موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣ يونيو / حزيران ٢٠٢٣

الثالوث الأقدس في تعليم يسوع والكنيسة

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الثَّالوث الأقْدَس في تَعْلِيم يسوع والكَنِيسَة (يوحنا 3: 16-18)

الثَّالوث الأقْدَس في تَعْلِيم يسوع والكَنِيسَة (يوحنا 3: 16-18)

 

النص الإنجيلي (يوحنا 3: 16-18)

 

16 فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العَالَم حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة 17فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العَالَم لِيَدينَ العَالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العَالَم 18مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد.

 

 

مقدَّمة

 

أوصت الكنيسة عام 1263 بإقامة عيد الثَّالوث الأقْدَس يوم الأحد الذي يلي العَنْصَرة، لأنَّ سرَّ الثَّالوث الأقْدَس هو محور الإيمان والحياة المسيحية، وخاتمة لتحقيق تدبير الله الخلاصي. ويكشف إنجيل يوحنا عن وجه الله، الثَّالوث الأقْدَس في حوار يسوع مع نيقوديمُس، عضو في السنهدريم، وأحد رؤساء اليهود (يوحنا 3: 16-18)؛ وبناءً على هذا الوحي، إننا ليس مُشركين ولا كافرين من اجل إيماننا بالثالوث، إنَّما نستجيب لدعوة يسوع المسيح الذي صرّح " إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه" (يوحنا 1: 18). فالكافر هو من كفر بكشف الله، وأنكر على الله أنه الثَّالوث الأقْدَس وانكرألوهيّة المسيح، إنّه سرّ الله بذاته: الآب خلق الإنسان، والابن فداه، والرُّوح القُدُس قدَّسه. فالثالوث هو سرّ إيمان ويقول القدّيس الأسقف قيصاريوس "إيمان المسيحيين يرتكز على الثَّالوث الأقْدَس". ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 3: 16-18)

 

16 فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العَالَم حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة

 

عبارة "فإِنَّ" في الأصل اليوناني Οὕτως γὰρ (معناها لأنه هكذا) تشير إلى أصل الفداء الذي هو مَحبَّة الله. أمَّا عبارة "اللهَ أَحبَّ العَالَم" فتشير إلى إعلان المسيح عن تاريخ الله مع البشر، وهو تاريخ مَحبَّة حيث عَرَّف يوحنا الإنجيلي الله بقوله: "اللهُ مَحبَّة" (1 يوحنا 4: 16). فإلهنا هو الاله الذي يُحب. الله يُحب العَالَم، لأنَّ العَالَم خليقته. "َخَلَقَ اللهُ الإنسان على صُورَتِه على صُورَةِ اللهِ خَلَقَه ذَكَرًا وأُنْثى خَلَقَهم" (التكوين 1: 27). فهو إلهٌ وأب في آن واحد. فهو إلهُ الخلاص، ولا يريد موت الخاطئ، إنما يُريد له التوبة. أمَّا عبارة "العَالَم" فتشير إلى اليهود والوثنيين أو الأمم، حيث أن شعوب الأرض هي بمثابة مسرح لتدبير الله الخلاصي. فمَحبَّة الله تعمُّ الأمم، كما تعُّم اليهود، وأن المسيح مُخلص الجميع، كما يؤكِّد ذلك بولس الرَّسُول " وإِنَّنا نَعلَمُ أَنَّ كُلَّ ما تَقولُه الشَّريعة إِنَّما تَقولُه لِلَّذينَ هم في حُكْمِ الشَّريعة، لِكَي يُخرَسَ كُلُّ لِسان ولِكَي يُعرَفَ العَالَم كُلُّه مُذنِبًا عِندَ الله"(رومية 3: 19)؛ أمَّا عبارة "حتَّى إِنَّه" فتشير إلى مقياس مَحبَّة الله.  أمَّا عبارة "جادَ" فتشير إلى الإله الذي أعطى نفسه عطاء كاملًا كي لا يهلك كلُّ من يُؤمن به. إن مَحبَّة الله هي أصل فداء الإنسان؛ إذ أنَّ الإنسان مستحق غضب الله لأنّه أثيم، لكن لم يكن الانتقام هو رد فعل الله، بل كان رد فعله هو مَحبَّة وشفقة ورحمة على الذين هم عُرضة الهلاك الأبدي. الله أعطانا أبنه يسوع، فيسوع هو عَطِيًّة الله، كما أعلن يسوع عن نفسه للمرأة السامرية " لو كُنتِ تَعرِفينَ عَطاءَ الله ومَن هوَ الَّذي يقولُ لَكِ: اسقيني، لَسَأَلِته أَنتِ فأَعطاكِ ماءً حَيّاً" (يوحنا 4: 10). وسُمِّي يسوع "عَطِيًّة" لأنَّه قدَّم لنا ذاته مَجَّانًا، إذ ليس لأحدٍ حق فيه، ولا يستطيع أحدٌ أن يُثيبه على عمله. وعِلَّة عَطِيًّة الله للعَالَم ليست مَحبَّة العَالَم لله، إنما مَحبَّة الله للعَالَم. أمَّا عبارة "ابنِه الوَحيد" فتشير إلى يسوع المسيح، ابن الله الذي صار ابن الإنسان لفدائنا، وسُمِّي يسوع في هذه الآية "ابن الله " وسُمِّي في الآية قبلها " ابن الإنسان"، كما ورد "كما رَفَعَ مُوسى الحَيَّةَ في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإِنسان" (يوحنا 3: 15) لكي يعلم نيقوديموس أن لدى يسوع طبيعتين. فيسوع هو ليس خادمًا، ولا ملاكًا ولا رئيس ملائكة بل هو ابن الله وعَطِيًّة الله، بل أثمن عَطِيًّة وهبها الله للبشر. وأكَّد ذلك بولس الرَّسُول بقوله "إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟ (رومة 8: 32).  وهذه العبارة تذكِّرنا بإبراهيم الذي كان مُستعدًا لبذل ابنه الوَحيد اسحق محرقة طوعًا لأمر الله، واظهر بذلك محبته لله (التكوين 22). وكان إسحق رمزًا للمسيح. لم يُصمّم موت يسوع بإرادة الإنسان ولكن بمَحبَّة الله الذي يبذل ابنه الوَحيد ذبيحة عن العَالَم. مَحبَّة الله قوية إلى درجة بذل الذات. فالله أعطى الإنسان الخاطئ أكثر ما رضى الله تعالى أن يُعطيِه إبراهيم. أمَّا عبارة "لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه" فتشير إلى المؤمنين الذين يستفيدون من مَحبَّة الله حيث أنَّ الذين ينالون الخلاص هم الذين أعدَّهم الله له. إن الله عمل كل ما تطلبه خلاص البشر ببذل ابنه، والابن عمل كل ما اقتضى ذلك بموته على الصليب من اجل افتداء الناس، وأصبح من واجب الناس أن يعملوا ما يترتب عليهم عمله، وهو أن يؤمنوا بيسوع المَصلوب. فالإيمان بيسوع هو الشرط الوَحيد لنيل الخلاص. أمَّا عبارة "الحياةُ الأَبدِيَّة" فتشير إلى عَطِيًّة الله، وهي خلاص البشر من خلال بذل المسيح حياته لنيل الإنسان حياة أبدية. وفي تلك الحياة لا موت ولا مرض ولا شر ولا خطيئة بل نور وسلام. وهذه الحياة هي مقدَّمة للحياة للأبدية حيث يكون لزامًا علينا أن نقيِّم كل ما يحدث من منظور الأبدية. فالحياة هي أكبر ثروة يستطيع الإنسان أن يمتلكها.  يسوع حيٌّ ويَهب حياته عن طريق موته على الصليب "أَنا إِذا رُفِعتُ مِنَ الأَرض جَذَبتُ إِلَيَّ النَّاسَ أَجمَعين" (يوحنا 12: 32). قد دفع الله ثمن خطيئة الإنسان من خلال تضحيته بابنه الوَحيد يسوع المسيح. وقد قَبِلَ يسوع عنَّا عقابنا ودفع ثمن خطايانا، وقدّم لنا الحياة الجديدة التي اشتراها من أجلنا مما يدلُّ على حب الله المتجسد في المسيح (أفسس 4: 18)، والمعطاء الآن لكل المؤمنين. إن الله يقدِّم لنا الحبَّ الحقيقي الذي هو نموذج وأساس كل علاقات المَحبَّة. هذه الآية هي إنجيل مختصر.

