موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
فصل شريف من بشارة القديس متَّى (متى 14: 14– 22) في ذلك الزمان أبصر يسوع جمعًا كثيرًا فتحنَّن عليهم وأَبرأَ مرضاهم * ولَّما كان المساء دنا اليهِ تلاميذُهُ وقالوا انَّ المكانَ قُفْرٌ والساعةُ قد فاتَتَ فاصْرِفِ الجموعَ ليذهبوا الى القرى ويبتاعوا لهم طعامًا * فقال لهم يسوع لا حاجةً لهم الى الذهابِ أعطوهُم انتم ليأكلوا * فقالوا لهُ ما عندنا ههنا الاَّ خمسةُ أرغفةٍ وسمكتانِ * فقال لهم هلمَّ بها اليَّ الى ههنا * وامر بجلوسِ الجموع على العشب. ثمَّ اخذ الخمسَةَ الأَرْغِفَةِ والسمكتـَيْنِ ونظر الى السماء وبارك وكسر واعطى الأَرْغِفَةِ لتلاميذهِ والتلاميذُ للجموع * فاُكلوا جميعُهم وشبعوا ورفعوا ما فَضُلَ من الكِسَرِ اثنَتي عَشْرَةَ قُفَّة مملوءةً * وكان الآكِـلونَ خمسَةَ آلافِ رجلٍ سوى النساء والصِبيان * وللوقتِ اضْطَرَّ يسوعُ تلاميذهُ ان يدخلوا السفيَنةَ ويسبقِوهُ الى العَبْرِ حتى يصرِفَ الجموع. بسم الأب والأبن والروح القدس الإله الواحد أمين. يأتي هذا النّصُّ مباشرةً بعدَ حادثةِ استِشهادِ يوحنّا المعمدان. تلاميذ المعمدان "رَفَعوا الجَسَدَ ودَفَنوهُ ثمَّ أتَوا وأخبروا يسوع"، حسبَ رواية متّى. مِن هُنا نَفهمُ أنَّ تلاميذ المعمدان كانوا يشعُرونَ بالأُلفةِ تِجاهَ يسوع، ولذلك تَرَكوا في ما بعد كُلَّ شيءٍ وتَبِعوه. فلمّا سمعَ يسوعُ خَبَرَ موتِ يوحنّا، رَغِبَ في العزلةِ، فانصرفَ في سفينةٍ إلى موضعٍ خَلاء. ولكنّ الجُموعَ "تَبِعوهُ مُشاةً منَ المُدُن". واللافِتُ هُنا أنَّ النّاسَ ازدادوا تَعَلُّقًا بيسوعَ بعدَ موتِ يوحنّا، وأنَّ رغبتَهُم الكبيرة في اتِّباعِ يسوع جعلَتْهم يتجاوزون الخوفَ الّذي اعتراهم إثرَ موتِ يوحنّا. أمّا يسوع فقد كافأهُمْ بأنَّه "تحنَّنَ عليهم وشفى مرضاهم". أمّا التّلاميذ، فرُغم قِيام الرّبِّ بِعجائبِ الشِّفاء الكثيرة في تلك السّاعة، ورغمَ مُعايَنَتِهم قُدرَتَهُ، لم يخطُرْ بِبالِهم أَنَّ عندهُ حَلاًّ لِمُشكلَةٍ أبسطَ بكثيرٍ من شفاء المرضى، ألا وهيَ إطعامُ النّاس. لذلك طلبوا إليه أن يصرِفَ الجُموع. أمّا هو فعَلّمَهُم أن يَتَعَهَّدُوا جُوعَ النّاسِ، ويَعْمَلُوا ما بوسعِهم لِحَلِّ مُشكلاتهم المادّيّة. يضعنا الإنجيل أمام لوحة تعكس واقعًا نعيشه، إذ عندنا أناسٌ في عَوز، وآخرون يتردّدون في مساعدتهم، أو يرفضون المساعدة. لنتأمّل القفر والجدب من حولنا. الكلّ لاهٍ: إمّا بتحزّبات أو خلافات شخصيّة (على إرث أو مصلحة ما أو...)، سواءٌ من أبناء الكنيسة،كما يصوّرهم الرسول بولس في رسالة اليوم، أم من أبناء هذا الوطن، عمومًا، الذي أصبح بمثابة مزارع لا أحد يلتفت فيها إلى الآخر. ماذا يريد الإنجيل، أي الربّ يسوع، أن يقول لنا اليوم؟ يريد أن يقول إنّ الحياة فعل نقوم به ونعيشه، وليست كلاماً نعظ الناس به. لقد أُتخم الناسُ بالكلام والوعظ، إنّهم يريدون فعلاً، يريدون حياةً. لنتأمّل موقف التلاميذ، وهم متأثّرون بمعلّمي الشريعة الفرّيسيّين، فلم يربطوا الكلمة بالحياة، لا بل لم تكن هي الحياة. إنّها ايديولوجيا، لذلك ينظر البعض إلى المسيحيّة على أنّها فكر وفلسفة لا حياة. لكن يسوع يذكّرهم، وهو القائل: "طوبى لمن يعمل ويعلّم"، وأيضاً:"ما فعلتم بإخوتي هؤلاء الصغار (الفقير والغريب والأرملة واليتيم) فبي فعلتم". عليك أن تُطعم، أن تساعد، فالإيمانُ مختبرُه الحياة، أي الفعل. فإن لم يكن إيمانك مقرونًا