موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١١ يونيو / حزيران ٢٠٢٠

الأحد الأول المعروف بأحد جميع القديسين

بقلم :
الأب بطرس جنحو - الأردن
أيُّها الرَّبُّ البارِئُ كلَّ الخليقةِ ومُبدِعُها، لكَ تُقَرِّبُ المسكونَةُ كبواكيرِ الطَّبيعة الشُّهَدَاءَ اللاَّبِسِي اللاَّهوت. فبتوسُّلاتِهِم اِحْفَظْ كنيسَتَكَ بسلامَةٍ تَامَّة لأَجْلِ والِدَةِ الإله، أيُّها الجَزِيلُ الرَّحْمَة.

أيُّها الرَّبُّ البارِئُ كلَّ الخليقةِ ومُبدِعُها، لكَ تُقَرِّبُ المسكونَةُ كبواكيرِ الطَّبيعة الشُّهَدَاءَ اللاَّبِسِي اللاَّهوت. فبتوسُّلاتِهِم اِحْفَظْ كنيسَتَكَ بسلامَةٍ تَامَّة لأَجْلِ والِدَةِ الإله، أيُّها الجَزِيلُ الرَّحْمَة.

 

الرِّسالة

 

عَجِيبٌ هو اللهُ في قدِّيسيه، في المجامِعِ بَارِكُوا الله 

 

فصل من رسالة القديس بولس الرسول إلى العبرانيين (عب 11: 33-40، 12: 1-2)

 

يا إخوةُ، إنَّ القدِّيسينَ أَجمَعِين بالإيمانِ قَهَرُوا الممالِكَ وعَمِلُوا البِرَّ ونَالُوا المواعِدَ وسَدُّوا أَفْوَاهَ الأُسُود، وأَطْفَأُ واحِدَّةَ النَّارِ ونَجَوْا من حَدِّ السَّيْفِ وتَقَوَّوْا من ضُعْفٍ، وصارُوا أَشِدَّاءَ في الحربِ وكَسَرُوا مُعَسْكَرَاتِ الأجانِب. وأَخَذَتْ نساءٌ أَمْوَاتَهُنَّ بالقِيامة. وعُذِّبَ آخَرُونَ بتوتيرِ الأعضاءِ والضَّرْبِ، ولم يَقْبَلُوا بالنَّجَاةِ ليَحْصُلُوا على قيامةٍ أفضل. وآخَرُونَ ذَاقُوا الهُزْءَ والجَلْدَ والقُيُودَ أيضًا والسِّجن. ورُجِمُوا ونُشِرُوا وٱمْتُحِنُوا وماتُوا بِحَدِّ السَّيْف. وسَاحُوا في جُلُودِ غَنَمٍ ومَعْزٍ، وهُمْ مُعْوَزُون مُضَايَقَونَ مجَهُودُون، ولم يَكُنِ العالمُ مُسْتَحِقًّا لهم. فكانوا تائِهِينَ في البراري والجبالِ والمغاوِرِ وكهوفِ الأرض. فهؤلاء كلُّهُم، مَشْهُودًا لهم بالإيمانِ، لم يَنَالُوا الموعِد. لأنَّ اللهَ سبَقَ فنظَرَ لنا شيئًا أَفْضَلَ، أنْ لا يُكْمَلُوا بدونِنَا.  فنحن أيضًا،إذ يُحْدِقُ بنا مثلُ هذه  السَّحابَةِ من الشُّهُودِ، فلْنُلْقِ عنَّا كُلَّ ثِقَلٍ والخطيئةَ المحيطَةَ بسهولةٍ بنا، ولْنُسَابِقْ بالصَّبْرِ في الجِهادِ الَّذي أمامَنَا، ناظِرِين إلى رئيسِ الإيمانِ ومكمِّلِهِ يسوع.

 

الإنجيل

 

فصل شريف من بشارة القديس متى (10: 32–33 ، 37–38 ، 19: 27–30)

 