 

17 إِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العَالَم لِيَدينَ العَالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العَالَم 

 

تشير عبارة "إِنَّ" في الأصل اليوناني  γὰρ(معناها لأنَّه ) إلى غاية مجيء المسيح؛ أمَّا عبارة "اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العَالَم لِيَدينَ العَالَم" فتشير إلى اختيار الله  الذي يُظهر رحمته للخطأة بإرسال ابنه ليُعدَّ الخلاص للعَالَم مع أنَّ العَالَم استحق الدينونة. وكان من الحقِّ والعَدل أن يُرسل الله ابنه ليُدين العَالَم. فغاية المسيح في مجيئه الأول هي إتيانه بالخلاص، لكنَّ غايته في مجيئه الثاني أن يُدين غير المؤمنين، كما أعلن: "أَنَّ الآبَ لا يَدينُ أحَداً بل أَولى القَضاءَ كُلَّه لِلاِبْن... وأَولاهُ سُلطَةَ إِجْراءِ القَضاء لأَنَّه ابنُ الإنسان" (يوحنا 5: 22، 27). الله مَحبَّة وعندما يُحب، يريد كلَّ خيرٍ للذين يُحبَّهم. لكنَّ الذي يرفض المَحبَّة يَحكم على نفسه بالهَلاك. أمَّا عبارة "لِيُخَلَّصَ بِه العَالَم" فتشير إلى خلاص البشر من عبودية الشيطان والإثم والموت بشرط الإيمان بيسوع. مسؤولية العَالَم إذًا هي إيمانهم بيسوع لنيل الخلاص. والخلاص هو أمنية الله ومُخطَّطه، كما ورد في الكتب المقدسة " أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحة " (هوشع 6:6)، وصرَّح بذلك السيد المسيح: "فإِنِّي ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبْرارَ، بَلِ الخاطِئين" (متى 9: 13). والخلاص محور رِسَالة يسوع (يوحنا 3: 17؛ 8: 15)، يسوع وحده المُخلص (يوحنا 5: 31)، إذ قدَّم الخلاص على الصليب علانية أمام العَالَم كله. ولذلك الخلاص هو الرِسَالة الرئيسية في زمن الرُّسل (أعمال الرسل 15: 1) وهو محور كرازتهم (أعمال الرسل 11: 14) لجميع الناس (أعمال الرسل 16: 30).  وتنحصر رِسَالة يسوع بالخلاص (يوحنا 3: 17، 8: 15، 12: 47)، لكن الذي يرفضها يحكم على نفسه بالهلاك، ذلك بأنه لا يوجد سبيل آخر إلى الله " أَنَّ الآبَ لا يَدينُ أحَداً بل أَولى القَضاءَ كُلَّه لِلاِبْن " (يوحنا 5: 22). وبهذا يٌقدِّم يسوع تعليمًا يختلف عن الفكر السائد للعقليَّة اليهودية في ذلك الزمان، وهو أن الإنسان يخطأ والرَّبّ يعاقب، أو يسلك الإنسان سلوكاً مستقيماً والرَّبّ يُكافئ. في حين الرَّبّ لا يحكم على أحد، بل جاء ليُخلص الجميع إن آمنوا به.

 

18 مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد.

 

تشير عبارة "يُؤمِنْ" إلى اعتراف الإنسان بقدرة ابن الله والدعاء إليه ووضع ثقته فيه.  والإيمان بالسيد المسيح ليس عقيدة نظرية مُجرَّدة، بل هو شركة واتحاد عملي معه. الإيمان هو انتماء إلى المسيح بالاعتراف به أنَّه ابن الله وكاشف عن سر الآب، وبالتالي هو ممارسة الحق والطاعة والانجذاب نحو النور "فكُلُّ مَن آمَنَ بي لا يَبْقَى في الظَّلام" (يوحنا 46:12). من يؤمن بالمسيح يكون له سلام مع الله، كما جاء في تعليم بولس الرَّسُول "فلَمَّا بُرِّرْنا بِالإِيمان حَصَلْنا على السَّلامِ مع اللهِ بِرَبِّنا يسوعَ المَسيح" (رومة 5: 1). وأمَّا إذا كان الإنسان في الظلمة فلا يبقى فيها، بل يتوجب عليه أن يُصلح خُطأه ويُصحِّح نقائصه، ويحفظ وصاياه. فمَنْ يؤمن يخرج من دائرة الدينونة، أمَّا من يُدان فلأنه خرج من دائرة الحُبُّ والإيمان.  أمَّا عبارة "لا يُدان" فتشير إلى تبرير الإنسان لأجل المسيح وانتقاله من الموت إلى الحياة، كما يُصرّح يوحنا الرَّسُول " نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا انتَقَلْنا مِنَ المَوت إِلى الحَياة " (1 يوحنا 3: 14) ومغفرة خطاياه.  فعدم الدينونة هو "عدم الحُكْمٍ على الَّذينَ هُم في يسوعَ المسيح" (رومة 8: 1) السالكين حسب الروح وليس حسب الجسد، وأكَّد السيد المسيح هذا القول: " الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةَ الأَبَدِيَّة ولا يَمثُلُ لَدى القَضاء بلِ انتَقَلَ مِنَ المَوتِ إلى الحَياة" (يوحنا 5: 24). أمَّا عبارة "ومَن لم يُؤمِنْ بِه" فتشير إلى من لا يثق في ابن الله ويرفضه ويتجاهله؛ أمَّا عبارة "دِينَ مُنذُ الآن" فلا تشير إلى الدينونة في المستقبل دون الدينونة الحاضرة. وهذه الدينونة جلبها الخاطئ على نفسه بخطاياه. فضميره وشريعة الله حكمت عليه. ومن هذا المنطلق، الرَّبّ لا يُدين ولا يحكم على أحد، بل الإنسان نفسه هو الذي بتصرفه الخاطئ يحكم على نفسه. وبما أنَّ النفس التي تخطئ تموت، فليس حاجة إلى حكم ثان ودينونة ثانية.  تتمُّ الدينونة حين يقف الإنسان أمام ابن الإنسان، أمام صليبه المُقدَّس (يوحنا 16: 11)، ويرفض الوحي الذي يقدّمه له فيُدان في الحال. وتبدأ دينونته على الأرض ليس بسبب خطاياه القديمة بل لرفضه المسيح الذي يغفر خطاياه؛ فكما أن القاتل وإن كان لا يُحكم عليه بطبيعة القاضي، فإنه يُحكم عليه بطبيعة فعله، كذلك من لا يكون مؤمنًا يُحكم عليه بطبيعة رفضه المسيح وإنكاره وكفره. أمَّا العَالَم اليهودي فيعتقد أنّ الدينونة تتمُّ في نهاية التاريخ. والدينونة هي حكم على من يرفض أن يؤمن، فهي كشف القناع عن الإنسان الذي يعمل الشر ويغش نفسه ويرفض الله، كما جاء في تعليم يوحنا الرَّسُول: "وإِنَّما الدَّينونَةُ هي أَنَّ النُّورَ جاءَ إلى العَالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور لأَنَّ أَعمالَهم كانت سَيِّئَة.  فكُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُّور فلا يُقبِلُ إِلى النُّور لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعمالُه. وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إِلى النُّور" (يوحنا 3: 19-20). وانطلاقا من هذا المبدأ، فإمَّا أن نعمل الخير أو الشر، كل من يصنع الخير حتى لو لم يعرف المسيح، فهو في شركة أكيدة مع الله. ويُحذِّر يسوع من عدم الإيمان " ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض" (يوحنا 8: 34). وهكذا تقسم البشرية إلى قسمين: أولئك الذين يقبلون النور، وأولئك الذين يرفضون النور، ويُفضِّلون الظلام (الشر والخطيئة) على النور الذي هو يسوع، نور العَالَم (يوحنا 3: 19). في هذه الآية يكمن جوهر خيارنا: إمَّا أن نكون مع المسيح أو نكون ضده، إمَّا أن نؤمن أو لا نؤمن به. ومن هنا تقع المسؤولية على عاتق الإنسان. الله يريد خلاصنا، غير أنَّ بعض الناس يرفضون هذا الخلاص، فيحكمون على أنفسهم. وهنا يتقابل الخلاص والدينونة في شخص المسيح.  لن يكون الرَّبّ من يدين هذا الاختيار، فان عمل الرَّبّ هو أن يغربل الخير من الشر. ومن هذا المنطلق، يكوّن ظهور يسوع أزمة في حياة العَالَم ويضطر الناس أن يقبلوا النور أو أن يمكثوا في الظلمة والهلاك. فالمسيح في مجيئه الأول أتى ليُخلص، وفي مجيئه الثاني سيأتي ليدين، ولا يمكن تجنّب الدينونة، ولا حتّى تأجيلها.  وبمقتضى هذه الآية إن الإنسان الذي يُدان لا حقَّ له أن يلوم آدم على ذلك أو أن يُنسب دينونته إلى الخطيئة الأصلية، إنما يجب أن يلوم نفسه، لأنَّه لم يؤمن بالمسيح الحامل خطايا العَالَم والذي به يستطيع أن ينجو من كل دينونة.  أمَّا عبارة "بِاسمِ " فتشير إلى صفات يسوع وأعماله وقدرته وقوة فدائه، وأحد أسماء "يسوع" معناه "هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم " (متى 1: 21).  أمَّا عبارة "ابنِ اللهِ " فتشير إلى لقب الذي يقترن عادة بلقب المسيح (متى 16: 16) فيبدو أولاً لقباً مسيحانيا.  ليس لله ابن آخر ليأتي للخلاص إذا رُفض هذا. واعترف بطرس الرَّسُول به "أنت المسيح ابن الله الحَي (متى 16: 16-17)، وأبرزه لوقا بوضوح في إنجيله: "أأنت ابن الله؟" فقال لهم يسوع: "أنا هو كما تقولون" (لوقا 22: 70). واعترف قائد المائة بهذا اللقب (مرقس 15: 9) وكان يسوع قد كشف بها طبيعة علاقته مع الله. فبالنسبة لله هو "الابن" الوَحيد (متى 11: 27، 21: 37). والابن عبارة مألوفة تسمح له بأن يخاطب الله ويدعوه "يا أبتاه" (مرقس 14: 36). وبين الاثنين، الله الآب ويسوع الابن تسود ألفة عميقة تتطلب "المعرفة" المتبادلة الكاملة والمشاركة الشاملة (متى 11: 25-27). وهكذا يسبغ يسوع المعنى كاملاً على التصريحات الإلهية المعلنة: "أنت ابني" (مرقس 1: 11). إن هذه الآية تُقسم العَالَم إلى شطرين: المُذنبين والمبرَّرين، وذلك باختيارهم إمَّا رفض المسيح أو قبوله.

