موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٣ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٠

الشعب الجالس في الظلمة رأى نورًا

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن

الأحد الثالث من السنة الليتورجية أ (متّى 4: 18-23) إن العالم الذي دخله يسوع، لم يكن جنة عدن، بعدما دخلت الخطيئة فيه. ليس فقط هذا، بل أيضا الإنسان العائش فيه، كان متضايقا من المعاكسات واالمناوشات والقلق، التي كانت سائدة وتقلق له مضجعه، فلا يجد فيه لا راحة البال ولا راحة الجسد. قالوا التاريخ يُعيد نفسه، ولو تحت ظروف تاريخية أُخرى، فما عالمنا اليوم بأحسن أو أفضل ممّا نصبو إليه، بل اليوم هو على نطاق أوسع، قد صار أسوأ، إذ بواسطة السوشيال ميديا، نحن نتابع لحظة بلحظة، كل ما يجري فيه من خير وشر. وطبعا الشرور والمصائب، بل والمصاعب غالبة فيه، خاصة وأن هناك أناسا وحكّاما، كرّسوا نفوسهم، لخلق القلاقل والحروب، حتى هم يستفدون منها،.ينتجون ويبيعون السلاح لإشعال الحروب، ويكونون هم أوّل المحتجّين على الحروب الدائرة، والفقر والجوع والأمراض المتفشّية، يغسلون أيديهم كبيلاطس، بأن لا يد لهم في الفوضى والحروب القائمة، بل أيضا يقدمون نفوسهم كوسطاء سلام، كأن لا احد له علم بفريسيّتهم. سمعنا في إنجيل اليوم " الشعب السالك في الظلمة رأى نورا" (متّى 4: 16). أكثرنا عاش في القرن الماضي نشوء وانتشار الشيوعية في عالمنا، التي وعدت الإنسان، بالرفاهية والمساوة، وبخاصة بإرجاع الجنة المفقودة والعيش الحر المتساوي. كَمْ من دولة، وقعت في فخ هذا النظام السياسي الجديد، واعتنقت الشيوعية، التي كان أول مبادئها للوصول إلى السعادة، هو التخلي عن الدين وإعلان موت الله في العالم، إذ الدين هو مخدّر للشعوب. ماذا كانت النتيجة؟ الشيوعية كانت أعلنت موت الله، لكنها بعد 70 سنة أعلنت فشلها فجاءت نهايتها وموتها هي، في هذا العالم، الذي ما تركت فيه أي أثر للجنّة التي كانت وعدتها، بل دماراً وخراباً، خاصة في النفوس، ما لهما سابق. فأين هو هذا العالم السلمي، الذي سيكون بديلا عن الفردوس المفقود، والذي نحلم فيه دائما. بناء الجنة لا يأتي بطرد الله والإيمان من القلوب، بل بجعله محور التاريخ والتقدم والتجديد. بعد الشيوعية الكاذبة جاءنا رئيس أمريكا جورج بوش الإبن في أخر القرن الماضي، ودمّر بحروبه الفنيّة الكاذبة نصف القارات الأرضية، بهدف خلق نظام سلمي وديمقراطية شاملة، خصص لذلك الملايين. لكن أحلامه ومواعيده باءت بالفشل الذريع، أكثر من فشل الشيوعية، إذ السلام والأمان والإطمئنان لا تُبنى بالحرب والمال، فهذي صفات وهبات إلهية تأتي من الله، لا تُباع ولا تُشترى هذا وفي كل العصور، كان دائما جانبٌ مظلمٌ في العالم، لا يرى نور الذي قال: أنا نور العالم! ماذا نقول عن الظلمة التي انتشرت بسبب انشقاق الكنيسة الأولى في القرن الرابع والثانية في الحادي عشر مع انفصال القسطنطينية عن روما، أو مؤمنو الشرق عن مؤمني الغرب، والقمة كانت في القرن السادس عشر، بانشقاق لوثر عن كنيسة المسيح. أليس هذا تقسيم لثوب المسيح؟ عالمنا إذن في ظلام كالح، جالس في بقعة الموت وظلاله، ينتظر شروق الضوء عليه، على أرض زبولون ونفتالي، اللتان كانتا في حالة سياسية من أتعس ما مر على تاريخهما، مفصولتان بالقوة من ملك سوريا في القرن الثامن قبل مجيء المسيح، راضختان تحت استعمار غير بشري، كما سوريا اليوم مع هضبة الجولان راضخة للإستعمار العسكري الإسرائيلي. نعم سكان زبولون ونفتالي كانوا جالسين في الظلمة، ولمدة طويلة، حتى جاء أشعيا ببصيص أمل لهم: انتم الشعب الجالس في الظلمة سيشرق عليكم نور. هذه كانت أول علامة أمل، بعد استعباد طويل. الشعب السالك في الظلمة ينتظر ظهور نور الله عليه. فأشعيا كما يكرر متى بإنجيله يقول لهم: المنقذ يسوع سيأتي، ويباشر رسالته عندكم، فترون نور الخلاص. كلماته تعني ما تقول. فهي ستكون حقيقة. نعم هي ليست فقط حبرا على ورق! هذه الظلمة هي حالة عالمنا اليوم. أما حان الوقت له ليرى هذا النور؟ طبعا هذا النور جاء مع رب النور، مع ميلاد الذي قال: أنا نور العالم. والإنجيل يؤكد ثلاث مرّات: أن هذا النور دخل العالم بميلاد المسيح. وعلى الإنسان أن يقبل هذا، لأنه لكي يبقى هذا النور مشعّا، فهو يحتاج إلى عمّال معهم زيت احتياطي لإشعاله من جديد، لا كما هو مذكور في مثل الخمس عذارى الجاهلات، فهن ما أخذن معهن زيتا احتياطا، وعندما نفذ زيت مصابيحن، انطفأت ولم يلحقن بالوفد. عالمنا قد عايش تواريخا وحوادث وقصصا كبيرة وكثيرة مهمة، لكنّه لم يعش أشهر من قصة دخول المسيح فيه، إذ المسيح قد أدخل وأحدث تغييرا شاملا فيه. هذا ويهمنا دائما أن نعرف حركة نشؤ كل مؤسسة أو أي حزب أو مشروع خاصة لتكون عبرة للأجيال اللاحقة. بهذا المجال، يهم الكثيرينَ، كيف ابتدأت ديانتنا وكيف تطورت، حتى صارت حيوية، أتباعها عددا، أكثرَ من أي ديانة أو حزب سياسي آخر. وكيف أنها تجذب كل آخر أسبوع ملايين لا تحصى ولا تُعد لزيارة الإحتفالات الدينية في الكنائس على وجه الأرض. نعم أين بدأ تأسيس هذه الديانة، التي تعدني وتعدكم بأن الموت ليس الفناء إنما الإنتقال إلى مسكن آخر، هو ما نسميه السماء حيث خالقنا ومخلصنا مقيم، وحضّر لنا فيه هذا مسكنا: أنا ذاهب إلى أبي لأُعدّ لكم مكانا ثم آتي وآخذكم لتكونوا معي. لهذه السوآلات جوابات وكما قال المثل، الجواب من الكتاب، متّى الإنجيلي يقول لنا، إن المسيح قد ابتدأ رسالة التبشير في الجليل، حيث كان الشعب جالسا في الظلمة، نقلا عن أشعيا الذي كان عاش هناك. وبمجيئ يسوع هناك، قد رأى هذا الشعب نورا لقد ابتدأت هذه الديانة، كما أخبرنا إنجيل اليوم، بأول كلماتٍ نطق بها يسوع، حينما ابتدأ حياته العلنية، وهي: توبوا فقد اقنرب منكم ملكوت الله... 800 سنة قبل هذه الكلمات، كان يعيش شعب في الظلمة العقلية والدينية، وأما الآن مع يسوع فقد حانت ساعة هذا الشعب ورأى نورا غير باقي الأنوار التي كان يفتّش عنها: "الشعب المقيم في الظلمة رأى نورا"، وأيُّ نورٍ هو هذا النور! هذه الساعة التاريخية كانت السنة الثلاثين من حسابنا المسيحي، على ضفة بحيرة طبرية، فغيّرت مجرى التاريخ جذريّاً، ووضعت عليه طابعا جديدا، إذ غرست الأمل في قلوب الناس وعقولهم، فرأوا أنه إلى جانب السياسة والأحزاب، التي كانت مسؤولة عن حل المشاكل، فقد جاء منافس أخر، إن حقّ التعبير، ليحلها سلميا لا بالحرب والسلاح. هناك، على ضفاف بحيرة طبريا، اختار يسوع أول رسله الإثني عشر، وبعد فترة، إذ كَثُرَ العمل عليهم، اختار 72 آخرين، وأرسلهم إلى كل المدن والقرى التي كان مزمعا أن يمر فيها، ويبشّر برسالته الجديدة. بأقواله وتعاليمه وأمثاله، أرانا وأرى المبشرين كيف ينشروا نوره الجديد للجالسين قي الظلمة. أسلوبه هذا كان مرآة للمبشرين والمرسَلين والقديسين، الذين حملوا رسالته إلى أقاصي الأرض "وكان الرب يساندهم بصنع العجائب على أيديهم. هذه الديانة تنتشر لا بالقوة بل بالإقناع والأمثال االصالحة: "فليضئ نوركم قدام الناس كي يروا أعمالكم ويمجدوا أباكم السماوي" (متّى 5: 16). محبة الله ولطفه يجب أن تترجمان بالأعمال، فيقنعان. على كل مسيحي ومعمد أن يكون مبشرا لرسالة المسيح، التي هي رسالة سلام وعدالة وتسامح. عندها يرى العالم أنكم تلاميذي فيُقبِلوا إلى النور. ونستطيع وقتها أن نقول: الشعب الساكن قي الظلمة رأى نور المسيح على يدنا. فالطوبى لنا ولهم. آمين