موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٣ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٠

الأحد الذي بعد عيد الظهور الإلهي

بقلم :
الأب بطرس جنحو - الأردن

فصل شريف من بشارة القديس متى (متى 4: 12–17) في ذلك الزمان لَّما سمع يسوع انَّ يوحنا قد أُسلمَ انصرفَ الى الجليل * وترك الناصرةَ وجاء فسكن في كـفَّرناحوم التي على شاطىء البحر في تخوم زَبولونَ ونفتاليمَ * ليتمَّ ما قيل باشِعياء النبي القائل: ارض زبولون وارض نفتاليم طريقُ البحر عَبرَ الأُردنِ جليل الأُمم * الشعب الجالس في الظلمة أَبصر نورًا عظيمًا والجالسون في بقعةِ الموتِ وظلالهِ أشرق عليهم نورٌ * ومنذئـِذٍ ابتدأَ يسوعُ يكرز ويقول توبوا فقدِ اقتربَ ملكوتُ السماوات. بسم الأب والأبن والروح القدس الإله الواحد أمين. أيها الأحباء : نحن اليومَ في الأحدِ بعد عيدِ الظهور الإلهيّ (المعروف لدى العامة بعيدِ الغطاس). في هذا الأحدِ يُحدّثنا الإنجيلُ عما هو مهمٌّ لمثل هذا اليوم الذي به تتشكل إنطلاقةُ يسوع المسيح إلى البشارة. عَلِمَ يسوع بأنّ يوحنا قد أُسلِم وأنّه قد حُكِم عليه. كان في الناصرة فتركها وذهب إلى الجليل إلى مدينة كفرناحوم، تلك المدينة التي هي قريبةٌ من الأمم أي غير اليهود، وبذات الوقت هي مدينةٌ يهوديةٌ أي أن البشارة فيها مناسبةٌ للإنطلاقة التي يريدها يسوع وخاصةً أن الناصرة التي كان فيها غير مهيءٍ شعبها لمكوث يسوع عندهم لأنهم كانوا غير مبالين. يسوع في انطلاقته هذه يصفه الإنجيل من خلال نبوءاتٍ ذكرها الوحي الإلهيّ في العهد القديم بأنّه سيكون النور في الظلام. النور الذي نعرفه قبل بشارةِ يسوع المسيح هو شخص يوحنا المعمدان، والذي بالقداس الإلهيّ نرمز له في الدورةِ الصغيرةِ بالشمعةِ التي تسبق يسوع المسيح. بهذا النور يُضاءُ طريقُ يسوع المسيح من خلال شخصِ يوحنا المعمدان. هذا النور الذي يسبق هو نورٌ خافتٌ مهمٌّ، ولكنه ليس بنورٍ قوي. ولما ذهب هذا النور المهيّء لقدوم النور الكبير، (النور الحقيقي الذي ينير العالم) والذي عنه أطلق يسوع على نفسه بأنّه هو "نور العالم"، يأتي هذا النور ليكون هدايةً لبدايةٍ جديدة. الظلام يكتنف الإنسانَ الضعيف الإيمانِ وخاصةً غير المؤمن، هذا يحيا في جهلٍ وعدم معرفةٍ، لذا يسميه الإنجيلُ بأنّه إنسان الظلام. إنسانُ الظلامِ لا يرى أموراً كثيرةً من حقائق الحياةِ، ربما يرى الأشياء المادية، ربما نرى حاجاتنا، ولكن لا نرى معرفة سُبلِ حياتنا التي مطلوبٌ أن نحياها. بيسوع المسيح تُستضاء الإمكانيةُ التي من خلالها إن أراد الإنسان أن يصيرَ مستنيراً فبإمكانه لأنّ النورَ أتى إليه والإنسان - أي نحن - علينا أن نقتبسَ من هذا النور حاجتنا لكي بها نستطيع أن نفهم معنى الحياة التي أعطانا إياها يسوع المسيح. توبوا لأنّه قد اقترب ملكوت السموات. أوّل عظة قالها السيّد للشعب، من بعد معموديّته، كانت "توبوا لأنّه قد اقترب ملكوت السموات" (متّى 17:4)، فهو يدعوهم إلى التّوبة لأنّها أمر أساسيّ في حياتنا. يقول إشعياء النبي: "الشعب السالك في الظلمة قد أبصر نوراً عظيماً"، فهل من ارتباط بين التوبة والنور؟ طبعاً، ?نّ النور الحقيقي هو الذي يأتي من المسيح الذي لا نعرفه من دون توبة. فالتوبة، كما يحدّدها الآباء القدّيسون، هي "تغيير الذهن أو العقل". التوبة ليست الندامة وحسب بل هي تغيير الذهن وطريقة التفكير، التوقّف عن التفكير بالخطيئة والبدء بالتفكير بالأمور الصالحة. فهكذا يكون تحويل الذهن عن التفكير بالشرّ للتفكير بالأعمال الصالحة، هذا هو الشكل الحقيقيّ للتوبة. إذاً، التوبة ليست حالة نفسيّة أو عصبيّة، ليست أن يتوتّر ا?