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 6: 24-34)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 3: 16-18)، نستنتج انه يتمحور حول كشف يسوع عن وجه الله، الثَّالوث الأقْدَس.  ومن هنا نتساءل: ما هو سر الثالوث؟ وكيف كشف يسوع وجه الله الثَّالوث الأقْدَس؟

 

1) ما هو سر الثَّالوث الأقْدَس؟

 

يقوم الإيمان المسيحي على سر الثَّالوث الأقْدَس في اللغة اللاتينيةTrinitas .  صحيح انه لم ترد كلمة "الثالوث" في الكتاب المقدس كمصطلح، إنَّما وردت كحقيقة مُوحاة من الله مباشرة، سواء بصريح الكلام أم بمضمونها.  والثالوث يعني إله واحد بثلاثة أقانيم متميِّزة: الآب والابن والرُّوح القُدُس. الآب الذي خلقنا، والابن الذي افتدانا وخلّصنا، والرُّوح القُدُس الذي يُحيينا ويقدّسنا.

 

 العلاقة بين الثالوث متكاملة، حيث أرسل الآب الابن إلى العَالَم (يوحنا 3: 16)، تمَّ ذلك بواسطة الرُّوح القُدُس (متى 1: 18). وبينما يعتبر الرُّوح القُدُس أقنومًا خاصًا يطلق عليه في الوقت نفسه روح الآب (متى 10: 20) وروح يسوع (أعمال الرسل 16: 7). ولم يتم التعبير عن عقيدة الثالوث في أسفار العهد الجديد، لكنَّه يحتوي على عدد من الصيغ الثالوثية. وقد تمَّ وضع عقيدة الثالوث لأول مرة من قبل المسيحيين الأوائل وآباء الكنيسة في محاولة لفهم العلاقة بين يسوع والله في الوثائق الدينية والتقاليد السابقة.

 

أوضح البابا بيوس السادس في براءته Auctorum fidei سنة 1794 "الثالوث هو إله واحد بثلاثة أقانيم متميزة وليس إله واحد متميّز بثلاثة أقانيم".  فالآب غير مولود، والابن مولود، والرُّوح القُدُس منبثق من الآب والابن". ويشرح القديس غريغوريوس النيزينزي" ليس الابن "الآب" لانَّ الابن واحد مع أنَّ له ما للآب، وليس الرُّوح القُدُس ابنًا لأنَّ الابن واحد مع الرُّوح القُدُس من الله، وله ما للابن. الثلاثة في الله الواحد والله الواحد ثلاثة في الخصائص". كل عضو في الثالوث هو الله: فالآب هو الله، (يوحنا 27:6 ورومه 7:1) الابن هو الله: (يوحنا 1:1 و14 ورومه 5:9). الرُّوح القُدُس هو الله (أعمال الرسل 3:5-4 و1 قورنتس 16:3).

 

سر الثالوث هو سر ذات الله العجيبة، سر حياته الداخلية، سر كماله في ذاته. الله واحد في الطبيعة الإلهية (تثنية 4:6 و1 قورنتس 4:8 وغلاطية 20:3 و1 طيموتاوس 5:2) بثلاثة أقانيم (تكوين 1:1 وأشعيا 8:6 1:61 ومتى 16:3 -17، و2 قورنتس 14:13). وكل أقنوم هو الله كاملا: "الآب هو ذاتُ ما هو الابن، والابن هو ذات ما هو الآب، والآب والابن هما ذاتُ ما هو الرُّوح القُدُس، أي الاله واحد بالطبيعة" (التعليم المسيحي 253). ويُعلق القديس أوغسطينوس: "هذا ما نتمسك به بحق وبغَيْرة شديدة، وهو أن الآب والابن والرُّوح القُدُس ثالوث غير قابل للانفصال، إلهُ واحد لا ثلاثة." فالثَّالوث الأقْدَس هو تعبير لاهوتيّ لسرّ الله الذي ظهر لنا ظهورًا خلاصيًّا في شخص يسوع المسيح.

 

الأقانيم الثلاثة متميزون فيما بينهم بعلاقات مصدرهم: "الآب هو الذي يلد، والابن هو المولود، والرُّوح القُدُس هو المنبثق" (التعليم المسيحي 254). وعليه فإن الله في وحدة إلهيه ثلاثية، وكل أقنوم إلهي يعمل العمل المشترك وفقا لميزته الشخصية، كما جاء في تعليم الكنيسة "بالله الآب الذي منه كل شيء، وبالرَّبّ يسوع المسيح الذي له كل شيء، وبالرُّوح القُدُس الذي فيه كل شيء" وفقا لتعليم بولس الرَّسُول "أَمَّا عِندَنا نَحنُ، فلَيسَ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وهو الآب، مِنه كُلُّ شَيءٍ وإِلَيه نَحنُ أَيضًا نَصير، ورَبٌّ واحِدٌ وهو يسوعُ المسيح، بِه كُلُّ شيَءٍ وبِه نَحنُ أَيضًا" (1 قورنتس 8:6).

 

أوحى الله سر الثالوث مراعيًا الزمن وقدرات البشر على قبوله. أوحى العهد القديم جلياً عن وجود الآب وبدأ يكشف لنا بشكل سرِّي عن الابن؛ أمَّا العهد الجديد، فأوحى بشكل واضح عن الابن وبدأ بالحديث عن ألوهية الرُّوح القُدُس. ومن هنا نلقي نظرة خاطفة على الثالوث في العهد القديم والجديد وفي تعليم آباء الكنيسة وفي تعليم الكنيسة. 

 

ا) الثالوث في العهد القديم

 

لِمَا كان وحي العهد القديم ظِلاً لوحي العهد الجديد، كما جاء في الرِسَالة إلى العبرانيين "لَمَّا كانَتِ الشَّريعَة تَشتَمِلُ على ظِلِّ الخَيراتِ المُستَقبَلَة، لا على تَجْسيدِ الحَقائِق نَفسِه" (العبرانيين 10: 1)، وجب ألاَّ ننتظر في العهد القديم ذكرًا صريحًا إلى سر الثَالوث، بل فقط تلميحَا.

 

 في بدء سفر التكوين نجد الكتاب المقدس يتكلم عن الثالوث في الذات الإلهية "في البَدءِ خلَقَ اللهُ אֱלֹהִים السَّمَواتِ والأَرض وكانَتِ الأَرضُ خاوِيةً خالِية وعلى وَجهِ الغَمْرِ ظَلام ورُوحُ اللهِ يُرِفُّ على وَجهِ المِياه. وقالَ اللهَ: لِيَكُنْ نور" (التكوين 1: 1-3). وهذه الآيات الثلاث تحتوي على الثالوث: إيلوهيم وروح الله وكلمة الله.  ولهذا ايلوهيم אֱלֹהִים (معناها الآلهة) هو اسم جمع لأنَّه ينتهي بالجمع العبري وهو يود ويم) يأخذ تصريف مفرد كفعل أو صفة وهو حاله خاصه للتعبير عن جمع الجلالة والعظمة وعن ارتفاعه وتكوينه (الثالوث).  وهو اسم لله الحقيقي الله، ويستخدم بمعني الله العَلي العظيم الذي أعلى من الملائكة، الله القاضي الأعظم القدير. 

 

يتكلم الله غالبًا عن نفسه باستعمال صيغة جمع الجلالة "قالَ الله: لِنَصنَعِ الإِنسانَ على صُورَتِنا كَمِثالِنا " (التكوين 1: 26). وفي العهد القديم يدعى الله אֱלֹהִים (آلوهيم) ففي هذا إشارة إلى هناك شخصين هما الله: شخص المرُسِل وشخص المُرسَل (التكوين 16: 7-13). ويهوه יְהוָה ذُكر لأول مره فقط بدون ايلوهيم في سفر التكوين في الفصل الرابع (4: 1)، وذلك بعد سقوط الإنسان وانفصاله عن الله بسبب الخطيئة. فبدأ يتعامل الله مع الإنسان بهذا اسم فقط.  ومن هذا المنطلق، إنَّ العهد القديم أكَّد بطريقة قاطعة أنَّ الله الواحد وهو أيضًا به تمييز ثالوث اقنومي في الذات الواحد.

