موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٦ مايو / أيار ٢٠٢٠

الأحد السّادس من الفصح

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأحد السّادس من الفصح-أ (إذا كُنتم تُحبّوني، حَفِظتُم وصاياي)

الأحد السّادس من الفصح-أ (إذا كُنتم تُحبّوني، حَفِظتُم وصاياي)

 

إذا كُنتم تُحبّوني، حَفِظتُم وصاياي

 

أيُّها الإخوةُ والأخوات الأحبّاء في المسيحِ يسوع. نحنُ اليوم في الأحدِ السّادِس من زمنِ الفصحِ المجيد. ولا نزالُ نقرأُ من الفصلِ الرّابع عشر من بشارة يوحنّا. وهو الفصلُ الّذي يقعُ مباشرة بعدَ حَدثِ غسلِ الأرجل وإنباءِ المسيح بخيانة يهوذا وإنكارِ بُطرس.

 

هذا الفصلُ والفصول الّتي تليه، تُعرف بخطابِ يسوع الوداعي لتلاميذه، قبل أن تأتي ساعتُه. وساعةُ يسوع كانت ساعةَ آلامِه وصلبِه وموته، الّتي توِّجَت بقيامته المجيدة وترائيه لتلاميذِه. وكأيِّ إنسانٍ يُودّعُ أَحبّتَه قبلَ الرّحيل، يوصي المسيحُ تلاميذَه بمجموعةٍ من الوصايا، ويَعِدهم بمجيءِ الرّوحِ المؤيّد، ويشجِّعُهم أيضًا، وفي الوقتِ عينِه، يُحذِّرُهم ويُنبِّهُهم لكي يكونوا يَقظينَ جاهزين، حذرينَ مُستعدّين، لِئلّا يَعثروا.

 

في إنجيلِ هذا الأحد الّذي يسبِقُ خميسَ الصّعود، يوصي الرّبُّ تلاميذَه بأعظمِ الوصايا وَأَكبرِها، ألا وهي وصيةُ المحبّة، خلاصةُ الشّريعةِ والأنبياء. تذكرونَ جميعًا لمّا أتى أحدُ الفرّيسيينَ ليسألَ يسوع، مُحرِجًا إيّاه، عن أكبرِ الوصايا، فأجابَه الرّب أَن أَحبِب الرّبَّ إلهكَ بِكُلِّ قلبِكَ، وكلِّ نفسِكَ، وكلِّ قُوَّتِكَ، وكلِّ ذِهنِكَ، وأن أحبِب قريبَكَ حُبَّكَ لنفسِكَ. (متّى 34:22-40). وهو ما وَردَ في سفرِ تثنية الاشتراع، في الفصلِ السّادس منه: "اِسمَع يا إسرائيل: إنَّ الرّبَّ إلهَنا هو ربٌّ واحِد. فأحبِب الرّب إلهَك بكُلِّ قلبِك، وكلِّ نفسِكَ وكلِّ قوَّتِك. ولتَكُن هذا الكلماتُ الّتي أنا آمُرُكَ بها في قلبِك. ورَدِّدها على بنيكَ وَكَلّمهُم بها" (تثنية 4:6-7).

 

وصيةُ المحبّة هي زُبدةُ الوصايا، هي لبُّ الحياةِ المسيحيةِ وجوهرُ التّعليم. لذلك قالَ القدّيس أوغسطينوس: (أحبِب واصنع ما تشاء). "فالمحبةُ تَصبِر، المَحبَّةُ تَخدُم، ولا تَحسُدُ ولا تَتَباهى ولا تَنتَفِخُ مِنَ الكِبْرِياء، ولا تَفعَلُ ما لَيسَ بِشَريف ولا تَسْعى إِلى مَنفَعَتِها، ولا تَحنَقُ ولا تُبالي بِالسُّوء، ولا تَفرَحُ بِالظُّلْم، بل تَفرَحُ بِالحَقّ. المَحبَّةُ لا تَسقُطُ أَبَدًا" (1قورنتوس 4:13-8).

 

ولِمتَذوّقي الطّرب الأصيل، تَذكرونَ أمّ كلثوم في أُغنيتها ألف ليلة وليلة، الّتي نَظَم كلماتِها مرسي جميل عزيز، تشدو بصوتِها العذبِ الجميل: (الحب نِعمَة مش خطيه. الله محبة... الخير محبة... النور محبة).