قال الربُّ لتلاميذِه: كلُّ مَنْ يعترفُ بي قدَّامَ الناسِ أعترفُ أنا بهِ قدَّامَ أبي الذي في السماوات. ومَن ينكرُني قدَّام الناس أنكره أنا قدَّامَ أبي الذي في السماوات. مَن أحبَّ أَباً أو أُمّاً أكثرَ منّي فلا يستحقُّني، ومَن أحبّ ابناً أو بنتاً أكثر منّي فلا يستحقّني. ومَن لا يأخذُ  صليبَهُ ويتبعُني فلا يستحقُّني. فأجابَ بطرسُ وقال لهُ: هوذا نحنُ قد تركنا كلَّ شيءٍ وتبعناك، فماذا يكونُ لنا؟ فقال لهم يسوع: الحقَّ أقولُ لكم، إنَّكم أنتمُ الذين تبعتموني في جيل التجديد، متى جلس ابنُ البشر على كرسيّ مجدِه، تجلِسون أنتم أيضاً على اثَنْي عَشَرَ كرسيًّا تَدينونَ أسباط إسرائيلَ الاِثنَي عَشَر. وكلُّ مَن ترك بيوتاً أو إخوة أو أخواتٍ أو أَباً أو أُمّاً أوِ امرأةً أو أولاداً أو حقولاً من أجل اسمي، يأخُذُ مِئَة ضِعْفٍ ويرثُ الحياة الأبديّة. وكثيرون أوَّلون يكونون آخِرين، وآخِرون يكونون أوَّلين.

 

بسم الأب والأبن والروح القدس الإله الواحد أمين

 

على مر القرون التي مرت منذ زمن المسيح ، هناك عدد لا يحصى من المسيحيين الذين تم تقديسهم من خلال نضالهم الروحي. ونحن كمؤمني الكنيسة نعلم الكثير من القديسين ، ولكن هناك ايضا الكثير الذين  لم تكشفهم نعمة الله لنا. ولهذا كرست كنيستنا المقدسة هذا الأحد لجميع قديسيها الذين عاشوا الحياة المقدسة وحصلوا على الأكليل السماوي.

 

في كثير من الأحيان ننغمس في الحياة اليومية وننسى مصيرنا الحقيقي كبشر. الغرض من حياتنا ، والغرض الذي خلقنا من أجله ، هو أن نكون قريبين من الله. لذلك نحن مدعوون لأن نكون قديسين. يخبرنا الكتاب المقدس أيضًا، "لأنه مكتوب كونوا قديسين لأني أنا قدوس" (1 بطرس 1: 16). وعلينا واجبات وجهاد روحي مدعوون لاكتسابه من خلال مسيرة حياتنا مع المسيح. فالقداسة إذن هي شيء نحن مدعوون لاكتسابه لأنه أمر الله. لا يمكننا أن نقول أنه من غير الممكن أن نصبح قديسين إذا كان لدينا الكثير من الأمثلة من أناس مثلنا الذين ادعوا أنهم قديسين.

 

تقدم لنا الكنيسة المقدسة كل الطرق التي تقود إلى القداسة. إن أسرار الكنيسة هي وسيلة تقديس كل مسيحي يتبع أوامر الرب. في كل مرة نذهب ونحضر القداس الإلهي، تذكرنا بهدفنا المقدس. وخاصة في نهاية خدمة القداس الإلهي. عندما يرفع الكاهن الهدايا المقدسة، وبالذات عندما يقول الكاهن القدسات للقديسين. حيث بعدها يتم تقديم جسد ودم ربنا يسوع المسيح إلى مؤمني الكنيسة، وهم من أبناء جبلتنا الذين يجاهدون ويؤمنون بنفس المعتقد المعطى لنا من كنيستنا المقدسة.

 

وفي المقطع الإنجيلي المخصص لهذا الأحد من متى البشير نسمع الآية التي تقول: "يا سيّد ها قد تركنا كلّ شيء وتبعناك".

 

لا توجد عبارة أكثر لياقة وجمالاً من هذه العبارة، والتي يمكن لنا أن نقدّمها مقابل نزول الروح القدس إلينا الأحد الماضي في العنصرة المقدسة. وها نحن اليوم كما ذكرت في بداية مقالتي والتي تتكلم عن قديسي الكنيسة الذين بذلوا أنفسهم وجاهدوا الجهاد الحسن من أجل الكنيسة المقدسة نعمل تذكاراً لجميع القدّيسين. إنَّ هذه السحابة من القدّيسين تبرهن على أنَّ العنصرة حدثٌ مستمرّ في التاريخ، وأنَّ الروح القدس فاعلٌ  أبداً وهذه الثمار أفضل برهان: هذه إرادة الله: أن نكون قدّيسين كما أنَّ أبانا السماويّ قدوس. إرادة الله هي أن ندخل في شركة قداسته في البدء كان الكلمة (المسيح)، والكلمة الأقنوم الثاني كان عند الله أي مع الله، في حركة اتصالٍ وحبٍّ دائم. كان الكلمة يتّجه نحو الله. وهذه الكلمة صار جسداً وأراد يسوع أن يجعل الناس يتّجهون بدورهم نحو الله، وبكلمة أخرى أرادهم أن يشاركوه المجد الذي كان له عند أبيه. لقد جاء يســوع ليحقّق إرادة الآب وليشــــركنا نحن البشــــر في حياة الثالوث الأقدس، أي لنتَّجه بحبّنا وحركتنا نحو الآب. وبعد الصعود أرسل لنا المسيحُ الروحَ القدس ليرشدنا إلى كامل الحقيقة، والحقيقة هي المسيح، والمسيح يتجه بنا نحو الآب. لقد نزل الروح القدس يوم العنصرة ليتابع ما بدأه يسوع، أي ليصرخ "فينا بأناتٍ لا توصف: أبّا أيها الآب".

