موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢ ابريل / نيسان ٢٠٢٠

الأحد الخامس من الصوم

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
أما قلتُ لكِ إنَّ أخاكِ سيقوم؟

أما قلتُ لكِ إنَّ أخاكِ سيقوم؟

 

أما قلتُ لكِ إنَّ أخاكِ سيقوم؟

(يو 11: 3-7+17+20-27+33-45)

 

كان يسوع في رحلته الآخيرة قد وصل أريحا في طريقه إلى أورشليم، حيث سيُسْلَم إلى أيدي البشر ويصلبونه، عندما وصله خبرُ مرض صديقه أليعازر: "يا سيّد! هوذا الّذي تحبُّه مريض"(يو 11: 3). خبر طارئ إذن، لا يحتمل التأخير، لكن يسوع كأنه لم يسمع بل لم يُحرّك ساكنا وبقي يومين أخرين في أريحا، فما السبب؟ سنعرف السبب فيما بعد، فيبدو أنه كان يترصّد حدثا آخر، وهو التعرّف على زكّأ العشار(لو 19: 1-9)، الّذي كان يشتاق ولو لرؤية يسوع ، لذا راح واختبأ على شجرة على الطريق التي سيمر تحتها موكب يسوع. وهكذا كان. فنزل زكا وتعرّف على يسوع حيث عزم يسوع نفسه عنده على تناول الطّعام ، لذا لم يستجب يسوع لطلب المرسلين من قبَل مرثا ومريم، وفي أثناء هذا الوقت مات صديقه أليعازر. ألا يستحق الملامة؟ إذ لنتصور أن عائلة تُخبر طبيبا أنّ عندها حالة طوارئ، من الحالات التي نعرفها اليوم، لكن الطبيب المدعوّ، ولسبب آخر خاص، لنقل مثلا يريد أولاً مشاهدة فيلم طويلٍ إلى النهاية، لا يُسرع للنجدة، ألا يُلام على ذلك؟. كم من مرّةٍ سمعنا في حياتنا: لو أتى الطبيب بسرعة لكان مريضنا ما مات. أَمَا هذا أيضا هواحتجاج مرثا على يسوع: يا سيّد لو كنت هنا لما مات أخي(يو 11: 21). هكذا افتكرت مريم ومرثا، وهكذا يفتكر كلُّ واحدٍ منّا، عندما يقع في مصيبة. وماذا نقول عن حالات العالم الحالية المحرجة مع فايروس الكوورونا ومصائبه حولنا اليوم، كم وكم من طبيب لا يحقق طلب النجدة مهما كانت حرجة,

 

يسوع كان يعرف ما في باله وما سيصنعه، لذا راح يعزي الأختين، بخبر غير واضح لهن، فكما نفهم من النص، أنّه كان ممكنا شفاء أليعازر، لو لقى مساعدة عاجلة، لكنّ يسوع ، الذي في باله أن يُساعد، تركه أوّلا يموت. هو جاء ليجلب الناس إلى الإيمان، وهذه مناسبة كبيرة، حتى لا نقول نادرة. ليكسب فيها ثقة الكثيرين، فيؤمنوا به وبأبيه.  فهو أوّلا وقبل أن يلجأ إلى دوس شوكة الموت بقيامته هو، يُظهر سلطته على الموت أيضا على الآخريين. كما ونكتشف أنه كان له أيضا قلبا بشريّا، يحزن مع الحزانى ويفرح مع الفريحين. فها هو حين يقترب من القبر "تدمع عيناه". وهذه هي أقصر آيةٍ في الكتاب المقدس، قديمه وجديده، ولكنها أكثر جملةٍ مُحمّلة، ليس فقط بالعطف والحنان، بل وبالألم والحزن الثقيل "ودمع يسوع"، كان مُقابلها في العهد القديم، عند سماع خبر كهذا، تمزيق الثوب أمام نعش المائت، شعورا بفقدان صديق عزيز، وموآساةً للمحزونين حوله. فالحزن على مائت هو علامة إنسانية معروفة في العالم القديم والجديد، وهو علامة مؤآساة وتقدير لفقدان عزيز أحدث فراغا كبيرا بين أهله وأقربائهِ ، بل هو شعور عميق مع العائلة بهذه الخسارة التي فرّقت القلوب، عبّر عنها صاحب المزامير بالصلاة: من الأعماق صرخت إليك يا رب! الشعور مع المنكوبين يقرّب القلوب ويقوّي الإيمان والأمل بحياة بعد الموت: أما قلت لكِ سيقوم أخوك؟ فأنا القيامة والحياة. من آمن بي وإن مات فسيحيا.

