موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٥ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠

الارشاد الاخوي المسيحي

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الارشاد الاخوي المسيحي

الارشاد الاخوي المسيحي

 

الاحد الثالث والعشرون من السنة (متى 18: 15-20)

 

النص الإنجيلي (متى 18: 15-20)

 

15 إذا خَطِئَ أَخوكَ، فَاذهَبْ إِليهِ وَانفَرِدْ بِه ووَبِّخْهُ. فإِذا سَمِعَ لَكَ، فقَد رَبِحتَ أَخاك.  16 وإِن لم يَسمَعْ لَكَ فخُذْ معَكَ رجُلاً أَو رَجُلَين، لِكَي يُحكَمَ في كُلِّ قضِيَّةٍ بِناءً على كَلامِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثة.  17 فإِن لم يَسمَعْ لَهما، فأَخبِرِ الكَنيسةَ بِأَمرِه. وإِن لم يَسمَعْ لِلكَنيسةِ أَيضاً، فَلْيَكُنْ عندَكَ كالوثَنِيِّ والجابي.  18 ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء)). 19 ((وأَقولُ لكم: إِذا اتَّفَقَ اثنانِ مِنكم في الأَرضِ على طَلَبِ أَيِّ حاجةٍ كانت، حَصلا علَيها مِن أَبي الَّذي في السَّمَوات. 20 فَحَيثُما اجتَمَعَ اثنانِ أَو ثلاثةٌ بِاسمِي، كُنتُ هُناكَ بَينَهم)).

 

مقدمة

 

يُسلط إنجيل الاحد الأضواء على خطاب يسوع الرابع والاخير في انجيل متى حيث يدعو يسوع تلاميذه الى إصلاح المُخطئ بينهم عن طريق الارشاد الاخوي، كون الإصلاح من أهم ملامح طريق ملكوت السماوات (متى 18: 15-20). والغاية من الاصلاح ان يعود الأخ الخاطئ الى الجماعة المجتمعة باسم المسيح لتصلي وإياه معاً.  يسوع يقدّم هنا كافّة الوسائل لتأمين التواصل الأفضل مع الأخ المُخطئ مع مراعاة حريته واحترام إرادته وقراراته بحيث يكون أخا يستحق التقدير وبذل الذات، لأنه عارف بضعفنا ومتفهّماً له.  ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 18: 15-20)

 

15 إذا خَطِئَ أَخوكَ، فَاذهَبْ إِليهِ وَانفَرِدْ بِه ووَبِّخْهُ. فإِذا سَمِعَ لَكَ، فقَد رَبِحتَ أَخاك.

 

لا تشير عبارة "خَطِئَ" الى إهانة او ضرر شخصي فحسب، بل الى خطيئة تُبعد الأخ عن الجماعة.  وهناك ترجمة أخرى تستند الى بعض المخطوطات التي وردت في انجيل لوقا " إِذا خَطِئَ إِلَيكَ" (لوقا 17: 4). فان إضافة "اليك" تفسر الفقرة بمعنى ذي طابع فردي متوافق مع ورد في العهد القديم " لا تُبغِضْ أَخاكَ في قَلبِكَ، بل عاتِبْ قَريبَكَ عِتاباً، فلا تَحمِلَ خَطيئَةً بِسَبَبِه"(احبار 19: 17)؛ أمَّا عبارة " أَخوكَ" فتشير الى الابن في علاقته بأبناء أو بنات نفس الوالدين (تكوين 27: 6) أو نفس الأب فقط (تكوين 28: 2) أو نفس الأم فقط (قضاة 8: 19). كذلك أطلق على قريب من الأسرة الواحدة، ابن الأخ (تكوين 14: 16) أو من نفس الجنس (نحميا 5: 7) أو من أمّة قريبة (تثنية الاشتراع 23: 7) أو من أمة حليفة (عاموس 1: 9). (3) او من نفس الدين الواحد (أعمال 9: 17)؛ او الى الصديق المحبوب (2 صموئيل 1: 26) وكذلك أطلق على إنسان غريب كنوع من حسن الخطاب فقد دُعى أخآب بنهدد أخاً (1 ملوك 20: 32). وكذلك أطلق على أي إنسان من الجنس البشري مراعاة لأخوة البشر (تكوين 9: 5). وكثيراً ما دُعي المسيحيون أخوة (متى 23: 8). وهنا تشير خاصة إلى القريب وخصوصا الى الأخ المسيحي (اعمال الرسل 1: 15)، وكانت هذه التسمية معروفة في الدين اليهودي للدلالة على أعضاء شعب الله.  أمَّا عبارة " فَاذهَبْ إِليهِ " فتشير الى الذهاب للمخطئ ولا ننتظر مجيئه. لماذا؟ يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم: "لأنه ليس بالأمر السهل أن يذهب من ارتكب الخطأ ليعتذر لأخيه او للجماعة، وذلك بسبب خجله وارتباك وجهه"، فعلينا ان نذهب الى اخينا المخطئ اقتداءً بالسيِّد المسيح نفسه الذي جاء إلينا من السماء ليعاتبنا بمحبة ولطف. أمَّا عبارة "َانفَرِدْ بِه" في الأصل اليوناني μεταξὺ σοῦ καὶ αὐτοῦ μόνου (معناها بينك وبينه وحدكما) فتشير الى البحث عنه لإصلاح خطأه مع حفظ صيته وشرفه؛ ويُعلق القديس اوغسطينوس "فإن أردت توبيخه أمام الجميع فأنت لا تكون مصلحًا لأمره بل فاشيًا للسر". وفي الواقع، الانفراد يُسهل اقناع الغير بالحق في حين المعاتبة علنا تؤدي الى الغيض من التوبيخ والخجل من الإقرار بالخطأ بل يجتهد المُخطئ عندئذ من تبرير نفسه وزيادة قساوة قلبه وعناده في الخطأ. أمَّا عبارة "وَبِّخْهُ" في الأصل اليوناني ἔλεγξον (معناه عاتبه) فتشير الى تفحُّص الامر وتُثبيته أمامه وإقناعه بلطف ومحبة وحكمة بدل شكوته الى الغير او الانتقام منه او الحقد عليه، بالتالي إبقاء العداوة في القلب. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول "أَيُّها الإِخوَة، إِن وَقعَ أَحَدٌ في فَخِّ الخَطيئَة، فأَصلِحوه أَنتُمُ الرُّوحِيِّينَ بِروحِ الوَداعة" (غلاطية 6: 1) وهذا هو عمل الروح القدس بحسب انجيل يوحنا "أَخْزى ἐλέγξει العالَمَ على الخَطيئِة" (يوحنا 16: 8)؛ أمَّا عبارة "رَبِحتَ" فلا يُراد به الربح للإيمان، ولا المحافظة على إنسان في عداد الأصدقاء، بل استبقاءه بين أعضاء الجماعة المسيحية التي أوشك ان يتركها او يهجرها او يُفصل عنها وبالتالي هلاك نفسه.  لأنك لو تركت المُخطئ بدون عتاب فربما يبقى في طريق شرِّه بلا توبة فيهلك في خطيئته ولكن بمعاتبتك إياه بمحبة يشعر بخطئه ويتوب " فاعلَموا أَنَّ مَن رَدَّ خاطِئًا عن طريقِ ضلالِه خَلَّصَ نَفْسَه مِنَ المَوت وسَتَرَ كَثيرًا مِنَ الخَطايا" (يعقوب 5: 20). إن الله يأمرنا بالسلام والوفاق والاتحاد في بيته. ولو جرى الناس على هذا القانون لنجوا من خصومات ونزاعات كثيرة.

