجة نابعة من إيماننا العامل في المحبّة".

 

وتدل محبة القريب على صدق محبتنا لله " إِذا قالَ أَحَد: ((إِنِّي أُحِبُّ الله)) وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه" (1 يوحنا 4: 20)؛ إذ لا يمكننا أن نحب الله غير المنظور خارج حبّنا لإخوتنا المنظورين. فالفصل بين هاتين الوصيتين بات مُستحيلاً لمن يريد إتباع يسوع، تماماً كما يستحيل فصل الشجرة عن جُذورها، فكلما زادت محبتا لله، زادت محبتنا لإخوتنا، وكلما أحبننا إخوتنا تعمَّقت فينا محبة الله. فلا عجب ان يجعل بولس الرسول محبة القريب الموهبة العظمى في المواهب كلها "أَعظَمَها المَحبَّة" (1قورنتس 12: 13).

 

ج) محبة بلا حدود

 

محبة الانسان قريبه حبّه لنفسه، هي محبة بلا حدود وبدون شروط. وتعلق القديسة الام تريزا دي كالكوتا " إن لم يكن هنالك من حدود، فذلك لأنّ الله محبّة (1يوحنا 4: 8)، ولأنّ المحبّة هي الله. ما يربطنا بالله فعلاً إنّما هو علاقة محبّة. ثمّ إنّ محبّة الله لامتناهية. والمشاركة في محبّة الله هي أن نحبّ وأن نعطي مهما كان الثمن باهظً".

 

وهنا نتذكر القاعدة الذهبية "فكُلُّ ما أَرَدْتُم أَن يَفْعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم: هذِه هيَ الشَّريعَةُ والأَنبِياء" (متى 7: 12).  ومن هذا المنطلق فان محبة القريب ليس شفقة عليه او تنازل إنما نابعة من العدالة والتضامن، وتتضمن حبا غير مشروط يُلزم الانسان كله. هنا نتذكر القاعدة الذهبية " فكُلُّ ما أَرَدْتُم أَن يَفْعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم: هذِه هيَ الشَّريعَةُ والأَنبِياء" (متى 7: 12). للمسيحي واجب اساسي: محبة القريب كما جاء في تعليم بولس الرسول "لا يَكوَننَّ علَيكم لأَحَدٍ دَيْنٌ إلاَّ حُبُّ بَعضِكُم لِبَعْض، فمَن أَحَبَّ غَيرَه أَتَمَّ الشَّريعة" (رومة 13: 8).

 

ونحن ندان على محبة القريب كما صرّح يسوع "تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم: لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ... الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه " (متى 25: 34 – 40) وعلقت الام تريزا دي كالكوتا " لم يقصد الرّب بكلامه الجوع إلى الطّعام فقط؛ إنّه الجوع إلى المحبّة. ولم يقصد بكلامه العري الجسدي؛ فالعُري هو أيضًا فقدان الكرامة الإنسانيّة وفضيلة النّقاوة الرّائعة، كما هو فقدان احترام بعضنا لبعض. أن يكون الإنسان غريبًا أو مُشرّدًا لا يعني بالتّحديد أنّه ليس لديه منزلٌ يأويه، بل أيضًا من كان مرفوضًا أم منبوذًا أم غير محبوب هو أيضًا غريبٌ ومشرّد"، وهذا ما يدعونا إليه يسوع اليوم!". إن من حق كل شخص أن يُعامل على أنّه كائن للحب لا كائن للاستغلال.

 

د) محبة وصية جديدة

 

جعل يسوع من محبة القريب وصية جديدة " أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً" (يوحنا 13: 34)؛ وها هو يسوع في العشاء الأخير وبعد إيصال وصيته للاثني عشر يضيف " إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي" (يوحنا 13: 35). والحب البشري في جميع أشكاله وفي كل كماله غير كاف. ينبغي أن نحب كما يحب يسوع بقلب بشري إلهي. والحب بهذا المبدأ يتطلب ارتقائنا إلى مرتبة أبناء الله وتسامينا في حياتنا للثالوث الأقدس. فالحب البشري يشارك في وحدة الحب الثالوثي الذي كان منذ الأزل في السماء بين الآب والابن والروح القدس. وحب كهذا لا يمكن تحقيقه دون إفاضة الروح القدس على الإنسان.