 

والآن حانت ساعة يسوع، كي يُظهر للعالم من هو على حقيقته. الأناجيل تحكي لنا قصصا عن المسمّى يسوع ابنَ الله ومرادُها أن تعرِّفنا عليه. فهي تُريه على وجهيه: كيف إنه كإنسان عائش بين البشر وكيف إنه في الوقت ذاته قريب من الله أبيه، يُتمّم إرادته ويعلن عنها في كل مناسبة. ومن الأناجيل نقدر أن نتّبِع مسير حياته بالتفصيل، خاصة حقبة حياته العلنية، التي ابتدأت بالمعمودية وحتى صلبه وموته وقيامته، والتي نُسمِّيها بشرى الخلاص.

 

فإن آمَنّا بذلك، نستطيع أن نُدركَ ما كان يكنُّه لنا حينما جاء إلى عالمنا، وبشّرنا به، فهي حقائق غير الحقائق التي بشّر بها مؤسِّسو الديانات الأخرى، بل بدّل فحوى حياتِنا وتاريخِنا. والأَهم من كلِّ ذلك فقد برهن لنا أنَّ النصر بالتالي هو ليس للشرّ ولا لسيِّدَه إبليس، وليس للألم والموت، حتّى وإن لعبت كلُّها دورا كبيرا في حياتنا، بل له هو، سيد الحياة والموت: "أنا القيامة والحياة، من آمن بي فلن يموت إلى الأبد. الموت ليس فناء بل، شبّهه مرارا بالنّوم، ومن نام سيفيق في الصباح الباكر. ولنقل مسبقا للموت منفذ وهو القيامة. فهو يسوع الذي طمأننا وأكّد لنا تلك الحقيقة.

 

فكل ما عمل في حياته، كان تمجيدا لأبيه، حتى قيامة الأموات، ومثلما سمعنا اليوم قيامة أليعازر. فها هو أمام القبر يرفع يديه وعينيه إلى أبيه ويقول: "شكراً لكَ يا أبتِ، على أنك استجبت لي، وقد علمتُ أنّك تستجيب لي دائماً أبداً"..

 

هذه الأعجوبة هي الرّقم 42 التي صنعها يسوع والمذكورة في الأناجيل، وقد يكون صنع أكثر، لكن هذه هي الآخيرة، التي برهن فيها أنّه المُرسلُ من الله. "إني قلت هذا من أجل الجمع المُحيط بي، لكي يؤمنوا أنّك أنت أرسلتني". هذه الأعجوبة ترينا أنّ له السلطة على الحياة والموت. نعم حتى الموت، بالنسبة لقوته الإلهية،  هو شبه نوم "أليعازر صديقنا قد نام، لكنني أذهب لأُوقظه"(يو 11: 11). وهذا أيضا ما قاله عن ابنة القائد يائير. كلُّ الذين كانوا حولها قالوا عنها: إنها ماتت! وأمّا يسوع فقال: إنها نائمة(مر 5: 9). ومن في نوم، يُمكِنُه أن يَقوم. فها هو ينادي أليعازر، وكأنّه يسمعه: يا أليعازر! لك أقول قم! فقام.