 

في سفر الخروج عّرّف الله نفسه من خلال صفاته في التاريخ، إذ يعلن عن ذاته أمام لموسى الّذي يكشف هويته في اسمه المقدس" الرَّبُّ الرَّبّ! إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء" (الخروج 34: 6). الرّبّ يكشف اسمه من ذاته יְהֹוָ֣ה، وهو الاسم الّذي لا يُنطق به من قبل الإنسان لعظمته من ناحية، ولكي يستخدم في الممارسات السحرية كأداة للسيطرة على الألوهيّة ذاتها من ناحية أخرى. اله يريد إقامة علاقة حرَّة مع شعبه كما ورد في العهد الجديد "إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه" (يوحنا 18: 1). ثم أعلن الله عن نفسه بأنه "إلهٌ رحيم" אֵ֥ל רַח֖וּם، والرحمة الإلهيّة تصف الله بمشاعر الأم تجاه أبنائها. فهو كالأم التي لا تعاقب بل تغفر لأبنائها دائمًا. ثم يعرف سفر الخروج الله أنه" رَؤُوف" חַנּ֑וּן" مُشددًا على وجه الغفران. ثم وصف الله بانه أله طَويلُ الأَناةِ אֶ֥רֶךְ (نعمة)، أي علاقته بشعبه حرة ومجانية لا يستغل علاقته بشعبه.  وانه إله "طَويلُ الأَناةِ". אַפַּ֖יִם إله  صبور يعرف كيف ينتظر أوقات الإنسان ، وأنه "كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء" וְרַב־חֶ֥סֶד וֶֽאֱמֶֽת. إله غني بالمحبة والإخلاص، إله أمين.  يكشف الله هنا علاقته في ذاته، هي الرحمة والصبر والنعمة والأمانة. فصورة الله الخالق تحمل صورة الله الآب وهو الأقنوم الأوّل من الثالوث المقدس.

 

النبوءات التي تتعلق بالمسيح تفترض في الله أشخاصا مختلفين، كما جاء في نبوءة أشعيا "لِأَنَّه قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ ودُعِيَ أسمُه عَجيباً مُشيراً إِلهاً جَبَّاراً، أَبا الأَبَد، رَئيسَ السَّلام " (أشعيا 9: 6). وجاء أيضا في المزامير " قالَ لي: أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ" (المزمور 2: 7) وباختصار، الله هو "آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض، كل ما يُرى وما لا يُرى".

 

خلاصة القول، "الثالوث هو سرّ إيمان، وأحد الأسرار الخفيّة في الله، ولا يمكن معرفتها إلا إذا كُشف عنها من عَلو. والحقيقة إن الله قد ترك بالتأكيد آثارًا لكيانه الثّالوثيّ في عملية الخلق ومن خلال وحيه في العهد القديم. ولكن صميم كيانه، ثالوث مقدس، هو سرٌّ لا يستطيع أن يدركه العقل البشريّ المجرّد، ولا إيمان إسرائيل نفسه قبل تجسّد ابن الله وعمل الرُّوح القُدُس" (كتاب التعليم المسيحي الكاثوليكي، بند 237).

 

ب) الثالوث في العهد الجديد

 

نجد في العهد الجديد نصوصًا واضحة عن سر الثالوث.  يظهر سر الثالوث في عمل الخلق؛ يكتب التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة: "في البَدءِ خلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأَرض" (التكوين 1:1)، “في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله... بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان" (يوحنا 1: 1-3). إن العهد الجديد يكشف عن أنّ الله قد خلق كلّ شيء بواسطة الكلمة الأزليّ، ابنه الحبيب. " ففيه خُلِقَ كُلُّ شيَء مِمَّا في السَّمَواتِ ومِمَّا في الأَرْض... كُلُّ شيَءٍ خُلِقَ بِه ولَه. هو قَبْلَ كُلِّ شيَء وبِه قِوامُ كُلِّ شيَء"(قولسي 1: 16-17). ويؤكّد إيمان الكنيسة عمل الرُّوح القُدُس ودوره في الخلق: فهو "واهب الحياة" و"الرّوح الخالق" و"مصدر كلّ خير". (التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة (280 + 288-290). إن الخلق هو عمل الثَّالوث الأقْدَس المشترك.

 

يظهر سر الثالوث في بشارة الملاك للعذراء أيضا " إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى" (لوقا 11: 35): ثلاثة أشخاص ورد ذكرهم: العَلِي، وَابنَ اللهِ والرُّوح القُدُس. وفي عماد يسوع نجد الوحي بالثالوث: "فإِذا السَّمَواتُ قدِ انفتَحَت فرأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّه حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه. وإِذا صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت" (متى1: 16): الذي يتكلم هو الله، الآبن هو يسوع ابن الله الوَحيد، الرُّوح القُدُس يظهر في صورة رمزية خاصة ككائن شخصي مستقل أُسْوةً بالآب والابن. فقد ظهر الثَّالوث الأقْدَس ظهورا متمايزًا، لكنَّه غير منفصل: الابن المتجسد خارجا من المياه لكي يهبنا الخروج من خطايانا لندخل به وفيه إلى شركة مجده، والرُّوح القُدُس نازلاً على شكل حمامة ليقيم كنيسة المسيح، وصوت الآب صادرًا من السماء مُعلنا بنوتنا له في ابنه، ويقيم منَّا حجارة روحية لبناء الكنيسة الأبدية. هكذا ظهر الثَالوث القدُوس لبنياننا بالله.

 

يظهر سر الثالوث أيضا في الصلاة "أبانا" الذي أوصى يسوع تلاميذه أن يصلوها: "صَلُّوا أَنتُم هذِه الصَّلاة: أَبانا الَّذي في السَّمَوات..." ، في هذه الصّلاة يتجلّى الثالوث بكل وضوح،  إذ بهذه الصلاة يُعلق البابا بِندِكتُس السادس عشر" أن نصبح بذات الفعل "ابنًا" أي ابنًا لله الآب في وحدة الرُّوح القُدُس الّذي يقودنا إلى الوحدة مع الله" ( Der Gott Jesu Christi).

 

يتكلم يسوع عن الثالوث أيضًا في خطاب الوداع: "أَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد" (يوحنا 14: 16). وأخيرا ترك السيد المسيح للرسل وصيته التي توضِّح لنا هدف رسالته ومعنى الثَّالوث الأقْدَس في الإيمان المسيحي: "اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ τὸ ὄνομα الآبِ والابْنِ والرُّوح القُدُس" (متى 28: 19)، وصيغة المفرد في كلمة "اسم" تدل على وحدة الجوهر في كل من الأشخاص الثلاثة. ولم يقل "بأسماء" كأنها كيانات متعدّدة، بل إله واحد واسم واحد، بكلمته وروحه (2 قورنتس 13: 13). لذلك يبدأ المسيحيون كل صلاة وعمل: "باسم الآب والابن والرُّوح القُدُس، الاله الواحد، آمين"، وينهون الصلاة والعمل باسم الثَّالوث الأقْدَس: "المجد للاب والابن والرُّوح القُدُس، الآن وكل أوان إلى دهر الدهرين آمين". هذا وكل طلباتنا في القداس الإلهي تتوجَّه للآب، وتنتهي بالابن، "ابنك الحي المالك معك ومع الرُّوح القُدُس. فله الشكر والحمد والتسبيح، هو الله المُثلّث، الآب والابن والرُّوح القُدُس. آمين

 

باب الدخول في الثَّالوث الأقْدَس هو واحد، يسوع المسيح حيث انه من خلال موته وقيامته فتح يسوع لنا سبيلاً جديدًا لكي ندخل في قدس أقداس الثالوث من خلال المعمودية؛ والمعمودية تُبيِّن قدرة يسوع الفصحية في رِسَالة الكنيسة ولعلاقتها الوطيدة بالأقانيم الثلاثة.   إذ يُعَمَّد المسيحيون "بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوح القُدُس" (متى 28: 19).  يُعَمَّد المسيحيون "باسم" وليس "بأسماء" الآب والابن والرُّوح القُدُس، لأنه لا يوجد سوى إلهٌ واحد: الآب الكلّي القدرة والابن الأوحد والرُّوح القُدُس: الثَّالوث الأقْدَس.

 

مختصر القول، يُعلّمنا الإنجيل المقدّس أنّ الآبَ والابْنَ والرُّوحَ ما هم ألاّ الله وكلمته وروحه، كما أعلن بوضوح الرَّسُول الحبيب يوحنّا، بإلهام من الله ووحي منه تعالى:" في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله" (يوحنا 1: 1).

 

يؤيد القديس بولس الرَّسُول حقيقة الثالوث ببركة ثالوثية "لْتَكُنْ نِعمةُ رَبِّنا يسوعَ المسيح ومَحبَّة اللهِ وشَرِكَةُ الرُّوح القُدُس معَكُم جَميعًا" (2 قورنتس 13: 13). وقد دخل الرَّبّ، الواحد والثالوث، في حوار مع الجنس البشري، ومع كلّ إنسان آتٍ إلى العَالَم. نقرأُ في الرِسَالة إلى العبرانيين: إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العَالَمين. هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه، يَحفَظُ كُلَّ شيَءٍ بِقُوَّةِ كَلِمَتِه" (عبرانيّين 1: 1-3). وبكلمة، الثالوث هو حوارُ الكلمة والنعمة والمَحبَّة.

 

انطلق إيمان الكنيسة الأولى بالثَّالوث الأقْدَس من خبرة الرّسل الذين عاشوا مع المسيح ابن الله، واختبروا عمل الرُّوح القُدُس فيهم بعد قيامة المسيح. وهذا الاختبار هو الذي نقلوه إلى جميع المؤمنين بالمسيح عبر الأسرار المقدّسة، ولا سيّما سرّي المعموديّة (متّى 28: 19 – 20) والإفخارستيّا. فكلّ صلاة أفخارستيا تتوجّه إلى الآب الذي أرسل ابنه المُخلّص، وتطلب إليه أن يرسل روحه القدّوس على القرابين ليُكرّسها ويجعلها جسد المسيح ودمه، وعلى الشّعب كلّه ليُقدّسه ويُوطّده في الإيمان ويَجمعه في الوَحدة.