 

وسَّع يوحنا الرسول معنى الوصية وعمَّقه ودمغه بدمغة المحبة ((المُتجسِّد)). ولذلك تكلم عن الوصية الجديدة (يوحنا 13: 34 و15: 15 و21).  انها وصية جديدة لان يسوع جعل هذه الوصية شرطا جوهريا لدخول في الجماعة المسيحية الخيرية، وفقط في إطار الجماعة أقدر أن أعيش محبة القريب وأحققها في تمامها وكمالها.  وهي جديدة أيضا بقدر ما تقتضي تواضعا ورغبةً في الخدمة يحملان على اختيار المكان الأخير وعلى الموت في سبيل الآخرين.

 

وان الحياة في المحبة الأخوية هي الدليل المثالي على حضور محبة الله في حياة الناس "إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي "(يوحنا 13: 35). وفي هذا الصدد يتساءل البابا فرنسيس "ما هي شريعة شعب الله؟ إنها شريعة المحبة، محبة الله ومحبة القريب وفقًا للوصية الجديدة التي تركها لنا الرب (يوحنا 13: 34). ولكن المحبة ليست بمثابة عاطفة عقيمة، أو شيء مبهم، بل هي التعرف على الله كالرب الوحيد لحياتنا، وفي ذات الوقت، قبول الأخر كأخ حقيقي، بتخطي الانقسامات، والمنافسات، وسوء الفهم، والأنانية".

 

ه) محبة شاملة

 

وسّع يسوع دائرة وصيّة محبة القريب، فلا يقتصر حبنا على أصدقائنا، بل يشمل أعداءنا أيضاً (متى 5: 43-48)، وهذا يفترض أن نكسر كل الحواجز الكامنة في قلوبنا، حتى يمتد الحب إلى العدو نفسه. وأخيراً، في مثل السامري الصالح، يأتي يسوع إلى التطبيقات العمليّة (لوقا 10: 29-37). فليس لي أن أحدِّد من هو قريبي. وإنما كل إنسان واقع في الشدة حتى وإن كان عدوّاً لي يدعوني إلى أن أصبح قريباً له. فتتّخذ المحبة الشاملة طابعاً واقعياً لحياتنا المسيحية اليومية. فهي تظهر في الممارسة العملية، تجاه كل إنسان يضعه الله على طريقي.

 

محبة القريب هي محبة شاملة التي لا تزدري أحد "إِذا أَقَمتَ مَأَدُبَة فادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان" (لوقا 14: 13) بل أكثر من ذلك فهي تطالب بمحبة الأعداء "أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم" (متى 5/43-47). والله ينهانا عن بغضهم والانتقام منهم والحكم عليهم فنحن لا نحب الشر فيهم بل الانسان. محبة الله شاملة تضم جميع الناس، فإذا قابلنا أحدا من البشر، كبارا او صغاراً، بنفخة من محبته وعون من عطائه، نقتدي بمحبته الشاملة. ويعلق القدّيس فرنسيس الأسّيزيّ "إن كان أحد لا يريد أو لا يستطيع أن يحبّ قريبه مثل نفسه، فعلى الأقلّ لا يصنع له شرًّا بل فليصنع له خيرًا"(رسالة إلى جميع المؤمنين، 2-3).

 

و) محبة تصفح

 

