موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٥ أغسطس / آب ٢٠٢٠

إيمان المرأة الكنعانية

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
إيمان المرأة الكنعانية

إيمان المرأة الكنعانية

 

الاحد العشرون من السنة: إيمَان المَرأَة الكَنعانيَّة (متى 15: 21-28)

 

النص الإنجيلي (متى 15: 21-28)

 

21 ثُمَّ خَرَجَ يسوعُ مِن هُناكَ وذهَبَ إِلى نَواحي صُورَ وصَيدا 22. وإِذا امرأَةٌ كَنعانيَّةٌ خارِجَةٌ مِن تِلكَ البِلادِ تَصيح: ((رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود، إِنَّ ابنَتي يَتَخَبَّطُها الشَّيطانُ تَخَبُّطاً شديداً)). 23-فلَم يُجِبْها بِكَلِمَة. فَدنا تَلاميذُه يَتَوسَّلونَ إِليهِ فقالوا: ((اِصْرِفْها، فإِنَّها تَتبَعُنا بصِياحِها)). 24 فأَجاب: ((لَم أُرسَلْ إِلاَّ إِلى الخِرافِ الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل))-25. ولَكِنَّها جاءَت فسَجدَت لَه وقالت: ((أَغِثْني يا رَبّ!)) 26 فأَجابَها: ((لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إِلى صِغارِ الكِلاب)). 27 فقالت: ((نَعم، يا رَبّ! فصِغارُ الكِلابِ نَفْسُها تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذي يَتساقَطُ عَن مَوائِدِ أَصحابِها)). 28-فأَجابَها يسوع: ((ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة، فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين)). فشُفِيَتِ ابنَتُها في تِلكَ السَّاعة.

 

مقدمة

يُسلط إنجيل الاحد الأضواء حول معجزة شفاء ابنة المرأة الكنعانية (متى 15: 21-28) التي حدثت على ارض أممية وثنية. وهذا تلميح لوصول ملكوت يسوع ليس الى العالم اليهودي فحسب، إنما أيضا الى العالم الوثني أيضا. فالوثنيون هم أيضا إذا آمنوا بالمسيح، مثل المرأة الكنعانية، يخلصون.  ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 15: 21-28)

 

21 ثُمَّ خَرَجَ يسوعُ مِن هُناكَ وذهَبَ إِلى نَواحي صُورَ وصَيدا.

 

تشير عبارة "خَرَجَ يسوعُ مِن هُناكَ" الى خروج يسوع من ارض جِنَّاسَرِت قرب كفرناحوم (متى 14: 34)، وهي المرَّة الوحيدة المعروفة، التي فيها غادر يسوع حدود فلسطين خلال خدمته تجنُّبا لاحتكاكه باليهود المقاومين لرسالته قبل الأوان. أمَّا عبارة "يسوعُ" فتشير الى اسم المسيح الشخصي. وهي الصيغة العربية للاسم العبري יֵשׁוּעַ " يشوع" ومعناه "الله يخلص". وقد تسمّى "يسوع" حسب قول الملاك ليوسف (متى 1: 21) ومريم (لوقا 1: 31)، وقد وردت لفظة "يسوع" على الاكثر في الاناجيل، وأمَّا لفظة “يسوع المسيح" و"الرب يسوع المسيح " فقد وردت أكثر في سفر اعمال الرسل والرسائل.  أمَّا عبارة "ذهَبَ إِلى نَواحي صُورَ وصَيدا" فتشير الى خارج حدود إسرائيل، وهي دعوة لجميع الأمم الوثنية إلى الملكوت حيث ان للأمم نصيبا في مجيئه وإن كانت خدمته الأرضية لليهود خاصة (متى 15: 24: 26). ومن خلال هذه الدعوة كسر الحلقة العنصرية. أمَّا عبارة "نَواحي صُورَ وصَيدا" فتشير الى مدينتين حيث كانت صور وصيدا من أشهر الموانئ على ضفاف البحر الأبيض المتوسط لسوريا الواقعة على الحدود الشمالية لفلسطين، وهما من أعظم المدن في فينيقية وهي ارضٍ وثنية فيها مزيج من السكان: يهود وأغلبية وثنية، كما عُرفت صور وصيدا بالثراء وازدهار التجارة والعلاقة الطيِّبة مع إسرائيل أيام داود الملك (2صموئيل 11: 2)، ولكن بالرغم من هذه الميزة غرقت المدينة في الشر والفساد ، وللمدينتين هنا معنى لاهوتي أي الامم الوثنية التي سيكون لها نصيب في بشارة يسوع خلال حياته على الارض ولم تنتظر الرسل ليُبشروها. ويُحدِّد انجيل مرقس يقول ان يسوع لم يدخل صور وصيدا، إنما وصل حددوهما (مرقس 7: 24)؛ تمّ تبشير الوثنيين في جهة الغرب، وفي جهة الشرق مع الرجل الممسوس في الجراسين على ضفاف بحيرة طبرية (مرقس 5: 1). وأعلن يسوع ان مسؤولية مدن صور وصيدا الوثنية هي اقل من مسؤولية المدن حول بحيرة طبريا، لأنها كانت دوما تسمع بشارته وتشاهد عجائبه قائلا: "الوَيلُ لَكِ يا كُورَزين! الوَيلُ لَكِ يا بَيتَ صَيدا! فلَو جَرى في صُورَ وصَيدا ما جرى فيكُما مِنَ المُعجزات، لَتابَتا تَوبةً بِالمِسِح والرَّمادِ مِن زَمَنٍ بَعيد. على أَنِّي أَقولُ لكم: إِنَّ صُورَ وصَيدا سيَكونُ مَصيرهُما يَومَ الدَّينونَةِ أَخفَّ وَطأَةً مِن مَصيرِكما" (متى 11: 21-22).

 

22 وإِذا امرأَةٌ كَنعانيَّةٌ خارِجَةٌ مِن تِلكَ البِلادِ تَصيح: ((رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود، إِنَّ ابنَتي يَتَخَبَّطُها الشَّيطانُ تَخَبُّطاً شديداً)).

 

تشير عبارة "امرأَةٌ كَنعانيَّةٌ" الى امرأة أممية من سلالة الكنعانيين الذين سكنوا سورية وفلسطين قبل غزوها على يد يشوع. والكنعانيون في التاريخ الكتابي هم الأعداء التاريخيون للشعب اليهودي، وهم الغرباء بامتياز. وربما هي اول شخص اممي يؤمن بالمسيح. وصفها انجيل مرقس انها "كانت وَثَنِيَّةً Ἑλληνίς (أي غير يهودية) مِن أَصْلٍ سوريٍّ فينيقيّ" (مرقس 7: 26). فهي بالتالي يونانية الثقافة ووثنية العبادة. إذ هي فينيقية الجنسية من سورية وليس من لبنان لان الأرض التي سكنتها المرأة الكنعانية كانت محسوبة عند الرومانيين جزءا من ولاية سورية وتحت حكم واليها. وكان الفينيقيون يسمّون أنفسهم كنعانيون بسبب انحدارهم من الكنعانيين. ولقد دلّ اسم كنعان على مرّ التاريخ على مناطق متعددة غير واضحة المعالم، كأرض الميعاد التي اقام فيه بنو اسرائيل الاقدمون، والشعب الكنعاني ملعون، فهم من أكثر شعوب الأرض شراً، ولعنهم أبوهم نوح اذ قال "مَلْعونٌ كَنْعان! عَبْدًا يَكونُ لِعَبيدِ إِخوَتِه "(تكوين 9: 25). وكان الكنعانيون يعبدون آلهة كثيرة من بينها: ايل وبعل وعشيرة وعشتاروت وعنات وغيرها، ومن بين عاداتهم القبيحة التي يمارسونها في معابدهم الزنى والسكر وذبح الأطفال لتقديمهم للآلهة، لذلك كان اليهود يلعنون الكنعانيين وينعتوهم بالكلاب بسبب شهواتهم الحيوانية ونجاستهم وقسوتهم. وهناك نصوص تلموديه كثيرة في هذا الاتجاه  تحمل في طيَّاتها نصٌ يقول أن "الوثنيين قطعان من المواشي"، "ويجب احتقارهم وبغضهم" (زوهار، فيشلاخ 177).