 

المحبة الحقيقية هي نعمةٌ صادرةٌ عن الله، لأنَّ الله محبّة. هو عينُها ومَعينُها، نَبعُها وينبوعُها، هو فَيضُها ومُفيضُها. اللهُ ليس فقط قدرة ومهابةٌ وجلالٌ وعزّة، بل هو بالأكثر محبّة. والمحبّة ليست صفةَ الضّعفاء أو الخانعين، هذه ليست محبّة إنّما خوف. ولماذا نخافُ وقد دعانا أحباءَ لا عبيد؟! (يوحنّا 15:15). "فلا خوفَ في المحبّة، بل المحبّةُ الكاملة تنفي عَنها الخوف" (1يوحنّا 18:4). المحبة الصّادِقة هي فضيلةُ الأقوياء، لأنّها تَصدرُ عن القوّة العُظمى في هذا الكون. اِسمعوا ما كتبَ يوحنّا في رسالته الأولى، الّتي أُشجِّعُكم وأحثُّكم على قرأتِها. يقول: "فليُحبَّ بعضُنا بعضًا، لأنَّ المحبّةَ من الله، وكلَّ محبٍّ مولودٌ لله وعارفٌ بالله. مَن لا يُحِب لَم يعرف الله، لأنَّ اللهَ محبّة" (1 يوحنّا 7:4).

 

والمحبةُ الّتي يقصدها يوحنّا، ليست هي الشّعارات والخُطب الصّفراء الّتي لا تنبعِثُ منها سوى رائحة النّفاقِ والكذب والمجاملات. ولا هي الدّعاياتُ الزّائفة والوعود الّتي لن ترى النّور، أو الرّغبة في الظّهور واكتساب شَعبوية الجموعِ وتأييديها، كما يحدث في الكثير من المناسبات الاجتماعية والمحلّية. ولا هي لغةُ المصالحِ والمنافع المتبادلة (حِك ليّ تا اَحِك الك). هذه ليست محبّة، هذه شبكة من العلاقات ليسَ أكثر، سُرعان ما تتمزّق وتنتهي بانتهاء المنفعة والغاية. المحبة الّتي يَنشُدها يوحنّا هي المحبة المجانية، الّتي لا تبحثُ عن خير صاحبِها بقدر ما تطلبُ وتبغي خير الآخرين. هي عطاءٌ دونَ انتظارِ مُقابل، ولو حتّى مديحٌ أو إطراء. لذلك محبّة الله لا تكتمل ولا تستقيمُ إلّا بمحبة الآخر، قريبًا كان أم غريبًا، صديقًا أم عدوًّا. محبةٌ فاعلة نَشِطة لا خاملة بليدة. محبّة إيجابية مُبادِرَة. محبّة شاهدة في المجتمع لا مُخزّنة في البيوتِ ومختبِأة تحت المكيال. محبة مُعطية للغير لا مُنتفِعة منهم. محبّة مجّانية مُضحيّة لا طُفيليّة مُتسلّقة.

 

يردِفُ يوحنّا قائِلًا: "مَن كانت له خيراتُ الدّنيا ورأى بأخيه حاجةً، فأغلقَ أحشاءَه دونَ أخيه، فكيفَ تُقيم فيه محبّةُ الله؟ يا بَنيَّ، لا تَكُن مَحبَّتُنا بالكلامِ أو باللِّسان بل بالعملِ والحق" (1 يوحنّا 17:3-18).

 

إذا كُنتم تُحبّوني حفظتم وصاياي. المحبةُ تَعني حفظًا للوصايا. وحفظُ الوصايا يعني عملًا بها. والحفظُ أوّلًا يعني معرفة، والمعرفة تعني عمل وتطبيق، وأيضًا تعني تعليم ونقل للآخرين. لذلك يقول الرّب في بشارة متّى: "وأمّا الّذي يعملُ بتلكَ الوصايا ويُعلِّمُها فذاكَ يُعدُّ كبيرًا في ملكوتِ السّموات" (متّى 15:5).  فإذا كُنّا نحنُ قَد عرفنا محبّةَ الله الّتي هي في المسيحِ يسوع، فلماذا لا نعيشُها ونُعلِّمُها وننقُلُها للآخرين؟!

