موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٥ يوليو / تموز ٢٠٢٠

افتتاح آيا صوفيا بطاقة انتخابية في مهرجان سياسي

تورغوت اوغلو، محلل سياسي تركي

تورغوت اوغلو، محلل سياسي تركي

تورغوت اوغلو :

 

تعاني تركيا مشكلات خطيرة تجب مناقشتها بتأنٍ ورويّة، تأتي في المقام الأول الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولكن للأسف عندما لا تجد المؤسسة السياسية في بلدي مخرجًا ولا تصنع حلولاً، فإن أول ما يلجأ إليه السياسيون هو التهرب من الواقع، ولفت أنظار الشعب إلى موضوعات مصطنعة تم وضعها في الثلاجة كوسيلة لتغيير مسار حديث الناس، ويأتي الرئيس رجب طيب أردوغان على رأس قائمة من يجيدون القيام بهذه الخدعة الرائجة في السوق السياسية. حيث إنه بفضل ما يسيطر عليها من الوسائل الإعلامية الهائلة، يتمكن من إلهاء الجماهير وجلب انتباهها إلى ما لا يسمن ولا يغني من جوع.

 

إن جدول الأعمال الحقيقي للرئيس أردوغان وحزبه هو تغيير قانون الانتخابات، والسبب في ذلك هو أن استطلاعات الرأي، بما فيها تلك التي تقوم بها المؤسسات البحثية الموالية للنظام، تشير إلى هبوط حاد ومطرّد في الأصوات المؤيدة للحزب الحاكم، ويبدو أن جميع الخطوات الهادفة إلى تلافي الوضع، بما فيها التدخل في الشأن الليبي، باءت بالفشل في رفع مستوى الدعم للحكومة. وإذا خاض أردوغان الانتخابات في ظل القانون الانتخابي الحالي فيكاد يكون من المستحيل أن يحصل على أكثر من 50 في المائة من الأصوات. مما يعني أنه لن ينجح في الجولة الأولى بالانتخابات الرئاسية، وذلك نذير شؤم بخسارته في الجولة الثانية، التي ربما يجتمع فيها شمل المعارضة ويتفقون على مرشح واحد. ولذلك فإن أردوغان يحاول أن يقوم بتغيير قانون الانتخابات الذي يشترط لنجاح أيّ مرشح في الجولة الأولى حصوله على ما يزيد على 50 في المئة من الأصوات، ليستبدل به اشتراط حصوله على أغلبية الأصوات. لذا، كانت هناك حاجة لخطوة نوعية من شأنها أن تخلق دويًا على الصعيد الداخلي والدولي، وتزيد من حماس مناصريه ودعمهم بشكل يؤثر في تصويت الناخبين. وكان تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد بطاقة في يد أردوغان يستطيع أن يلعب بها ويستخدمها لأغراضه السياسية.

 

ومن المفارقات العجيبة أن أردوغان نفسه كان قد صرح قبل عام في 16 آذار 2019، "إن اتخاذ مثل هذه الخطوات (أي تحويل أيا صوفيا إلى مسجد) ستكون له تبعات سياسية، وها هو مسجد السلطان أحمد بالقرب منه؛ فقبل أن تدعوا الآخرين إلى ملء آيا صوفيا، فعليكم أن تملأوا السلطان أحمد. إن هذه كلها ألاعيب لن ننخدع لها. إننا نعلم جيداً ماذا سنفعل، وكيف سنتخذ خطواتنا؟ ولن نتخذ خطوة على حسب مقولات هؤلاء الأنذال".

 

وقد كان بإمكان أردوغان ألا يوافق على قرار المحكمة الإدارية العليا (مجلس شورى الدولة) بشأن آيا صوفيا، مما كان يتيح له الفرصة لتحسين صورته وصورة حزبه التي تشوهت لدى الرأي العالمي على مدى السنوات الثماني الماضية.

 

لكنه، على الرغم من ذلك، وافق على قرار المحكمة، وغامر بسمعته. وذلك يوضح كيف أن حزب العدالة والتنمية استنفد رأس ماله السياسي، ويجد صعوبة في إقناع الشعب والتلاعب بعقولهم حتى وجد نفسه مضطرا للَّعب بهذه الورقة الخطيرة.

 

ونستشف من ترحيب شريحة معينة من الشعب بهذه الخطة واعتبارها أنها "انتصار" كيف أن روح التسامح بدأت تنهار في المجتمع التركي. والحال أن تركيا كانت بحكم موقعها بمثابة جسر يربط بين القارتين، يجسّد نموذجًا رائعًا في التركيب بين حضارتي الشرق والغرب. ولسوء الحظ، تضرر هذا التوليف الأنيق بيد الإسلامويين السياسيين. كما أنهم نجحوا في التلاعب بالجينات الثقافية لأبناء الشعب التركي. ولن نستطيع التخلص من هذا التلاعب الخطير حتى ننجو من براثن هذا الغول الجاثم على صدر أبناء وطننا.