 

أمَّا عبارة "خارِجَةٌ مِن تِلكَ البِلادِ" في الأصل اليوناني τῶν ὁρίων ἐκείνων ἐξελθοῦσα (معناها خرجت من تلك التخوم) فتشير الى خروج المرأة الكنعانية من بيت او قرية في تلك الأرض قاصدة يسوع لشفاء ابنتها لأنها سمعت بشفقته على المرضى. ويدل خروجها على تخطِّي حدود وثنيتها ومحيطها المنغلق على ذاته وترك نجاسات تلك البلاد لتلتقي بالمسيح. إذ ان مدينة صور غرقت في الشر والفساد حتى إن ملكها أدعى الالوهية كما جاء في الكتب "قُلْ لِرَئيسِ صور: هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبّ: لأَنَّ قلبَكَ قد تَشامَخَ فقُلتَ: إِنِّي إِله وعلى عَرشِ إِلهٍ جَلَستَ في قَلبِ البِحار وأَنتَ بَشَرٌ لا إِله ولست جَعَلتَ قَلبَكَ كقَلبِ إِله (حزقيال 1:28). ويعلق العلامة أوريجانوس "عندما يبتعد الخاطئ عن الشرّ ويعود إلى الخير، فإنّه يخرج من تلك الأراضي التي تسود فيها الخطيئة: ويسرع نحو الأراضي التي تعتبر حصّة الله". أمَّا عبارة "تَصيح" فتشير الى صيحة الإيمان والثقة. ويعلق القديس اوغسطينوس " كانت دائمة الصراخ، وكأنها سبقت فسمعت قوله: "إِسأَلوا تُعطَوا، أُطلُبوا تَجِدوا، إِقرَعوا يُفتَحْ لكُم " (متى 7: 7). أمَّا عبارة "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود" فتشير الى مناشدة يسوع بصلاة مؤمنة يهودية "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود". والمرأة لم تعرف النبوءات ولكنها سمعت عن المسيح من اليهود فآمنت. ونادته كما يناديه اليهود. وهذه الصلاة هي صدى لطلب الاعميين "رُحْماكَ يا ابْنَ داود" (متى 9: 27) او طلب أعمى أريحا "رُحْماكَ، يا ابنَ داود، يا يَسوع" (مرقس 10: 47)؛ أمَّا عبارة "رُحْماكَ" فتشير الى طلب الرحمة وليس الشفاء من المسيح. أمَّا عبارة " يا ابنَ داود" فتشير الى تعبير يهودي يخصُّ المسيا المنتظر، وأصبح اللقب الشعبي الخاص بالمسيح (متى 15: 22و 20: 30-31 و21: 9). ويبدو ان بعض معاصري يسوع اعترفوا به "ابنا لداود" (مرقس 10: 47-48) حيث أعلن الرسل عن "ابن داود" في كرازتهم (اعمال الرسل 2: 29-32) وفي شهادة ايمان بولس الرسول (رومة 1: 3-4). لمّا آمنت المرأة الكنعانية بيسوع ابن داود الذي يجسّد محبّة الله ورحمته لها، لم تُعط ابنتها فقط حياة جديدة، بل سمحت ليسوع أيضًا أن يُعلن أنّه ربّ الحياة والراعي الصالح لكلّ إنسان. اما "يا ابنَ داود" الى لقبٍ مسيحاني خاص باليهود. عرفت هذه المرأة ان تدخل في حياة يسوع بطريقة جريئة، وتهدم على الفور الحواجز التاريخية الراسخة، وتدخل فعليًا إلى حيز مستبعد وممنوع عنها.  أمَّا عبارة "يَتَخَبَّطُها الشَّيطانُ تَخَبُّطاً شديداً" في الأصل اليوناني κακῶς δαιμονίζεται. (معناها ممسوسة شرا) فتشير الى "روح نجس" (مرقس 7: 25)، وهي تعبير عن صيحة استغاثةٍ في الشفاء تخرج من قلب الأمّ المُحبّة لان ابنتها تتعذّب عذابًا أليمًا، أمَّا عبارة "الشيطان" فتشير الى ارتباط المرض بالروح النجس (مرقس 7: 25).  والدليل على ذلك انه لمّا طُرد يسوع الشيطان شُفيت ابنة المرأة الكنعانية. وقد تكرَّر لفظة شيطان 23 مرة في العهد الجديد. كثيرا ما تكون مصائب الانسان بركة له بانها تقود الى المسيح، فلولا مرض تلك البنت ما عرفت هي وامها المسيح.

 

23 فلَم يُجِبْها بِكَلِمَة. فَدنا تَلاميذُه يَتَوسَّلونَ إِليهِ فقالوا: ((اِصْرِفْها، فإِنَّها تَتبَعُنا بصِياحِها)).

 

تشير عبارة" لَم يُجِبْها بِكَلِمَة" الى صمت الرب وعدم قبول طلبها لشفاء ابنتها، لأنها كانت غريبة عن العهد، الاَّ انه يمكن اعتباره اختباراً لإيمانها، وما الاختبار الا طريقة الله في مبادرته بالخلاص (أفسس 2: 11-18)؛ والرغم من عدم استجابة يسوع الى توسّلات المرأة المسكينة ووعدن إجابته لها بكلمة، لم تيأس ولم تتراجع، بل زادت صياحًا وتصميمًا، لأنّ ألمها كان شديا لا يُطاق.  ويُعلق القديس اوغسطينوس "صرختْ وكأن المسيح لا يسمعها، مع أنه كان يدبّر الأمر بهدوء، إنّما ما حدث كان هدفه ان يُلهب رغبتها ويُظهر تواضعها". وكان هدف صمته أيضا ان تستمر المرأة في لجاجتها فتطهُر. نستطيع القول ان للمسيح طرق مختلفة مع كل انسان ليجذبه للخلاص. اما عبارة "فَدنا تَلاميذُه يَتَوسَّلونَ إِليهِ " فتشير الى توسط التلاميذ للمرأة شفقة عليها او ضجر من لجاجتها او خوفا ان يجتمع الناس على صراخها. أمَّا عبارة "اِصْرِفْها" فتشير الى طلب التلاميذ من يسوع ان يعطي المرأة ما تطلب ويصرفها، للتخلُّص من صياحها ولجاجتها، لأنّ كثيرين يسمعونها فتُلفت انتباههم إلى هذه المجموعة اليهوديّة. وفي الواقع لعب الرسل دور الوساطة بين يسوع وهذه المرأة لكي يساعدوا الوثنيين على الدخول الى خلاص الله. أمَّا عبارة "بصِياحِها" فتشير الى لجاجتها وإزعاجها؛ من الأرجح انها أظهرت حزنها وإيمانها فلذلك سأل التلاميذ المسيح ان يجيب طلبها. وصياحها تذكرنا في تعليم يسوع حول الالحاح في الصلاة "وإِن لم يَقُمْ ويُعطِه لِكونِه صَديقَه، فإِنَّه يَنهَضُ لِلَجاجَتِه، ويُعطيهِ كُلَّ ما يَحتاجُ إِلَيه" (لوقا 11: 8) كما فعل أيضا القاضي الظالم في تلبية طلب الارملة "َهذِه الأَرمَلَةَ تُزعِجُني، فسَأُنصِفُها لِئَلاَّ تَظَلَّ تَأتي وتَصدَعَ رَأسي" (لوقا 18: 4-5).

