موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٨ يوليو / تموز ٢٠٢٠

الزّرعُ الطّيبُ بَنو الملكوت

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الزّرعُ الطّيبُ بَنو الملكوت

الزّرعُ الطّيبُ بَنو الملكوت

 

كرزة الأحد السّادس عشر من زمن السنة-أ

 

إذا سَأَلنا الآن: ما هو الزّوءان؟ رُبّما عرفَ البعضُ، وخُفيَ عن الآخر. لِذلِك، لِكي نفهم هذا المثل، لا بدَّ لنا من توضيحِ بَعضِ المعاني. الزّوءانُ هو نوعٌ من أَنواعِ العُشب، يَنبتُ غالِبًا بين سنابل الحِنطة، يُشابِهُها في الشّكلِ، وَحَبُّهُ كَحبِّ القمح إلى حدٍّ ما، ولكنّه أصغر حجمًا وطعمُه مُر، فَيُكسِبُ المحصولَ رداءةً. لذلك يَصعبُ على غيرِ المزارعين وأصحاب الاختصاص، الفصل والتّمييز بينَهما. ولِذلك يُقال: "فُلان، لا يُفرّق بين القمحِ والزّوءان"، أي أنّه لا يفصِل بينَ الغثِّ والسّمين، ولا يُميّز بينَ الصّالحِ والطّالح.

 

وإذا كُنتم تذكرون، فقد قرأنا في إنجيلِ الأحدِ الماضي مثل الزّراع، وكيفَ أنّ بعضِ الحَبِّ قد وقع في الأرضِ الطّيبة الصّالحة، فأثمر بنسب متفاوِتة. ولكن، في أثناء عملِيّة النّموّ وقبل الوصولِ إلى مرحلةِ النُّضجِ والإثمار، هناك مشاكلُ أيضًا تواجِهُها السّنابلُ، تتمثّلُ في نموّ الزّوءان الخبيث إلى جانب القمحِ الطّيب. الأمرُ الّذي يبدو عقبةً لا بدَّ من التّخلّصِ منها. ومتى يكون ذلك؟ "دعوهما ينبُتانِ معًا إلى يومِ الحصاد".

 

في عالمِ النّبات ما أثمرَ قمحًا سيظلُّ قمحًا ولن يتغيّر، وما نَبَتَ زوءانًا سَيَبقى زُوءانًا وَلَن يتغيّر. ولكن، في عالمِنا نحنُ البشر، يوجد دومًا إمكانيّة للتّغير. وهذا ما يُفسّر صبرَ الزّارع على الزّوءان. فالزّراعُ رجلٌ صبور، ولكنّه أيضًا حصّاد يطلبُ ثمرًا صالِحًا ينتفِعُ به. والله يا أحبّة، يصبِرُ علينا، هو يُمهِل ولا يُهمِل، يُعطينا فُرصًا لكي نتبدّل نحوَ الأفضل، ويشتاقُ لأن نُثمِرَ ثلاثينَ وستين ومئِة. ولكن في المقابِل، هناك إمكانيةٌ للصّالحِ أن ينقلِبَ طالِحًا، وللسّمين أن يصيرَ غثًّا، وللطيّبِ أن يُصبِح خبيثًا، يُثمِر ثمارًا مرّة فاسِدة، لا يُنتفعُ منها ولا يُستفاد، فيكون مصيرُه كمصير زوءانِ الحقل، الّذي جُمِعَ ورُبِطَ حُزمًا وأُلقيَ في النّار.

 

في الطّريق إلى دِمشق، قَد يتغيّرُ الإنسان، فِمن مُضطهدٍ جبّار يصيرُ مُبشِّرًا مِغوار، ومِن مؤمنٍ وحامِد قد يُصبِحُ مُلحِدًا وجاحد. ولنا في كِلا الحالتين أَمثِلَة وعِبر.

 

فإذا كانَ اللهُ قد صبرَ على بطرس بالرّغم من جُبنِه وإنكارِه، وصبرَ على شاول بالرّغم من تنكيله بالكنيسة ومؤمنيها، وهو يصبِرُ على كلِّ واحدٍ منّا. فلماذا لا نصبِرُ نحنُ على بعضِنا البعض؟ فَلنُنصِت إلى ما يقول بولس في رسالته إلى أهل قولسّي: "اِحتمِلوا بعضُكم بعضًا، واصفحوا بعضُكم عن بعضٍ. فَكما صَفحَ عنكُم الرّب، اِصفحوا أنتم أيضًا" (قولسّي 13:3). نحنُ كبشرٍ عجولون في طبيعتِنا، ((ديجيتاليون)). نعتقِدُ أنّ العالمَ والنّاس رَقميّون، نتعامل معهم كما نتعامل مع هواتِفِنا النّقالة، بضغطة زِر. نفتقِرُ إلى الصّبر، ولا نعلمُ قيمةَ الوقت ومعنى الانتظار. طبعًا كلامي هذا لا يُعطي تبريرًا للكسل والتّغاضي والإهمال. فالبعضُ بطبيعتِهم مَيّالون للكسل والبلادة.