 

16 وإِن لم يَسمَعْ لَكَ فخُذْ معَكَ رجُلاً أَو رَجُلَين، لِكَي يُحكَمَ في كُلِّ قضِيَّةٍ بِناءً على كَلامِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثة.

 

تشير عبارة " لم يَسمَعْ لَهما " الى الرفض والعناد وعدم تقبل النصح الأخوي؛ أمَّا عبارة " فخُذْ معَكَ رجُلاً أَو رَجُلَين " فتشير الى الوسيلة الثانية لإصلاح الغير وإزالة الشر. وهذ الخطوة لا تقوم على تأكيد خطأ الغير والشهادة ضدّه، وإنما على إقناعه بخطيئته وتنبيه ضميره وجعله يخجل من عناده بوجود شهود، ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم" ألا ترى كيف أنه يفعل هذا ليس من أجل العقوبة العادلة، وإنّما بقصد الإصلاح". أمَّا عبارة " رجُلاً أَو رَجُلَين " فتشير الى شاهدين يدلان على خطأ الخاطئ فيفهم ان شهادتهما صحيحة. لان إذا ثبت المُخطئ في عناده كان من اخذه معه شاهدا عليه عند رفع الدعوى الى الكنيسة وانه فعل كل ما امكنه لإزله الخصام على طريق السلام.  أمَّا عبارة " يُحكَمَ في كُلِّ قضِيَّةٍ بِناءً على كَلامِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثة " فتشير الى ما ورد في شريعة موسى " لا يَقومُ شاهِدٌ واحِدٌ على أَحَدٍ في أَيِّ إثْمٍ وأَيَّةِ خَطيئَةٍ يَرْتَكِبُها، ولكِن بِقَولِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثَةِ شُهودٍ تَقومُ القَضِيَّة" (تثنية الاشتراع 19: 15). فهذا المبدأ العادل والمعقول في الشريعة الموسوية، نقله السيد المسيح الى العهد الجديد، وأثبته لخير الجماعة المسيحية.

 

17 فإِن لم يَسمَعْ لَهما، فأَخبِرِ الكَنيسةَ بِأَمرِه. وإِن لم يَسمَعْ لِلكَنيسةِ أَيضاً، فَلْيَكُنْ عندَكَ كالوثَنِيِّ والجابي.

 