 

من هو القدّيس إذن؟ إنّه من يصرخ كالعروس مع الروح إلى المسيح: "تعال". نعم، أنتَ دَعَوْتَنا ونحنُ تبعناك، بحسب تعبير الكلمات الأخيرة من سفر الرؤيا. القدّيس هو من يحرك قوّة حبّه باتجاه الله. والروح هو الذي يدفعنا ويقودنا إلى ذلك. إنَّ نزول الروح القدس يتطلّب منّا موقفاً حيّاً يُعبَّر عنه بأجمل كلمة: "ها قد تركنا كلّ شيء وتبعناك".

 

واليوم في هذا التذكار المقدّس يجدر بنا التأمّل في عدّة أسئلة تدور في خلدنا وتساعدنا على فهم "شركة جميع القدّيسين" لننتمي إليها:

 

1. مَن هو القدّيس؟ لا شكّ أنّه بالطبيعة ما هو إلاّ مجرّد بشر. لا يختلف بذلك عن أيّ إنسان آخر شرّير. ما يختلف في القدّيس ليس طبيعته ولكن طبعه، ليس خِلقته ولكن خلقه، ليس معيشته بل حياته، إنّه إنسانٌ يحيا حياةَ الله في جسده البشريّ. القدّيس هو مَن يحيا بالروح القدس الذي يحرّكه ويقوّيه ويقوده إلى الحقّ، "فالبارّ بالإيمان يحيا "، وهذا يُدرَك ليس بشكل أوتوماتيكيّ، ولا بمجرّد خيار نظريّ، بل بجهاد ومحاولة لا تنقطع. إنّ تكوين القدّيس من طين، أي إعادة تكوين الجبلة البشريّة التي هي مجرّد اللّحم والدمّ إلى خليقة ملائكيّة، يحتاج لمسيرة طويلة ويتطلّب جهداً ليس بقليل. لذلك إنّ تنشئة الكائن البشريّ إلى قدّيس تحتاج إلى معرفة روحيّة عميقة نسمّيها "الإيمان"، وإلى محاولة لا تهدأ نسمّيها "الجهاد" الروحيّ. هذا هو القدّيس، مَّن يتمسّك بالإيمان ويعمل حسبه دون ملل.

 

2. ما هي أشكال حياة القداسة؟ إنّها طرق عديدة ولا تحصى.ولكن التقليد الكنسيّ صنّفها في مراتب. فالمثل البشريّ الأعلى والأوّل للقدّيسين هو "العذراء مريم"، ويليها شخصيّات أوّلها يوحنّا المعمدان، ثم تتوالى مراتب كالرسل والأنبياء والمعلّمين، وبعدهم رؤساء الكهنة، وبعدهم الشهداء ثمّ الأبرار والمعترِفين. هؤلاء كلّهم عاشوا حياة الله في ظروفهم وطبيعتهم وأعمالهم وبلادهم وثقافاتهم وخدماتهم وأعمالهم المختلفة. القداسة غاية ممكنة للمرأة كما للرجل، للعبد كما للحرّ، لإثنيّة كما لأخرى، في وسط العالم وخارجه، في شهادة دم وفي شهادة الضمير، وكما يلّخصها بولس الرسول "إنّنا نماتُ من أجلك اليوم كلّه". هذه هي حركة ومسيرة القداسة، فهي في ظروف اضطهاد تنتهي بسكب دم، وفي زمن السلام تنتهي بحياة البرّ، وفي الخدمة الرسوليّة تنتهي برؤساء كهنة ومعلّمين وخدّام رسل ومبدعين ورجال فكر… الدعوة للقداسة ليستْ حصراً على فئة أو طريقة حياة محدّدة بين الناس. "كونوا قدّيسين كما أنّ أباكم السماوي قدّوس" (كاملين)، إنّها دعوة لا تستثني أحداً، إنّها غاية الحياة البشريّة لكلّ إنسان ولكلّ طرق الحياة.