بعمل فهو ميت، كما يقول القدّيس يعقوب الرسول. وفيما نحن مقبلون اليوم إلى صوم عيد رقاد السيّدة المبارك ، عليك أن تصوم عمّا عندك للآخرين (أش 58: 1-14). الموضوع ليس كَمًّا، إنّما إحساسٌ وشعورٌ، أي ألاَّ تحجب حاجة عن الآخرين، وألاّ تغرّبهم عن حياتك، فتصبح المسيحيّة عندك كلام إيديولوجيّة فلسفة،لا تجسّدًا وعطاءً ومحبّة: "كيف لا أتألّم مع المتألّم وأحزن مع الحزين وأفرح مع الفرح". إنّ الله يبارك بالعطاء وبالمعطي المتهلّل، فلا نخافنّ الجوع، فالمجرّب يجرّبنا به، ويصوّر لنا أنّنا إذا ساعدنا ولم نحتفظ بأكثر من حاجتنا فسوف نموت جوعاً. الطبّ أكّد أنّ كثرة الطعام تؤدّي إلى الموت، لاقِلَّتُه. إذًا لا نتلهينَّ بالكلام، إنّما بالعمل الذي به نعبِّر عن محبّتنا للإخوة.فصوم السيّدة العذراء يذكّرنا بالسيّدة التي تربّت في الهيكل، لا بل أصبحت هيكلاً عندما حفظت ذاتها من الخطيئة، والكلام اليوم عن الخطيئة أصبح غريباً. الربّ يسوع يقول إنّما أجسادكم هي هياكل للروح القدس.إذاً، فلنحافظ على هذا الهيكل بالتطهّر بقوّة الصلاة والعيش بالنعمة. لنتعلّم اليوم من كلام يسوع أن نفكّر في العطاء لا بالجوع، والله يبارك المعطي المتهلّل. ألا زادكم الله على عطائكم نعمةً فوق نعمة، وخيرًا فوق خير؟ لقد رَفَعَ يسوعُ نظرَهُ إلى السَّماء قبل هذه الأُعجوبة، لكي يُظهِرَ أنَّهُ مُرسَلٌ من الآب. وَرُبَّ سائِلٍ: "أَلا يَتَناقَضُ هذا مَعَ كَونِ يسُوعَ مُساوِيًا لِلآب؟" فيُجيبُ الذّهَبِيُّ الفم: "كان يُتَمِّمُ المعجزاتِ تارةً بسلطانِه وطَورًا باستدعاءِ أبيه. وحتّى لا يُعطى الانطباعُ أنّ الأمرين يتنافَيان، كان عند تتميمه للعجائب الصّغيرة يرفع نظره إلى السّماء، وعند تتميمه العجائب الكبيرة يفعلها بملءِ سلطانه. هو يتطلَّعُ إلى السّماء فقط ليُكَرِّمَ أباهُ الّذي وَلَدَه. إنجيل اليوم يُرينا أنّ الذي اعتمدنا باسمه هو الذي تحنّن أوّلاً على الجمع وأبرأ مرضاهم، ثمّ أشبعهم من الخبز والسمك. إنّه المُهتمّ بأمر الإنسان، كلّ إنسان، الذي لا يترك أحداً خارج عنايته واهتمامه. الذي اعتمدنا باسمه هو من إذا أراد شيئاً حقّقه، وإذا رأى حاجة عند أحد أتمّها له. هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ عالم اليوم هو عالم يخلق حاجات، عالم استهلاك. لذا، فليس كلّ حاجة هي حاجة بنظر الله. الله لا يدع حاجة حقّة بنظره بدون إجابة من قبله. لا وجود لفرحٍ واقعي ولا سلام خارج المسيح. لا راحة إلا بتوطيد العلاقة مع الرّب، أي أن تتعرف على حلاوته على الراحة النابعة منه لا من أمرٍ آخر، أن تكتشف ما في الوجود من خلاله هو، فيؤول كلّ ما في الحياة إلى معنىً جديد ينسكب عليك بركةً وسلامًا. اليوم ندعوك، أيها الأخ الحبيب، على ظَنَّ أنك قد جرَّبت أغلب ما في الحياة من مباهج بحسب رؤيتك أنت، إلى مكان آخر، إلى أجواء أخرى، ربما مررت بها دون أن تدخل إلى أعماقها، إنها "واحات الراحة". أن نرجع إلى يسوع ونُرجعه إلى محلّه في قلبنا، هذا المحلّ الذي أُعطي له بمعموديّتنا، يعني أن لا نخاف من أيّ شيء يخص الحاضر والمستقبل، ولا نقلق على شيء، لأنّه حاضر معنا ليُعيننا، ولا نتخاصم على أيّ شيء. أن نرجع إلى يسوع ونُرجعه إلى محلّه فينا يعني أن نضع كلّ رجائنا عليه وفيه، وأن نثق، تمام الثقة، بأنّه المُعتني بنا. كما يعني ذلك أن نعمل جاهدين لنكون على رأي واحد وفكر واحد، دون شقاقات بيننا، لئلاّ، كما قال القديس بولس، "يُبطل صليب المسيح"، آمين.