 

والغريب أنهم يدّعون الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لا يدركون أنه كان بإمكانه أن يبني على مدى أيام بعثته في كل بقعة من بقاع المدينة مسجدًا، ولكنه لم يفعل ذلك بل صب كل جهوده على إحلال السلام بين الناس وإزالة كل ما ينخر المجتمع من أشكال الفساد والسرقات والاعتداء على حقوق الإنسان، ولذلك يمكنني القول، بكل راحة، إن جرائم حزب العدالة والتنمية التي ارتكبها ضد الإسلام باسم الإسلام قد فاقت بالفعل الأمور الجيدة التي فعلتها. ويكفي أن الناس أصبحوا يكرهون كل ما يتعلق بالدين بسبب هؤلاء. وأعتقد أنه لم يستطع أحد من المعارضين للإسلام أن يتسبب في الإضرار به بقدر ما أضرَّ به الإسلامويون السياسيون في الآونة الأخيرة.

 

وكان بإمكانهم أن يفتحوا آيا صوفيا بشكل يتيح للمسلمين والمسيحيين أن يؤدوا فيه عباداتهم، ومن شأن ذلك أن يجلب نفعًا كبيرًا لتركيا، بالإضافة إلى كونه خطوة جيدة في سبيل السلام العالمي والتسامح بين الأديان. ولكني أتساءل: هل يقع كل الذنب على عاتق أردوغان وحزبه في قضية استغلال آيا صوفيا كأداة سياسية؟ بالطبع، لا.

 

يجب ألا ننسى أن جزءًا مهمًا من الوبال في هذه القضية يقع على عاتق القطاع العلماني، وعلى رأسهم الرئيس الأول مصطفى كمال أتاتورك مؤسس حزب الشعب الجمهوري، والرئيس الثاني عصمت إينونو. ولتجلية هذا الموضوع أود أن أرجع إلى الوراء. ولذلك سألخص بإيجاز كيف وصلت آيا صوفيا إلى هذه المرحلة.

 

من المعلوم أن آيا صوفيا مدرجة على قائمة التراث العالمي، وقد تم بناؤها في 360م من قِبل الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الثاني ككاتدرائية. وأخذت شكلها الحالي بين 532 و537 خلال عهد الإمبراطور البيزنطي جوستين الأول.

 

وعندما استولى السلطان العثماني السلطان محمد الفاتح على إسطنبول في 29 أيار 1453 أدى أول صلاة جمعة في هذا المكان، وأعلن أن آيا صوفيا ستكون بمثابة مسجد بعد الآن. وتم ترميمها عدة مرات في أيام الحكم العثماني، وخلال هذه الفترة أضيفت إليها القباب والمآذن، وقد استمر الناس على استخدامها كمسجد بعد إعلان الجمهورية في عام 1923 إلى أن تم إغلاقها من قِبل أتاتورك في عام 1931، وبقرار من مجلس الوزراء في 24 تشرين الثاني 1934 أعيد افتتاحها كمتحف، ولكن بسبب أعمال الترميم لمدة 15 عامًا لم يمكن فتحها للزوار كمتحف إلا في عام 1947 خلال فترة حكم الرئيس الثاني عصمت إينونو. نعم، لو لم يغلق أتاتورك آيا صوفيا في ذلك الوقت لما تمكن أردوغان من استغلالها كأداة سياسية هذه الأيام.

 

صحيح أن أتاتورك كان رجل دولة استطاع أن يؤسس مجتمعًا جديدًا على أنقاض دولة خرجت لتوها من الحرب بجراح مثخنة، وذلك نجاح باهر حققه مصطفى كمال أتاتورك وزملاؤه، ويستحق التقدير من هذه الناحية. ولكنَّه في الوقت نفسه قام بحظر رفع الأذان بالعربية، وأجبر الناس عليه باللغة التركية، وتلاعب بالقيم الدينية والثقافية التي يحترمها المجتمع.

 

ولو أنه لم يتدخل في المجتمع بهذه القسوة لربما كان من المستبعد أن يبتلى الناس بهذا الورم الخبيث الذي نسميه: "الإسلاموية السياسية"، إضافة إلى ذلك، قام العلمانيون المتشددون في بداية هذا القرن باستهداف الدين الإسلامي مباشرة والهجوم على الشعائر الدينية. وهذا تسبب للأسف في ترسيخ مشاعر الانتقام في نفوس شريحة كبيرة من المواطنين. وقد استفاد أردوغان من هذا الجو بشكل كبير، ليتعامل مع معارضيه بمثل ما كان العلمانيون يفعلونه في السابق، فأخذ يتلاعب بالرموز الثقافية بروح الانتقام، ولاقى هذا الأسلوب رواجًا لدى قسم كبير من المواطنين، خصوصاً ذوي التعليم المتدني منهم.

 

بمرور الوقت أصبح من الواضح الآن للجميع أن العلمانيين كانوا أكثر تسامحًا مع المتدينين، إذا قورنت بما يمارسه أردوغان في الأيام الراهنة ضد معارضيه، وبالتالي فإن المعارضة الحالية في تركيا إذا استطاعت وضع سياسات ذكية، فإن بطاقة آيا صوفيا التي يستخدمها أردوغان لكسب الأصوات ستكون لاغية المفعول، ويرجع أردوغان صفر اليدين من هذه الحملة.

 

(اندبندنت عربية)