 

ولكن، المغزى من حديثي هذا، هو واجبُ التّحلّي بالصّبر. فالأمورُ والأشخاص والأحداث قد لا تجري كما نَبغي ونُريد. فما كلُّ ما يتمنّى المرءُ يُدرِكُه **** تجري الرّياحُ بما لا تشتهي السُّفُن. لذلِك، في تعامُلِنا مع بعضِنا البعض، وجبَ علينا الصّبر، وجب علينا أن نثِقَ بأنَّ الله الّذي زرعَ كلامَه فيَّ وفيكَ وفيه، قادرٌ على أن يُنبِت الحنطةَ والثّمرَ الطّيب، حتى لو أثمرت الأرضُ فينا زوءانًا بادئ الأمر، أو حتّى لو تأخّر ثمرُها. فنحن قادِرون أن نتغيّر بنعمة الله لنصيرَ أراضٍ صالحة وطيبّة ومُثمِرة بكلِّ ما هو مُستحبٌّ وصالح ومرضي عندَ الله وأمامَ النّاس. ومع كلِّ أسف، قادرون أيضًا على أن نكون أراضٍ طالِحة سيئّة، لا تُثمِر سوى خبثًا وفسادًا ومرارة. وقد نكون أيضًا أراضٍ مزدوجة الانتاج، وهذا حالُ الأغلبية من المؤمنين، فتارةً نُنبِت قمحًا طيّبًا مباركًا، وتارةً أخرى نُنبِت زوءانًا رديئًا كريهًا.

 

هناكَ قصّة يُعتقد أنّها رمزية غيرُ واقعية، ولكنّها تحمِلُ دلالاتٍ روحيّة عظيمة. يُحكى أن الفنّان ليوناردو دافنشي، عندما أرادَ رسم لوحته الشّهيرة (العشاء الأخير 1495-1498)، اِستعانَ ببعضِ الأشخاص من المجتمع الإيطالي، لرسم الشّخصيات الموجودة في الّلوحة، والّتي تُمثّل المسيح والرّسل الاثني عشر.

 

فاختار أوّلًا الرّجلَ الّذي قام بتمثيل دورِ المسيح. وكان ذا وجهٍ يتّسِمُ بالبراءةِ والجمال، وطهارةِ قدّيسٍ بلا خطيئة. وبعد مُدّة، أراد أن يرسِم شخصية يهوذا الإسخريوطي الّذي أنقلبَ من رسولٍ لخائن. فأخذ دافنشي يبحثُ عن رجلٍ ينبعِثُ الشّرُّ من وجهه، وملامحُه تدلُّ على الشّراسة والقسوة، والجريمة تسري في عروقه، وتقاسيمه تُشير إلى الغدر وخيانة الأحبّة والخُلّان. وبعد بحثٍ مُضنٍ، تمكّن دافنشي أخيرًا من إيجاد ضالّتِه. فوجد سجينًا في سجن روما قد حُكِمَ عليه بالإعدام، نتيجةَ ما اقترف مدّة حياته من إجرام وإرهاب دموي. كان هذا الرّجلُ ذا نفسٍ مظلمة، داكنَ البشرة، شعره أشعث يختلِطُ مع وجهه، فيكوّن صورة خالصة عن الشّر وعالم الظّلام، فكانَ هو ما لزِم لكي يُكمِل لوحتَه. فقام برسمه مُمثِّلًا لشخصية يهوذا.

 

وبعد أن أنهى دافنشي لوحته، أتى الحرسُ لأخذِ السّجين وإعادتِه لزنزانتِه، ومقابلةِ حتفه المحتّم بعد حين. وهنا صرخ السّجين موجِّهًا كلامَه إلى دافنشي قائِلًا: "أَلَا تعرف من أنا؟". فأجابَه دافنشي: "كلّا. أنا لم أُشاهدك في حياتي يومًا، حتّى قابلتُك هنا في زنزانة في روما". فألحَّ عليه الرجلُ السّجين، أن ينظرَ إليه مرةً أخرى، لكي يتعرّف عليه. ولمّا لم يستطع ذلك، خاطبَه السّجين قائِلًا: "أنا الرجلُ الذي رسمته منذ سنوات، وقد جَسَّدَتُ شخصية المسيح"!

 

يا أحبّة، أحيانًا وفي زمنٍ من الأزمان وعند موقفٍ من المواقِف، قد نكونُ شِبهَ المسيح أو أحدِ الرّسل، قداسةً وبرارةً وطِيبة، وفي أحيانٍ أُخر، وعند مواقفٍ أخرى وأزمنة مُغايرة، قد نكون أشرَّ من يهوذا، خُبثًا ولؤمًا وفسادًا وإظلامًا.

 

فالإنسانُ كمياه البحر قَلّاب، بينَ سُكونٍ واضطراب، بينَ مَدٍّ وجزرٍ، بينَ خُمودٍ وَهَيجان، بينَ قمح وبين زوءان.