موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٥ مايو / أيار ٢٠٢٠

الخلائق تسبح بحمده (الحمار)

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
المونسنيور بيوس قاشا

المونسنيور بيوس قاشا

 

نعم، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. وأمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى. فعبرَ مقالات "والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة.

 

البشر غالباً يُخطئون في أحكامهم. فإنهم يهابون القسوة ويحترمونها، ولكنهم يحتقرون البساطة ويهزؤون بها. إنهم يمجّدون ما هو ضارّ لهم، ويستخفّون بكل ما له فضلٌ ونفعٌ لهم. فانظروا إلى هذا الأسد الهصور، ذي المخالب الحادة، وهو يتربّص بفريسته للانقضاض عليها، وقد كشّر عن أنيابه. إن البشر يهابون هذا الوحش ويرفضونه جاراً لهم، وبالجهد استطاعوا أن يضعوه في أقفاص حديدية وهو مكبَّل بالأغلال، ولكنهم مع ذلك توّجوه ملكاً، ورفعوا صورته على شعارات الدول العظمى والقوية. وهذا القول نفسه ينطبق على النمور. أما النسور فحدّثْ عنها ولا حرج . في الواقع، النسور هي حيوانات سطوٍ شرسة، والنعاج الصغيرة لها حكايات قديمة مرعبة معها. يملك النسر منقاراً أعقفاً، وصوتاً ذا بحّة غريبة مخيفة. إنه أرستقراطي!. فمنذ نسور الرومان، ونسور الإمبراطورية المقدسة، ومنذ النسور النابليونية وحتى يومنا هذا، يتّخذ العالم من النسر شعارات برّاقة وأمجادًا.

 

أما الحيوانات الأليفة، فلا أحد يعيرها بالاً، وغالباً نحتقرها رغم ما تقدمه لنا من نفع وخدمات. فهذه الدجاجات والبقرات والنعاج المسكينة التي تقدّم لنا اللحم والبيض والحليب، وهي خاضعة لأوامرنا كأنها تحت نير العبودية، لا نتردّد عن تسميتها أحياناً حيوانات عاميّة دنيئة.أما عن العجول والكلاب والأوز والديوك الرومية والخنازير، فإن أسماءها انقلبتْ إلى شتائم ومسبّات. والحمار خاصة، هذا الحمار الذي لم يفترس أحداً طيلة حياته أبداً، هذا الحمار الذي يبسط لنا ظهره لنركب عليه أو لننقل أحمالنا الثقيلة فوقه، والذي يكتفي بالنهيق عند شعوره بالجوع أو بالتعب. هذا الحمار الذي أصبح عنواناً للمذلّة والإهانة والاستهزاء، ابتداءً من آذانه الطويلة حتى رفسات أقدامه المتعثرة، حتى أصبحت كل غباوة، كل بلادة، وكل حماقة، صفةً من صفات الحمير، ومع الاسف هذا ديدن الانسان الذي شوّه حقيقة الحياة والحيوان.

 

ولكنك يا سيدي، يا إله السماء، عند دخولكَ أورشليم منتصراً، ألم تقرر متعمّداً ركوب جحش ابن أتان؟ (متى 8:21)، كأنكَ أردتَ بذلك أن تعلّمنا كيف نميّز بين الخدمة والعبودية، بين الحقيقة والكذب المزيّف ، وأن العظمة الحقيقية ليست في القوة والإرهاب، بل في البساطة والتواضع . ومنذ ولادتكَ يا سيدي، كان هنالك حمارٌ في إسطبل حقير ينفخ في وجهكَ الصغير الجميل ليدفّئكَ!، ثم بعد ذلك ركبتَ حماراً برفقة يوسف ومريم إلى مصر هرباً من سفكة الدماء!

