موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١ أغسطس / آب ٢٠٢٠

الحقُّ يُحرِّرُكم

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني، كاهن رعيّة "سيدة الورديّة" للاتين في الكرك، جنوب الأردن

الأب فارس سرياني، كاهن رعيّة "سيدة الورديّة" للاتين في الكرك، جنوب الأردن

 

كرزة الأحد الثامن عشر من زمن السنة - أ

 

أيّها الإخوةُ والأخوات الأحبّاء جميعًا في المسيحِ يسوع. ها قَد انتَهينَا من قراءةِ الفصلِ الثّالث عشر، ونبدأُ مع هذا الأحد الفصلَ الرابع عشر من بشارةِ الإنجيليّ متّى. وأوّلُ ما يُصادِفُنا في هذا الفصل، رواية استشهادِ يوحنّا المعمدان، وهو الحدثُ الّذي سنحتفِلُ به في التّاسع والعشرين من الشّهر الجاري. إذ قضى يوحنّا نحبَهُ مقطوعَ الرّأس شهيدًا، لأجلِ كلمة الحق الّتي أَعلَنَها في وجهِ الطّاغيةِ هيرودس، الّذي كانَ ضحيّة عشقٍ ممنوع مع زوجة أخيه هيروديّا.

 

ولَطالَما عُرِف عن أُمَّةِ اليهود مُقاوَمَتَهم للحق. فالمسيحُ وبّخهم مرّة واصِفًا إيّاهم بأنّهم: "أبناءُ قَتَلةِ الأنبياء" (متّى 31:23). الأنبياء الّذين أتوا شهودًا للحق. وهذا ما ظهرَ جَليًّا في قَتلِهم للمعمدان لأنّهُ قال كلمةَ حق. وهذا ما ظهرَ أيضًا بشكلٍ واضحٍ وفاضِح، عندما تأمروا على المسيحِ نفسه، حتّى أَعدَموه صلبًا، باطلًا وبُهتانًا، لأنّه كانَ صوتَ الحق الّذي يُقرّعُ ضمائِرَهم الرّطِبة العَفِنة، بل فيه تجلّى الحقُّ كلُّه، إذ هو الطّريقُ والحقُّ والحياة.

 

وَفي مَشهدِ الآلام وقبل الصَّلبِ بساعات، تَساءل بيلاطُس، وهو في حضرةِ المسيح: "ما هو الحق؟". دونَ أن تُدرِكَ أنَّ الحقّ هو يسوع الّذي كان واقِفًا أمامَك يا بيلاطُس، والّذي أتى إلى العالم ليشهدَ للحق. ولكنّ العالمَ لم يدرِكُه، أو أدركَه ثمَّ رفَضَه، أو أنّهُ يُؤوِّلُ الحق ويُعيد صياغتَهُ، بما يتوافقُ مع مصالِحِه وغاياتِه. وهذا هو الباطِلُ والظّلمُ بعينه. فعلى سبيلِ المثال، على المستوى الدّولي، إذا كانَ الأمر موافقًا للمصالحِ الأمريكيّة وحلفائها فهو حق، أمّا إذا كانَ موافِقا لمصالح روسيا أو الصّين أو إيران أو كوريا الشّمالية، فهو تمرّد وإرهاب.

 

غريبٌ هو الإنسان، وغريبةٌ هي العلاقاتُ الإنسانية! يأخذ ما له، ولا يُعطي ما عليه، وإن أعطى فبشقِّ الأنفُس لا عَن طيبِ خاطِر! لماذا يَغضبُ البعض عندما تأتي ساعةُ إِحقاقِ الحق، ولماذا يُعارِضونَ عندما تُقال كلمة حَق في موقف يُراد به بَاطِل؟ لماذا يغتمُّ البعضُ عندما يُردُّ الحقُّ إلى أصحابِه، ويعودُ كلّ شيء كما يجب أن يكون؟! إلى هذه الدّرجة الحقُّ مُزعِج ومُنغِّص؟! أمّا أنّ الحق صار أمرًا نسبيًّا! ففي كثيرٍ من الأحيان والمواقف، نطالبُ بالحقِّ الّذي لنا، ونتمسّكُ به بأسنانِنا ونَتشبّثُ به بأظافرنا، ولا نُفرِّطُ به قيد أُنمُلة، بينما نرفضُ في مواقِفَ أخرى، أن يعودَ أو يُعطى الحقُّ لأصحابِه، حتّى لو لم نُعلِن ذلكَ صراحة، مقاومين ذلك لو بالشّعور، وإن تَسَنَّى للبعضِ، فأنّهم يهضمونَ الحقوق. هناكَ حديث يقول: "أعطوا الأجيرَ حَقَّهُ قبلَ أن يَجِفَّ عرقُه"!

 

يوحنّا المعمدان شهيدُ الحق، قُتِلَ لأنّه وَقَفَ في وَجهِ أصحابِ الباطل. وهذا ما يختبِرُه الكثيرون في مواقفَ مُعيّنة، في مراكزهم المجتَمَعيّة ومواقعهم الوظيفيّة. يقولون كلمة حق في وجه مسؤول فاسد ظالم، أو إدارة مترهّلة مُتراخية، فتتمّ إقالتهم، وتسريحهم من الوظيفة بشكل تَعسُّفي، وأحيانا طعنًا في شرفهم ونزاهتهم.