 

ج) الثالوث في تعليم آباء الكنيسة

 

قانون الرسل هو أقدم صيغة تعليمية رسمية لإيمان الكنيسة بالثَّالوث الأقْدَس. واعتمدت الكنيسة هذا القانون منذ القرن الثاني، كأساس لتعليم الموعوظين لاعتراف الإيمان في احتفال بالعُمَّاد بالصورة الواردة في الكتاب المقدس "عَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس " (متى 28: 19).

 

كان سر الثَّالوث الأقْدَس موضوع مجامع مسكونية، أثبتت صحّته وفرضت الإيمان به، لأنَّه عقيدة إيمان وسر من أسرار الإيمان المسيحي، والأسرار التي لا يفهمها عقلنا ولا يستطيع تفسيرها، يكفيه الإيمان بها؛ وفي هذا الصدد يقول العلامة توما الأكويني "لأنّ الإيمان يسدُّ عن كل فهم". ويوضح ذلك العلامة القديس أوغسطينوس: "من يدّعي أنه فهم شيئا من الله فهو لا يعني هذا الإله، الذي نحن بصدده".

 

 وأوضح مجمع نيقيه (325)، وهو أول مجمع مسكوني في تاريخ الكنيسة، ألُوهَة الابن ووحدة جوهره مع الآب، إذ أعلن أن الله هو خالق السماء والأرض ووالد الإله يسوع ابنه وهو أبدي. وشَّدَّد القديس أثناسيوس (293-373) بطريرك الإسكندرية في القرن الرابع على تمييز الاقانيم الثلاثة ضد بدعة عدم المساواة، وعلى وحدانية الجوهر الإلهي ضد مذهب تثليث الآلهة.  وأمَّا مجمع نيقيه -القسطنطينية (381) لم يُشدّد على ألوهة الابن فقط بل على ألوهة الرُّوح القُدُس أيضا. فما بوسعنا إلاَّ أن نمجّد ونسبّح هذا الإله قائلين: المجد للآب والابن والرُّوح القُدُس.

 

ومن هذين المَجمعين توارثنا قانون الإيمان الذي نتلوه في قداس كلِّ أحدٍ: «نؤمن بإله واحد، الأب ضابط الكل وخالق السماء والأرض وكل ما يُرَى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوَحيد، المولود من الأب قبل كل الدهور، إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوي الأب في الجوهر،  الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسّد من الرُّوح القُدُس، ووُلد من مريم العذراء، وصار إنسانا، وصلب عنا في عهد بيلاطس البنطي، تألم ومات ودفن، وقام في اليوم الثالث كما في الكتب، وصعد إلى السماء وجلس على يمين الله الأب، وأيضا سيأتي بمجده العظيم، ليدين الأحياء والأموات، الذي ليس لملكه انقضاء، ونؤمن بالرُّوح القُدُس، الرَّبّ المحيي، المنبثق من الأب، ومع الأب والابن، يُسجَد له ويُمجد، الناطق بالأنبياء، وبكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية.  هذه هي الصلاة الوَحيدة المشتركة بين جميع الكنائس.

 

 لم تخلو تعاليم الآباء من شرح سر الثالوث: فالقديس غريغوريوس النيزينزي (329 –390) على سبيل المثال يشرح سر الثالوث انطلاقا من صاحب المزامير "نُعايِنُ النُورَ بِنورِكَ" (مزمور 36، 10). "من النور الذي هو الآب ندرك النور الذي هو الابن بنور الرُّوح القُدُس: هذا هو لاهوت الثَّالوث الأقْدَس. باختصار، إن الله لا فصل فيه – إذا جاز التعبير – في أقانيم متمايزة عن بعضها".

 

ينطلق القديس أوغسطينوس (354 -430) من تعليم يوحنا الرَّسُول أن جوهر الله هو المَحبَّة، كما عرّفه يوحنا الرَّسُول "اللهُ مَحبَّة "(1 يوحنا 4، 16)، فيعُلق على ذلك بقوله "يتطلب الحُبُّ مَن يُحِبّ، من يُحَبّ، والحُبَّ عينه". الآب، في الثَّالوث الأقْدَس هو المُحِبّ، نبع وأصل كل شيء؛ الابن هو المَحبوب؛ والرُّوح القُدُس هو الحُبُّ الذي يربطهما". ويُبين لنا الوحي الإلهي أن الله مَحبَّة منذ الأزل، لأنه قبل أن يوجد الكون كان الله الكلمة، الابن المحبوب حبًا أبديًا في المَحبَّة التي هي الرُّوح القُدُس. بالطبع إن مثال الحُبِّ ما هو إلا مثال بشري، ولكنَّه أفضل ما نعرفه لكي نُدرك شيئًا ما عن أعماق الله الخَفيَّة في الثَّالوث الأقْدَس.

 

ينطلق القدّيس يوحنّا الدمشقي (676 – 749) هو آخر الآباء الشرقيّين، من الإيمان بالإله الواحد ويؤكّد اتحاد الأقانيم رغم تمييزها: "فالأقانيم متّحدة دون اختلاط، ومتميّزة دون انقسام". ثمّ ينتقل إلى التمييز بين الأقانيم: يميّز بين الآب والابن ويوضِّح أنّ الآب هو مبدأ الجميع وعِلّتهم، والابن هو ابن الله الوَحيد "لأنّه وُلد من الآب ولادة وحيدة". ثمّ يوضِّح الفرق بين الابن والرُّوح: "الرُّوح القُدُس ينبثق من الآب لا بالولادة بل بالانبثاق. ويوضح أنّ الثلاثة إله واحد: "إنّ كلا من الأقانيم هو في الآخر. ولذلك أيضًا نعترف بوحدة الأقانيم في الجوهر".   ويوضح هذا التمييز بين الأقانيم في الإله الواحد بتشبيه الأقانيم الثلاثة في الجوهر الواحد بالشَّمس وشعاع الشَّمس ونور الشَّمس، وهو تشبيه قديم في اللاهوت المسيحيّ. إنّ الشَّمس لا يُمكن أن تكون شمسًا دون شُعاع ودون نور، كذلك الآب لا يمكن أن يكون أبًا دون ابن ودون روح. وكما أنّ الشَّمس لا تأتي إلينا كلّها، بل فقط بشعاعها ونورها، كذلك الله الآب لا يأتي إلينا إلّا بابنه وروحه. وكما أنّ الشُّعاع والنور هما من ذات جوهر الشَّمس، كذلك الابن والرّوح هما من ذات جوهر الآب".

 

يعلق القدّيس أنطونيوس البادوانيّ (1195 -1231) على الآية التي تنص في الخلق، جُعل الإنسان "على صورة الله كمثاله" (التكوين 1: 2) فيقول: "الثالوث كلّه جعل الإنسان على صورته. من خلال الذاكرة، هو يشبه الآب؛ من خلال الذكاء، هو يشبه الابن؛ من خلال الحبّ، هو يشبه الرُّوح القُدُس" (عظات للآحاد ولأعياد القدّيسين).  ويقول اللاهوتي الطوباويّ يوحنّا هنري نيومان " إنّ الله واحدٌ، إلى منتهى الأجيال، وهو أيضًا دومًا ثلاثة. فهو يفرح منذ الأزل في ابنه وفي روحه القُدُس، وهما فيه. عندما تجسّد الابن، عاش لمدّة ثلاثين عامًا مع مريم ويوسف، مكوّنًا بذلك صورة الثالوث على الأرض" (تأمّلات وعبادة: الجزء الثالث، "ربّنا يرفض التعاطف").

 

يوضّح الكتّاب المسيحيون: يوحنّا الدّمشقي وتاودوروس أبو قرّة وإبراهيم الطّبراني ويحيى بن عدي فكرة الثالوث بأجمل العبارات وأسهلها: "الله وكلمته وروحه"، "الله وعقله ومبدأ حياته" كما جاء في "التّكوين"، يجد المرء "الله وكلمته وروحه" (التكوين 1: 1). فالله واحد بكلمته وروحه.

 

د) الثالوث في تعليم الكنيسة

 

حدّد المجمع المسكوني الأوّل عقيدة الثَّالوث الأقْدَس باستعمال ثلاث لفظات: الأولى، "الجوهر" أو "الطبيعة" الله واحد في الطبيعة، والطبيعة هي ما يكونه الشخص. والطبيعة تدل على الكائن الإلهي في وحدانيّته. فنقول الثالوث الواحد. لا نؤمن بثلاثة آلهة بل بإله واحد في ثلاثة أقانيم، الثالوث المتساوي في الجوهر. الأشخاص الإلهيّة لا يتقاسمون الطبيعة الإلهية، بل كلّ شخص هو كلّ الجوهر والطبيعة.