تشير عبارة "فأَخبِرِ الكَنيسةَ بِأَمرِه" الى الوسيلة الثالثة لإصلاح الغير وزاله الشر. والكنيسة تدل على سلطان المفاتيح الذي منحه بطرس (متى 16: 19)، لا كمن يشتكيه أمام المحكمة، وإنّما كمن يُخبر الكنيسة، لتهتم به وتعالجه بحكمة، ويُعلق القدّيس أوغسطينوس "أنّه يجب السهر على نظام الكنيسة" (الإيمان الأعمال، 3-5)؛ اما عبارة "الكنيسة" في الأصل اليوناني ἐκκλησία (معناها جماعة مختارة وبالعبرية הַקָּהָל) فتشير إمَّا الى هيئة الرسل، او التلاميذ الاولين حول يسوع، او جماعة متّى (متى 16: 19) وإمّا الى جماعة المؤمنين او كنيسة الأمم في اورشليم؛ أمَّا عبارة " لم يَسمَعْ لِلكَنيسةِ أَيضاً " فتشير الى "مرضه قد صار غير قابل للشفاء" كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم. أمَّا عبارة " فَلْيَكُنْ عندَكَ كالوثَنِيِّ والجابي" فتشير الى أولئك الذين لا يُقبلون في الكنيسة كشخص محتقر، بل مجرّد شخص هو في خارج عن الجماعة الكنسية.  والمطلوب تجنب مصاحبة المُخطئ العنيد لا معاداته او إضمار له السوء بل تركه كإنسان غريب، لكن لا يجوز بغضه كما جاء في تعليم بولس الرسول " إِذا كانَ أَحَدٌ لا يُطيعُ كَلامَنا في هذِه الرِّسالة فنَبِّهوا إِلَيه ولا تُخالِطوه لِيَخجَل، ولا تَعُدُّوه عَدُوًّا، بلِ انصَحوه نُصحَكم لأَخ"(2 تسالونيقي 3: 14-15).  الانسان المتصلب في عناد وخطئه يَحرم نفسه من العضويّة في جسد المسيح السري أي الكنيسة. وعندما يرفض الانسان الكنيسة، يصير من حق الكنيسة أن تربطه وعندئذٍ يُسلم امره الى رحمة الله.  وهكذا لا تعد الكنيسة مسؤولة عنه، وتهتم به. ان المخطئ العنيد يُقطع على الأقل مؤقتاً من الشركة المسيحية ويُصبح خارج الكنيسة فلا تعود للكنيسة من سلطة عليه. هذا هو اساس الحرم والسبب نجده في تعليق القديس كبريانوس " كيف يمكن أن يوجد اتِّفاق مع شخص لا يتّفق مع جسد الكنيسة نفسها والأخوة الجامعة؟".  امَّا عبارة " الوثَنِيِّ " فتشير منذ ترتليانس (حوالي 160 إلى 220 م) الى الذين ليسوا بمسيحيّين. وزاد أوغسطينوس: ليسوا مسيحيّين ولا يهودًا. أما في الأصل اليوناني واللاتيني فارتبطت اللفظة (في اللاتينيّة) بسكان الريف، لأنّ المسيحيّة انتشرت في البدء، شأنها شأن يهوديّة الشتات، في المدن، ساعة ظلت "القرى" أمينة للعبادة الوثنيّة. إنّ لفظة "وثنيّ" لا تقابل تمامًا لفظة "أممي" التي تعني في التقليد اليهوديّ "اللايهوديّ". أمّا العربية، فارتبط اللفظ بالأوثان. أمَّا عبارة "الجابي" فتشير الى العشار الذي هو يجمع العشر؛ والعشر هو حق المرور والضريبة على المنتوجات أو المستوردات، عُرف منذ الحقبة الفارسيّة (عزرا 4 :13-20). ولكن لم تنظّم الضرائب بشكل متكامل إلاّ في الحقبة الرومانيّة. كانت كل مقاطعة رومانيّة تكوّن منطقة جمركيّة تجمع المال لصندوق الدولة الرومانيّة وكان لليهود أيضًا مكتب لدفع الضرائب، (لوقا 19 :1، مرقس 2 :14). وبما أنّ نتاج الضرائب يجب أن يتعدّى ما تطلبه الدولة، وجب على العشّارين أن يكونوا قساة وظالمين، لهذا كانوا مبغوضين. ثمّ زاد البغض عليهم لأنّهم يتعاملون مع العدوّ (في زمن يسوع). ومن أجل هذا، فالعشّار هو خاطئ: جُعل مع الخطأة (متى 9 :10)، مع الوثنيّين (متى 18 :17)، مع الزناة (متى 21 :31). وهو أيضا من عملاء الاحتلال الروماني الجشعين المبتزّين المختلسين! اجتذب يوحنا المعمدان العشّارين (لوقا 3 :12) ثمّ اجتذبهم يسوع (لوقا 15 :1) الذي تحدّث عنهم تارة بشكل سلبيّ (متى 5 :46) وطورًا بشكل إيجابي (لوقا 18 :9-14). يذكر الإنجيل زكّا العشّار (لو 19 :2) الذي استقبل يسوع في بيته، ومتّى أو لاوي (مرقس 2 :14) الذي كان واحدًا من الرسل.

 

18 الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء

 

تشير عبارة "ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء" الى سلطة   موجّهة لكل الرسل، وهي السلطة التي اوليت قبلا الى سمعان بطرس " وسأُعطيكَ مَفاتيحَ مَلَكوتِ السَّمَوات. فما رَبَطتَهُ في الأَرضِ رُبِطَ في السَّمَوات. وما حَلَلتَه في الأَرضِ حُلَّ في السَّمَوات "(متى 16: 19).  ان المقصود هو سلطان غفران الخطيئة او رفضه كما جاء في تعليم يوحنا الرسول "مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم (يوحنا 20: 23)؛ وتلتزم الكنيسة أن تربطه ليس تشفيًا فيه، وإنما لحفظ بقيّة الأعضاء من فساده لئلا يتسرب إليهم. والجدير بالذكر ان السيِّد المسيح يتكلم عن الربط أولًا فالحَل، حتى يعطي للمربوطين رجاءً في الحَل، إذ يتحدّث السيِّد عن ربط الإنسان الرافض للكنيسة وحله متى رجع إليها بالتوبة. أمَّا عبارة " َ في السَّماء" فتشير الى منح الله الحل من السماء ليؤيِّد الرسل في نظر شعبه.  فرسالة الكنيسة ليست أن تراقب أخطاء أعضائها وتحسب عدد أخطائهم، بل هي أن نُظهِر لهم طريق الخلاص.

 

19 وأَقولُ لكم: إِذا اتَّفَقَ اثنانِ مِنكم في الأَرضِ على طَلَبِ أَيِّ حاجةٍ كانت، حَصلا علَيها مِن أَبي الَّذي في السَّمَوات.

 

تشير عبارة "إِذا اتَّفَقَ اثنانِ مِنكم في الأَرضِ على طَلَبِ أَيِّ حاجةٍ كانت" الى الصلاة الجماعية التي تتم داخل الكنيسة، وهي من وعود الانجيل العظيمة بخصوص الصلاة كما ورد في انجيل يوحنا "إِذا ثَبَتُّم فيَّ وثَبَتَ كَلامي فيكُم فَاسأَلوا ما شِئتُم يَكُنْ لَكم" (يوحنا 15: 7). وتشير العبارة أيضا الى كل عمل جماعي مثل الإصلاح الاخوي، إن الوعد قد أعطي، بنوع خاص لجماعة المؤمنين والمسيح في وسطهم وذلك من منطلق صلة هذه الآية (متى 18:19) بالآيات السابقة (متى 18:18 واللاحقة (متى 18: 20). ويُعلق القديس أمبروسيوس" إن كان الرب يقول إنه إذا اتّفق اثنان معًا على الأرض في أي شيء يطلبانه يُعطى لهما... فكم بالأحرى إن اجتمعت كل الجماعة معًا باسم الرب؟". أمَّا عبارة " طَلَبِ أَيِّ حاجةٍ كانت " فتشير الى الارشاد وسلطان الحكم لخير الكنيسة. فالوعد هنا يرتبط بشكل خاص بالرسل لأجل تنظيم الكنيسة في زمن تأسيسها.  وهذا الامر لا ينفي فاعلية صلاة الايمان انفرادية كانت ام جماعية.