 

24 فأَجاب: ((لَم أُرسَلْ إِلاَّ إِلى الخِرافِ الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل)).

 

تشير عبارة "لَم أُرسَلْ إِلاَّ إِلى الخِرافِ الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل" الى جواب يسوع بالرفض الصريح للمرأة باعتباره ابن داود. أراد يسوع في البداية ان يثبّت الحواجز ويركّز على المسافات التي يجب أن تحترم بين اليهود والوثنيين. يسوع بصفته ابن داود أتي من اليهود ولليهود فقط كما ورد في الكتاب المقدس "جاءَ إِلى بَيتِه" (يوحنا 1 :11). وكما أمر تلاميذه "لا تَسلُكوا طَريقاً إِلى الوثَنِيِّين" (متى 10 :5)، لكن يسوع لم يأت كي يفصل ويثبت الحواجز بل ليوحد بين الشعوب، هكذا بموته صار كفارة للعالم أجمع فطلب من تلاميذه عندئذٍ "إِذهَبوا في العالَمِ كُلِّه، وأَعلِنوا البِشارَةَ إِلى الخَلْقِ أَجمَعين (مرقس 16 :15)، ومن هذا المنطلق قصد يسوع أن يفهمها أنها بصفتها أممية ليس لها نصيب فيه كابن داود. ويعلق القدّيس هيلاريوس "وهنا لا يُقصد بأنّ الوثنييّن لن ينالوا الخلاص أيضًا، ولكنّ الربّ "جاء إلى بيته وإلى خاصّته" (يوحنا 1: 11)، وكان ينتظر باكورة الإيمان من الشعب الّذي أتى منه، بما أنّ الآخرين سينالون الخلاص بفضل بشارة الرسل"(تعليق على إنجيل القدّيس متّى). وهذا هو صدى تعليمه للرسل كما جاء في أندي متى "هؤلاءِ الاثنا عَشَر أَرسلَهُم يسوع وأَوْصاهم قال: لا تَسلُكوا طَريقاً إِلى الوثَنِيِّين ولا تَدخُلوا مَدينةً لِلسَّامرِيِّين، بَلِ اذهَبوا إِلى الخِرافِ الضَّالَّةِ من بَيتِ إِسرائيل" (متى 10: 5-6). ولا يعني هذا ان بقية الشعوب غير مشمولة في رسالة الرب يسوع الخلاصية. فهذه الرسالة لا بُد أن تبدأ اولاً بين شعبه، لأن الله وعد آباء اليهود: ابراهيم واسحق ويعقوب بمجيء المسيّا لليهود، فلو ذهب السيد المسيح للأمم لرفضه اليهود لشدة تعصبهم، لذلك قال بولس الرسول: "إِنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ قَدْ صَارَ خَادِمَ الْخِتَانِ، مِنْ أَجْلِ صِدْقِ اللهِ، حَتَّى يُثَبِّتَ مَوَاعِيدَ الآبَاءِ. وَأَمَّا الأُمَمُ فَمَجَّدُوا اللهَ مِنْ أَجْلِ الرَّحْمَةِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ سَأَحْمَدُكَ فِي الأُمَمِ وَأُرَتِّلُ لاسْمِكَ"، (رومة 15: 8-9). ولا يُعقل ان يبشر الرب يسوع الامم الذين لا يعرفون الله اولاً، ثم يلتفت للشعب الذي انتظر مجيء المسيح الاف السنين أجل! إن الوعد بمجيئه كان لبني اسرائيل لكن الخلاص الذي قدَّمه يشمل العالم اجمع فهو القائل "ولي خِرافٌ أُخْرى لَيسَت مِن هذِه الحَظيرَة فتِلكَ أَيضاً لابُدَّ لي أَن أَقودَها وسَتُصغي إِلى صَوتي فيَكونُ هُناكَ رَعِيَّةٌ واحِدة وراعٍ واحِد" (يوحنا 10: 17). فكان لا بُد أن تبدأ رسالته اولاً بين شعبه لأن الله وعد آباء اليهود ابراهيم واسحق ويعقوب بمجيء المسيح لليهود. فليس هناك تعارض بين كلمات يسوع هذه مع نبوءات العهد القديم خاصة أشعيا " بَيتي بَيتَ صَلاةٍ يُدْعى لِجَميعِ الشُّعوب" (أشعيا 56: 7) من ناحية، ولا مع حقيقة رسالة الله الموجَة لجميع الناس "فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم" (متى 28: 19) من ناحية أخرى. فكانت مهمة يسوع مختصة باليهود ولكن أُنبي عن هذا الشعب بانه تتبارك به كل قبائل الأرض (تكوين 22 18). ان اليهود يجب ان تكون لهم الفرصة الاولى لقبوله مسيحا، لان الله اختارهم لتقديم رسالة الخلاص لسائر العالم كما قال الله لإبراهيم "وَيتَبَارَكُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض" (تكوين12: 3). وبعبارة أخرى اعتبر يسوع نفسه مرسلا بالدرجة الاولى الى بيت إسرائيل، ثم بعد موته وقيامته يُبشَّر الوثنيين بالخلاص (متى 8: 5-13). ويعتبر التخصيص مرحلة من المراحل نحو توسّع عالمي اشمل في خطة خلاص الله. لان الله يريد الخلاص لأكبر عدد ممكن لا أقل عدد ممكن. وهناك نصوص كثيرة في انجيل متى تؤيد هذا التفسير كشفاء خادم قائدا المئة (متى 8: 5) ومثل الكرامين "إنَّ مَلكوتَ اللهِ سَيُنزَعُ مِنْكُم، ويُعطى لأُمَّةٍ تُثمِرُ ثَمرَه" (متى 21: 43). ونستطيع القول إن هذه المرأة عجّلت بفتح باب الخلاص للوثتين. أمَّا عبارة "الخِرافِ الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل" فتشير الى إسرائيل كلّه الذي ضل الطريق، ولم يعرف يسوع الذي هو "الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة (يوحنا 14: 6) او الى الخاطئين في إسرائيل كما جاء في تعليم يسوع من خلال الخروف الضال "إِذا كانَ لِرَجُلٍ مِائةُ خَروف فضَلَّ واحِدٌ مِنها، أَفلا يَدَعُ التِّسعَةَ والتِّسعينَ في الجِبال، ويَمضي في طَلَبِ الضَّالّ؟" (متى 18: 12).

