موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٦ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٠

اسمعوا أقوالهم ولا تعملوا أعمالهم

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الأب منويل بدر مترئسًا القداس في كنيسة قلب يسوع الأقدس - ناعور

الأب منويل بدر مترئسًا القداس في كنيسة قلب يسوع الأقدس - ناعور

 

الأحد الحادي والثلاثون (الإنجيل متى 25: 1-12)

 

الإنسان اليوم هو غير الإنسان الذي خرج من يد الله يوم خلقه. الإنسان الذي خلقه الله كان مُجمّلا بكلِّ الصفات الحسنة، لكن الخطيئة الأصليه فد سلبتنا كل تلك الصفات وأفقرت روحنا وجسدنا، من كل مقدراتهما على العفوية وصنع الخير. الخطيئة أدخلت كل ضعف فينا، جلبت استعداد الجسم للتّعرُّض للأمراض، أظلمت عقلنا في التخطيط الواضح إلى المدى البعيد، أدخلت فينا قُصْرَ النظر في أحكامنا، وعظمة العنف في معاملتنا للآخرين، والأنانية في حياتنا اليومية، كأن القريب غير موجود، وبالتالي، إحتلَّت الكبرياء قلبنا، بدل الطّاعة والتّواضع. لذا فالتوراة تقول: الكبرياء هي أم الخطايا.

 

هذا ما عاشه يسوع مع الفرّيسيين، فهم كانوا يعتبرون أنفسهم، طبقة أعلى من كلّ الناس حولهم، يجولون ويصولون في الساحة، كأن لا بديل عنهم، لهم حقوق أما الواجبات فيطلببونها من الغير. أما قال يسوع: من يريد أن يكون كبيرا فيكم، فليكن لكم خادما؟ هذا وقد أعطانا في شخصه وفي عمله، مثالا حيّا لتصرُّفاتنا: أنا أعطيتكم مثالا، حتى مثلما عملت أنا لكم، تعملون أنتم أيضا. بعكس ما كان يشاهد في تصرُّف الفريسيين. فهم أينما حلّوا كضيوف، أو تواجدوا أو انعزموا، كانوا يرتدون أحسن الملابس (الثوب يسوّي الرجل)، يُعرِّضون عصائب مناديلهم على الرأس، ويطوِّلون أهدابهم الجانبية، ويحبّون المقعد الأوّل، ليُظهِروا قيمةً لأنفسهم: "جميع أعمالهم يعملونها لينظر الناس إليهم. يُحبّون المقعد الأوّل في المآدب، وصدور المجالس في المجامع، وتلقّي التّحيات في السّاحات"، يقول لنا إنجيل اليوم عنهم.

 

بسبب هذه المواقف، انتقدهم يسوع من البداية، وكان انتقاده لهم أيضاً من البداية لاذعا: يا أولاد الأفاعي! سمّاهم ولقّبهم. من الأكيد أنّ ضغطهم كان يرتفع، عندما كان يوبّخهم على هذا التّصرُّف المُشين، ويسمّهم بالمنافقين أمام سامعيهم، إذ كلامهم لا يتطابق مع فعلهم: اسمعوا أقوالهم ولا تعملوا أعمالهم. إن الإنجيل يذكر بعضا من ردّات فعل الفرّيسيين على انتقاده، ليس فقط ضد أفراد منهم، بل لكلِّ كتلة الفريسيين، الذين كان تصرّفهم بوجهين: يقولون شيئا ويعملون شيئاً آخر: "يحزمون أحمالا ثقيلة، ويلقونها على أكتاف النّاس، ولكنهم يأبون تحريكها بطرف الإصبع". ولهذا الإزعاج والتجريح بهم علنا، فقد حاولوا مرراراً التّعدي عليه، بل قتله، لكن لأن ساعتَه لم تكن بعد قد أتت، فقد بقيت المناوشات والمعاكسات في البداية كلامية. لكنهم ما فتؤا يُحرِّضون الجماهير عليه، وطالبوا بموته عند بيلاطس بإقناعه أنّه يُحرِّض الشعب سِرّاً (عليهم، هم المستعمِرون). وهذه كانت نقطة حسّاسة عند بيلاطس، الذي بالتالي سمع لهم، وحكم على يسوع بالموت. هذه كانت نتيجة علاقة يسوع مع الفرّيسيين.