لا تعرف محبة القريب اليأس فهي تتميّز بالصفح والغفران بدون حدود كما قال يسوع لبطرس "لا أَقولُ لكَ: سَبعَ مرَّات، بل سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات عليك ان تغفر لأخيك" (متى 18: 21-22)،  كما تتميز بالمبادرة الطيِّبة نحو الخصم كما يأمر الرب: "سارعْ إِلى إِرضاءِ خَصمِكَ ما دُمْتَ معَه في الطَّريق" ( متى 5: 25)؛ وتتميز ايضا بالصبر وبمقابلة الشر بالخير كما يوصي القديس بولس الرسول "بارِكوا مُضطَهِديكم، بارِكوا ولا تَلعَنوا ... لا تُبادِلوا أَحَدًا شَرًّا بِشَرّ ... إِذا جاعَ عَدُوُّكَ فأَطعِمْهُ، وإِذا عَطِشَ فاسقِه" (رومة 12: 14-21) . ولا ننسى ان الله سبحانه تعالى يُعاملنا كما نحن نعامل قريبنا " فإِن تَغفِروا لِلنَّاسِ زلاتِهِم يَغْفِرْ لكُم أَبوكُمُ السَّماوِيّ وإِن لَم تَغفِروا لِلنَّاس لا يَغْفِرْ لكُم أَبوكُم زلاَّتِكُم " (متى 6: 14-15). ويعلق القديس أفرام السرياني: "إنّ محبة الربِّ تنقذنا من الموت، ومحبّة الإنسان تبعدُ عنّا الخطيئة لأنّ ما من أحدٍ يُخطئُ بحقّ من يُحبّه. ولكن أيّ نفسٍ عساها تستطيعُ أن تنمّي المحبّة المغروسة في أحشائها تجاه العالم أجمع؟  تعجزُ وسائلنا وقدرتنا بمفردها عن أن تكون أدواتٍ لتحقيق مشيئة الله الفوريّة والنفيسة ما لم يُمسكنا يسوع المسيح بيدنا ويقيمُنا من لجّة الموت".

 

ز) محبة في خدمة متبادلة

 

المحبة هي خدمة متبادلة للجميع كما جاء في رسالة بولس "بِفَضلِ المَحَبَّةِ اخدِموا بَعضُكم بَعضًا، لأَنَّ تمامَ الشَّريعةِ كُلِّها في هذهِ الكَلِمةِ الواحِدة: ((أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ)). (غلاطية: 5 13-14)، وهذه المحبة تتطلب انكار المرء ذاته مع المسيح المصلوب كما كان جاء على لسان بولس الرسول" مِن أَجْلِ المسيح خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ"(فيلبي 3: 1-11). فهي خاضعة لقانون التضحية والموت وذلك بان نضحي في سبيل مساعدة القريب على خلاص نفسه وتحسين حالته "وإِنَّما عَرَفْنا المَحبَّة بِأَنَّ ذاكَ قد بَذَلَ نفْسَه في سَبيلنِا. فعلَينا نَحنُ أَيضًا أَن نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ إِخوَتِنا (1 يوحنا 3: 16). لا عدالة وتضامن لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسة التي يتخبط بها مجتمعنا بدون محبة. ولا محبة دون تضامن وعدالة. ان جعلنا المحبة شفقة على الناس وتنازلا شوَّهنا المحبة التي تشمل على العدالة والتضامن. وفي العائلة تتخذ المحبة شكل الهبة الكاملة على مثال ذبيحة المسيح "أَيَّها الرِّجال، أَحِبُّوا نِساءَكم كما أَحَبَّ المسيحُ الكَنيسة وجادَ بِنَفسِه مِن أَجْلِها" (أفسس 5: 25-32).

 

فما هو المطلوب من إنسان اليوم؟ المطلوب من الانسان اليوم هو أن يحب الرحمة ويُحيي العدل ويسلك متواضعاً أمام الله، وبكلمة تتلخص كل فلسفة الحياة المسيحية بعبارة القديس أوغسطينوس "أحب وافعل ما تشاء". ويشرح هذا التعبير قائلا: "إن سكتت، فاسكت بدافع المحبة؛ إن تكلمت، تكلم بدافع المحبة؛ إن أصلحت، أصلح بدافع المحبة؛ إن غفرت، اغفر بدافع المحبة؛ ولتكن فيك جذور المحبة لأن لا شيء يصدر عن هذه الجذور إلا الخير". من يسمح للمحبة بإرشاده، يرشده الله لأن الله محبة.