 

25 ولَكِنَّها جاءَت فسَجدَت لَه وقالت: ((أَغِثْني يا رَبّ! ))

 

تشير عبارة "جاءَت فسَجدَت لَه" الى تتبع المرأة يسوع حتى دخوله البيت (مرقس 7: 24)، فدخلت على أثرة ودنت منه وسجدت كما سجد الرسل بعد العاصفة (متى 14: 33) وكما فعل أحد الوجهاء "أتى بَعْضُ الوُجَهاءِ فسجَدَ لَه وقال: ((ابنَتي تُوُفِّيَتِ السَّاعة، ولكِن تَعالَ وَضَعْ يَدَكَ عَليها تَحْيَ (متى 9: 18). لقد حقّقت هذه المرأة بهذا ما ترنّم به صاحب المزامير "اسمَعي يا بِنتُ واَنظُري وأَميلي أُذُنَكِ إِنسَي شَعبَكِ وبَيتَ أَبيكِ فيَصْبُوَ المَلِكُ إِلى حُسنِكِ إِنَّه سَيِّدُكِ فلَه اْسجُدي" (مزمور 45: 10-11). يا له من إيمان عظيم! المحن التي يتعرض لها إيماننا هي التي تنقي الايمان وتُبرز قوة الصلاة الحقيقية. أمَّا عبارة "يا رَبّ!" في الأصل اليوناني Κύριε, (معناها السيد)  فتشير الى تسمية المرأة الكنعانية ليسوع باسم الرب اعتبارا ان رب الجميع وليس اليهود فقط  كما نادته سابقا "ابن داود". أمَّا عبارة "أَغِثْني يا رَبّ!" فتشير الى صلاة وجيزة في طلب النجدة والمعونة. وهذه الصلاة تذكرنا بصلاة صاحب المزامير "إِستَمِعْ لِصَوتِ تَضَرُّعي حين أَصرُخُ إِليكَ أَرفَعُ يَدَيَّ إِلى قُدْسِ أَقْداسِكَ" (مزمور 28: 2). فعندما تطلب الأمّ مساعدة من أجل ابنها لا تستسلم أبدًا؛ فماذا ينقصها بعد لتكون من الابناء، وتنعم تماما بما هم ينعمون؟

 

26 فأَجابَها: ((لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إِلى صِغارِ الكِلاب))

 

تشير عبارة "لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إِلى صِغارِ الكِلاب" الى مثل شعبي منتشر بين اليهود، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم "البنين" وباقي الامم ينعتونهم بالكلاب بسبب نجاستهم؛ ويُعلق القديس أوغسطينوس أن "الذين ظنّوا في أنفسهم أبناء، حرموا أنفسهم من مائدة الملكوت خلال جحودهم، والذين كانوا في شرّهم ودنسهم كالكلاب، صاروا بالحق أبناء يدخلون وليمة أبيهم السماوي"؛ امَّا عبارة "لا يَحسُنُ" فتشير الى جواب يسوع انه غير لائق ان يؤخذ الطعام منهم ويُعطى للأمم. اما عبارة "خُبزُ البَنينَ" فتشير الى الخبز المُعد للبنين واراد به بركات الانجيل من معجزات وغيرها مما خصَّ الله بها اليهود أولا باعتبارهم أبناء الملكوت (متى 8: 12) وورثة المواعيد. اما عبارة "خُبزُ البَنينَ" فتشير المسيح نفسه. فالكل مدعو اليه مجانا.  اما عبار "يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ" فنشير الى جواب يسوع في غاية القسوة متحدِّيا المرأة الكنعانية ويعلق القديس اوغسطينوس "بلا شك لا يحتقر السيّد خليقته، ولكنه ربّما قال هذا مردِّدًا ما كان يردِّده اليهود لكي يمجِّد من ظنَّهم اليهود كلابًا، معلنًا كيف صاروا أعظم إيمانًا من البنين أنفسهم".  أمَّا عبارة "البَنينَ" فتشير الى أبناء البيت وهم اليهود الذين هم في البيت، والذين لهم المواعيد، وعندهم الانبياء ومنهم المسيح وبهم يبدأ الخلاص. أمَّا عبارة "صغار الكِلاب" فتشير الى حيوان نجس يُذكر أحيانا مع الخنزير "لا تُعطُوا الكِلابَ ما هَو مُقدَّس، ولا تُلْقوا لُؤلُؤَكُم إِلى الخَنازير" (متى 7: 6) وكان اليهود يلقبون به الوثنيين أي الامم الذين هم في خارج البيت، الذين لا يعرفون الله، ولا ينتمون الى ابراهيم. فكان اليهود يعتبرون الغرباء كلاباً من جهة نوال بركة الله وبسبب عدم طهارتهم حسب الشريعة ولأنهم لا يعبدون الإله الواحد. فهناك مقارنة بين البنين (الذين في البيت وهم الشعب اليهودي) والكلاب (الذين هم في الخارج، أي الوثنيون). الكلاب يأكلون بعد البنين والوثنيون ينتظرون دورهم الى المائدة.  وكان موقف المسيح يقصد امتحان إيمان المرأة عالما انها قادرة على احتمال الموقف كما جاء في الكتاب المقدس" ما تُصِبْكُمْ تَجرِبَةٌ إِلاَّ وهي على مِقدارِ وُسْعِ الإِنسان. إِنَّ اللهَ أَمينٌ فلَن يأذَنَ أَن تُجَرَّبوا بما يفوقُ طاقتَكم، بل يُؤتيكُم مع التَّجرِبَةِ وَسيلةَ الخُروجِ مِنها بِالقُدرةِ على تَحَمُّلِها" (1 قورنتس 13:10). ويسوع بهذه الإجابة أعطى درسًا لليهود السامعين أن الأمم ليسوا كلابا بل فيهم من هم أحسن من اليهود. اما عبارة "الكِلاب" فتشير الى استعارة في الكتاب المقدس للإهانة إذا قُصد بها كلاب الازقة (تثنية الاشتراع 23: 8 ومتى 7: 6)، واستعار اليهود الكلاب لإهانة الأمم بدعوى ان الجامع بينهم تنجيس الآخرين. امَّا عبارة "صِغارِ الكِلاب" فتشير الى كلاب البيت التي تجلس تحت مائدة اربابها. لم يقل يسوع للمرأة الكنعانية أنتِ كلبة، حاشا للرب يسوع المسيح أن يشتم فهو البار والقدوس "إنَّه لم يَرتكِبْ خَطيئَةً ولَم يُوجَدْ في فَمِه غِشّ" (1 بطرس 2: 22). استخدم يسوع هذه الكلمات امتحانا للتواضع المرأة الكنعانية وإيمانها علما ان قلب يسوع مملوء حنوا ورحمة لتلك المرأة وهذا الامر يُذكرنا بيوسف في مصر من القساوة لإخوته مع ان قلبه مملوء محبة لهم (التكوين 42: 7، 24). لكن ما قاله يسوع للمرأة "لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إِلى صِغارِ الكِلاب" (متى 15: 26، 28) لا يمكن فهمه إلاّ امتحانا لإيمان تلك المرأة الوثنية، ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "لم يقصد بأجوبته إلحاق الأذى بها، إنّما كشف الكنز الكامن بداخلها"(عظات عن إنجيل القديس متّى، العظة 52)، ويمكن ان نلخص هذه الآية بان جواب المسيح للمرأة ان الساعة لإظهار الرحمة للأمم لم يأتِ بعد. إنّ الخلاص يبدأ أولاً باليهود ثمّ يعمّ العالم، ولذلك ودعا يسوع تلاميذه للتحرُّر من التزمّت العنصري اليهودي ويذهبوا إلى العالم الوثني بعد موته وقيامته.