 

حفظُ الوصايا وممارستُها هي الجزءُ الأصعب! فمن السّهل على الإنسان أن يعرف، معرفة عقلية أو معلومات عامّة أو ثقافة. ولكن نقل المعرفة إلى مرحلةِ التّطبيقِ والممارسة هو أصعب بكثير. فشتّان بين ما نقولُ وندّعي وبين ما نعيشُ ونمارِس. لذلك وبّخ الرّبُّ غير مرةٍ الكتبةَ والفرّيسيين على نفاقِهم وريائِهم، إذ كانوا يَحزِمونَ أحمالًا ثقيلة، ويُلقونَها على أكتافِ النّاس، وهم لا يحرّكونَها بطرفِ الإصبع (متّى 4:23). ولذلك قال يعقوب في رسالته: "أَرِني إيمانَك من غيرِ أعمال، أُرِكَ أنا إيماني بأعمالي" (يعقوب 18:2). وما ينطبِقُ على الإيمان ينطبِقُ على المحبّة أيضًا، فكلاهُما نِعمتان مُفاضتان صادرتان عن الله. محبّة دون أعمال تظلُّ محبّة عقيمة، جافّة، يابِسة، غير مثمرة، والغصنُ الّذي لا يثمر يُفصل ويُلقى في النّار (يوحنّا 2:15 + متّى 19:7).

 

جميعُنا بلا استثناء يعيشُ حالاتٍ من التّناقض، بين ماهيّة الوصايا وجوهرِها وبين ممارسة الوصايا وعيشِها. كلُّنا يلمسُ مواقِفَ من العجزِ أمامَ ما يطلبُه المسيحُ، وبينَ ما نحيا في واقعِنا اليومي. وهنا أذكر قصّة الشّاعر المتنبّي، الّذي قتله بيتٌ من الشّعر. فالمتنبّي كان كثيرَ الاعتداد بنفسِه، وقد بلغ منهُ الكبرياءُ والغرورُ منزلةً كبيرة، فنظم البيتَ الأكثر شهرة، قائِلًا: (الخيلُ والليل والبيداء تعرفني، والسّيفُ والرّمح والقرطاس والقلم). وذاتَ يومٍ وهو عائد من سفر، لَقيَهُ عددٌ من أعدائِه الّذين أرادوا قتله، فأراد الهربَ بجلدِه. فقالَ لهُ غلامُه: كيف تهربُ وأنت القائِل: الخيلُ والليل والبيداء تعرفني، والسّيفُ والرّمح والقرطاسُ والقلم. فقالَ له المتنبّي: قتلتَني قتلَك الله. فعاد وقاتل حتّى قُتِل.

 

في الادّعاء قد نكون أشدّ زهوًا وفخرًا من المتنبّي نفسه. ولكن ساعةَ الاختبار والتّمحيص، تنكشف الخبايا ويُبان جوهرُ الأقوالِ وصحَّةُ الادّعاءاتِ ومدى صدقِها. قد نكون كبطرس متحمّسين مُدّعين، ما دُمنا في دائرة الرّاحة ومنطقة الأمان، ولكن عندما نعبرُ إلى دائرة الخوف والاختبار، تتغيّر كثيرٌ من الأمور وتنقلِبُ كثيرٌ من الموازين.

 

إذا كُنتم تُحبّوني، حفظتم وصاياي! وصايا كثيرة لا بدَّ أن نقفَ عندها بصدق ونُفكّر مَليًّا، لنرى مدى التّطابق والانسجام بينَ ما يوصينا بهِ المسيح وبين ما نحيا حقًّا. قد نُفاجئ بأنَّ هناك بونًا واسًعا ومسافةً كبيرة تفصِلُنا عن محبة الله الحقيقية. لذلك لنسأل الرّوحَ القدس، لِيؤيّدنا حتى نعيش وصايا الرّب، ولِيُزَنِّرَنا بالحق، هو روح الحقّ الّذي يُرشِدُنا إلى الحقِّ كلِّه (يوحنّا 13:16).