 

3. كيف نُكرم القدّيسين؟ لا شكّ أنّنا نكرم مَن نحبّ "ونضع السراج عالياً ليضيء لجميع مَن في البيت". لهذا ترانا نرسم أيقونات للقدّيسين ونزيّن بها كنائسنا ومنازلنا، ونُحيي تذكاراتهم بالصلوات والطقوس… ونبني الكنائس والأديار على أسمائهم، ونتسمّى بأسمائهم، ونطلب شفاعتهم ونتّكل عليهم… وبكلمة مختصرة نشاركهم حياتنا وهمومنا وحاجاتنا.

 

القدّيسون هم الصفحات الشريفة من التاريخ البشريّ، إنّهم التاريخ المقدّس عبر تاريخ بشريّ طويل، لأنّهم ثمر الروح القدس في التاريخ، إنّهم "قطاف الزمان"ومحصّلته. القدّيسون هم، بحسب الطقس الكنسيّ لخدمة هذا الأحد، بواكير الخليقة، إنّهم أولاد قرانِ الروح بالعالم في العرس الإلهيّ الروحيّ (القنداق). القدّيسون هم زينة الكنيسة ووجهها إلى الله وإلى العالم، غيابُهم يفقدها هويّتَها ووجودُهم يعطيها شخصيّتها الإلهيّة في وسط العالم.

 

القداسة هي أكثر بكثير من بعض الكمالات الأخلاقيّة وهي أكثر من تصرّفات كفضائل نسمّيها مسيحيّة. هذه الأخيرة نتائج لقلبٍ يحبّ كثيراً وصار المسيح بالنسبة له الحبّ كلّه. هذه المحبّة لا تتطلب هجراناً أو تنكُّراً لأي محبوب آخر. لذلك قال يسوع : "من أحبَّ… أكثر مني فهو لا يستحقني".

 

يقول القديس يوحنا الذهبيّ الفمّ: "إكرام القدّيس هو الاقتداء بالقديّس". إذن، لا نشارك القدّيس همومنا وحسب، بل نشاركه قداسته، ونشهد معه ونحيا مثله. فإكرام القدّيسين هو قبول دعوة مَن دعاهم ودعانا، فندخل في "شركة القدّيسين".

 

الخطيئة وحدها تخرجنا من "شركة القدّيسين". حياة القداسة نقدر أن نعيشها نحن ايضا في أعمالنا وخدماتنا لكن بشرطَين، اللذَين يذكرهما الرسول بولس في رسالة اليوم: أوّلاً أن نلقِ عنا الخطيئة وثانياً أن نتسابق مع القدّيسين بالصبر والجهاد الذي أمامنا، "مقتدِين مثلهم وناظرِين، إلى رئيس الإيمان ومكمّله يسوع"، آمين.

 

الطروباريات

 

طروبارية القيامة باللحن الثامن

انحدرتَ مِنَ العُلُوِّ يا مُتَحَنّن. وقَبِلْتَ الدَّفنَ ذا الثلاثةِ الأيام. لكي تُعتِقَنا مِنَ الآلامِ فيا حياتَنا وقيامَتنا يا ربُّ المجدُ لك.

 

طروباريَّة أحد جميع القدِّيسين باللَّحن الرَّابِع

أيُّها المسيحُ الإله، إِنَّ كنيسَتَكَ إذ قد تزيَّنَتْ بدماءِ شُهَدائِكَ الَّذين في كلِّ العالم، كأنَّها ببرفِيرَةٍ وأُرْجُوَان. فهي بهم تهتِفُ إليكَ صارِخَة: أَرْسِلْ رأفَتَكَ لشعبِكَ، وٱمْنَحِ السَّلامَ لكنيسَتِك، ولنفوسِنَا الرَّحمةَ العُظْمَى.

 

قنداق أحد جميع القدِّيسين  باللَّحن الرّابع

أيُّها الرَّبُّ البارِئُ كلَّ الخليقةِ ومُبدِعُها، لكَ تُقَرِّبُ المسكونَةُ كبواكيرِ الطَّبيعة الشُّهَدَاءَ اللاَّبِسِي اللاَّهوت. فبتوسُّلاتِهِم اِحْفَظْ كنيسَتَكَ بسلامَةٍ تَامَّة لأَجْلِ والِدَةِ الإله، أيُّها الجَزِيلُ الرَّحْمَة.