موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٣ مايو / أيار ٢٠٢٠

الأحد الرابع من الفصح - أ

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
فالرّاعي الصّالح يبذِلُ نفسَه في سبيلِ الخراف، فقد أتى لتكون لنا الحياةُ، وفينا تفيض

فالرّاعي الصّالح يبذِلُ نفسَه في سبيلِ الخراف، فقد أتى لتكون لنا الحياةُ، وفينا تفيض

 

فقد أتيتُ لتكونَ الحياةُ للنّاس، وتفيضَ فيهم...

 

أيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاءُ جميعًا في المسيح يسوع. عليكم سلامُ الرّب القائم من بين الأموات. صفاتُ يسوع في الإنجيل كثيرة، وجميعُها تُفضي إلى نتيجة واحدة هي خلاصُ الإنسان. فيسوعُ هو الماءُ الحي، مَن يشرَب من هذا الماء لا يعطشُ أبدًا، بل يتفجّرُ فيه حياةً أبدية (يوحنا 10:4-14). وهو خبز الحياة، مَن يأكل من هذا الخبزِ يَحيَ للأبد (يوحنّا 51:6). وهو أيضًا نورُ العالم، فَمن يتبعني لا يمشي في الظّلام، بل يكون له نور الحياة (يوحنا 12:8). وهو القيامةُ والحياة، مَن آمن بي، وإن مات، فسيحيا (يوحنا 25:10). وهو الطّريقُ والحقُّ والحياة، لا يمضي أحدٌ إلى الآب إلّا بي (يوحنّا 6:14). وهو الكرمةُ الحق ونحن الأغصان، فَمن ثبتَ فيَّ وثبتُّ فيه، فذاكَ الّذي يُثمِرُ ثمرًا كثيرًا (يوحنا 5:15).

 

أمّا اليوم، فيسوعُ هو الرّاعي الصّالح. وهي واحدةٌ من أجملِ صفات الله في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. اللهُ راعينا، يقودنا، يُرشِدُنا، يحفظُنا، يحمينا، يُربِضُنا مراعٍ خصبة، ومياه الرّاحةِ يُورِدُنا. اللهُ يرعاني، وهو وحدَه يكفيني، فلا شيءَ يُعوزُني. فمَن مَلَكَ الله، فقد مَلَكَ كلَّ شيء.

 

في العهد القديم نُعاينَ صورةَ الله الرّاعي في أكثرِ من موقع. ففي سفر الخروج كان اللهُ يرعى شعبَه منذ خروجه من أرضِ مِصر حتّى بلوغهم أرضَ الموعِد، إذ يقودُهم في الّليل بعامود نار وفي النّهار بعامود غمام، ويُغذّيهم ويسقيهم ويُحامي عنهم. وفي سفر حزقيال النّبي، في الفصل الرابع والثّلاثين، نرى غيرةَ الله على خرافه الّتي صارت نهبًا، لأنَّ الرّعاة أساؤوا رعاية القطيع. فها هو الرّبُّ يطلبُ الخراف من يدِ الرّعاةِ الخوَنة، ويُنقِذُها من أيديِهم ويفتقِدُها.

 

ولا نستطيعُ أن نَنسى أنّ كبارَ الأنبياء والملوكِ في العهد القديم كانوا رُعاةً. فموسى كانَ يرعى غنم حَميه يَترو عندما دعاهُ الرّب من وسط العُليّقة المشتعلة ليُخلِّص شعبَه إسرائيل من مذلّة مصر (خروج 1:3-12). وداوود الملك، الّذي مِن نَسلِه وُلِدَ المسيح، كان يرعى الغنم عندما مسحه صموئيلُ مِن بين إخوتِه (1صموئيل 1:16-13).

 

أمّا في العهدِ الجديد، فالُبشرى الأولى الّتي زفّتها ملائكةُ العُلى بميلادِ المخلّص مسيح الرّب، كانت لمجموعة من الرّعاة يتناوبون السّهرَ على رعيتّهم (لوقا 8:2-20). وها هو يسوعُ القائمُ من بين الأموات، يتراءى لتلاميذه ويُسلّم بطرس مَهمّةَ رعاية الخراف (يوحنا 15:21-17). فِمن خلال كلِّ هذهِ النّصوص والأحداث، نستطيعُ أن نرى الأهمّيةَ الكُبرى لصفةِ الرّعي والرّعاية ولدورِ الرّاعي.