 

لذلك كُن على يَقين أنّك إذا اخترتَ أن تكون من أَصحابِ اليَمين، المدافعين عن الحق، من مُحاربي الباطل والفاسدين أَينَما كانوا، فسوف تُحارب كثيرًا وتتألّم كثيرًا. فالويلُ لكَ إن لم تكن على مزاج فلان أو غير مُوَاتٍ لرغباتِه، أو لَم تنطوي تحت لوائه مؤيِّدًا ما جاءَ به. قالَها علي بن أبي طالب: ((أيّها الحق، لم تترك لي صديق!)) فأصدقاءُ الحق قِلَّة قليلة، وعُملة صعبة بل نادرة الوجود.

 

أضِف إلى ذلك أيضًا لغةُ المصالح والمنافِع الّتي يتحدّث بها السّوادُ الأعظم من النّاس. فصديقي هو من يُلبّي لي مَصلَحَتي، ويُحقّق لي غايتي، ولا يُعارضني في مَنفَعتي، بل يُصفّق لي حتّى لو على الشّر. وفي الّلحظة الّتي لا أَلقَى فيها منه تأييدًا، يصيرُ لي عدوًّا وخصمًا. هذه هي لغة الكثيرين ومنطِق الأغلبيّة!

 

تَسعى لأجلِ النّاس والأفراد، تسعى لأجل المؤسّسة ولأجل المكان، تسعى لأجل المنفَعة العامّة، تُفني صحّتكَ في سبيل الآخرين، تهجر نومَك، تُهمِل صحَّتَك من أجلهم، تُحقّق آمالَهم، وتُلبّي مطالِبَهم قدرَ الإمكان. ولكن في الّلحظة أو في الموقف الّذي فيه تُخالِفُ هواهم، أو تُقصِّر في تلبية رَغَباتِهم، تصبح شيطانًا رجيمًا في أعيُنهم، وَتُرجَم بقبيحِ أقوالِهم، ويحكمونَ عليك بِسّيءِ أفكارِهم. يَنسونَ أصابِعَك التّسعة الّتي أضأتها لهم شموعًا، ويقولوك لك: لماذا لم تُضِئ لنا العاشر؟! هكذا هم النّاس، رضاهُم غاية لا تُدرَك!

 

لذلك، إذا أردتَ نصيحَتي، أقول لكَ استراتيجيّتي في الحياة: إذا كنتَ إنسانًا طيّبًا محبًّا للحق مدافِعًا عنه، فَابقَ كما أنت ولا تتغيّر. ولكن إياك: (أن تَتَوقّعَ من العالم أن يُعامِلَكَ بِعَدلٍ لأنّكَ إنسانٌ طيّب، فهذا يُشبِهُ تَوَقُّعَك ألّا يُهاجِمَكَ الثّورُ لأنّكَ نَباتي)، كما قالَها الفرنسي هنري لاندرو. ثمَّ افعَل ما يُرضي ربَّك، وما يُمليه عليكَ ضميرُك بالحق والعَدل. وَليَرضى من يرضى، وَليَغضب مَن يغضب. لأنّك إذا قُلتَ كذا أو صنعتَ كذا، سَتُرضي فئة وَتُغضِبُ أُخرى، وإن عَكَستَ القولَ ونَقضتَ الصّنيع، انقلبَ الرّاضونَ غاضِبين، والغاضبون رَاضين. هكذا فعل المسيح، وهكذا فعلَ المعمدان، وهكذا فعل الأنبياءُ والمرسلون بالحق. وهكذا فُعِلَ بهم، وهكذا يُفعَل بِنا. فمن أرادَ أن يكونَ حَليفَ الحق، فَليَعلم يَقينًا أنَّ حلفاءَهُ شَحيحون.

 

ثمّ كُن مُدرِكًا، أنَّ مَن يَرضى عَنكَ اليوم، قد يَغضبُ عليك غدًا. لذلك لا تُعلّق نفسك بالجماهير، فهي مُراوِغة متقلبة، كموج البحر لا يَقِرّ لها قَرار!

 

وقبلَ أن أنهي عِظتي هذه، أعودُ لبدايةِ المقطع الإنجيلي. حيث النّص يقول أنّ يسوع لمّا سمِعَ بخبرِ موتِ يوحنّا، انصرف من هُناك إلى مكانٍ قفر يعتزِلُ فيه الجماهير! فإذا ما عُدنا قليلًا إلى الوراء نجِدُ يسوع في وَطنه النّاصرة (متّى 53:13-58) وهناك لم يلقَ سوى المذمّة، والقول النّاقص، وقلّة الإيمان من أهل بلده. فَانصَرَفَ عنهم نظرًا لعدم القبول الّذي لاقوهُ به! وهذا ما نبّه إليه يسوعُ تلاميذه حينَ قال لهم: "وإنْ لم يَقبَلوكم ولم يَستَمِعوا إِلى كلامِكم، فاخرُجوا مِن ذاكَ البَيتِ أَو تِلكَ المَدينة، نافِضينَ الغُبارَ عن أَقدامِكم" (متّى 14:10).

 

أحيانًا، بناءً على أقوالِنا وأفعالِنا، نُقابلُ بالرّفض والمذمّة. فهذا أمرٌ طبيعي بالنّسبةِ لتلاميذ يسوع المسيح صوت الحق، فنحن صدى لهذا الصّوت. ورفضُنا أمرٌ اعتيادي لا غرابةَ فيه. وكما قالَها الأديب المصري نجيب محفوظ: إِذَا تَشَابَهَ حُضورُكَ مَع غِيابِكَ، فارحل. ولكن قبل الرّحيل: قُل كَلِمتَكَ وامش.