 

 27 فقالت: ((نَعم، يا رَبّ! فصِغارُ الكِلابِ نَفْسُها تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذي يَتساقَطُ عَن مَوائِدِ أَصحابِها))

 

تشير عبارة "نَعم، يا رَبّ" الى تكرار المرأة الكنعانية نداء يسوع بهذا اللقب ثلاث مرات للدلالة على ان مستوى الإيمان صعد في قلبها وعقلها إلى للقول عن إنسان لا تعرفه: "يا رَبّ! امَّا عبارة "صِغارُ الكِلابِ" باليونانية τὰ κυνάρια (معناها الكلاب الصغيرة المنزلية الاليفة لا الكلاب الشاردة) فتشير الى الازدراء والاحتقار كما استخدمها بولس الرسول في رسالته "إِحذَروا الكِلاب" (فيلبي 3: 2). أمَّا عبارة "نَعم، يا رَبّ!" فتشير الى موافقة المرأة الكنعانية على كلام يسوع كجواب لإيمانها معترفة بأولوية اليهود في الدخول الى الخلاص.  ويعلق القديس اوغسطينوس "إنكَ تنطق بالحق، لكن ينبغي ألا أُحرم من البركة بسبب هذا". أمَّا عبارة "صِغارُ الكِلابِ نَفْسُها تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذي يَتساقَطُ عَن مَوائِدِ أَصحابِها" فتشير الى جوابها التي ينص على انه لا يجوز ان يُحرم البنين خبزهم لتأكله الكلاب، ولكن للكلاب تأكل الفتات الساقطة من مائدة البنين. والمقصود بذلك انَّ المرأة الكنعانية لا تطالب المقاسمة ولا المناصفة، ولكن المشاركة في الفائض. واقرَّت ان الله اختار شعبا جعل منه يسوع نقطة انطلاق لرسالته، فالاختيار يتضمن امتياز، ولكنه يتضمن أيضا مسؤولية. وقَبل يسوع، بناء على طلب المرأة الكنعانية، ان يوزّع خبز البنين (المخصص لليهود) على صغار الكلاب" (الأمم) معلنا ان الخبز الذي كان مُخصَّصاً لإسرائيل، يوزّع يوما على الجميع. ان اختيار الله مجاني، لا اعتباط ولا عنصري بل نعمة من اجل العالم. اما عبارة "أَصحابِها" فتشير الى تعدد ارباب العائلات مع انه ارادت المرأة واحدا هو الله لأنه رب كل عائلة.  انها مثال لنا بان نطلب الحياة من يسوع مهما ظهر لنا من موانع.

 

28 فأَجابَها يسوع: ((ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة، فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين)). فشُفِيَتِ ابنَتُها في تِلكَ السَّاعة. 

 

تشير عبارة "ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة" الى مدح يسوع للمرأة أمام الجميع على إيمانها وتواضعها بعد الإصغاء إلى إيمانها وروية ألمها. الله لا يعلن عمله في إنسان إلا بقدر ما يعلن هذا الإنسان عن إيمانه. الإيمان يحقّق المستحيل، ويجعل الله يحقّق للإنسان ما يريد. الإيمان الذي طالما بحث يسوع عنه عبثاً داخل حدود إسرائيل، حتى في الأماكن التي اجترح فيها معظم معجزاته. وفي الواقع، لم يمدح يسوع هذا المدح سوى قائد المائة "أُعْجِبَ بِه وقالَ لِلَّذينَ يَتبَعونَه: ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: لَم أَجِدْ مِثلَ هذا الإِيمانِ في أَحَدٍ مِنَ إِسرائيل" (متى 8: 10). وكلاهما من الوثنيين. وهكذا أوجدت المرأة الكنعانية بإيمانها مكانا لنفسها بين أبناء إبراهيم وإسحق ويعقوب، واستحقت أن تجلس على المائدة مع البنين، وأن تحصل على خبز البنين، وبالتالي انضمت هذه المرأة للملكوت الذي أتى المسيح ليؤسسه كما جاء في تعليم بولس الرسول "المِيراثُ يَحصُلُ بِالإِيمان لِيَكونَ عَلى سَبيلِ النِّعمَة ويَبقى الوَعْدُ جاريًا على نَسْلِ إٍبراهيمَ كُلِّه، لا على مَن يَنتَمونَ إِلى الشَّريعةِ فَحَسْبُ، بل على مَن يَنتَمونَ إِلى إِيمانِ إِبراهيمَ أَيضًا. وهو أَبٌ لَنا جَميعاً" (رومة 4: 16)؛ اراد بهذا المدح ان يقول لليهود إن هذه المرأة الكنعانية أظهرت ايماناً بالله أكثر منهم بسبب مقاومتهم لكلامه وتعاليمه. أمَّا عبارة "فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين" فتشير الى استجاب طلب الكنعانية بشفاء ابنتها، فكان لها ما ارادت بإيمانها بعدما اظهر لها في بادئ الامر انه لا يريد ان يعطيها أدنى شيء. الحّت المرأة الكنعانية على يسوع كثيراً، ونالت ما تمنّت. ويُعلق القديس اوغسطينوس "ما حُرم منه اليهود أصحاب الوعود بسبب كبريائهم نالته الأمم المحرومة من المعرفة بسبب تواضعهم". أمَّا عبارة "فشُفِيَتِ ابنَتُها في تِلكَ السَّاعة" فتشير الى خروج الشيطان من ابنة الكنعانية بكلمة الرب عن بُعد كما كان الامر في شفاء ابن رئيس المجمع في كفرناحوم (يوحنا 4: 50، وخادم قائد المائة (متى 8: 13). ويُعلق القديس أوغسطينوس "أن شفاء ابنة هذه المرأة دون أن يذهب المسيح إليهما معناه أن الأمم سيخلصون بالكلمة دون أن يذهب المسيح إليهم بالجسد". ليس المسيح الذي ينتظره الشعب اليهودي، بل هو المخلص الذي ينتظره جميع البشر. انه يستطيع ان يُحرِّر من جميع قوى الشر التي تُهمين عليهم.

 

 ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 15: 21-28)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 15: 21-28)، نستنتج انه يتمحور حول كيفية وصول الوثنيين الى الخلاص. الجواب هو إنهم إذا آمنوا مثل المرأة الكنعانية يخلصون حيث ان الإيمان مفتوح لجميع الشعوب.  ومن هنا نبحث في نقطتين: ايمان المرأة الكنعانية وشمولية رسالة يسوع الانجيلية.

 

1) إيمان المرأة الكنعانية:

 

كان إيمان المرأة الكنعانية كبيرا بيسوع، إذ التجأت إلى يسوع بكل ثقة وتواضع متوسلة اليه ان يحل محنتها في مرض ابنتها، وهذه المحنة ثبَّتت إيمانها عبر المراحل التالية:

 

المرحلة الأولى: الدعاء

 

بدأ إيمان المرأة الكنعانية بان جاءت الى يسوع وصاحت: "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود، إِنَّ ابنَتي يَتَخَبَّطُها الشَّيطانُ تَخَبُّطاً شديداً" (متى 15: 22). ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "عندما اقتربت المرأة الكنعانيّة من الرّب يسوع، كان مشهدًا مؤثّرًا رؤية امرأة تبكي بهذا القدر من المشاعر، أمٌّ تتوسّل من أجل ابنتها، وهي طفلة في حالة جسديّة يُرثى لها. هي لم تقل "ارحم ابنتي"، ولكنّها قالت: "ارحمني"، "ابنتي لا تعي مرضها ولكن أنا أتألّم ألف مرّة"، (عظات عن إنجيل القديس متّى، العظة 52).