 

20 فَحَيثُما اجتَمَعَ بِاسمِي، كُنتُ هُناكَ بَينَهم.

 

تشير عبارة "حَيثُما" الى اي مكان. هذا كلام عام قاله يسوع ليُثبت ما سبق من وعده الخاص للرسل. أمَّا عبارة "اجتَمَعَ" فتشير الى المجتمعين باسم يسوع وليس الى عددهم.  أمَّا عبارة "بِاسمِي" فتشير الى سلطان يسوع وامره ونيابة عن الآب، باسم الابن، أي مطالبين بسلطان السيد المسيح ومستخدميه.  وهذا الاجتماع مطلوب ان يكون للصلاة والتسبيح وتأمل الكتاب المقدس (يوحنا 14: 13)، وان يكون الاجتماع بالاتكال على استحقاق المسيح وآلامه وشفاعته. أمَّا عبارة "كُنتُ هُناكَ بَينَهم" فتشير الى وعد يسوع قبل صعوده الى السماء " كما فقال:" هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم " (متى 28: 20).  وهذا النص قوي وهو تكرار لعبارة معروفة في الدين اليهودي، وردت في اقوال أحد الربانيين" ان اجتمع شخصان وتلا اقوال الشريعة، كانت שכינה‎‎) (حضور الله المقدس) بينهما ".  هذه طريقة استعملها يسوع معلناً ان "الله حاضر بيننا". ان متى الإنجيلي يربط سلطان الحل والربط بحضور المسيح بين خاصته؛ إن الوعد قد اعطي بنوع خاص لجماعة المؤمنين والمسيح بينهم، وذلك لتأديب أخٍ مخطئ "فإِن لم يَسمَعْ لَهما، فأَخبِرِ الكَنيسةَ بِأَمرِه. وإِن لم يَسمَعْ لِلكَنيسةِ أَيضاً، فَلْيَكُنْ عندَكَ كالوثَنِيِّ والجابي" (متى 18: 17)، وان سلطتهم لعمل ذلك تكرَّرت "ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء "(متى 18: 18). وتستند هذه الجماعة في آخر الامر الى حضور المسيح في وسطهم.  من المرجح أن المراد بكلمة يسوع هذه لا يقتصر على الوعد بحضوره لكل صلاة تُقام باسمه وهذا أمر بديهي، بل هو تشجيع جميع محاولات النصح والمصالحة بين الاخوة في حضن الكنيسة وهما لا يتحقّقان إلا باسمه.  فوضع يسوع قوانين واولى سلطات لتقى هذه الجماعة المتماسكة إن عرّضتها الخطيئة للانقسامات او للدمار.

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 18: 15-20)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 18: 15-20)، نستنتج انه يتمحور حول الارشاد الاخوي في الكنيسة وأهميته في صلاة الجماعة.

 

1) الارشاد الاخوي (متى 18: 15-20)

 

في خطاب يسوع الرابع والأخير في إنجيل متى يوصي يسوع تلاميذه بعدم احتقار الخروف (الأخ) الضال بل يجب القيام بالإصلاح الأخوي (متى 18: 15-20) الذي هو من أهم قواعد الحياة المسيحية الأساسية. لان الكنيسة ليست مكوًنة من جماعة ابرار فقط بل من جماعة خاطئين ايضاً. والغاية من الإصلاح أن تعود بأخيك إلى الجماعة المجتمعة باسم المسيح لتصلي وإياه معاً. ومن هنا تأتي أهمية البحث في الارشاد الأخوي، وأهميته في صلاة الجماعة. ويقوم الارشاد الأخوي بحسب تعاليم المسيح في إنجيل متى على ثلاثة مراحل او خطوات:

 

المرحلة الأولى: الارشاد الفردي (متى 18: 15)

 

"إذا خطئ أخوك، فاذهب إليه وانفرد به ووبّخه. فإِذا سمع لك، فقد ربحت أخاك" (متى 18: 15). يطالب يسوع في هذه الآية إلى التكلم شخصياً مع الأخ المُخطئ وأُخباره عن فعلته السيئة وذلك لمساعدته على إدراك أفعاله وتصرفاته: لان بتصرفه الخاطئ، فهو لا يُسئ فقط إلى شخص واحد، بل إلى كل الجماعة التي ستتأثر بشهادته السيئة.  ويسوع يُبَرِّر ذلك كوننا "إخوة". نحن إذن أمام مسألة تخص وحدة الكنيسة وهويتها.

