موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٧ مارس / آذار ٢٠٢٠

الأحد الرابع من الصوم

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
عمى النظر هو ليس بشيء أمام عمى الخطيئة

عمى النظر هو ليس بشيء أمام عمى الخطيئة

 

قصة الأعمى: يسوع هو نور العالم

(الإنجيل يو 9: 1، 6-9، 13-17، 34-38)

 

من بين الـ42 أعجوبة التي صنعها يسوع بحياته والمذكورة كلها في الإنجيل تحتلّ أعجوبة ترجيع البصر لإنسان وُلِد أعمى مكانا وقيمة كبيرة، إذ كما قال السّامعون عنها: لم يُسمع حتى الآن أنّ أحدا فتح عيني مولود أعمى(يو 9: 32). إن كانت الظلمة الكالحة سببا للخوف، حتّى للذين لهم عيون، فكم بالحري للعميان، الذين لا علم لهم بالمخاطر أمامهم. النظر هو هام حتى لا نقول من أهم الحواس الخمس. وكم علينا أن نكون شكورين لله بأن لنا بصرا يُجَنِّبنا كلِّ المخاطر؟

 

إنجيل اليوم يصف لنا مقابلة أعمى مع يسوع، جاء إلى العالم فاقد البصرمن بطن أمّه، يتهادر مع نصيبه القاسي كلَّ حياتِه. كلُّ حياته ظلام، وليس هذا فقط، بل لقد كان عاجزا عن مجابهة استهزاء المجتمع حواليه، بشيء لا علاقة له فيه، بل لنقل لا ناقة ولا جمل له، كما يقول المثل العربي، إذ كانت الفكرة السائدة: أنّ الإنسان المصاب بمرض أو علّةٍ أو ضعف، هو قصاص له بسبب خطيئة إمّا شخصية أو عائلية: " من خطئ، هو أم أهله؟ سأله التّلاميذ. ماذا كان هؤلاء سيقولون لو زاروا المصحات والمستشفيات اليوم  ورأوا فيها آلاف آلاف المرضى والمعوقين؟ نعم، لقد كان المرض معتبرا عاراً عليه وعلى أهله. أمّا تفكيرُ يسوع فهو غير تفكيرهم: لا هو ولا أهله، لكن لكي تظهر أعمال الله فيه. ثمّ تفل على الأرض ومسح به جفنيه فشفى وصار يرى وآمن. فلا ننسى أنّ يسوع أتى ليشفي الخطأة والمرضى ويبشرهم بالخلاص: إني لهذا أتيت. ليس الأصحاءُ هم الّذين يحتاجون إلى طبيب. ولكي يتعرّف عليه الناس سيتميّز زمانه بصنع العجائب: إذهبوا واخبروا يوحنا بما شاهدتم. العميان يبصرون والصمُّ يسمعون والعرجُ يمشون.... والأناجيل تقول إن المقصود من عجائب يسوع، كان الوصول إلى الإيمان، وهذي هي أكبر أعجوبة. ومن خلالها يؤكِّد فيها يسوع أنه هو نور العالم، الذي تنبأ عنه أنبياء كثيرون، والذي سيُزيل الظلام المخيّم فيه. وهذا ما ألمح به وعليه في الكثير من خطاباته.

 

كثيراً ما نسمع من المصابين بالعمى، أنه أصعب عليهم من فقدان السمع، وذلك لأن الأعمى محروم من رؤية ما يدور حوله من إحتفالات شعبية بل والإشتراك فيها. قليلون هم العميان الذين فقط بشجاعتهم وكفاحهم، يصلون إلى مستوى حياة جميلة وهم قابلون بنصيبهم الثقيل. وهنا أريد أن أذكر على سبيل المثال، مغني ألأوبرا الإيطالي اندريا بوشلّي، الذي قَبِلَ نصيبه بشجاعة خارقة، وقد حباه الله بمؤهلاتٍ أخرى، اسستغلّها لملء حياته، خاصة وأنه حباه بصوت رخيم وحبٍّ فائق للموسيقى، فصار معروفا في جميع أنحاء العالم والعالم يقدِّره ، وعلى حق إذ هو يستأهل التقدير.