 

آمنت المرأة الكنعانية ان يسوع هو ابن داود، "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود" (متى 15: 22)، ابن داود هو اللقب الشعبي الخاص بالمسيح (متى 15: 22و 20: 30-31 و21: 9)، ويبدو ان بعض معاصري يسوع اعترفوا به "ابنا لداود" (مرقس 10: 47-48) ولقد أُعلن ابن داود في كرازة الرسل (اعمال الرسل 2: 29-32) وفي شهادة إيمان بولس الرسول "في شَأنِ ابنِه الَّذي وُلِدَ مِن نَسْلِ داوُدَ بِحَسَبِ الطَّبيعةِ البَشَرِيَّة، وجُعِلَ ابنَ اللهِ في القُدرَةِ، بِحَسَبِ روحِ القَداسة، بِقِيامتِه مِن بَينِ الأَموات، أَلا وهو يسوعُ المسيحُ ربّنا" (رومة 1: 3-4).

 

 وقَبِل يسوع لقب "أبن داود" (متى 21: 9)، انه ذاك الذي كلّفه الله بإعلان مجيء الملكوت وافتتاحه بآلامه وموته، لكنه لم يحقق هذا الملكوت بالطريقة الحربية والمجيدة، لان فئة من معاصريه كانوا ينظرون اليه نظرة بشرية سياسية في جوهرها. إنه اتى "ليخدم" كما صرّح "هكذا ابنُ الإِنسانِ لم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفسِه جَماعَةَ النَّاس" (متى 20: 28). انه أتى لا ليستولي على الشعب بالعنف، بل ينشر ملكوته بالتواضع (يوحنا 18: 37). ولذلك أبناء مملكته، في ذلك الزمن، كانوا من فئة الأطفال الذيم كانوا " يَهتِفونَ في الهَيكَل: هُوشَعْنا لابنِ داود!" (متى 21: 15) ومن فئة مساكين الله، الرعاة (لوقا 2: 14).

 

المرحلة الثانية: السجود

 

ابتدأ يسوع بعدم الجواب كما لو أنّها غير موجودة! "فلَم يُجِبْها بِكَلِمَة" (متى 15: 23) ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "فصمته وحده كان يمكن أن يكون كافيًا لإطفاء بصيص الأمل... لكنّ هذه المرأة لم تفقد من عزيمتها، بل على العكس اقتربت أكثر "جاءَت فسَجدَت لَه وقالت: أَغِثْني يا رَبّ!" (متى 15: 25)"، (عظات عن إنجيل القديس متّى، العظة 52).

 

لم يردّ يسوع على صراخ المرأة الكنعانية بكلمة بل صمت. بناءً على توسُّل التلاميذ، أَجابها يسوع "لَم أُرسَلْ إِلاَّ إِلى الخِرافِ الضَّالَّةِ مِن بَيتِ إِسرائيل" (متى 15: 24) وعندما لم يُثنيها كلامه عن عزمها بل واصلت طلبها، قدّم لها الضربة القاضية قائلُا "لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إِلى صِغارِ الكِلاب" (15: 26)؛ فقد أستعمل يسوع هذه المرّة كلمات جافة إذ يُشبّهها بالكلاب التي لا يجوز لها أن تأكل من خبز البنين. ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "إن كنت كلبًا صغيرًا في هذا المنزل، فأنا لست بغريبة بعد الآن. وأنا أعرف جيّدًا أنّ الطعام ضروري للبنين، لكن يجب ألاّ تمنع عنّي الفتات... يجب ألاّ ترفض إعطائي الفتات، فإنّي أنا الكلب الصغير الذي لا يمكن إزاحته" (عظات عن إنجيل القديس متّى، العظة 52).

 

لكن المرأة الكنعانية لم تيأس بل "جاءَت فسَجدَت لَه وقالت: ((أَغِثْني يا رَبّ!" (متى 15: 25) فاستجاب يسوع لصلاة إيمان المرأة الكنعانية "أَغِثْني يا رَبّ!" مثلما استجاب "صراخ الابرص (مرقس 1: 40: 41)، ويائريس (مرقس 5: 16) واللص اليمين (لوقا 23: 39). وكشفت هذه المرأة عمق إيمانها امام تحديات يسوع. واخذ التقليد يردِّد دعاء "يا يسوع المسيح، ابن الله الرب، ارحمني انا الخاطئ!" الذي هو صدى الى صلاة المرأة الكنعانية "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود"؛ ان يسوع، يستجيب دائما للصلاة التي تتوسل اليه بإيمان سواء كان الامر شفاء من الامراض، او مغفرة خطايا كما حدث مع المرأة الخاطئة "إِيمانُكِ خَلَّصَكِ فاذهَبي بِسَلام" (لوقا 7: 50).

 

وتخطَّت المرأة الكنعانية الصعوبات والتحديات وتمكَّنت أن تكون قوية وتتحمل المعاناة بعزم ثابت وقوة وإصرار، ولم تضعف ابداً، ولم تيأس ولم تتراجع، بل ازدادت صياحًا وتصميمًا بالرغم من وجود ايضا تجارب الشيطان الذي كان يصارع ابنتها المريضة. واستطاع أخيرا إيمانها ان ينتزع معجزة شفاء ابنتها من يسوع، وهذ ما لم يعمله في الناصرة "ولَم يُكثِرْ مِنَ المُعجِزاتِ هُناكَ لِعَدَمِ إِيمانِهِم" (متى 13: 58). وإيمان الكنعانية تلميح الى وصول خدمة الإنجيل في كل العالم.  يضع الناس حواجز وحدود، أمَّا الله فنظرته واحدة الى كل أنسان، إنه يرغب في خلاص جميع البشر، يكفي الايمان والإيمان يُحطم الحواجز بين الشعوب.

 

المرحلة الثالثة: الايمان

 

عبَّرت المرأة الكنعانية عن إيمانها بتواضعها قائبة "نَعم، يا رَبّ! فصِغارُ الكِلابِ نَفْسُها تأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذي يَتساقَطُ عَن مَوائِدِ أَصحابِها" (متى 15: 27)، ان يسوع أراد أن يلبّي طلب المرأة الكنعانية ليس لأجل جنسها بل لأجل إيمانها. فقال لها "لا يَحسُنُ أَن يُؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فيُلْقى إِلى صِغارِ الكِلاب" (متى 15: 26)، لأن اليهود كانوا يصفون هؤلاء الناس بالكلاب، وغاية كلامه أن يسمع اليهود والتلاميذ أن من تعتبرونهم أنجاساً ومزعجين، يستحقون أيضاً الرحمة وخاصةً إذا آمنوا به ووثقوا فيه. لقد فهمت المرأة الفينيقية الكنعانية كلام المسيح، فكان جوابها حكيماً جداً. لقد تأكدت المرأة ان المسيح لا يقصد إهانتها على الإطلاق بل أراد أن يوصل رسالته إلى من يسمعه بأن الأمم أيضاً لهم نصيب في محبته وخلاصه. وهكذا تحققت فيها نبوءة أشعيا " رَأَوا ما لم يُخبَروا بِه وعايَنوا ما لم يَسمَعوا بِه" (أشعيا 52: 15).

 

ويُعلن بولس الرسول أنّه في حين رفض الشعب المختار خبز البنين، يكون قد فتَحَ رفضهم الباب للوثنيين (الكلاب) كما جاء في تعليمه "نِلتُمُ الآنَ رَحمَةً مِن جَرَّاءِ عِصْيانِهم" (رومة 11: 30). ويعلق القديس اوغسطينوس "الذين لم يُرسل إليهم الانبياء هم الذين سمعوا الأنبياء أولا وفهموا، الذين لم يسمعوا من قبل، لما سمعوا تعجّبوا وقبلوا. والذين أرسل إليهم الأنبياء بقَوا يحملون الكتب ولا يفهمون الحقيقة التي فيها". فصارت هذه المرأة الكنعانية الملحدة الوثنية ابنة لإبراهيم ومثالا ومثلا للمؤمنين في العالم الوثني كما كان زكا العشار إبناً لإبراهيم مثالا للتائبين في الشعب اليهودي. وقد أصبحت هذه المرأة الوثنية ابنة لإبراهيم لا بما مارسته من شريعة، بل من أجل إيمانها. إذا كانت القضية قضية إيمان فهي تؤمن، ولن تنتظر ان يأتي دور الوثنيين بعد ان يهتدي اليهود. فهي تعتبر نفسها من منذ الآن من الأبناء. 