 

وهذا هو صُلب العقيدة المسيحية ان حب الله وحب القريب وصيتان مترابطتان، حبُّ الله لا يصحُّ إلا بحبِّ القريب، وحبُّ القريب لا يصحُّ إلا بحبِّ الله، لذلك قال القديس يوحنا الرسول "إذا قالَ أَحَد: ((إِنِّي أُحِبُّ الله)) وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه" (1 يوحنا 4: 20). ويعلق العلامة أوغسطينوس قائلا "إذا كنت تريد أن تعرف إذا كان فيك روح الله، فاسأل قلبك. فإذا كنت تحب أخاك فكن في اطمئنان، لأنه لا محبة حقيقية إذا لم تتوطّد في الله". لنتأمّل في محبّة الآخرين، الذين يعطون ذواتهم مجانًا، الذين أعطوني وسيعطونني.

 

3) محبة الانسان لنفسه

 

العدل يقضي ان يبدأ الانسان بمحبة نفسه. لم يكن هناك بحاجة وصية صريحة بذلك، لانَّ الانسان مطبوع على محبته لذاته، ويعلق القدّيس أوغسطينوس " لم يرَ الربّ ضرورة في دعوتكَ إلى محبّة ذاتكَ، لأنّ ما من أحد لا يحبّ نفسه.  القاعدة التي على أساسها يجب أن تحبَّ نفسكَ: أحبِبْ ذاك الذي هو أكبر منكَ، وستحبّ نفسكَ" (عظة غير منشورة عن رسالة القدّيس يعقوب). وحبُّ الذات هو في قلب الإيمان المسيحيّ: فأن يكون الإنسان مسيحيّ، ألا يعني ذلك أنّه يعرف ذاته بأنّه محبوب من قبل من يدعوه ابنه؟ فأن أحبّ ذاتي قد يبدو نرجسياً أو أنانياً. لكن في الواقع، هذا يعني أن أقبل ذاتي كما أنا وليس كما أتمنى أن أكون. وإذا كان عليّ تغير الكثير بداخلي، فنظر الله المُحبّ ورغبته يعطونني الثقة بذاتي وبالآخر. وأن أحبّ الآخر كحبِّي لذاتي، يعني سماع هذه الدّعوة.

 

ورفع السيد المسيح محبة الانسان لنفسه الى المستوى الروحي. فالنفس تكرَّست لله بإقامته فيها كما جاء في تعليم يسوع المسيح "إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً"(يوحنا 14: 23)، والجسد أصبح هيكلا للروح القدس (1 قورنتس 3: 16)، لذلك على الانسان ان يُحبَّ الله أكثر من نفسه، إذ انه مصدرها ولا قيمة للنفس إزاء قيمة الله. ولكن يتوجب عليه ان يُحبَّ نفسه أكثر مما يُحبَّ قريبة، فيهتمَّ بتقديسها، لان محبته لنفسه هي الاساس الذي تُبنى عليه محبة القريب، ولان الله يطلب منه ان يخلص نفسه "ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ " (متى 16: 26).

 

ومحبة الانسان لذاته هي طلب الخير الحقيقي المفيد لنفسه وجسده واجتناب ما يضرهما. ان الانسان هو هيكل الله وروح الله يسكن فيه كما يقول القديس بولس "أَما تَعلَمونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وأَنَّ رُوحَ اللهِ حالٌّ فيكم؟ مَن هَدَمَ هَيكَلَ اللهِ هَدَمَه الله، لأَنَّ هَيكَلَ اللهِ مُقدَّس، وهذا الهَيكَلُ هو أَنتُم" (1 قورنتس3: 16-17)، فلنحافظ على أجسادنا لأجل خير نفوسنا، ولنحافظ على نفوسنا لأجل خير حياتنا الابدية، ولنحافظ على الحياة الابدية لأجل مجد لله غايتنا وسعادتنا. ويصف بولس الرسول هذه السعادة هكذا يقول القديس بولس مستوحياً من إشفيا: "ما لم تَرَهُ عَيْنٌ ولا سَمِعَت بِه أُذُنٌ ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَر، ذلكً ما أَعدَّه اللهُ لِلَّذينَ يُحِبُّونَه" (1 قورنتس 2: 9).

