موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٨ مارس / آذار ٢٠٢٠

الأحد الثالث من الصوم

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الماء الذي أعطيه يصير عين ماء يتفجّر حياةً أبدية

الماء الذي أعطيه يصير عين ماء يتفجّر حياةً أبدية

 

الماء الذي أعطيه يصير عين ماء يتفجّر حياةً أبدية

 

على منتصف الطّريق بين الناصرة، مسكن يسوع الطويل في شمال الأرض المقدسة وأورشليم، تقع قرية السامرة الصغيرة إلى اليوم، بسكانها الذين لا يزيد عددهم على 200 نفراً. هم فئة من اليهود لم يقبلهم الفريسيون بينهم في أورشليم، ومنعوهم من دخول الهيكل بل طردوهم، فراحوا وسكنوا القرية المسماة سيشار المذكورة في التوراة  (تثنية 27,4.12) وبنوا على الجبل المسمى جاريزيم هيكلا للصلاة، منتظرين مجيء المخلص، الذي سيرجعهم إلى أورشليم. هناك على أقدام هذا الجبل يقوم بئرُ ماْ، قالوا حفرها إبراهيم له ولأولاده الذين كانوا رعاة ، يستقون منها الماء هم وقطعانهم ، وهي أصلاً، نبع عميق لا ينضب، وقائمة حتى اليوم برعاية رهبان أرثوذوكس من روسيا باشروا، بمساعدة  بطريركية روسيا الأثوذوكسية، ببناء كنيسة فوق البئر، لكن أتت الثورة الشيوعية عام 1917، ولم يتم بناؤها، بل بقيت جدرانا واقفة بلا سقف، إلى قبل سنتين أو ثلاثة. وهي تبدو اليوم من تحف الكنائس في الأرض المُقدّسة بإيقوناتها الرائعة. أما الرهبان الروس فلا يزالون في حراستها والإعتناء بالحجاج الذي يمرون من هناك ويشربون الماء الرَّطِب العذب من دلوها.

 

فيسوع، كما سمعنا في إنجيل اليوم، وفي طريقه إلى أورشليم ، مرّ في السامرة ليُسمعها ببشرى الخلاص. على مدخل هذه القرية تقوم البئر المسماة ببئر يعقوب. من هناك أرسل تلاميذه ليششتروا طعاما، يسدُّون به جوعهم، من بعد سفرة مضنية، طبعا على الأقدام وتحت حرِّ االشمس. أما هو فجلس على حافة البئر وإذا بامرأة تحمل جرّتها على رأسها، كما كانت الحال، جاءت لتأخذ ماء، لكنها تفاجأت بأن رجلاً فريسيّاً يبدأ بالحديث معها، علما بأنه معروف لدى الجميع  بأن لا رجل يحق له التكلم إلى امرأة في الأماكن العامة، إن لم يكن قريبا لها. هناك جرى لقاؤُه مع إمرأة سامرية خاطئة، جرّها بالتالي لغسل نفسها بمائه الرّوحي، الذي لم تفهمه في البداية، وبعد حديث فيه مدٌّ وجَزر، جاء بثماره، إذ اكتشفت هذه الإمرأة، مَن هو الذي يكلمها، فصارت أوّل مُرْتدَّة من هذه القرية، تحمّست للتبشير به في قريتها، كعادة كل المرتديين فهم يحصلون على حماس وغيرة لا توصف، ولا يقدرون أن يصمتوا عن التبشير، كسبت بشهادة حياتها أبناء قريتها، الذين قالوا لها بالتالي. "لا نؤمن الآن عن قولك، فقد سمعناه نحن، وعلمنا أنه مخلِّص العالم حقّاً"(يو 4: 42).  فما يجدر ذكرُه، كانت الآبار منذ القِدَم، مكان تجمع السكان للإستراحة وسماع ما هبّ ودب من أخبار جرت حواليهم، ومن مائها يستقون ويغتسلون، إذ الماء معروف، هو رمز النظافة والحياة.