 

المرحلة الأخيرة: المدح والمكافأة

 

لم يتردد يسوع إزاء إيمان المرأة الكنعانية الاّ ان يمدح إيمانها: " فأَجابَها يسوع: ((ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة، فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين)). واستجاب طلبها وقال كلمة لم يقلها لأحد:" فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين. فشُفِيَتِ ابنَتُها في تِلكَ السَّاعة" (متى 15: 28). اكتشف يسوع كنز الإيمان المدفون أيضا خارج حدود إسرائيل في المرأة الكنعانية.

 

امتدح يسوع إيمان المرأة الكنعانية كما امتدح إيمان قائد المئة، لم ينظر يسوع فقط إلى جرحها الحقيقي في عذابات ابنتها، بل نظر أيضا إلى صبرها أمام صمت الله، إلى رجائها في انتظار كلمة الله، إلى ثقتها بمشيئة الله بعكس الفريسيين. فهناك تناقض عجيب بين موقف الفريسيين الذين يقاومون المسيح وبين هذه المرأة الكنعانية الأممية الوثنية التي تحيا في النجاسة. لقد تحوّل الكتبة والفرّيسيّون بعمى قلوبهم عن يسوع، وقاوموه (متى 15: 10-20) ولم يكتشفوه بسبب كبريائهم ومحبتهم للمال، بالرغم أنهم مدافعون عن الناموس، في حين سعت المرأة الكنعانية الأممية الوثنية التي تحيا في النجاسة أن تكتشف في يسوع مسيحًا شافيًا قادرًا أن يصنع المعجزات، فجأت تطلب الشفاء لابنتها التي يتخبطها الشيطان (متى 15: 22)، فالتقت بيسوع وكلها إيمان. ويعلق القدّيس هيلاريوس " وأصبحت هذه المرأة الكنعانية صورة الشعب الوثنيّ أذ أتت جموع بأناس مصابين بمختلف الأمراض إلى الربّ على الجبل (متى30:15). هم أشخاص غير مؤمنين، أي مرضى، ولكنّ المؤمنين اقتادوهم إلى العبادة والسجود فنالوا الخلاص ليدركوا الله ويعاينوه ويسبّحوه ويتبعوه" (تعليق على إنجيل القدّيس متّى). بهذا تحدى يسوع هنا الأفكار والاحكام المسبقة عن فئات الوثنية. فالجميع مدعوون للخلاص.

 

ونستنتج مما سبق أربعة أمور تستحق المرأة الكنعانية الاعتبار: الأول محبتها الوالدية وإظهار تلك المحبة بطلب معونة المسيح لبنتها. وهنا تعزية عظيمة للوالدين الذين يسألون المسيح البركات الروحية لأولادهم. والثاني تواضعها. والثالث لجاجتها في الصلاة والمداومة عليها؛ فإن من يُحسبون أدنى الناس وانهم محرمون يجب ان لا ييأسوا من النعمة إذا طلبوها بإيمان لا يعرف الياس، لأنه إلهٌ مُحبٌ وحنونٌ: "فإِنَّه يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ "(1 طيموتاوس 2: 4).  والاعتبار الرابع هو إيمانها ومدح المسيح هذا الايمان.  فالايمان هو أصل الشجرة التي اغصانها التواضع والصبر والمداومة على الصلاة. هل لدينا إيمان المرأة الكنعانية؟

 

2) شمولية رسالة يسوع الانجيلية

 

تكمن أهمية معجزة شفاء ابنة المرأة الكنعانية ليست فقط في إيمانها، بل أيضا في انها حدثت على ارض وثنية واقعة نَواحي صُورَ وصَيدا (متى 15: 21)، وهي تلميح لوصول ملكوت يسوع ليس فقط الى العالم اليهودي بل الى العالم الوثني. فالوثنيون إذا آمنوا مثل المرأة الكنعانية يُفُتح أمامهم باب الخلاص، لانَّ علامات مجيء ملكوت الله تصل أيضا الى الوثنيين الذين يفتحون قلوبهم لتعليم يسوع ويؤمنون به. إن آمنوا كما آمنتْ تلك الكنعانية، فالإيمان يؤدي الى الانتماء إلى الشعب المختار في الملكوت التي نادى به يسوع.

 

وقيام المسيح بخدمة قصيرة بين الأمم هو تلميح لخدمة الانجيل التي ينادي بها المسيح في كل العالم. وبهذا يؤكد لنا يسوع انه هو مؤسس رسالة الأمم التبشيرية بحسب وصيته الى تلاميذه "اِذهَبوا في العالَمِ كُلِّه، وأَعلِنوا البِشارَةَ إِلى الخَلْقِ أَجمَعين" (مرقس 16: 16). ويؤكد ذلك بولس الرسول بان يسوع جاء يبشّر جميع الأمم "بِه نِلْنا النِّعمَةَ بِأَن نَكونَ رسلاً، فنَهدِيَ إِلى طاعَةِ الإِيمانِ جَميعَ الأُمَمِ الوَثَنِيَّة، إِكرامًا لاسمِه" (رومة 1: 5).

 

صحيح أن يسوع كان مرسلا في البداية الى الخراف الضالة من بني اسرائيل، لكنه أصبح بعدهم مرسلا الى كل أمة تحت السماء. فلا ينبغي ان نرى المسيح مسيحا قوميا ولا ينحصر خلاصه في اليهود. ان البشارة ستنتقل من اليهود الى اليونانيين كما جاء في رسائل بولس الرسول" فإِنِّي لا أَستَحيِي بِالبِشارة، فهي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن، لِليَهودِيِّ أَوَّلا ثُم لِليُونانِيّ " (رومة 1: 16). ومن هذا المنطلق ان الناس كلهم مدعوون الى ملكوته، كما جاء في تعليم بولس الرسول" فَلا فَرْقَ بَينَ اليَهودِيِّ واليُونانِيّ، فالرَّبُّ رَبُّهم جَميعًا يَجودُ على جَميعِ الَّذينَ يَدعونَه" (رومة 10: 12). وخلاصة القول، هدم يسوع الحائط الفاصل بين اليهود والوثنيين.

 

والواقع، إن انجيل متى منفتح على الوثنيين، فأول من سجدوا ليسوع هم المجوس (متى 2: 1-12). وأعلن يسوع ان "بِشارَةُ المَلكوتِ هَذه في المَعمورِ كُلِّه شَهادَةً لَدى الوَثَنِيِّينَ أَجمَعين، وحينَئِذٍ تَأتي النِّهاية" (متى 24: 14) "سَوفَ يَأتي أُناسٌ كَثيرونَ مِنَ المَشرِقِ والمَغرِب، فَيُجالِسونَ إِبراهيمَ وَإِسحقَ ويَعقوب على المائِدةِ في مَلَكوتِ السَّمَوات" (متى 8:11). وهناك "جموع كثيرة" ورد ذكرها 40 مرة في انجيل متى تتبع يسوع، معلنة دخول الوثنيين بكثرة في الكنيسة (متى 4: 25) او افراد تتبع يسوع كقائد المئة (متى 8: 5-13) او قائد المئة والذين يحرسون معه يسوع عند قدمي الصليب (متى27: 54)، جميعهم يعترفون بإيمانهم، ويرون في يسوع العبد المتألم لجميع الأمم "هُوَذا عَبْدِيَ الَّذي اختَرتُه حَبيبيَ الَّذي عَنهُ رَضِيت. سَأَجعَلُ رُوحي علَيه فيُبَشِّرُ الأُمَمَ بِالحَقّ " (متى 12: 18-21).