 

لماذا كانت لغة انتقاد يسوع لاذعة؟ لأن الإيمان الصحيح ووصايا الله لا يحتملان الوجهنة والمداهنة. أما قال لهؤلاء المنافقين: إني أتيت لأشهد للحق (يو 18: 37). فليكن قولكم نعم نعم، ولا لا.

 

يسوع ما كان يفتش على النّقاش الحادّ مع الكتبة والفريسيين، كي يَظْهَر على السّاحة مثلهم، وإنّما ليذكِّرهم بواجباتهم نحو الله، الذي هو أحقُّ من البشر بأن يُطاع (أعمال 4: 19). هذه كانت غاية جدالاته، وباستعماله كلمات تبدو لنا جارحة، لكنه كان يريد أن يهُزَّهم من الدّاخل، ليفيقوا من غفوة لا يشعرون منها أنّهم مخطِؤون بحق الآخرين.

 

إن تعليم يسوع ساري المفعول لكل الأجيال. إنّنا نخدع أنفسنا، عندما نفتكر أنّ الله رحيم، وهو سئعاملنا بغير ما عامل الفريسيين، أو أنّه سيُغلِقُ عينيه عن عيوبنا. فانتقاد يسوع هو كمرآة، منصوبةٍ أمام عيوننا، لنرى فيها ونقارن أنفسنا مع الفريسيين. فلا يجوز أن نعتبر انتقاده للفريسيين فقط، وننسى أنفسنا، أننا نعيش بوجهين: بوجه نظهره للناس أننا نحافظ على الوصايا، وبوجه لوحدنا في خلوتنا، فهذا هو ما نسمّيه بالفرِّيسيّة: أمّا أنتم فلا يكن بينكم هكذا. أي إسمعوا أقوالهم ولا تعملوا أعمالهم. فلا يحقُّ للإنسان أن يكون كالحرباة، تتلوّن حسب الظروف، أو كما قال هو، يُحابي الوجوه والظروف: نظهر مرة كمسيحيين ومرّةً غير مسيحيين لمصلحة خاصة. فبالكيل الذي به نكيل، يُكال لنا"(متى 7: 2). فإننا نخدع أنفسنا إن افتكرنا، أنّه سيحاسبنا بغير ما يُحاسب غيرَ المؤمنين: أعمالهم تشهد لهم: الإيمان بدون الأعمال باطل. فبحسب أعمالنا ونيّاتنا، سنتحاسب عندما نقف أمام وجهه، هو الدّيان العادل، إذ الإيمان ليس درعَ وقاية ، بل يفرض علينا أن نختلف يأعمالنا وتصرفاتنا وأقوالنا عن الفريسيين.

 

يسوع اتهم الفريسيين بأنهم ألغوا وصايا الله، وأبدلوها بقوانين ووصايا منهم، حسب مزاجهم، تُقوّي سلطتهم على الشعب. وفي هذا المجال، أعطى يسوع مثلا مُخجلا لهم، وهو هذا: كان الأبناء مجبرون أن يُساعدوا أهلهم، إن وقعوا في مأزقٍ مادّيٍّ، إذ ما كان أيامها لا من تأمين ولا من معاش تقاعد معروفين، لكن الفريسيين أبدلوها لصالحهم، بحيث قالوا من يتبرّع بالمبلغ المرصود، لصيانة الهيكل، الّذين هم حر ّاسه، فهو مُعفى من مساعدة أهله . كانوا يتناحرون على وظيفة حراسة الهيكل لأنها كانت تجلب لهم المال من الداخلين والخارجين (حاميها حراميها، مثلما قال المثل).أليس هذا مُنافقة واضحة؟ ماذا كتب بطرس لرؤساء الرعابا التي أسسها؟: "أطلب إلى الشيوخ بينكم، أنا الشيخ رفيقهم، والشاهدُ لآلام المسيح وشريكُ المجد العتيد أن بُعلن: إرعو رعية الله التي بينكم، لا عن اضطرار بل بالإختيار، ولا لربح قبيح بل بنشاط، ولا كمن يسود على الأنصبة بل صائرين أمثلة للرّعية"(1 بطر 1: 5). أتيت لأخدُم لا للأُخْدَم. فمن رفع نفسه وُضع، ومن وَضع نفسه رُفع.