 

ويصف القدّيس أنطونيوس البادوانيّ كيف الانسان يحب نفسه: "أحبِبْ نفسَكَ، كما خلقَكَ ذاك الذي أحبّكَ. أحبِبْ نفسَكَ بالطريقة ذاتها التي أحبّها بكَ ذاك الذي سلَّمَ نفسَه من أجلِكَ. لا تبحثْ عن آخر فيكَ، ولا تجعلْ نفسَكَ مختلفًا عمّ خلقَكَ عليه الله. هكذا، سيبقى الله دائمًا في روحِكَ" (العظات لأيّام الآحاد والأعياد). لنتأمل في محبّتي لنفسي، الوقت الذي أخصّصه مع ذاتي، لأنمو وأحيا أكثر.

 

خلاصة

 

يجيب سيدنا يسوع المسيح في انجيل اليوم على سؤال من أسئلة الربانيين وهو "ما هي الوَصِيَّةُ الكُبرى في الشَّريعة؟" جواب يسوع هذا ليس بسهل لأن الوصايا الأهمّ، من بين وصايا الشريعة العبريّة العديدة، كانت الوصايا العشر، التي أعطاها الله مباشرة لموسى، كشروط للعهد الذي قطعه مع الشعب. لكن يسوع يريد أن يفهمهم أنه، دون محبّة الله ومحبّة القريب، ما من أمانة لهذا العهد مع الربّ. ويُذكّرنا السيّد المسيح، الّذي نحن تلاميذه، اليوم بأنّ أكبر الوصايا هي وصيّة المحبّة. الله إله حيّ وعامل في التاريخ، ولا يريد أن نعبده وحسب، بل أن نحبّه أيضاً.

 

وبيِّن يسوع لليهود ان الدين علاقة حب، إذا كنا حقيقة نحب الله ونفوسنا وقريبنا، فإننا نحفظ الوصايا. وحفظ الوصايا علامة لمحبة للمسيح " إذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي" (يوحنا 14: 15). فالوصايا العشر تعلن مطالب محبة الله والقريب. الثلاث الاولى تتعلق أكثر بمحبة الله، والسبع الاخرى تتعلق بمحبة القريب، وكلها يجب ان تشرح بنظرة ايجابية أي في ضوء الوصية المزدوجة الواحدة، وصية المحبة.  وفي هذا الصدد كتب الكاتب الروسي تولستوي الى غاندي قائلا "هذه الشريعة أعلنها حكماءُ الكون جميعًا، رومانًا كانوا أم إغريقًا أم يهودًا أم صينيين أم هندوسيا. وأعتقد أن أجلى صياغة لهذه الشريعة جاء بها المسيح، الذي أكد حتى إنها تلخِّص الناموس والأنبياء".

 

وهذه الوصية واحدة تتخذ وجهتين: الله والقريب حيث لا حب من دون الآخر. إذ كل من يُحبُّ الله، يجب أن يُحبّ إخوانه في الإنسانية أيضاً، لأن محبة الإنسان لله تُترجم بمحبته لإخوانه بني البشر، وبدون محبتنا بعضنا لبعض كما أوصانا الله، تكون محبتنا ناقصة وإيماننا غير كامل. ويؤكد الكتاب المقدس ذلك بقوله " أَيُّها الأحِبَّاء، فلْيُحِبَّ بَعضُنا بَعضًا لأَنَّ المَحَبَّةَ مِنَ الله وكُلَّ مُحِبٍّ مَولودٌ لله وعارفٌ بِالله، مَن لا يُحِبّ لم يَعرِفِ الله لأَنَّ اللّهَ مَحبَّة"(1يوحنا 4: 7). تقوم محبتنا بالمحافظة التامة على الوصايا (يوحنا 14: 15، 21، 23). ومن المستحسن ان نركز على كل ما نستطيع ان نفعله لإظهار محبتنا لله وللآخرين بدلا من القلق عما لا يجب ان نفعله.

 

نجد ان الناس في أيامنا يُشدّدون على المحبة للناس او الاحسان إليهم ولكنهم ينسون واجب المحبة لله. والرب يربط الاثنين في الأهمية، فعمل الخير لا يعتبر بديلا للديانة، بل يجب ان يصدر عنها. فالحياة تتكوّن من الممارسة لأعمال المحبة. يدعونا يسوع الى ان نحب الله وإخوتنا. فبحفظ الانسان هاتين الوصيتين يحفظ الانسان عشر الوصايا، فهما خلاصة الوصايا العشر وكل الشرائع الأدبية في العهد القديم.