 

وانطلاقا مما سبق لا يطلب يسوع تشريح المُذنب، بل إصلاحَه، لا يطالب الفصل الفوري للخاطئ، بل يوصي بألا نتحوّل عن المُسيء الى بغض والأخذ بالثأر بذكر أخطائه في غيابه وتشهيره أمام الآخرين أو أن نذيع عنه الاشاعات، وهذا لا يعتبر إصلاحاً بل نميمة واغتيابا وكراهية؛  وهذه الأمور غير لائقة بتلاميذ المسيح، ويُعلق القديس أوغسطينوس " لكي نستطيع أن نتمِّم ما قد أُمرنا به يسوع اليوم يُلزمنا قبل كل شيء ان نبتعد عن الكراهية، لأنه عندما لا تكون هناك خشبة في عينك تقدر أن ترى حقًا ما بعين أخيك، كما جاء في تعاليم يسوع "كيفَ يُمكِنُكَ أَن تَقولَ لأَخيكَ: يا أَخي، دَعْني أُخرِجُ القَذى الَّذي في عَينِكَ، وأَنتَ لا تَرى الخَشَبَةَ الَّتي في عَينِكَ؟ أّيُّها المُرائي، أَخرِجِ الخَشَبَةَ مِن عَينِكَ أَوَّلاً، وعِندَئذٍ تُبصِرُ فتُخرِجُ القَذى الَّذي في عَينِ أَخيك" (لوقا 6: 42). من المهم قبل أن نُقّدم النصح والإصلاح للآخرين، لا بد للإنسان أن يفحص حياته ويرى فيها النواقص والزوائد ويبدأ بإصلاح نفسه. مَن هو منقسم على ذاته ويَملك قلبًا "مزدوجًا" لا يمكنه إلا أن يخلق انشقاقًا حوله. أما الذي قلبه موحّد فانه يزرع الوحدة.

 

النور الذي فيك لا يسمح لك بإهمال نور أخيك. أمّا إن حمَلتَ فيك كراهيّة، وتريد إصلاحه، فكيف تصلح نوره وأنت فاقد النور! إذ يقول الكتاب المقدّس: "كُلُّ مَن أَبغَضَ أَخاه فهو قاتِل" (1يوحنا 3: 15). كما يقول أيضا من "مَن يُبغِضُ أَخاه لم يَزَلْ في الظَّلام إِلى الآن" (1 يوحنا 2: 9). فالبغض إذن هو ظلمة، فمن يكره الآخرين إنّما يُضر نفسه أولًا، مفسدًا داخله". لقد أراد السيِّد أن يدخل بتلاميذه إلى حياة الارشاد، بعيدًا عن روح الانتقام، لان الانتقام ينزع عنا عطيّة الله العُظمى، والكراهيّة تحجبنا عن ملكوت السماوات. وفي الوقت نفسه يتوجب علينا ان لا نتهرب من مسؤوليتنا ونجيب الله بنفس جواب قايِن عندما سأله أين أخوك فأجاب "أَحارِسٌ لأَخي أَنا؟" (التكوين 4: 9). وكأنّ قايِن يقول: لم أختر لي أخًا بل أنت يأرب اخترته، فلمَ يُطلب إليّ أن أعتني به؟ ومن هنا جاء قول الفيلسوف الجاحد جان بول سارتر "الآخر هو الجحيم". أمّا في الكتاب القدس يّقدِّم الأخ كطريق إلى الذات، ورجاء السماء. جعلني الله رقيبًا لأخي، لكيما أحبّه وأصلحه وحين أجتمع بأخي يكون الله معنا فتصير الأرض سماء.

 

ومن هذا المنطلق، يسوع يطالب الأخ الذي لاحظ "خطيئة" أخٍ آخرٍ، ان يذهب إليه ويواجهه وجهاً لوجهٍ على انفراد ويعاتبه "لأن العِتاب صابونُ القلب". لان معاتبة الأخ خير من فقده. وجاء في الحديث الشريف "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا": عن كان ظالماَ فلينهه، وإن كان مظلوماً فلينصره. فمن الضروري ان يتوصل الاخ المُخطئ ان يعرف اخطاءه ويستوعب حقيقة الشر الذي يسكن فيه، وهذا الامر يُعد خطوة ضرورية للمصالحة وعودته للوحدة مع جماعته. لان الشر يبقى مستتراً، وعمل الروح القدس من خلال الأخ المؤمن يسعى ان يفضحه ويكشفه امام ضمير الأخ الخاطئ.  لذلك يقوم بنصحه بسرية وتكتم للحفاظ على سمعته وشرفه ليتيح له الفرصة لاستعادة العلاقة مع الجماعة.

 

والسرية هنا هامة لعودة الصفاء للمخطئ، أمَّا التشهير فيزيده عناداً. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لم يقل السيد: اذهب اتَّهمه أو انصحه أو أطلب منه تصفية الحساب معه، وإنما (عاتبه) مخبرًا إيّاه بخطئه، وما هذا إلا تذكيره بما أخطأ به". ويقول البابا فرنسيس في زيارته الى كولومبيا "إنّ المسامحة لا تُفرَض، بل يجب أن تولد من القلب". فكلمة "أخوك" هو الأخ القريب وخاصة الأخ المؤمن. وفعل "وبّخه" لا بمعنى أنه يودّ تأكيد خطأه، أو ينتظر أن يعتذر له، إنما يخاطبه لثقته بمحبته مُبيِّناً الأمر أمامه مع لومه لخطيئته لكي يعطي له الفرصة لمراجعة نفسه بلا عناد؛ وذلك ليحمله إلى التوبة للربّ لا للاعتذار ولكي يُنقذه من الخطأ ويربحه كعضوٍ معه في جسد المسيح السري. وفي هذا الصدد قال بولس الرسول " وهذا كُلُّه مِنَ اللهِ الَّذي صالَحَنا بِالمسيح وأَعْطانا خِدمَةَ المُصالَحَة، ذلك بِأَنَّ اللهَ كانَ في المَسيحِ مُصالِحًا لِلعالَم وغَيرَ مُحاسِبٍ لَهم على زَلاَّتِهم، ومُستَودِعًا إِيَّانا كَلِمَةَ المُصالَحَة" (2 قورنتس 5: 18-19).

 

أمَّا كلمة ربحت فلا يُراد به الربح للإيمان، ولا المحافظة عليه في عداد الأصدقاء، بل استبقاؤه بين أعضاء الجماعة المؤمنة التي أوشك أن يهجرها او يُفصل عنها. فكل اخٍ هو أخ لك في الجماعة المسيحية لا يقدّر ولا يعوّض، لذا لا يجوز فقدانه بكل سهولة وخفة فعودته الى الجماعة يحقق وعد المسيح القائم " فَحَيثُما اجتَمَعَ بِاسمِي، كُنتُ هُناكَ بَينَهم" (متى 18: 20).