 

اللفظة الثانية، "الشخص" أو "الأقنوم" والأقنوم من يكونه الشخص.  وكلمة أقنوم، أصلها من اللغة السريانية، وتعني "شخص". ونقول إن الآب أقنوم، والابن أقنوم، والرُّوح القُدُس أقنوم. ولم تستخدم كلمة "شخص" لأن هذه الكلمة قد توحي بكائن بشري له حدوده وشكله وملامحه. وتحاشيا لكل تصور خاطئ ولكل تحديد للأشخاص، لجأت الكنيسة إلى كلمة أقنوم. وهي كلمة لا تستخدم في أي مجال آخر، ديني أو مدني، غير هذا المجال. والأقنوم يدل على الآب والابن والرُّوح القُدُس في تمايزهم الحقيقيّ الواحد عن الآخر، من جهة علاقاتهم الأصليّة: الآب هو المصدر الذي يلد، لا يخلق، الابن هو المولود، الرُّوح القُدُس هو الذي ينبثق. فنقول الوحدانيّة الإلهية هي ثالوث. 

 

اللفظة الثالثة، "العلاقة" للدلالة على أنّ واقع التمايز قائم في الارتباط بين الأشخاص: الآب مرتبط بالابن، والابن بالآب، والروح بالاثنين، والجوهر واحد. وكلّ واحد منهم هو كلّه للآخر.

 

وفي داخل الكنيسة نُدرك حقيقة وحي الله كثالوث حب. نعبّر عن إيماننا بالثالوث في إشارة الصليب، وفي قلب الكنيسة نلاقي الإفخارستيا التي تُعلمنا بأن القداس الإلهي هو فعل ثالوثي من أوله إلى آخره، يبدأ وينتهي باسم الثَّالوث الأقْدَس الآب والابن والرُّوح القُدُس. وباسم الثالوث القدّوس تبدأ الكنيسة كلّ عمل وقول ومبادرة، ولمَجده تُنهي ما بدأت.  وفي الكنيسة، الرُّوح يكشف لنا عن حضوره بشكل واضح فنعبّر عن إيماننا بمجد الثالوث. وفي خبرة الحياة المسيحية نغوص في عمق الثالوث الذي لا ينضب. 

 

سرّ الله لا نقدر أن نفهمه إلاّ بصور وأمثال تعطي عنه فكرة من هو. فيمكننا أن نفسر سر الثالوث في الوحدة، والتعددية في الوحدة من خلال امثله من الطبيعة: مثال العين والينبوع والنهر. كما أنَّ كل من العين والنبع والنهر هم عدديَا واحدا وإن اختلفت الأشكال كذلك لا ينفصل الآب والابن والرُّوح القُدُس بعضهم عن بعضهم وإن كانوا يتمايزون في ثلاثة أشخاص.  وكما أنَّ الشمس والشعاع والضوء هم جوهر واحد كذلك الأقانيم الثلاثة هم ذات الجوهر الواحد.  الشَّمس متميّزة عن شعاعها، بالرغم من أنّها مُتّحدة معه، فالشَّعاع هو أيضًا الشَّمس. ما من أحد يتكلّم عن شمسين، حتّى لو كان الشَّعاع في هذه الدُنيا هو أيضًا الشَّمس. هكذا أيضًا لا نقول أنّ هناك إلهين، بل إلهٌ هو ربّنا حقًّا، فوق المخلوقات كلّها. ويُعلق القدّيس أفرام السريانيّ (نحو 306 -373)، "إلهٌ واحدٌ وربٌّ واحدٌ في ثلاثة أقانيم ووحدة الطبيعة. اخترْ الشَّمس رمزًا للآب، النُّور للابن، والحَرارة للرُّوح القدس. بالرغم من أنّه كائن واحد، فإنّنا نرى فيه الثالوث. مَن يمكنه أن يُدرِك غير المُدرَك؟ هذا الواحد هو متنوّع: واحد من ثلاثة، وثلاثة يؤلّفون واحدًا؛ سرّ عظيم وعجبٌ بَيِّن!" (نشيد عن الثالوث). رغم التعددية فليس هناك أبدًا انقسام في الجوهر. هناك المساواة في الأقانيم الثلاثة، وهناك اشتراك في نفس الطبيعة الإلهية الواحدة.

 

 

2) اعتراضات على عقيدة الثالوث

 

منذ القرون الأولى ظهر عدد من المذاهب المسيحية التي ترفض التثليث، أشهرها الآريوسية التي ظهرت سنة 315 وادينت في مجمع نيقيه سنة 325؛ آمن الأريوسيون أن الابن إله، لكنَّه أدنى من الآب وكذلك الرُّوح القُدُس، أي أن كلاهما قد خُلقا من العدم بإرادة الآب؛ مع اندثار الآريوسية لم يكن هناك أي حركة تعلن اللاثالوثية حتى منتصف القرن السادس عشر خلال عصر الإصلاح حين ظهرت حركة التوحيدية في بولندا وترانسيلفانيا في أوروبا الوسطى من خلال تعاليم سرفيتوس وفاويستوس سوسينوس. لكن النقاش قد فتح مجددًا في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1872 مع تأسيس المذهب الرَسليين Russell، ومن ثم عام 1931 حين انشق عنهم شهود يهوه التي تعتبر أقوى هذه الطوائف اليوم؛ وفي وقت لاحق من القرن العشرين نشأت طوائف جديدة ذات الإيمان نفسه، كجمعية أصدقاء الإنسان والمذهب الكويكريةQuakers  وغيرها.

 

تجمع هذه الطوائف على تكريم يسوع وإغداق الكثير من الصفات الحميدة عليه، بيد أنه في تعليمهم كائن روحي قريب من الله ولكنَّه ليس هو الله، وأيضًا قيامته كانت بشكل روحي أي غير جسدية، كما يرفضون الدور المنسوب له في الخلاص لدى سائر المسيحيين، إلى جانب إنكار أغلب هذه الطوائف وجود القيامة من القبر أو وجود جهنم.

 

تُفسر الطوائف اللاثالوثية الآيات الواردة في الكتاب المقدس والتي يعتمد عليها المسيحيون في برهنة ألوهة المسيح أو قيامته من بين الأموات بشكل رمزي مجازي، وفي الوقت ذاته يعتمد اللاثالوثيون على عدة آيات للبرهان من الكتاب المقدس أن المسيح ليس إلهًا، كصلاته إلى الآب قبيل آلامه، وكونه لا يعلم موعد يوم القيامة، إضافة إلى الرِسَالة الأولى إلى قورنتس 15: 27-28  حيث يذكر صراحة خضوع الابن للآب في اليوم الأخير، في حين يرى التفسير الكاثوليكي في هذا الخضوع، خضوع جسد يسوع وانتفاءه لإتمام الرِسَالة التي اتخذ جسدًا من أجلها. خضوع الآبن للآب لا يقلل من أهمية أي من شخصيات الله (لوقا 42:22 ويوحنا 36:5)، وكذلك خضوع الرُّوح القُدُس للاب والابن (يوحنا 16:14، يوحنا 13:16-14).

 

 

3) كيف كشف يسوع وجه الله الثَّالوث الأقْدَس؟  

 

ينتقل يوحنا الإنجيلي من حب الله لشعب إسرائيل (خروج 34: 4-9) إلى حب الله للعالم كله بدون استثناء، مُرسلاً بأبنه الوحيد الّذي يلتقي هنا بالإنسان ( نيقوديموس) ويتحاور معه قائلاً: «فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد» (يوحنا  3: 16- 18).

 

كشف يسوع سر الثالوث من خلال حواره مع نيقوديمُس (يوحنا 3: 1-21). ونيقوديمُس اسم يوناني Νικόδημος (معناه المنتصر على الشعب) وهو فريسي، رجل عَالِم في دراسة التوراة والتقليد اليهودي، وعضو في السنهدريم، المجلس الأعلى للأمة اليهودية، وكان واحدا من رؤساء اليهود، وآمن أن يسوع جاء مِن لَدُنِ اللهِ (يوحنا 3: 2) فجاء إليه في الليل حتى لا يراه أحد ليشاوره ويباحثه في امر الولادة الثانية الرُّوحية. وقد اقتنع بكلام يسوع ودافع عنه في السنهدريم لمَّا هاجمه الفِرِّيسيون (يوحنا 7: 50)، ثم بعد أن مات يسوع عمل على تطييب جسده بالمُر ودفنه مُجاهرًا بإيمانه به (يوحنا 19: 39).

 

حاول نيقوديمس أن يفتش عن سر الثالوث بقواه الشَّخصية، فعجز عن ذلك، لكنه استطاع أن يكشفه من خلال لقائه مع المسيح. فأدرك نيقوديمُس في بادئ الأمر أنَّ يسوع قد جاء من لدن الله، إذ قال له: " راِّبي، نحنُ نَعلَمُ أَنَّكَ جِئتَ مِن لَدُنِ اللهِ مُعَلِّماً، فما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَأَتِيَ بِتِلكَ الآياتِ الَّتي تَأتي بِها أَنتَ إِلاَّ إِذا كانَ اللهُ معَه"(يوحنا 3: 2). وأحسّ بانه في حضرة شخص أكبر من " رابي"، أن يحمل في ذاته " سراً مِن عَلُ " لا يكشفه إلاَّ نور مِن عَلُ.

 

دخل نيقوديمس في حوار سرِّي مع السيد المسيح طلبًا في رؤية وجه الله، فأكَّد له السيد المسيح بأنَّه بحاجة إلى الميلاد الثاني الجديد من خلال المعمودية بالماء والروح. وترتبط المعمودية بالصَّليب حيث يعلن الآب حُبَّه لكل البشرية ببذل ابنه لكي يتمتع المؤمنين به بالبنوَّة في الحياة الأبدية. 

