موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ١٢ يوليو / تموز ٢٠٢٠

الحياة الإنسانية المسيحية مشاركة وتضحية وعطاء

بقلم :
المطران كريكور كوسا - مصر
المطران كريكور اوغسطينوس كوسا، أسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك

المطران كريكور اوغسطينوس كوسا، أسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك

 

"أعطوهم أنتم ما يأكلون.. عندنا خمسة أرغفة وسمكتين" (متى ١٤: ١٤–٢١)

 

أشفق يسوع على الجمع، الذي أتى ليستمع إلى تعاليمه ، شفقته الإنسانية والإلهية لم تتوقف على مستوى العواطف والكلام، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، وعبّر عنها بشكل نشيط وفعّال. لقد تجاوب الرب يسوع مع حاجات الجموع الجائعة والعطشى إلى المعرفة والحقيقة.

 

"ليس عندهم ما يأكلون… فأخذته الشفقة عليهم"، يسوع هو الملجأ الذي إليه تأتي الجموع لتُشبع جوعَها وعطشها. وتعرف جيداً أنّ لا حلّ لمشاكلها وصعوباتها إلاّ معه فقط.

 

في هذه الأعجوبة موقف مؤثّر ومُلفت للنظر، إنه موقف التلاميذ الذين طلبوا منه أن يصرف الجموع، لقد اختار التلاميذ الموقف الأسهل والأسرع، إنه موقف الهروب والإنسحاب والتخلص من مسؤولية تلبية حاجات وطلبات الجموع، علمًا أنّ هؤلاء لم يطلبوا طعامًا يأكلونه ولكنّ التلاميذ هم الذين شعروا بأنه إن بقي هؤلاء فسيعوزُهم الطعام. ولهذا توجهّوا إلى الرب يسوع وطلبوا منه أن يصرفهم.

 

التلاميذ بشَر، والبشر هكذا يعاملون بعضهم، ربّما لأنهم لا يكترثون، أو ربّما لأن الإنسان يهتمّ بنفسه أولاً وبتدبير أموره، أو البحث عن مصالحه وراحته وانانيته، وربّما لا لوم عليه في كل ذلك. هذا طبعًا من منطلقه، وجهة نظر البشَر، ولكن ليس من جهة فكر الإله، لأن إلهنا إله رحمة وإله شفقة، إله عطاء ووفاء وصِدق وتضحية.

 

نحن البشر أيضاً في بعض الأحيان نتعرّض لمواقف شبيهة بالتي واحهها تلاميذ الربّ، ويُطلب منّا بشكل مباشر أو غير مباشر أن نقوم بعمل خير أو بمهمة إنسانية، او خدمة أخوية، ولكن لأمور شخصية، أو لظروف خاصة، أو لأسباب أنانية او محبة الذات نحاول أن نتهرّب ونصرف نظرنا عن الآخر ونتجهاله.

 

ولكن لماذا هذا التصرّف؟

 

لأن، المكان والحالة والظرف الذي نحن فيه أصبح عبارة عن قفر صحراوي فارغ، إمّا لاسباب داخلية تنبعث من ضعفنا واستسلامنا وهربنا من المسؤولية، وإمّا لأسباب خارجية تتعلّق بالحياة وصعوباتها وتجاربها ومشاكلها ومآزقها. ولكن في كلتا الحالتين، الموقف المسيحي هو الأقوى، هو الذي بطلب منّا بأن نعطي ما عندنا بمحبة حتى ولو كان يسيراً. المهمّ أن نؤمن بأن لدينا ما نعطيه وبأنه رغم كل ما يحيط بنا من تجارب وصعوبات، علينا أن نتحمّل مسؤولية التضحية والعطاء، وأن تقدّم طعامين لإخوتنا البشر في حياتنا: طعام روحي يتجلّى بأعمال الخير والمحبة والمواقف الروحية، وطعام ماديّ يتجلّى بإطعام الآخر بالغذاء الضروري لنموه وصحته وتلبية حاجاته اليومية حين يكون ذلك ممكناً ونافعًا.

 

نحن مدعوون أن نسأل المسيح الإله، الطعام الحقيقيّ لحياتنا الذي نتناوله في سرّ الإفخارستيا، أن يزرع فينا روح المسؤولية والإرادة الحسنة الصلبة التي تهدف إلى مساعدة الآخر ومساندة الضعفاء والمحتاجين والبسطاء، لا سيما النفوس الضعيفة التي ليس لديها من يذكرها وليس عندها ما تقدّمه.

 

وخلاصة هذا التأمل: أنّ يسوع استعمل ما كان عند تلاميذه من خبز وسمكات لإشباع الجموع، ومن هنا فهِم التلاميذ أن يسوع يدعوهم إلى المشاركة والعطاء ليعلّمهم أنّ كل عطية إلهية تأتي من المشاركة والتضحية ونكران الذات. إنّ المشاركة حتى في القليل هي السبيل الوحيد لعطاء الله. ولذلك طلب إليهم يسوع أن يبدأوا ويُشركوا الآخرين بما يملكون.