 

إنَّ عجائب قيامة الموتى (اليوم أليعازر، وقبلها طاليتا ثمَّ الشاب الوحيد لأمِّه) هي من العجائب المؤثّرة لنا نحن الناضجون. فبينما نحن، ومن كانوا حوله، نزداد إيمانا بقدرة الله لصنعه مثل هذه العجائب بيننا، كان حقدُ الفريسيين يزداد عليه. لأنّ كثيرين من أتباعهم راحوا يؤمنون به ويتبعونه، فصار خطراً عليهم، وكما نقرأ كان النزاع بين يسوع والفريسيين في تلك الفترة قد وصل أوْجَه، لذا فهم بعد هذه الأعجوبة، قد قرّروا قتله "إذ من الأفضل أن يموت رجل واحد عن الشعب من أن تهلك الأمة كلُّها" قال رئيسهم قيافا. نعم هو الذي انتصر على الموت سيسلمونه للموت، ليستريجوا منه، كما افتكروا. لكنهم لم يفهموا أنه قَبِلَ الموت ليُظْهِرَ سلطته عليه: أين شوكتك أيها الموت؟. قيامته هي رمز لقيامتنا، وانتصاره رمز لانتصارنا معه. :أنا القيامة والحياة". فأقوال يسوع دائمة مؤبّدة وهي ليست لجيل اندثر، بل هي حية وفاعلة لكل جيل. لا نقدر أن نتصور بداية حياتنا أو نهايتها دون أن يكون لله فيها يدا. إذ منه حياتنا ومنه قيامتنا: منه أتينا وإليه نعود. فعبثا أن نعتقد أن الكلمة الآخيرة هي للموت. لا بل إنَّ الكلمة الآخيرة هي لله، الذي سيقيمنا، لنكون معه وبجواره. كلّنا سنسمع أمره لأليعازر: يا فلان... قم وانهض!

 

أثناء حياته كان يسوع يريد أن يعرف من الشعب أوّلا وبالأخص مِنَ الرّسل. من هو. واليوم هو نفسه يعطينا الجواب، إذ يقول: أنا القيامة والحياة، وبالتالي طوبى لمن لا يشكُّ فيَّ.(متى 11: 5).

 

كلّما حصلت أمامهم أعجوبة، كلما ازداد عدد الذين المُعجبين به وانضمّ إليه فريق منهم كانوا يكتشفون أنّ يسوع نعم يقدرُ أن يشفيهم: إيمانك أبرأك، قم واذهب بسلام. وبعدها كان كثيرون أيضا يُعلنون إيمانهم بأنه المسيح ابنُ الله الحي.

 

الإيمان اليوم مشكلة، فما عاد فعّالا لا في حياة الأفراد ولا في حياة المجتمع. فهذا الإيمان ليس فقط مريضا، مثلما وصل الخبر ليسوع عن أليعازر في أريحا، بل وأكثر من ذلك هو مدفون في القبر مع أليعازر، ويجب أن يناديه الله فينا مثلما نادى أليعازر وأقامه. العالم بدون الإيمان هو جسد ميّت، ينقصه النفس: من لا يثبت في لا يأتي بثمر(يو 15). ولكن إن ثبتنا فيه سنعيش بالرّخاء, لا تهتموا لما تأكلون أو تشربون أو تلبسون فإن الله يعتني بكم، لأنكم أفضل من الطيور. اهتموا أوّلا بملكوت الله وبرِّه والباقي يُزاد لكم (متى 6: 25-33)..

 

أحد الصيام هذا يريد أن يذكرنا بأنَّ الله هو ربُّ الأحياء لا الأموات. فمن يؤمن بابنه يسوع، والذي هو القيامة والحياة، سيحيا، حتّى وإن مات. هذا هو سرّ الإيمان الذي نعترف به في كل يوم في ذبيحة القداس، عندما نصلّي: إننا نُخبر بموتك ونعترف بقيامتك، إلى أن تأتي يا رب. إن آمنّا ذلك فبوسعنا أن نُقابل الموت وجها لوجه، إذ في الموت نحصل على الحياة بيسوع المخلّص. آمين