 

نعم الأعمى محروم من التمتّع بالجمال، جمال الوجوه وجمال الطبيعة وورودها في الربيع، التي قال عنها يسوع: "ولا سليمان في كلِّ مجده، كان يلبس كواحدة منها" (متى 6: 29). وهذا هو الفرق بين المؤمن وغير المؤمن. الغير مؤمن كأنه جالس في نفق مظلم بينما المؤمن فجالس في النور. إيمانه كأنه شمعدان الهيكل اليهودي بالسبع ذرعان، كالشمعة الفصحية لنا المسيحيين، هو علامة التمييز بين الهيكل وأي بناءٍ آخر، وهما دائما مضيآن قدام الهيكل فيراه الجميع حتى من بعيد. " أنا نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة"(يو 8: 12). سألوه: من هو إبن الإنسان؟ فقال لهم يسوع: النور معكم زمانا قليلا، فسيروا ما دام لكم النور لئلا يُدرككم الظّلام. والذي يسير في الظّلام لا يعلم إلى أين يذهب. ما دام لكم النّور آمنوا بالنّور لتصيروا أبناء النور"(يو 12 35-36). فإن أضاء فينا وفي حياتنا ضؤ المسيح، فنستطيع أن نصير نحن أيضا، نورا للجالسين في الظلام. إنّ الإيمان هو نور، يضيء طريقنا واتجاهنا، إذ من تبعني فلا يرى الظلام.

 

أكثر وأسطع الأنوار هي في جميع مطارات العالم، وذلك كي يرى الطيّارون شارع هبوط الطيارة الأكيد. ألا يجب علينا، نحن المسيحيين، أن نكون النور القوي، للذين هم جالسون في الظلمة؟

 

في طريقنا إلى عيد الميلاد كما وإلى عيد الفصح، يلعب الضؤ دوراً كبيراً، ويريد أن يذكِّرنا بيسوع الذي قال عن نفسه: أنا نور العالم. في المجيء نُشعِلُ كل أحد شمعة إضافية، من الشمعات الأربع على تاج أغصانٍ خضراء أمام الهيكل، ليزداد النّور في العتمة التي يعيشها عالمنا في فصل الخريف والشتاء. أما الشمعة الخامسة فيرمز لها ميلاد يسوع في عالمنا، حيث ينتشر ضوءه في كل بقعة.

 

أما في الصوم فاليوم، الأحد الرّابع، فنحن بانتظار حفلة إضاءة الشمعة الفصحية، التي هي مكان المسيح، الذي قال عن نفسه: أنا نور العالم. واليوم، الأحد الرابع، يطغي الحديث عن النور، ومنذ عصور تُسمعنا الكنيسة هذا النص من إنجيل يوحنا، الذي فيه الحديث عن النور، وكانت في القرون الوسطى تقرأه أمام التّائبين والصائمين والذين كانوا يتحضرون  لمنحهم المعمودية يوم سبت النور، وتسليمهم النور الذي سيضيء حياتهم ليلة قيامة يسوع من عتمة القبر.

 

فإنجيل اليوم هو الإحتفال المُسبق بقيامة يسوع، ليلة السبت المُسمّى بسبت النّور، حيث تشير الكنيسة إلى يسوع، ليس كإنسان وإنّما كنور. وتحتفل بطقس خاص بإشعال نور الشمعة الفصحية بطريقة مُهيبة مُعبِّرة، خاصة عندما يضيء جميع الحضور شمعة تلو الأخرى من هذه الشمعة، فينتشر ضوءُها ويطرد الظلام المخيّم في كل كنيسة! به تشهد الكنيسة أنه يمكن إضاءة العالم بنور غير النّور المعهود.