 

المسيحيون بحكم انتمائهم إلى الرب، هم رقباء بعضهم على بعض للحفاظ على وحدة الجماعة. والرقيب هو من راقب الناس ليُصلح ما فسد. وكما أقام الله حزقيال النبي رقيباً لآل إسرائيل كذلك أقامنا يسوع رقباء كل واحد للآخر لكي ننذر عنُّه المنافق للتوبة عن طريقه لئلا يموت بإثمه. " فإِذا قُلتُ لِلشَرير: يا شِرير، إِنَّكَ تَموتُ مَوتًا، ولم تَتَكَلَّمْ أَنتَ مُنذِرًا الشِّرِّيرَ بِطَريقِه، فذلك الشَريرُ يَموتُ في إِثمِه، لكِنِّي مِن يَدِكَ أَطلُبُ دَمَه. أَمَّا إِذا أَنذَرتَ الشَريرَ بِطَريقِه لِيَرجِعَ عنه ولم يَرجِعْ عن طَريقِه، فهو يَموتُ في إِثمِه، لكِنَّكَ تَكونُ قد خلَصتَ نَفْسَكَ." (حزقيال 33: 8-9). وجاء في رسالة القديس يعقوب ما يؤكد ذلك: " يا إِخوَتي، إِن ضَلَّ بَعضُكم عنِ الحَقّ ورَدَّه أَحَدٌ إِليه، فاعلَموا أَنَّ مَن رَدَّ خاطِئًا عن طريقِ ضلالِه خَلَّصَ نَفْسَه مِنَ المَوت وسَتَرَ كَثيرًا مِنَ الخَطايا" (يعقوب 5: 19-20).  ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إنّ المسيح لم يقل إنك تنال انتقامًا كافيًا بل تربح أخاك، مظهرًا وجود خسارة مشتركة لك وله بسبب العداوة، إذ لم يقل "يربح نفسه" بل "تربح (أنت) نفسه" مظهِرًا أن الخسارة قد لحقت قبلًا بالاثنين، الواحد خسر أخاه والآخر خسر خلاصه" كما يقول حزقيال النبي: "إِذا أَنذَرتَ الشَريرَ بِطَريقِه لِيَرجِعَ عنه ولم يَرجِعْ عن طَريقِه، فهو يَموتُ في إِثمِه، لكِنَّكَ تَكونُ قد خلَصتَ نَفْسَكَ " (حزقيال 33: 9).

 

أمّا من كان عدائيًّا تجاه أخيه الّذي يعاني من صعوبات ما ونصب له فخًّا لضعفه مهما كان نوعه، فإنّه يُخضع نفسه لشريعة الشيطان حيث يعلق الراهب إسحَق النجمة قائلا : " لما لا أتحمّله بصبر، لما لا أعزّيه من كلّ قلبي حسب ما ورد في الكتاب " المحبة تَعذِرُ كُلَّ شيَء وتُصَدِّقُ كُلَّ شَيء وتَرْجو كُلَّ شيَء وتَتَحمَّلُ كُلَّ شيَء"؟ (قورنتس 1كور13: 7). في كلّ الأحوال، هذه هي شريعة الرّب يسوع المسيح. في آلامه "قَد حَمَلَ هو آلاَمَنا " وبرحمته "احتَمَلَ أَوجاعَنا" (أشعيا 53: 4). أحبّ الّذين حمل وحمل الّذين أحبّ" (العظة 31).

 

المرحلة الثانية: الارشاد مع شهود (متى 18: 16)

 

"وإِن لم يَسمَعْ لَكَ فخُذْ معَكَ رجُلاً أَو رَجُلَين، لِكَي يُحكَمَ في كُلِّ قضِيَّةٍ بِناءً على كَلامِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثة " (متى 18: 16). وإن لم يرتدع المخطئ ولم يسمع لك فخذ معك رجلاً أو رجلين من ذوي السمعة الطيبة والخبرة والحكمة في حل المشاكل لكي يُحكم في كل قضية بناءً على كلام شاهدين أو ثلاثة" (متى 18: 16). هذه العبارة مقتبسة من العهد القديم “لا يَقومُ شاهِدٌ واحِدٌ على أَحَدٍ في أَيِّ إثْمٍ وأَيَّةِ خَطيئَةٍ يَرْتَكِبُها، ولكِن بِقَولِ شاهِدَينِ أَو ثَلاثَةِ شُهودٍ تَقومُ القَضِيَّة" (تثنية الاشتراع 19: 15). فهذا المبدأ العادل نقله الرب إلى العهد الجديد وأثبته لخير الكنيسة. بعد المحاولة الأولى الفردية لإقناع الخاطئ لا بدّ من محاولة أخرى أمام شاهدين حيث يُدرك ان شهادتهما صحيحة.

 

وهذه الخطوة تُعلِّمنا ان لا نستسلم امام الفشل، ولا ان نلجأ الى الاجراءات التي تدين الخاطئ بقسوة قبل استخدام كافة الطرق الأخرى، بل علينا ان نحترس من الحكم على الشخص اعتباطًا وباطلاً وان نواصل عملية إنقاذ "الأخ" بمساعدة الآخرين للعودة الى شركة الجماعة. وقد سبق السيد المسيح وقال للمخطئ لا تقدم قربانك على المذبح قبل أن تصطلح مع أخيك " إِذا كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ إِلى المَذبَح وذكَرتَ هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً، فدَعْ قُربانَكَ هُناكَ عِندَ المَذبح، واذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك"(متى 23:5-24). إن هذه الآيات تبدو موجّهة الى تخفيف من حماسة بعض المسيحيين المُطالبين بالفصل الفوري للخاطئ وان نحترم إرادته عندما يصرّ على خطأه ونقوم نحن بالتواصل معه دون كلل ولا نتركه في الشر والفساد، بل ان نمضي في طلبه لكيلا يهلك بل نعيده الى شركة الجماعة كما أعاد يسوع الخروف الضال الى الحظيرة (متى 18: 12-14).