 

نحن نعتقد بسهولة أن الفلاسفة والمفكرين والواعظين وذوي الأقلام والاختصاصات والشهادات العالية والمناصب الرفيعة، هم أكثر نبلاً من الفلاّح الذي يزرع القمح ليقدّمه غذاءً للجائعين، وأن مدافع الغزاة هي أكثر عظمةً وشرفاً من قدور الطبّاخين الذين يُعدّون الطعام للمرضى الراقدين في مستشفى! هذا الحمار البسيط الذي جلبه لكَ تلاميذكَ ووضعوا ثيابهم عليه (متى8:21)، يعلّمني أكثر مما تعلّمتُه من الفلاسفة والمرشدين وأساتذة الجامعات، لأن تعاليم الأرض توزّعها الكتب والجامعات، أما تعاليمكَ أنتَ يا سيدي، فمنبعها الحياة، وما الحياة إلا أنجيل المسيرة .

         

إن القديسين الذين أعلَنَتْهم الكنيسة وتعلنهم بصورة رسمية أنهم قديسون، ليسوا هم وحدهم القديسون الحقيقيون، فكم وكم من المسيحيين السذَّج والمَنسيّين والمهمَلين والذين يعتبرهم الناس غير مهمّين وغير نافعين، هم في الحقيقة قديسون، لأنهم يقومون بدورهم بمحبة وإيمان وصمت وبساطة دون حبّ الظهور، مثل ذلك الحمار الصغير الذي قال عنه صاحبه للتلاميذ:"خذوه، فإني لستُ بحاجة إليه" (متى4:21).

 

إن هذا الجحش المسكين لم يترك لنا حتى عظماً صغيراً من أجل تذكّره والتبرّك به. ولكن ألا يمكنني أنا أن أتبرّك الآن بذلك الحمار، بغبائه وغشاوة عقله وعدم نفعه؟، لأنكَ يا إلهي، أنتَ أيضاً طلبتَ مني أن آتي إليكَ رغم غبائي وغشاوة قلبي وعدم نفعي!، ورغم كـل صفاتي هذه التي تشبه صفات الحمار، فقد قررتُ أن أخدمكَ يا إلهي حتى مماتي، مقتدياً بذلك الحمار الذي عاش طيلة حياته ببساطة دون أن يشارك الخيول الملكية المطهمة باستعراضاتها، ولم يشتبك بفرسان الأمراء عند خوض الحروب، ولم يشترك بسباقات البطولة حيث تتقادح سنابك الخيول الأصيلة بشرر الفوز، بل اكتفي بالسير متكردحاً وأنا أوزّع خدماتي على البشر، على غرار الحمار الذي قيل عن جدّته القديمة أتان بلعام (العدد27:22) أنها أكثر دهاءً وذكاءً من أناس كثيرين.

 

الحمار الذي يقدّم لنا خدماته بصمت وأمانة وإخلاص ومن دون جعجعة ولا تهريج،لا كبرياء ولا غرور،  إنما يقوم بواجبه الطبيعي ولا يطلب جزاءً ولا ثناءً أو تكريماً، وهو يعلّمني أن العظمة الحقيقية ليست في الفخفخة وحبّ الظهور، وشراء الذمم، والجلوس على كراسي الكراهية والحقد والمصلحة لتدين الشعوب البريئة، وإنما في الخدمة والتواضع وحقيقة الحياة ، والعمل بهدوء بلا اصوات ولا طبول.

 

آه كم يلزمنا من الوقت يا سيدي، لنفهم أن كل ما في الإنجيل من أشياء تافهة وحقيرة يمكن أن تخترق صفاقة عقولنا وتصحّح كل ما في منطقنا من اعوجاج، وفي أحكامنا من مغالطة وضلال، لتعلّمنا أن الشرف ليس قوةً غاشمة، ولا كبرياء من مغرور،  بل خدمةً متواضعة، وإن عظمة الإنسان هي أن يكون نافعاً ، وكنت دائماً صاحب القول" أنا بينكم مثل الذي يخدم" (لوقا28:22). نعم وامين.