نسان ويصرخ "قد تُبتُ، قد تُبتُ"، بل هي بناء الذات، أي أن يعود الانسان لذاته ويبنيها بناءً صالحاً، لا أن يبكي ويُعوِل أو أن يعاتب نفسه. هي تغيير الذهن لإصلاح الحياة، لإصلاح الذات والتحوّل إلى إنسان جديد. من ناحيةٍ ثانية، إذا بقي الإنسان في ظلمتهِ ولم يرد أن يستفيدَ من نورِ المسيح الذي أتى إلينا فإنّ هذا الإنسان لا يعُودُ يرى إلا ذاته. الإنسان في الظلمة يشعر أنّه موجودٌ ولا يرى الآخرين، هكذا أيضاً إنسان الظلام في ضعف الإيمان يُهمل البشر الذين حوله، لا يهتمّ بأن هنالك أناساً آخرون يحيون حياةً عليه أن يتطلع إليها، فيتجنبهم ويهملهم ولا يهتمّ بهم ولا يهمه إلاّ نفسه وكأن الإنسان الآخر بنظر هؤلاء الذين هم بعيدون عن يسوع المسيح، عن هذا النور، يصيرون يشعرون بأن الآخرين هم أناسٌ يضايقونه في حياته، وكأنهم جحيم حياته هذا يدل على أنانية الإنسان، هذا يبعدنا عن اكتساب المحبّة التي أودعها المسيحُ فينا لكي نرى بعضنا البعض بمحبةٍ حقيقيةٍ، أن نرى بعضنا البعض من خلال يسوع المسيح، ولكن عندما لا نهتم بيسوع في حياتنا فإننا نهمل الآخرين في علاقاتنا بهم. هذا الأمر هو الذي ينبه الإنسان ليعرف فيما إذا كان مهتمّاً بالمسيح أم لا! إذا كان مهتمّاً بالإنسان الآخر فهذا يعني أن المسيح يضيء قلبه وفكره وعقله وكل كيانه. بهذه الصورة علينا أن نتحرك أن ننظر إلى دنيانا أن ننظر إلى بعضنا البعض. وحينها نستبدل التركيز على الذات بمحاسبة الذات، وأيضاً: بدلاً من إهمال الآخر، محبة الآخر. السُبل التي علينا أن نرتكز عليها في جعل النور الإلهيّ، نور المسيح فينا، هي عديدةٌ أهمها الكتاب المقدس، شخص يسوع المسيح ليبقَ في فكرنا، وأيضاً سير الآباء القديسين والاقتياد بما عاشوه وبما علمونا إياه، ولكن فوق هذه الأمور كلّها على الإنسان أن يهتمّ بالآية التي أطلقها يسوع في بَدْءِ بشارته والتي بها ختمنا قراءة إنجيل اليوم "توبوا فقد أقترب ملكوت السماوات". تلك التوبة أي الابتعاد عن الخطيئة هي الأساسُ الجوهريّ في تركيز حياتنا على ألا يكون هنالك أمورٌ يجب ألا نفكر بها، ألا نتصرف بمنوالها ألا نتعامل ببعضنا البعض من خلالها، كلّ هذه الخطايا التي نحياها كلّنا في كلِّ يوم. فالأسرة أحياناً تهمل بعض واجباتها، وكذلك الأصدقاء، المعارف. التائب هو الذي لا ينظر إلى الوراء بل إلى فوق، إلى الله المحبِّ البشر. التوبة هي عودة إلى النور، هي عبور من الظلمة إلى النور. إذا كان ا?نسان غارقاً في الظلمة سيحتاج إلى نور كي يفضح نفسه ويكشفها فيراها على حقيقتها، يرى أهواءها، ويرى خطاياها. لكن على أيّ نور نتكلم؟ على نور المسيح، الذي أخذه الجميع يوم المعمودية، لكن أما يزال مشتعلاً فينا؟ أما زال ينير الظلمة التي دخلنا فيها بسبب خطايانا؟ كلّ إنسان معمَّدٍ لديه نورُ المسيح وخصوصاً مَن يشترك بجسد المسيح ودمه، أمّا الذي لا يشترك بهما فلا يغذّي هذا النور بل يدعه ينطفئ. الإنسان التائب هو الذي يهيّئ نفسه لاتّقاد النور في داخله. هذه التوبة هي التي تحررنا من الظلمةِ، تحررنا من عدم رؤيتنا لشخص يسوع المسيح فتعيدنا إليه، أيضاً تحررنا من عدم رؤيتنا للنور فنبقى في الظلام. لذا فإنّ بدايةَ البشارة هي منطلقٌ علينا أن نتمسك به في كلِّ حياتنا وفي كلِّ يوم ألا وهو التوبة التي تجعلنا من المسيح قريبين جداً. ونعمته فلتصحبكم الآن ودائماً. آمين.