 

هذا ويذكر الكتاب المقدس (العهد القديم) قصصًا عديدة حدثت على حافة بئر: فها إبراهيم قد عقد المصالحة بينه وبين الحاكم آبيماليك، ملك يهودا، على حافة بئر. وابنه إسحق تشاجر مع رعيان أبيماليك بسبب بئر ماء. يعقوب بالذات يلتقي مع زوجته المستقبلية ريبيكا على حافة بئر. موسى أجرى أكثر عجائبه على الماء: البحر الأحمر ينفصل إلى شقّتين برفع يده عليه بأمر من يهوى. كذلك وجود نبع ماء للشعب في الصحراء، جرى بضرب عصاه على صخر فخرجت الماء التي تجري وتُعْرف حتى اليوم باسم عين موسى، في صحراء الأردن. للأسف أنتخب رئيس بلدية متعصّب في الثمانينات من القرن الماضي وكان يزعجه عدد السّواح الذين يزورون هذا المكان ويقرأون التوراة ويرنمون التراتيل الدّينيه، فقام بنسف الصخرة بلغم هدّم الصخر وبنى فوق النبعة جامعا بميذنة تخرج الماء من جوفه كما تخرج مياه النبع في مكة من داخل إلى خارج الجامع.

 

في العهد القديم أُعْتُبِر الماء بَرَكةً إلهية، فهو يمنح الخليقة ماء لتعيش، والطبيعة لتثمر، فيأكل الإنسان من ثمارها ويبقى على قيد الحياة.  وكم هو الماء من ضروريات الحياة اليومية، فقد شعرنا به في السنين الآخيرة، حيث عاد المطر شحيحا، فانخفضت البحار والوديان، وما عادت السفن التجارية تستطيع نقل البضائع بسهولة. هذا من جهة ومن الجهة الثانية فإن النقص في الماء في البلاد الصحراوية أصبح مشكلة عالمية، إذ الملايين من البشر ما عادوا يحصلون على ماء صالح للشرب اليومي. الماء في الصحراء كان ولا يزال أحسن وأول عنصر لتطفأة العطش، وبما أنه نادر فقد ألمح يسوع أنَّ من يُعطي عطشانا كأس ماء، الحق أقول لكم، إنَّ أجرهُ لن يضيع (مر 9: 41). هذا ولقلة الماء والجفاف ما عاد الفلاحون يفلحون أراضيهم فما عادت المحاصيل تكفي وهذا يعني جوع وعطش بلا نهاية. من هنا وعي الناس اليوم واهتمامهم بحماية الطبيعة.

 

ألا يحق لنا أن نُعطي حُماة الطبيعة، حقا لمظاهراتهم بسبب ازدياد الحرارة على وجه الأرض ونتظاهر معهم تأييدا لهفهم؟  فليس من العبث أن نقرأ أن من فكّروا كيف أتت الحياة على الأرض وجدوا لها أربعة عوامل رئيسية: هي الضؤ والهواء والأرض والماء. وبدون ماء قالوا لا حياة دائمة. فالماء عامل مهم للبشر والشجر والحجر والحيوان. هذا وهل ننسى انّ يسوع قال: طوبى للجياع والعطاش إلى البر فهم يُشبعون (متى 5: 6). وقال أيضا "إن كان أحد لا يولد من الماء والرّوح، فلا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (يو 3: 5).

 

وهناك تلميح واضح على ضرورة الولادة من الماء والرّوح في إنجيل اليوم، من حديث يسوع مع المرأة السامرية على حافة بئر يعقوب. فالسامرة ما كانت مكانا للتّعبّد للإله الحقيقي بل تدل على البعد عن هيكل أورشليم، فكيف يمكن إذن الإيمان بالله، حتى يُصبح التّعبّد له بالروح والحق مقبولا؟ هذا ما يريد إنجيل اليوم توضيحه لنا.