 

إن محتوى إنجيل اليوم والجدالات التي دارت بين يسوع والفريسيين، كانت قد وصلت أوجها، وكانوا ييفتشون عن سبب ليتخلّصوا منه، إذ كثيرون منهم كانوا فقدوا سيطرتهم على الشعب، وما رأوا في أعجوبة اليوم إلا مخالفته لوصية السبت. هذا الرجل ليس من الله، لأنه لا يحفظ شريعة السبت. فهذي مخالفة حسب الشريعة تستأهل الموت. أما في جوابه فما أراد يسوع تبرير نفسه بل أفهمهم أن السبت للإنسان، وليس الإنسان للسبت، وهذا تتميم لإرادة الله. فيسوع ما خالف الشريعة بل كمّلها. وإننا لنقدر أن نقول، إنَّ يسوع بتصرّفه هذا، قد وضع أساسا لكل الخدمات الإجتماعية الضرورية، التي نعيشها اليوم، مع فايروس الكورونا، التي تحبس أنفاس العالم،وخدمة المرضى والمعوقين والمعرَّضين لخطر، أو في أيِّ خطر بعد حادث سير والفياضانات ونشوب النيران في المصانع والمتاجر. فهنا لا مجال بعد لقانون عدم النجدة يوم الأحد والعيد. فماذا ستكون النتيجة دون حضور الشرطة والدفاع المدني والمتطوعين؟ أما قال لنا بولس في رسالة اليوم: سيروا سيرة أبناء النور.

 

أعجوبة فتح بصر الأعمى اليوم تُبرهِنُ لنا، كم هو صعب على العالم، أن يقبل بنور الله الفعّال في هذا العالم: "منذ الدّهر لم يُسمَع أنَّ أحداً فتحَ عيني مولود أعمى"(يو 9: 31). فباعتقادهم، بما أنه لم يحدث مِثل هذا حتّى اليوم، فمن المستحيل أن يحدث ذلك أيضا في المستقبل. وهذا يؤكّد لنا أنَّ التربية الدّينية هي من أصعب المهن، خاصة وأنها يجب أنْ تبدأ من أوَّلِها مع كل مؤمنٍ جديد.، إذ الإيمان يفتح العيون على شيْ غير موجود في هذا العالم. هو يتكلّم عن عالم يختلف عن العالم البشري، وبالتالي يجب ربطه مع هذا العالم البشري. كفي مثل اليوم: أعمى منذ مولده يرى فجأة العالم بعيون جديدة.

 

لقد وصل طب العيون إلى درجة تجعل القبول بالعجائب الدينية صعباً. فكم وكم نسمع من الذين أُجريت لهم عمليات: إني قبل العملية ما كنت أشاهد شيئا والآن أقدر القراءة والكتابة ومشاهدة التلفاز وقيادة السيارة. لكن لا ننسى أن للطبِّ حدوده، فهو لا يستطيع منافسة الدين إلى ما لا نهاية. إذ في أعجوبة اليوم لا يكتفي النص، من وصف الحدث بل يغوص فيه إلى حدِّ أنّ العلم يقف عاجزا عن خلق ما هو ممكن، مثلما كان يسوع يعمل، فهو ردَّ البصر لمن وُلِد أعمى، فهذا لا يقدره الطب. وهذا يعني تدخُّلُ قِوىً لا تقع في نطاقه، وهذا ما يجعله( أي الإيمان) مختلفا عن العلم. فالعلم محدود في إمكانيّاته بينما الإيمانُ فلا.

 

الإنجيل يلمّح أيضا أن هناك مرضا آخر فينا، ألا وهو عمى الخطيئة. فعمى النظر هو ليس بشيء أمام عمى الخطيئة. ومن هذا العمى جاء المسيح ليشفينا. وعمى المسكين اليوم لا يُقارن بعمى الفريسيين، الذين لهم عيونون، لكنهم لا يرون المخلص بينهم، بل لا يريدون أن يقبلوا بيسوع النبي وصانع العجائب، الذي شفى الأعمى، بل يقولون عنه، إنه خاطئ، لأنه خالف الشريعة وشفى الأعمى يوم السبت، لذا فهم يقولون: هذا الرّجل ليس من الله، لأنّه لا يحفظ شريعة السبت. هؤلاء هم العميان الحقيقيون، لأنهم يرفضون أن يروا في يسوع وفيما يفعله، نور الله بينهم. من هذا الظلام نطلب من الله أن ينجينا. يسوع سأل الأعمى حين صرخ إليه: ماذا تريد؟ فقال: أن أرى! يا رب! إجعلنا نرى الحقَّ والحقيقةَ في حياتنا. آمين