 

المرحلة الثالثة: الارشاد مع الكنيسة (متى 18: 17)

 

"فإن لم يسمع لهما، فأخبر الكنيسة بأمره. وإِن لم يسمع للكنيسة أيضاً، فليكن عندك كالوثنيّ والجابي" (متى 18: 17). الخطوة الثالثة هي لفت نظر الكنيسة في حالة رفضه الارشاد مع الشهود وترك الامر لحكم الجماعة أي الكنيسة لكي تَصفَح عنه وتُشَجِّعه" مَخافَةَ أَن يَغرَقَ في بَحْرٍ مِنَ الغَمّ" (2 قورنتس 2: 7). وتقوم الكنيسة بالإصلاح بناءً على السلطة المفوضة لها من قبل سيدنا يسوع المسيح "الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء)). (متى 18: 18) فليس للكنيسة هدفٌ إلا إحقاقِ الحق وانصافِ المظلوم ومُصالحةِ الناس. في هذه الحالة من المفروض أن يقبل الطرف المُخطئ بالحل ويتم الصلح.

 

وإذا رفض المخطئ ارشاد الكنيسة، عندئذٍ يتحملُ مسؤولية قراره، إذ يضع نفسه خارج الجماعة برفضه المتصلب. عندئذٍ تعتبره الكنيسة كالوثني والعشار، وهذا موقف قوي وقاسٍ جداً، إذ أن اليهود في عقلية ذلك الزمان كانوا يحتقرون الوثنيين لأنهم "يقتفون الباطل"(ارميا 2: 2-5) ولا يتفقون مع الايمان الذي ينتظره الله من ذويه (2 مكابين 6: 18) كما أنهم كانوا يحتقرون العشارين ووصفوهم بالقسوة والظلم فمنعهم الشعب من دخول هيكله او مجامعه ومن الاشتراك في الصلاة والحفلات (لوقا 3: 12). وهكذا كانت الكنيسة تمنع الخاطئ العنيد من شركتها والاشتراك في الأسرار. وامثلة لذلك موجودة في تعليم بولس الرسول "كَتَبتُ إِلَيكُم أَلاَّ تُخالِطوا مَن يُدْعى أَخًا وهو زانٍ أَو جَشِعٌ أَو عابِدُ أَوثان أَو شَتَّامٌ أَو سِكِّيرٌ أَو سَرَّاق. بل لا تُؤاكِلوا مِثْلَ هذا الرَّجُل " (1 قورنتس 5: 11). ولا يُمكن اعتباره "كالوثني والجابي" الاّ بعد تجربة كل الطرق لإرجاع الخاطئ. عندئذٍ يصبح خارج الكنيسة فلا يعود للكنيسة من سلطة عليه. هذا هو أساس الحرم التي تضرب بها الكنيسة خاصة الخيانة تجاه الله (تثنية الاشتراع 13: 13-18). ان الخاطئ العنيد يُفصل من الشركة المسيحية.

 

إن سلطان المفاتيح الذي منحه يسوع الى بطرس سلّمه أيضاً إلى هيئة الرسل والكنيسة. "الحقّ أقول لكم: ما ربطتم في الأرض رُبط في السماء، وما حللتم في الأرض حُلّ في السماء" (متى 18: 18) ؛ هذا الربط والحل يشيران إلى قرارات الكنيسة فيما يتعلق بالنزاع، فلا يوجد بعد الكنيسة، محكمة استئناف بين المؤمنين. ويجب أن تكون قراراتها بإرشاد الله ومبنية على التمييز حسب كلمته. ولذلك فإن هنالك مسؤولة ضخمة على المؤمنين أن يأتوا بمشاكلهم للكنيسة، وعلى الكنيسة أن تلجأ إلى إرشاد الله في حل المنازعات، فمعالجة المشاكل بحسب طريق الله، لها أثرها على الأرض وفي الأبدية.  الكنيسة هي مكان الرحمة المميّز. والمسيحيون يلزمون الله بالرحمة، لأنه التزم بها وربط عفوه بعفو الكنيسة.

 

لكنّنا نرى اليوم أناسًا لا يأخذون بعين الاعتبار سوى المبادئ القاسية، ويأمرون بقمع المشاغبين، "وبالتعامل مثل العشّار" مع ذاك الّذي يحتقر الكنيسة، وببتر العضو الذي يشكّل حجر عثرة من الجسد (18: 17). حماستهم المفرطة تربك الكنيسة، وعماهم يجعلهم أعداء وحدة الرّب يسوع المسيح. ويذكرنا القدّيس أوغسطينوس: “لنحذر من السماح لهذه الأفكار الى الدخول إلى قلبنا، ومن محاولة تشكيل قطيع من التلاميذ الأنقياء والقدّيسين. هذا سيؤدّي إلى وضع حدّ للوحدة بحجّة عدم معاشرة الأشرار. على العكس، فلنتذكّر أمثلة الكتاب المقدّس، وكلامه الموحى، وأمثاله الواضحة، حيث يظهر لنا أنّ الأشرار سيبقون دائمًا مختلطين مع الأخيار في الكنيسة، حتّى نهاية العالم ويوم الدينونة، بدون أن تكون مشاركتهم بالأسرار مسيئة للأخيار، طالما لم يشارك هؤلاء بخطاياهم" (الإيمان والأعمال، 3-5).