 

بداية ذلك أن يسوع بغير العوائد المعروفة والمتّبعة، يتجاسر ويقترب من إمرأة، تأتي كل يوم إلى هذي البئر القريبة تأخذ جرة ماء لاحتياجاتها اليومية، ثم يجلس على حافة البئر ويكلِّمها علنا. هو يأخذ المبادرة بمخالفة ما هو معروفٌ وممارس من البشر، أي عدم التحدّث علنا مع إمرأة غريبة على الشارع.  لكن كلامه يخلق فيها فضولية، إذ هو الذي ابتدأ الحديث معها بشوقه لشرب الماء ويعني رمزا آخر، أمّا هي التي تملك هذا الماء، فهي تُظهر شوقها لشرب ماء ضدّ عطش فيها لم تُروِه لا الملاذ التي ذاقتها حتى اليوم  ولا التمسك بانتظار المخلص الذي ما كانت تعرف، كيف وأين تعبده، أفي الهيكل على الجبل القريب منها أم في هيكل أورشليم؟ هو يتكلم عن ماء يأتي من فوق، أما هي فتعني ماء البئرالذي بين يديها، ويأتي من العمق، والذي فهمت أنّه طلبه منها ليروي عطشه. هو يعني الماء الذي يأتي من نبع الحياة من عند أبيه، وبالتالي يعني هو نفسه. إنها ما كان خطر على بالها شيئ ،ولكن للصدفة وسط هذا الحديث يحدث لحياتها تغيير جذري . تقابلت مع هذا الرجل الذي قال لها كل شيء عملته في حياتها، دون سابق علمٍ عنها . في ذلك اليوم ما ملأت فقط جرّة الماء، الذي تحتاجه للبيت، بل وأيضا ماء الحياة الأبدية الذي كانت نفسهُا تفتش عنه من زمان: من يشرب من هذا الماء الذي هو يعطيه، فلن يعطش، وأما من يشرب من ماء هذي البئر فيعطش ويرجع كل يوم ليأخذ الماء الذي يحتاجه.  هو يجعلها تفهم أنها سَتَروى وستجد السّعادة منه هو. هي لن تعطش إن شربت من الماء الذي هو يقدمه لها. وهكذا بعد التحفّض والبعد يتبع التقرّب والإيمان الثابت.

 

إن هذه المقابلة لمليئة وغنيّة بالرّموز لحياتنا الشخصية. فهو قبل كل شيء أعلن أنه بمجيئه ستزول الحدود التي تفصل البشر عن بعضهم: حائط الشرق عن الغرب والجنوب عن الشمال، السامريّين عن الفريسيّين، العرب عن اليهود، المسيحيّين عن باقي الأديان، إذا ما بقي هو مانح ماء الحياة لكل عطشان. بل وعلاقة البشر مع بعضهم: الرّجال مع النّساء، فهم خلائق متساوون بالحقوق والواجبات عند الله. إنِ اليوم أنتم سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم؟. بهذا المعنى يمكن للكنيسة أن تصبح بئر يعقوب حيث يلتقي البشر مع الله، متساوين بالحقوق والواجبات البديهية.

 

الصوم هو حافة البئر التي يجب أن نجلس عليها مع الله حتى بما نقوم به يكون بمثابة ماء يُحيي نفوسنا من ماضيها.

 

عندما نسمع عن مقابلات يسوع مع هؤلاء الناس، نشتاق، كي لا نقول نحسدهم على الحظ الذي نالوه، لكننا ننسى أن يسوع ليس إنسانا للماضي فقط ولكن بوسعنا نحن أيضا أن نقابله على طريقنا وعلى حافة بئرنا اليوم وأينما كنا. وهذا هو الوقت الذي يمكننا أن نجلس معه ونتحاور.

 

ألا نرى صورتنا وحياتنا في هذه الإمرأة، التي تمثِّل عطشنا الدّائم لقرب الله وتفتيشنا عن السعادة، التي تنتهي بمعرفة مَن هو لنا؟ لقد خلقتنا لك يا رب!  معرفة يسوع ليست بالهيّنة بل تحتاج إلى محادثات طويلة لا محادثة واحدة، لاكتشاف يسوع ينبوع حياتنا، والطلب منه أن يعطينا من هذا الماء العذب، الذي يسد عن كل ماء آخر، ألا وهو نفسه. آمين.