موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٤ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠

المحبّةُ تصلِبُكم

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني، راعي كنيسة "سيدة الوردية" للاتين في الكرك

الأب فارس سرياني، راعي كنيسة "سيدة الوردية" للاتين في الكرك

 

الأحد الثّلاثون من زمن السنة-أ

 

أَيُّها الإخوةُ والأخوات الأحبّاء في المسيحِ يسوع. تحدّثنا في الأسبوعِ الماضي حولَ الاشتباكاتِ الدّينية والسّياسية، الّتي دَارت رَحَاها بين يسوعَ، وبينَ خصومِه من مُختَلَفِ فِئاتِ اليهود، من فرّيسيين وصَدّوقيين وهيرودُسيّين. وقُلنا كيف أنَّ هذهِ الأطياف المختلِفة جوهريًّا في عقائدها الدّينية، وتوجهاتها السّياسية والاقتصادية، إلّا أنّ المسيحَ كَخَصمٍ لها، اِستطاعَ أن يُوحِّدَهَا جَميعًا كَقُوّةِ شّر. فَتَكَالَبوا وَتَأَلّبوا وَتَآمروا عَليِهِ جميعًا، سعيًا منهم للقضاءِ عَلَيهِ دَفعةً واحدة، والتّخلّصِ منه نهائيًا.

 

وفي خضمِّ هَذهِ الأجواءِ الملبَّدَة بالأحقاد، والمعبَّدة بالمصائِد، والمشحونَة بالكراهية، يُفجّرُ يسوع في وجوهِهم الماكِرة درسًا مُدوِّيًا في أكبرِ الوصايا وأعظمِها، إذ يُلقّنُهم درسًا في المحبة الّتي أَهملوها واَزدَروها! هو لم يُناصبهم العداء، ولم يُبادِلهم شرًّا بشر، ولا كُرهًا بِكُره، ولا خُبثًا بخُبث، مع أنه كان عالمًا بسوء نواياهم المبطّنة في دواخلهم المكلّسة. إنّما أحبّهم حُبًّا تجلّى عَمَليًّا في أَبهى صُوَرِهِ، يومَ غفرَ لهم ولنا جميعًا، وهو في أعلى مراتب الألم والمعاناة، مُعلّقًا بأيديهم وبأيدينا فوقَ عودِ الصّليب.

 

كَم هي عظيمةٌ المحبّة! كَم هي شريفةٌ نقيّة! لامعةٌ بهيّة! لطيفةٌ دمِثة! خلوقةٌ مؤدّبة! محترمةٌ مُستقيمة! المحبةُ لا تطلبُ سوى الخير لكلّ النّاس، فهي فضيلةٌ إلهية صادرةٌ عن الله، الّذي يُريد الخيرَ لكلِّ النّاس. مَن يحب لا يؤذي النّاس، لا يحقِد، لا يَطلب الشّر، لا يُنغّص عيشة غيره، لا يدوس على كرامةِ غيره في سبيل تحقيق منافِعِه ومطامِعه. مَن يُحب لا يعرف معنى الّلؤم والخبث والدّناءة والانحِطاطِ والنّذالة. مَن يُحب يسالِم النّاس، ويُعامِلهم بمودّة، وينظر إلى الجميع نظرات شَريفة ونقيّة. مَن يحب يصبر ويتحمّل، والأهمّ من ذلك، يملك الشّجاعة ليغفر ويسامح كلّ مُسِيء ومُعتدٍ، فالمحبّة فضيلة الكبار والأقوياء.

 

المحبة فضيلة بطوليّة فيها جُرأة وَإِقدام. فضيلة تتطلّب تَضحية وذبيحة. والتّضحية الكُبرى والذّبيحة العُظمى كانت في شخص المسيح، الحمل الفَصحيّ الكامل، الّذي ذُبِحَ فوق مَذبحِ المحبّة، والّذي فيه اكتمَلت كلّ معاني المحبة، بأبهى صورِها وَأَسمى معانيها. لذلك أن تُحب يعني أن تُضحّي، وأن تُضحّي يعني أن ترضى بأن تكونَ ذبيحة على مثال المسيح في بعض المواقِف، وأن تكونَ ذبيحة يعني أن تكونَ مُستعدًّا لأن تتألّمَ وتكابِد الغَصّات والأوجاع الّتي تمزّقُكَ من الدّاخل، وتتجرّع المعاناة حتّى الرّمق الأخير، بأمرّ مَذاق وأَبشع عَذاب.

 

يا أحبّة، المحبّة فضيلةٌ واسعةُ المعاني متراميةُ الأطراف. ومهما تحدّثنا عن المحبة فَلن تُسعِفنا العباراتُ والجُمل. لذلك، عِوضًا عن إضاعة الوقت بكلام وإن بدا مُنمّقًا معسولًا، دعونا نجتهد ونسعى لأنَ نعيشَ المحبة، بالرّغم من قَسَاوةِ متطلّباتِها، الّتي تخالف هَوانا وطباعَنا وردّات أفعالِنا. نعيش هذه الفضيلة الكُبرى والعُظمى على مثال الله، نبع المحبة وأصلها ومُفيضها، وغايتها وهدفها ومداها. هي الفضيلة القصوى لأنّ كلّ الأمور تسقط، وتبقى وحدها المحبّة، فالمحبةُ لا تنتهي ولا تَبطُل ولا تَنقُص ولا تتلاشى ولا تمّحي. المحبة لا تسقط أبدًا (1 قورنتوس 8:13)

 

للأديب الّلبناني، جبران خليل جبران، في كتابِه "النّبي"، كلام ملهَم عن المحبة، مُغَنّى بصوت الرّائعة فيروز، يقول فيه:

 

إذا المحبةُ أَومَت إِليكُم فاتبعوها، وإنْ كانت مسالِكُها صعبةً مُتحدِّرَة. إذا ضَمَّتكم بجناحيها فأطيعوها، وإنْ جَرحَكُم السّيفُ المَستورُ بينَ رِيشِها.

 

لأنه كما أنَّ المحبةَ تُكلِّلُكم، فهي أيضًا تَصلِبُكم!!! وكما تعمل على نموّكم، هكذا تعلِّمُكم وتستأصلُ الفاسدَ منكم.

 

المحبةُ تَضُمّكم إلى قلبِها كأغمارِ حنطة، المحبةُ على بيادِرِها تدرسُكم لِتُظهِرَ عُريَكُم. المحبة تغربِلُكم لتحرِّرَكم من قشوركم، المحبة تطحنُكم فتجعلُكم كالثلجِ أنقياء.

 

المحبة تعجنكم بدموعها حتى تلينوا، ثُمَّ تُعِدُّكُم لنارها المقدسة، لكي تصيروا خبزاً مقدسًا، يُقرَّب على مائدة الربَّ المقدسة!!!

 

أما أنت إذا أحببتَ فلا تقل: "اللهُ في قلبي"، لكن قُلْ: "أنا في قلبِ الله".