 

والمعلوم ان رسالة الكنيسة هي عمل كل شيء لكي تُعيد الخاطئ إلى الله. الكل يتذكر مَثَل الخروف الضال. يقول لنا الإنجيل بأن الراعي الصالح يعمل كل شيء للعثور عليه. إن رسالة الكنيسة هي الاشتراك بشكل فعال في عمل الله هذا. ولذلك عندما تفشل كل وسائل الكنيسة الإنسانية في تغيير تصرفات أخينا المسيء، تكِلُه إلى نعمة الله إلهنا الذي هو كله محبة ورحمة لهذا الأخ. " فالمَحبَّةُ لا تُنزِلُ بِالقَريبِ شرًّا، فالمَحبَّةُ إِذًا كَمالُ الشَّريعة" (رومة 13: 10). وفي هذا الصدد كتب اللاهوتي الكبير كارل راهنر " ألا نستطيع مرّة أن نقول لله: أنظر ذاك القريب، الذي لا أقدر أن أتفاهم معه، فهو منك ولك، أنت خلقته، وإن لم يكن كما تريد، تركته على حاله، فإن كنت تحتمله أنت يا إلهي، فأنا أيضا أريد أن أحمله وأحتمله، كما أنك تحملني وتحتملني".

 

2) أهمية الارشاد في صلاة الجماعة (متى 18: 19).

 

يهدف الارشاد الاخوي الى العودة الى الجماعة للاتفاق لصلاة الطلب والاجتماع بحضور المسيح في الوسط. وما الكنيسة إلا اجتماع إخوة في محبة والمسيح حاضر في وسطها، " إِذا اتَّفَقَ اثنانِ مِنكم في الأَرضِ على طَلَبِ أَيِّ حاجةٍ كانت، حَصلا علَيها مِن أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 18: 19). ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " حيث تكون المحبّة، فإنّ الله الابن يملك مع أبيه وروحه القدّوس. لقد قالها الربّ يسوع: "فَحَيثُما اجتَمَعَ اثنانِ أَو ثلاثةٌ بِاسمِي، كُنتُ هُناكَ بَينَهم" (متى 18: 20). محبّة أن نكون سويّة هو نمط صداقة قويّة وحقيقيّة" (العظة الثامنة عن الرسالة إلى أهل رومة). وفي الواقع، يشدِّد النص أولاً على الصلاة الجماعية التي تتم داخل الكنيسة، ووعد الرب بخصوص الصلاة.  ولقد اكدت الكنيسة في المجمع الفاتيكاني الثاني على أهمية المشاركة الجماعية في الصلاة.

 

أمَّا قول الربّ "طلب أي حاجة كانت" فلا يعني اتفاقاً على كلّ حاجة، أياً كانت، ولو غير نافعة بل أراد أن يعلّم أتباعه أن يطلبوا إلى الله كلّ ما يتّفقون عليه، أو "كلّ حاجة". وأتباع الربّ يعرفون أنّ ثمّة حاجات لا يوافق عليها أبوهم السماويّ، أو لا يراها ضروريّة لخلاص طالبيها. وهذا، بالتأكيد، يعني أنّ الله الآب يعطي أتباعه ما يتّفقون عليه، إن كان اتّفاقهم يحكمه رضاه وخلاصه. ورضا الله أن يخضع المؤمنون به لمشيئته (متّى 6: 10)، وأن يطلبوا "أولاً ملكوته وبرّه" (متى 6: 33). وهذا، يعني أنّ المؤمنين الحقيقيين لا يفرضون شيئاً مخالفاً لإرادة أبيهم السماويّ. ولا يتذمّرون إن طلبوا وحسبوا أنّ طلبهم لم يتحقّق لهم. ولا يشكّون. أمَّا الوعد فقد أعطي لجماعة المؤمنين والمسيح في وسطهم.

 

يكشف لنا يسوع هنا عن هويّة الكنيسة، ألا وهي حضور المسيح نفسه بين المجتمعين باسمه "فحيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، كنت هناك بينهم" (متى 18: 20)، عندما يجتمع اثنان من المؤمنين فهناك تكون الكنيسة، والكنيسة هي المسيح. إذا كان يسوع المسيح هو من يجمع ويوحّد المؤمنين به وبين بعضهم ويجعل منهم جسداً واحداً، أمَّا الذي رفض الكنيسة فانه يتعرض للفصل والحرمان من شركة الكنيسة.

 

فإنّ كلّ انقسام في جماعاتنا يُشوّه وجه الكنيسة. فالمسيح ليس منقسماً على ذاته. مسيحٌ منقسمٌ لا يتعرّف عليه أحد لأنّه مشوّه. ولكي نستحقّ حضور الرب بيننا علينا أن نكون متّحدين في إرادته. ونحن نعلم أنّه إذا عشنا "وصيّته" في المحبّة المتبادلة، يكون حضوره نوراً لمواجهة مشاكلنا والظروف الشخصيّة والاجتماعية، وقوةً لكي نسير قدماً في اختياراتنا الجريئة، فنكون خميرة للإنسانيّة جمعاء.

 

الخلاصة

 

المسيح يدعو إلى إصلاح الخاطئين وردّهم إلى جماعة الكنيسة. والإصلاح لا يخلو من التواضع. والتواضع هو الذي يرد الناس بلطف وأناة عن دروبهم الضالة وأخطائهم المألوفة وربحهم للمسيح. كلمات يسوع الاخيرة في هذا النص لا تقتصر على الوعد بحضوره لكل صلاة تقام باسمه، بل هو تشجيع لجميع محاولات الارشاد والمصالحة بين الأخوة في حضن الكنيسة التي تحقق باسمه. فالكنيسة تستمد قوتها من حضور المسيح في وسطها وهي تعمل باسمه القدوس

 

دعاء

 

أيّها الآب السماوي، يا من تستجيب طلب من يتّفقون في طلب أيّ شيء باسم ابنك الوحيد، أعطنا قلباً محبا وروحاً حكيما لكي نرشد من تاه عن الطريق المستقيم بشجاعة ومسؤوليّة فنساعده على اكتشاف اخطائه وإصلاح نقائصه فيعود الى شركة الاخوة والصلاة في الكنيسة فلا" يَهلِكَ واحِدٌ من هَؤلاءِ الصَّغار" بحسب مشيئتك أيها الاب السماوي. (متى 18: 14). آمين.