 

وبالإضافة إلى هذهِ الصّفة المركزية، يسوعُ أيضًا هو الباب. هو بابُ الحظيرة، الّذي منه تدخل الخراف وتجدُ خلاصًا، وتخرجُ وتجِدُ مَرعى. يسوعُ هو البابُ المؤدّي إلى الحياةِ وهو نَفسُه الحياة، فقد أتى لتكونَ الحياةُ للنّاسِ، وتفيضَ فيهم. ولكنَّ هذا الباب هو بابٌ ضيّق، والدّخولُ منه صعب، والطّريقُ المؤدية إلى الحياةِ طريقٌ حَرِجَة (متّى 13:7-14). لذلِك كثيرون فَشِلوا في اتّباعِ يسوع وانقطعوا عن السيرِ معَه، لماذا؟ لأنّ كلامَه كانَ عسيرًا، من يُطيق سماعَه (يوحنّا 60:6) ولكن، وبالرّغم من الصّعوبة والضّيق والحَرج في ومِن اتّباع يسوع، لسانُ حالِنا كبطرسَ يقول: "إلى مَن نذهب يا رب وكلامُ الحياةِ الأبدية عندكَ، ونحنُ آمنّا وعَرفنا أنّكَ قُدّوس الله؟ (يوحنّا 68:6-69).

 

يسوعُ يا أحبّة، ليسَ أيَّ راعٍ، بَل هو الرّاعي الصّالح الأمين لرعيّته وعلى رعيّته. يدعو خرافَه كلّ باسمه! والخراف تتبعُه لأنّها تعرفُ صاحبَ الصّوت، ولأنّها تستأنِسُ بصوتِه وتطمئنُّ وترتاحُ إلى صوتِ المسيحِ راعيها، الّذي يبثُّ بصوتِه السّكينةَ والسّلامَ في نفوسِها، فلو سِرتُ في وادي الظّلُماتِ لا أخافُ سوءًا لأنّك معي. كَم جميلةٌ هي هذه الصّورة الّتي تُعبّر عن عمقِ العلاقة ومتانتِها ودفئِها، تلكَ العلاقة الّتي تربطُ المسيح بالخراف. يعرفُ كلًّ باسمه! أن تُنادي شخصًا باسمه، يعني أنّك تُعطيه قيمة، تُوليه أهمّية، فهو معروفٌ لديك، وليس نكرةً أو مجرّد رقم في دفتر حساباتك ومصالِحك. يسوعُ راعينا، يُنادي كلَّ واحد منّا باسمه، لأنّك صاحبُ قيمة كُبرى، ولأنّ لك أهميّة عُظمى عندَ الله. إنجيلُ اليوم مليءٌ بالمعاني والصّور الرّائعة، الّتي تُبرِز جمالَ العلاقة الّتي تربط المسيح بخرافه، بأتباعه. فنحنُ شعبُ مرعاه وغنمُ يديه (مزمور 7:94).

 

صفةُ المسيحِ الرّاعي، هي أجملُ وأكملُ صفة أعطاها المسيحُ لنفسِه. هو لم يصف ذاتَه بالقائد أو بالحاكم أو بالإمبراطور أو بالقيصر أو بالزّعيم أو بالوالي أو بالرّفيق، بل قال ببساطة: "أنا الرّاعي الصّالح". وفي الرّاعي تكتمِلُ صفةُ القيادة فالرّاعي يسيرُ أمامَ القطيع، ويهديه إلى سُبُل الرّشادِ، ويقودُه إلى مراعي الخيرِ والصّلاح. وفي الرّاعي تكتمِلُ صفةُ العدالة، فهل سِمعنا يومًا أنّ راعٍ عاقبَ خاروفًا وحَرَمَه حصّتَه من الطّعام، بل يُطعِمُ الخراف جميعًا دونَ أن يسمحَ بأن تبات واحدة منها جائِعة. وفي الرّاعي تكتمِلُ صفةُ الحُكم، فالرّاعي يسودُ الرّعية ويسوسُ شؤونَها، سيادةً في الّلطفِ والّلين، في المحبّةِ والسّلامِ. لا في الطُّغيان والقسوة، ولا في التّرهيبِ والتّهويل، ولا في البطشِ والتّنكيل، ولا بالفسادِ والنّهب. كما يحدثُ في كثير من البُلدان، حيثُ الرّعية تئنُّ من قسوةِ الحُكّام وظُلمِهم، وكما يجري في العديدِ من الأصقاعِ حيثُ الرّعية تتلوّى وتُعاني من فسادِ السّاسةِ وجورِ القادة، فهؤلاءِ في النّعيم مُترفون، ورعاياهُم في الجحيمِ مُعذَّبون.

 

المسيحُ يا أحبّة راعٍ لا يُماثِلُه أحدٌ في الرّعاية، وسيّدٌ لا يُشابِهُه أحدٌ في السّيادة، وقائِدٌ لا يُحاكيه أحدٌ في القيادة. هو فريدٌ وحيدٌ بلا مثيلٍ ودونَ نظير. فإن كانَ المبدأُ السّائِد هو أن يموتَ الكُلُّ في سبيلِ أن يحيا الفرد، فالمسيحُ الفردُ مات في سبيلِ أن يحيا الكُل. فالرّاعي الصّالح يبذِلُ نفسَه في سبيلِ الخراف، فقد أتى لتكون لنا الحياةُ، وفينا تفيض.