 

هذه الإنتهاكات، التي لا علاقة لها بوصايا الله، انتقدها يسوع وانتقد منتهكيها، أي من يقودوا الشعب، كالكتبة ورؤساء الكهنة، لأنّهم أبدلوا تعليمات الإيمان الثابتة، بتعليمات بشرية مُلزِمة، تُماشي روح العصر، لأنه لا بديل لتعليم ووصايا الإيمان، إذ الإيمان لا يقبل  حلولا وسط، إذ أيضاً لا حياء في الدين، وإذن في إلزامياته. الوصيا البشرية تُبعِد عن الله وتُقسّي القلوب، لقد وصل المؤمن أن يفتكر بأن المُهم ليس ما يطلب الله منه، لكن ما يطلبه الكتبة، فهذه ديانة غير ديانة الله. هذا ما قصده يسوع بانتقاده لهم، إذ رأى "هذا الشعب يكرِّمني بشفتيه، وأمّا قلبُه فبعيد عني"(لو 6: 7).إنهم قد نالوا أجرهم. الفريسيون كانوا دائما بوجهبن: في تصرفاتهم، في أخلاقهم، وفي وصاياهم. فكيف كان الإيمان ممكنا بل القبول بما كانوا يقولون. أأمدحكم؟ سأل بولس أهل كورنتس! هكذا  يسوع مع الفريسيين.

 

والسُّؤال النهائي الآن، هل يختلف سلوكنا اليوم عن سلوك الفريسيين قبل ألفيّ سنة؟ أما يُحاول كلٌّ منّا إيجاد ديانة مبسّطة لنفسه (كلٌّ ودينه، الله يُعينه). تُرى لو عاد ابن البشر على الأرض، هل سيتعرّف على ديانته بيننا، بل لنقل بكلماته: هل يجد إيمانا على الأرض؟ لذا فهو أيضا لن يجد لغة جديدة ينتقدنا فيها غيرَ اللّغة والأسلوب، الذين استعملهما مع الفريسيين، إذ كلماتُه لا تعني فقط فرّيسيي زمانه. لقد اقترب زمن المجيء وفيه ترنيمة تقول: غيِّروا أسلوب حياتكم. فكلمات يسوع في إنجيل اليوم وإن قالها في زمان بعيد، لكنّ الهدف والمعنى فيها لم يتغيّر، فهو يريد منّا أن نكون مسيحيين حقيقيين، مُحافظين على الوصايا: من حفظ وصاياي فقد أتمَّ الناموس.. أما قال للشاب الذي سأله ماذا عليّه أن يعمل، حتى يُصبح من أتباعه: إحفظ الوصايا؟ فلا يجوز لكرازة يسوع أن تتركنا لا مبالين، ونفتكر أننا سنخلص مهما عملنا. أعمالنا تحكم علينا وعلى مكاننا في الآخرة. وإنّ أحسن برهان هو مثل الغني وأليعازر، حيث الأولون سيصيرون آخِرين، والآخِرون أوّلين.

 

أملنا كما يقول بولس: حيث كثرت الخطيئة فقد فاضت النعمة علينا، وإن فتحنا قلبنا لهذه النعمة فنستطيع تنظيف قلوبنا من توابع الخطيئة الأصلية، التي ولّدت فينا الكبرياء والفرِّيسيّة، وباستطاعة هذه النعمة أن تنظّف هذه الكبرياء وتعطينا القوة لمحاربة الشر فينا ونصبح تلاميذ صادقين. آمين

 

 

كبيرُكم خادِمِكم

 

كبيرُكُمْ فِيْ مَنْصِبِهْ فَلْيَكُنْ دائِمـاً خادِماً لكُم

فالكِبرياءُ رَذِيلةٌ وعارٌ لِصِيتِكُمْ ومُسْتَقْبَلِكُم

 

وظِيفةُ المَلِكِ لا تَعْنيِ احْتِقانَ السُّلْطه

بَلْ هِيَ خِدْمــةٌ بِلا عَصا ولا شُرْطه

 

مِنْ وقْتٍ لآخرَ كَيْ لا يَنْسَوُا الهدف

كُنْتَ تُذكِّرُهُمْ أنَّ السَّيفَ لَيْسَ شرف

 

مَـْن يَقْتُلُ بالسَّيْفِ بالسَّيْفِ أَيْضـاً يُقْتل

إذْ لا حَقَّ ولا مَكانَ لِمَنِ السَّيْفَ يَسْتَل

 

أعْظَمُ الحُبِّ أنْ يمـوتَ الواحِدُ عَنْ أحبّائِه

فَيُظْهِرَ لَهُمْ قَـولاً وفِعْـلاً أنّهُمْ مِنْ أصدِقائه