 

المعمودية هي موت الإنسان مع المسيح وقيامة معه مُتحدًا به كما يقول بولس الرسول" أَ وَتَجهَلونَ أَنَّنا، وقَدِ اَعتَمَدْنا جَميعًا في يسوعَ المسيح، إِنَّما اعتَمَدْنا في مَوتِه فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة كما أُقيمَ المَسيحُ مِن بَينِ الأَمواتِ بِمَجْدِ الآب؟" (رومة 6: 3-4). ومن هنا كشف يسوع وجه الله، الآب المُحب "إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء" (الخروج 34: 6)، هذا الاله الذي كشف نفسه الموسى النبي. الابن هو خُلّاصة حب الآب، لقد أحب الله كثيرًا لدرجة أنه أرسل ابنه المخلص ليهب الروح المُحيي. فالمعمودية تضعنا في ملء الثالوث القدوس وتجعلنا في علاقة وثيقة بكل واحد من الأشخاص الإلهية الثلاثة، ويدخلنا الثالوث القدوس بواسطة المعمودية في عالم الحياة الرُّوحيّة الجديدة التي هي عطاء ينبثق من الأقانيم الإلهية الثلاثة.  ونقرأ في كتاب التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة “يُعَمَّد المسيحيون "بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوح القُدُس" (مت 28: 19). وقبل ذلك يُجيبون: "أنا أؤمن" في كل مرّة من المرّات الثلاث التي يدعو فيها الكاهن للاعتراف بالإيمان بالآب والابن والرُّوح القُدُس: "فإيمان المسيحيين أجمعين يرتكز على الثَّالوث الأقْدَس" (القدّيس قيصاريوس) (بند 232)

 

إنّ سرّ الثَّالوث الأقْدَس هو السرّ المركزي للإيمان والحياة المسيحية. وهو منبع كل الأسرار الأخرى للإيمان، وهو النور الذي يُنيرها. هو التعليم الأساسيّ والجوهري بهرمية حقائق الإيمان. فتاريخ الخلاص كله ليس إلاَّ تاريخ الطَّريق والوسائل التي من خلالها، يظهر بها الله الواحد الحقيقي، الآب والابن والرُّوح القُدُس، ويتصالح ويتّحد بالبشر الذين يحيدون عن الخطيئة. وهكذا كشف يسوع لنيقوديمس عن سر الثَّالوث الأقْدَس من خلال تكلمه عن مَحبَّة الآب والإيمان بالابن وعون الرُّوح القُدُس

 

ا) مَحبَّة الآب

 

المَحبَّة هي المصدر الوَحيد الّذي باستطاعته أن يفتح باباً على حقيقة الرَّبّ. فقد كشف يسوع شخص الآب عن طريق محبته للعالم "إِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العَالَم لِيَدينَ العَالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العَالَم (يوحنا 17: 17). غير أنَّ البحث عن مصدر الخلاص يحتِّم علينا الغوص إلى الحُبِّ الذي دفع الآب أن يُعطي العَالَم أعزَّ ما لديه: ابنه الواحد المولود. الحُبُّ الإلهي هو العنصر الديناميكي الدائم الحركة لتمتع العَالَم بالخلاص، وهو قبول مستمرّ للآخر وبذل الذات من أجل الآخر. ولم يكتفِ يسوع بالقول أنّ الرَّبّ يُحبّنا، بل وضّح إلى أيّ حدّ بلغ هذا الحُبّ " فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العَالَم حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 3: 16). إنّ الحُبّ، عند الرَّبّ، هو البذل الكامل للذات، حتّى عندما يضم هذا البذل على خسران كلّ شيء، والتضحية بالحياة، والموت في سبيل الآخر، كما صرَّح يسوع "لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه " (يوحنا 15: 13)؛ فحُبُّاً لنا قد حقَّق الله التضحية بابنه التي طُلبت قديمًا من إبراهيم (التكوين 22: 2/ 8: 12-16). إن الله، عندما أسلم "ابنه الحبيب" للموت من أجلنا (مرقس 1: 11)، قد أثبت لنا (رومة 5: 8) "أنه يحب العَالَم" (يوحنا 3: 16). والدليل على أنه يُحبُّنا بنفس الحُب الذي يُحبُّ به ابنه الوَحيد، وهبنا المَحبَّة التي تجمع بين الآب والابن والتي هي الرُّوح القُدُس. تتضّح لنا هنا علاقة حبٍّ متحفّظة كما يقول لنا البابا بولس السادس" الآب يظهر كالذي يمنح ذاته للابن من دون تحفّظ، والابن الذي يمنح ذاته بالطريقة نفسها للآب، باندفاع الامتنان السعيد من خلال الرُّوح القُدُس" (الإرشاد الرَّسُولي: افرحوا بالرَّبّ (Gaudete In Domino)، عن الفرح المسيحيّ، العدد 3).

 

استطاع يوحنا الحبيب الذي عاش اختبار المَحبَّة أن يُعبِّر عن حقيقة الله المُثلث الأقانيم بتعريفه "الله مَحبَّة"(1 يوحنا 4: 8). إذ كشف الله، بإعطائه ابنه، أنَّه هو الذي يُعطي نفسه حُبًا بنا "إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟" (رومه 8: 32). وإذ يحيا الابن الوَحيد مع أبيه في حوار مَحبَّة مُطلقة يكشف أيضًا أنه هو والآب "واحد" منذ الأزل، كما صرّح يسوع في إنجيل يوحنا "أَنا والآبُ واحِد". (يوحنا 10: 30)، وأنه هو ذاته الله "الكَلِمَةُ هوَ الله "(يوحنا 1:1). ويعرِّفنا الابن الوَحيد، الذي في حضن الآب، بالله الذي "ما رآهُ أَحدٌ" (يوحنا 1: 18). وهذا الإله الواحد قائم فيه وفي أبيه المُتّحدين في الرُّوح القُدُس. ويتحدث يسوع عن علاقته بالآب قائلاً إلى فيلبُّس "أَلا تُؤِمِنُ بِأَنِّي في الآبِ وأَنَّ الآبَ فيَّ؟" (يوحنا 14، 10)؛ كما تحدث إلى اليهود قائلاً" أَنَّ الآبَ فيَّ وأَنيِّ في الآب" (يوحنا 10، 38).

 

ساعد علم النفس على فهم خصائص الحُب أنه "يوحّد دون أن يذيب الآخر أو ضياع الاثنين، كما جاء في كتاب "فن الحب" لعالم النفس أريك فروم. ويوضِّح الفيلسوف الكبير هيجل هذا الحب بتعريفه " إنَّ الحب هو تمييز بين اثنين بحيث يعيشا وعيًا مشتركًا، وهذا الوعي هو وعي يُبيّن أنهما خارج ذواتهما من أجل الآخر". فإن طبيعة الحُبِّ هي أنها توحِّد دون إزالة الاختلاف. الاختلاف ليس خلافًا أو انشقاقًا. وهذا النوع من الحُب يظهر في الثَّالوث الأقْدَس بشكل كامل. فأقانيم الثَّالوث الأقْدَس هي مُتحدة لا لتشكل اختلاطًا عشوائيًا، بل لكي يكون أحدها في الآخر، إذا جاز التعبير.

 

ب) الإيمان بالابن

 

ولا يعرف الإنسان قيمة الحب إلا بواسطة الإيمان. فالإيمان هو اندماج الإنسان بكليته، قلبًا وروحًا في حُبِّ الله الخلاصي الذي تحقق بابنه يسوع المسيح؛ الإيمان هو جواب الإنسان لوحي الله، هو "نعم" لدعوته الإلهية في المسيح يسوع بواسطة الرُّوح القُدُس. وضّح يسوع هذه الدعوة الإلهية بقوله إلى نيقوديموس: "إِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العَالَم لِيَدينَ العَالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العَالَم. مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد"(يوحنا 3: 17-18). وتكرَّر هذا النص في إنجيل مرقس مرتين (يوحنا 6: 39-40، 12: 47). يسوع لم يأتِ ليدين، بل ليخلِّص. هذا هو خلاصة ومفتاح لكل ما يعلّمه يسوع ويعمله. وقد ختم يسوع مجيئه إلى هذا العَالَم بدينونة " مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد" (يوحنا 17: 18).  الرَّبّ لا يدين ولا يحكم على أحد، بل الإنسان نفسه هو الذي يقضي على نفسه ويحكم على نفسه بتصرفه ورفض الإيمان، والأمر متروك للإنسان. أن الفِرّيسيّين لم يختاروا أن يؤمنوا بيسوع بل اتّهموه بالتجديف، فأدانوا أنفسهم.

 

ينكشف الناس على حقيقتهم، ويتميَّز بعضهم عن بعض تبعًا لإيمانهم أو رفضهم للمسيح، لأنَّ الإنسان قادر أن يُفضِّل الشر على متطلبات الحقيقة، والظلمة على النور، ويهرب من المسيح، فلا يُقبل إلى النور. ويقودنا النص الإنجيلي من الإيمان الناقص إلى اكتشاف سر المسيح النور والخلاص، وإلى قبوله بدون تحفظ، وهذا الإعلان بالإيمان هو عمل الرُّوح القُدُس فينا، كما وضّح يسوع في حواره مع نيقوديمس "فإِذا كُنتُم لا تُؤمِنونَ عِندَما أُكَلِّمُكم في أُمورِ الأَرْض فكَيفَ تُؤمِنونَ إِذا كلَّمتُكُم في أُمورِ السَّماء؟ "(يوحنا 3: 12). آمن أخيرًا نيقوديمس أن يسوع هو بالحقيقة المسيح. فتكلم بجرأة وشجاعة مدافعًا عنه (يوحنا 7: 50). 