 

وكانت الجماعة المسيحية الأولى في انجيل متى مـتأهبة لوصية يسوع الأخيرة "فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم" (متى 28: 19)، لان المسيح جعل من تلاميذه " رسلا" " كما جاء في انجيل متى "وهَذِه أَسْماءُ الرُّسُلِ الاثنَي عَشَر" (متى 10: 2) أرسلهم أولا الى اليهود "اذهَبوا إِلى الخِرافِ الضَّالَّةِ من بَيتِ إِسرائيل" (متى 10: 6). فكانت تلك المرحلة أولى ثم اوصاهم في المرحلة الثانية بعد قيامته الى تبشير العالم كله " وستُعلَنُ بِشارَةُ المَلكوتِ هَذه في المَعمورِ كُلِّه شَهادَةً لَدى الوَثَنِيِّينَ أَجمَعين" (متى 24: 14).

 

نستنتج مما سبق انَّ الملكوت ليس محصورا على العالم اليهودي، بل إنه مفتوح الى الوثنيين الذين وثقوا بيسوع وفتحوا قلوبهم على تعليمه. وهكذا يعلمنا هذا النص بان لا نحصر الخلاص لليهود، بل نفتح ابوابنا للوثنيين. فالإيمان متاح لجميع الناس وهو يحطم الحواجز بين الشعوب. الناس يضعون الحواجز والحدود، أمَّا الله فيضع الجسور ويتخطى الحواجز لان نظرته واحدة الى كل انسان، وهو يرغب في خلاص جميع البشر. لذا واجب الكنيسة ان تفتح أبوابها للجميع الذين يلتجئون اليها بإيمان خاصةً كإيمان المرأة الكنعانية، وان أن تسعَى حتى لا يبقى أحد خارجا عن الله.

 

وأخير يُعلمنا يسوع ان لا نتعامل مع الآخرين بالاستعلاء ولا ان ننظر إليهم نظرة عنصرية يهودية بالكراهية والعداء، ولا ان نتعامل معهم بالقسوة والجفاء. فالآخرون هم اخوة لنا، وشركاء في الدعوة والمصير، هم مدعوون أيضا مثلنا الى الملكوت. ويُعلمنا السيد المسيح أيضا من خلال المرأة الكنعانية ً أن نهتم بكل متألم ونصلى لأجله " ْيُصَلِّ بَعضُكم لِبَعضٍ كَي تُشفَوا" (يعقوب 5: 16). ويعلمنا ايضا ان نتخذ دور الرسل في الوساطة بين يسوع وبين الناس ونكون منفتحين لروعة رسالة الله لجميع الناس، ولا نبعد احدا عن الملكوت.  وبما اننا جميعا بحاجة الى رحمة لله لنصرخ مع المرأة الكنعانية بإيمان "رُحْماكَ يا ربّ! أَغِثْنا يا رَبّ!".

 

الخلاصة

 

يشكل لقاء يسوع مع المرأة الكنعانية ثلاث عبر. العبرة الأولى هي ذروة ثمار الرسالة الانجيلية بين الوثنيين. وهذا ما تجلى في ايمان المرأة الوثنية بيسوع. اذ استجاب لإيمانها العظيم وقال كلمة لم يقلها لاحد:" فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين" (متى 15: 28). لقد أعدّ إيمان هذه المرأة الوثنية الطريق لانفتاح رسالة الانجيل على جميع الأمم والشعوب. إن أبوّة الله تشمل جميع البشر ومحبّة يسوع تتّسع لكلّ إنسان.  ليس هناك ابناء من جهة، وكلاب من الجهة الأُخرى. يسوع جاء لخلاص الجميع، حتى أنّه أعطى الأفضلية لأولئكَ الذين يؤمنون به كما صرّح "ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة" (متى 15: 28). وحوار يسوع مع المرأة الكنعانية له أهميته بخصوص دخول اول الشعوب الوثنية في حظيرة كنيسة يسوع المسيح.

 

والعبرة الثانية هي المواظبة على حياة الصلاة المستمرة من أجل خلاص الذات وربح الاخرين الأقرباء والاحباء الذين تربطنا بهم صلات قرابة وحتى من لا توجد معهم أي قرابة. إن انسحاق هذه المرأة أمام المسيح هو عبرة لنا لننال القبول أمام الرب كما جاء في نبوءة أشعيا: "أَسكُنُ ومع المُنسَحِقِ والمُتَواضِعِ الرُّوح لِأُحيِيَ أَرْواحَ المتواضِعين وأُحيِيَ قُلوبَ المُنسَحِقين" (أشعيا 57: 15)؛ وبالتالي أصبحت المرأة الكنعانية بصلاتها خير مثال لشفاعة القديسين. إنّ شفاعة القدّيسين تكون ضمن وساطة المسيح الإنسان بين الله والنّاس لأنّ عنده وحده الطّبيعتَين الإلهيّة والبشريّة. فهو الوسيط بين الله والانسان، ولا مانع من وسطاء بيننا وبين يسوع كما اشارت المرأة الكنعانية في شفاعتها لابنتها عند يسوع: "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود، إِنَّ ابنَتي يَتَخَبَّطُها الشَّيطانُ تَخَبُّطاً شديداً" (متى 15: 22)، وكما اشارت القصة في دور الرسل في الوساطة بين يسوع وبين المرأة الكنعانية. وأشار سابق يسوع الى شفاعة مريم العذراء لأهل عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 3).

 

والعبرة الثالثة: المسيح في مفهومنا ليس فقط "ابن داود" كي يبشر الشعب اليهودي فقط كما عبَّرت عنه في المرأة الكنعانية في بداية حوارها "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود" (متى 15: 22) لكنه أيضا المسيح الرب كما اعترفت به عندما نضج إيمانها في نهاية حوارها قائلة "غِثْني يا رَبّ!" (متى 15: 25). فهل نحن قد مَلَّكْنا المسيح على قلوبنا حقيقة أو أننا نريده مسيحا بحسب المفهوم اليهودي، مسيحاً أرضيا وسياسيا يصنع المعجزات، مسيحاً يُرضى رغباتنا.

 

وأخيرا تعلمنا قصة المرأة الكنعانية أننا نستطيع أن نأخذ من الله ما نتمناه من خير، عن طريق الالحاح والمثابرة بالصلاة والطلب دون كللٍ أو ملل لأنه إلهٌ مُحبٌ وحنونٌ: " فإِنَّه يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ" (1 طيموتاوس 2: 4) فلولا الحاح المرأة ولجاجتها لما شفيت ابنتها.

 

دعاء

 

أيها الرب يسوع، يا ابن داود، يا من خرجت للقاء المرأة الكنعانية وخرجت هي أيضا للقائك ولم تردَّها خائبة، هبنا إيماناً وتواضعاً على مثالها في طلب رحمتك من اجلنا، والشفاء من اجل جميع مرضانا فنحصل على خلاصك ونكون أبناء الله في ملكوتك شاكرين لك ومردِّدين بإيمان صلاتها "رُحْماكَ يا ربّ! يا ابنَ داود، أغِثْنا يا رَبّ! يا سيدنا يسوع المسيح". آمين