 

وشدَّد يسوع على وصية المحبة ولخَّصها في وصية واحدة هي وصية المحبة، وفسَّرها تفسيراً حقيقياً، وعلم الناس أن غاية الناموس إنما هي المحبة لله والقريب (متى 22: 37) وبسبب ذلك اصطدم اصطداماً عنيفاً مع الفِرِّيسيِّينَ الذين تمسكوا بقشور الشريعة وأعرضوا عن جوهرها (يوحنا 9: 28). وكذلك كان موقف بولس في تفسير الوصايا فقد أوضح أن الإيمان العامل بالمحبة هو تكميل الناموس (غلاطية 5: 6). وموجز القول إن المحبة هي أصل الناموس وتتمته.  ويعلق البابا القديس يوحنا بولس الثاني "لا يستطيع الإنسان ان يعيش دون محبة. فهو يبقى لغزاً لا يفهم نفسه، ولا معنى حياته، إن لم تتوفر له المحبة، إن لم يجدها ويختبرها بنفسه ويشارك فيها مشاركة حميمية.

 

الدعاء

 

أيها الآب السماوي، انت الذي تدعونا من خلال ابنك يسوع المسيح، أن نحبَّك ونحبَّ إخوتنا بكل قلوبنا ونفوسنا، وبكل ذهننا وطاقاتنا. هبنا النعمة ان نحبَّ الآخرين كما احببتنا لنكون مثال حيّ لمحبتك لنا. وأجعلنا يا رب ان نختارك ونضعك في المرتبة الأولى بعيشنا إرادتك بشكل كامل، في اللحظة الحاضرة، ليتسنى لنا أن نقول لك بصدق: "انت إلهي وكل شيء لي"، "احبك"، "كلي لك"، "انت إلهي، وأنت إلهنا، إله المحبة اللامتناهية، وإذا لم أكن أحبّك، أنت ربّي وإلهي، فمن تراني أحبّ؟

 

قصة: وصية أغلى من الحجارة الكريمة

 

أرسل أحد ملوك إسرائيل هدية ثمينة، لأحد رؤساء الكهنة، وهي عبارة عن حجر كريم غالي الثمن، في علبة ذهبية هي أيضا غالية الثمن، مع الطلب منه، بعد معاينته لهذه الهدية، أن يُرسل هو أيضا لملكه هدّية بالمقابل، تكون أيضا ثمينة. فأرسل الكاهن مِلفّاً من ورق البردي وهو أغلى الورق الذي استعمله البشر لمدة طويلة للكتابة قبل ما يعرفوا اختراع الورق، مكتوب عليه نص من العهد القديم، وضعه في صندوق خشبي رخيص الثمن. فاستغرب الملك عند مشاهدته لهذا الصندوق الذي لا قيمة له وقال: أنا بعثت له حجرا كريما في صندوق ذهبي، وهو يبعث لي ورقة في صندوق لا قيمة له؟

 

لكنه استغرب حينما فتح الصندوق، ووجد فيه رسالة من الكاهن يقول فيها: هديتي وهديتك لا تتشابهان. أنت بعثت لي هديّة، يجب أن أحتفظ بها، لكنني أبعث لك هدية، هي يجب أن تحفظك. ولمّا فتح الملك الملف، كان مكتوبا عليه: " اِسمَعْ يا إِسْرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو رَبٌّ واحِد. فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بكُلِّ قَلبكَ كلِّ نَفسِكَ كلِّ قُوَّتكَ. ولتكُنْ هَذه الكَلِماتُ الَّتي أَنا آمُرُكَ بِها اليَومَ في قَلبِكَ. ورَدِّدْها على بَنيكَ كلِّمْهم بِها، إِذا جَلَستَ في بَيتِكَ وإِذا مَشَيتَ في الطَّريق وإِذا نِمْتَ وقُمْتَ" (تثنية الاشتراع 5: 4-7).