 

الثَّالوث الأقْدَس هو جوهر إيماننا المسيحي ومحور الحياة المسيحية. هو منبع كل الأسرار الأخرى للإيمان، وهو النور الذي ينيرها. هو التعليم الأساسيّ لحقائق الإيمان. "فالثالوث هو سرّ إيمان، سرٌّ لا يستطيع أن يدركه العقل البشريّ المجرّد، إلاَّ عن طريق تجسّد ابن الله وعمل الرُّوح القُدُس" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 237). وفي هذا الصدد يقول النبي أشعيا ""كما تَعْلو السَّمواتُ عنِ الأَرض كذلك طُرُقي تَعْلو عن طُرُقِكم وأَفْكاري عن أَفْكارِكم " (أشعيا 53: 9).

 

ج) معونة الرُّوح القُدُس

 

الروح وحده قادر أن يفتح عيون الإنسان على النور العُلوي ويُدرك سر المسيح في الثالوث. إنَّ سر المسيح هو سر الله الذي هو روح، أي الحياة ذاتها، مبدأ كل حياة (التكوين 2: 7). وهناك هوة كبيرة تفصل بين الخليقة (الجسد) وبين الله (الروح) (أشعيا 31: 3)، ويستحيل اجتيازها ما لم يأتِ الله بروحه لنجدة الإنسان، ورفعه إلى مستوى الروح لجعله مُشاركًا في حياة سماوية وقادرًا أن يفهم أمور السماء.  ونعمة هذا النور تفترض " ولادة من عَلُ" كما أعلن يسوع لنيقوديمُس "ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَرى مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِن عَلُ" (يوحنا 3: 3)، "إِذا وُلِدَ مِنَ الماءِ والرُّوح" (يوحنا 3: 5). إن الرُّوح القُدُس يعطي الحياة جديدة من السماء (يوحنا 3: 6). هذا هو سر المسيح يأتي مِن عَلُ (يوحنا 3: 13) والإنسان لا يبلغ هذا السر إلاَّ بنعمة تجديد جذرية، ولا يحقِّقه إلاَّ بنعمة الرُّوح القُدُس، لانَّ يسوع المسيح ربط سر تجديد الإنسان بمجيء ابن الله إلى العَالَم، وارتفاعه على الصليب (يوحنا 17: 5-24).

 

يدعونا النص الإنجيلي أن نتفحص عن الثالوث وعمقه ونتائجه العملية.  لا يُمكننا أن نحيط بالثَّالوث الأقْدَس فكريًا، كما قال العلامة أوغسطينوس " لو كنت تفهمه لما كان الله"، ولكن يُمكننا أن نلج فيه! وإذا لم يكن باستطاعتنا أن نغمر المحيط بأيدينا يمكننا أن نغوص فيه؛ وفي هذا الصدد تقول القدّيسة تيريزا الآبِليّة " كلّما عجزت عن فهم هذه الأمور، ازداد إيماني وازدادت عبادتي. فليتقدّس اسم الرَّبّ من الآن وللأبد. آمين. وإن قيل إن هذا التعليم فوق إدراكنا، قلنا ذلك لا يفسده، وإن قيل إن جوهرًا واحد ذا ثلاثة أقانيم محال، قلنا تلك دعوى بلا برهان، وأن عقولنا القاصرة لم تخلق مقياسًا للممكن، وغير الممكن، مما فوق إدراكها".

 

الحياة المسيحية هي بمثابة شركة مع كل من الأقانيم الإلهية: ألآب والابن والرُّوح القُدُس. من يمجّد الآب يمجّدُه بالابن في الرُّوح القُدُس، ومن يتبع المسيح يتبع الآب، لان الآب يُجذبه، كما جاء في قول يسوع "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يُقبِلَ إِليَّ، إِّلا إِذا اجتَذَبَه الآبُ الَّذي أرسَلَني"(يوحنا 6: 44)، ولانّ الرُّوح القُدُس يُحرِّكه، كما يؤكد بولس الرَّسُول "إِنَّ الَّذينَ يَنقادونَ لِرُوحِ الله يَكونونَ أَبناءَ اللهِ حَقًّا" (رومة 8: 14).

 

مختصر القول، أن أكون مسيحياً يعني أنَّني أستطيع القول مع الرَّبّ يسوع "أبانا" وأن أصبح بذات الفعل "ابنًا" أي ابن لله الآب في وحدة الرُّوح القُدُس الّذي يُقودنا إلى الوحدة مع الله. وصدق صاحب كتاب "الاقتداء بالمسيح" عندما قال: "لا ينفعك شيئًا فهم الثَّالوث الأقْدَس إذا خلوت من التواضع الذي يجعلك مرضيًا لدى الثالوث". ومن هذا المنطلق، أن أكون مسيحيا يعني أن أؤمن أنّ الابن تجسّد وصار إنسانًا ومات على الصّليب وقام حبًّا بالإنسان، وإنّ الرُّوح القُدُس حلّ على الإنسان ليمكث فيه ويعمل معه، وأكون مسيحياً يعني أن أدرك أنّ عظمة الله لا تكمن في بُعد كيانه عن العَالَم والإنسان، بل في اّتحاده بالعَالَم والإنسان في أقنومي الابن والرُّوح القُدُس".

 

 

الخلاصة

 

تُشكّل عقيدة الثَّالوث الأقْدَس جوهر الحياة المسيحيّة، لأنَّها وحي من الله وتعبير عن إيمان المسيحيّة منذ نشأتها بظهور الله ظهورًا نهائيًا وخلاصيًّا في شخص يسوع المسيح. ويستند إيماننا بالثالوث إلى اختبار الرسل الذين عاشوا مع يسوع في حياته على هذه الأرض، ثم تراءى لهم حيًّا من بعد قيامته وأرسل إليهم الرُّوح القُدُس من لدن الآب. ثم ترك لهم وصيته الأخيرة التي توضِّح لنا هدف رسالته ومعنى الثَّالوث الأقْدَس في الإيمان المسيحي إذ قال لهم: "فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوح القُدُس وعَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به". (متى 28: 19-20).

 

الديانتان اليهودية والإسلامية تعترفان وتؤمنان بالإله الواحد، أي بوحدانية الرَّبّ وتعبده. أما المسيحيّة فإنها تؤمن بالثَّالوث الأقْدَس وتعبده وهذا ما يميّزها عن سواها من الأديان. نحن مدعوون للعيش وتجسيد ما نعرفه عن الثالوث في حياتنا المسيحيّة. لقد ردّد البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني: "نحن المسيحيون نعرف الكثير، لكننا نعيش القليل"، فنحن بحاجة دومًا إلى من يذكّرنا. نحن مدعوون أيضًا أن نترك زمام أمرنا للربّ في كل حياتنا ليقودنا بحسب مشيئته، وهذا ما نخشى دوماً أن نفعله. وفي هذا الصدد يقول القديس أغناطيوس دي لويولا:" قليلون جدّاً يدركون ما سيصنع الرَّبّ بهم إذا وضعوا أنفسهم كلّياً بين يديه فتشكّلهم نعمته وتكّونهم". فالله ليس كائنا نتحدث عنه بمقدار ما هو كائن نحبّه ونصغي إليه. ندركه بالحُبِّ، ونبلغه بالإيمان، ونكتشفه بالصَّلاة. لذلك لنجدّد إيماننا بالرَّبّ الواحد والمثلّث الأقانيم: بالآب الذي أحبّنا وخلقنا ويعتني بنا، وبالابن يسوع المسيح، الذي افتدانا وخلّصنا بموته وقيامته، وبالرُّوح القُدُس الذي يتمّم فينا ثمار الفداء والخلاص، ويُحيينا ويقدّسنا.

 

 

دعاء

 

أيها الآب القدوس، إنك أنتَ وأبنك الوَحيد والرُّوح القُدُس إلهٌ واحد، وأبٌ واحد لا لوحدة الأقنوم بل بالثالوث الجوهر الواحد. إننا نسجد لك، أيها الثالوث القدّوس، نسجد للثالوث في الاقانيم، وللوحدة في الجوهر وللتساوي في الجلال.  إنك الإله الذي دعوتنا منذ معموديتنا إلى الاتحاد بك وما زلت تظهر ذاتك لنا وتسير فيما بيننا.  لهذا ولأجل كل شيء نسبِّحك ونباركك ونمجِّدك وأنتَ واحد مع يسوع ابنك الوَحيد الحبيب ومع الرُّوح القُدُس مرنِّمين مع أشعيا النبي "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوس، رَبُّ القُوَّات، الأَرضُ كُلُّها مَمْلوءَةٌ مِن مَجدِه" (أشعيا 6: 3) ومُسبحين مع القديسين في السماء "قدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوس الرَّبّ الإِلهُ القَدير الَّذي كاَنَ وهو كائِنٌ وسيَأتي (رؤيا 4: 8)، المجد للآب والابن والرُّوح القُدُس الآن وكل آن وإلى الأبد.  آمين.