موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٢ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠

إنّما أُريدُ الرّحمةَ لا الذّبيحة

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
إنّما أُريدُ الرّحمةَ لا الذّبيحة

إنّما أُريدُ الرّحمةَ لا الذّبيحة

 

في سفر هوشع النّبي، في الآية السّادسة من الفصلِ السّادس، نَسمعُ الرّبَّ يقول على لِسانِ نبيّهِ هوشع: "فإنّما أُريدُ الرّحمةَ لا الذّبيحة" (هوشع 6:6أ). يا أحبّة، عبادةُ الله لَيسَت مجرّدَ صلوات نُردِّدُها، ولا هي فقط طقوس نُمارِسُها، بِقَدر ما هي محبّة للقريب. فعبادة الله لا تكتمِلُ ولا تَستقيمُ دونَ محبّة القريب، فاللهُ هو مَن جَمَعَ بين مَحبَّتِه تعالى وبينَ محبّة القريب. فها نحن نسمعُهُ يقول في سفر تثنيةِ الاشتراع: "أَحبِب الرّبَّ إلهَكَ بكلِّ قلبِكَ وكلِّ نفسِكَ وكلِّ قوّتِكَ" (تثنية 4:6) ثمَّ يُكمِل المسيحُ الوصيةَ فيقول: "والثّانيةُ مِثلُها: أحبِب قريبَكَ حُبَّكَ لنفسِك" (متّى 39:22-40).

 

وَمَحبّةُ القريب تعني رحمة. والرّحمةُ للقريب تعني مغفِرَة. والمغفرةُ للقريب هي عطاءٌ غير مشروطٍ بعددٍ أو بكمّية: "فلا أقول لكَ: سبعَ مرّات، بَل سبعينَ مرّة سَبعَ مرّات". فالمغفرةُ هي من الله، والله فَيَضٌ لا يَنتهي. ومغفرتُنا لبعضِنا البعض، هي مُستَمَدَّة من الله، لِذلك هي لا تَنحَصِرُ بعدد، لأنَّ المسألةُ ليست حسابيّة أو اقتصاديّة. فَبُطرس يتعامَل بعقلية التّاجر الّذي يحسِبُ مقدارَ الرّبح والخسارة. والمسيح يتعامل بعقلية العَطاءِ المجّاني، غيرِ المحدود بعدد، ولا المحصور بشخص أو بظرف. أَخي وقريبي قد يُخطِئ إليَّ مَرّات عديدة، وقد يُكرّرُ الخطأَ عينَه. وأنا تلميذُ يسوعَ المسيح، واجِبٌ عليَّ ودعوتي أن أغفِر لقريبي، أيًّا كان، عندما يتقدّم إليَّ مُلتمِسًا الغُفران. وفي الوقت عينه، دعوةٌ أكبر لأن نمنح الغُفرانَ ولأن نُصلّي، لِمن بَقِيَ مُصِرًّا مُعانِدًا على خطيئتِه وذنبِه، رافضًا الإقرارَ والاعتذار. فربّما يأتي يوم يستيقظُ ويتوب.

 

يا أحبّة ليس عدلٌ ولا هو حقٌّ، أن نلتمِس رحمةَ الله، ونحن لا نرحم. أن نطلبَ مغفرةَ الله على سيّئاتِنا، ونحن لا نغفِرُ مساوِئ من أساءَ إلينا. ويا لها من معصيةٍ عُظمى وخطيئةٍ كبرى وتدنيسٍ لسرّ القربان، عندما نتقدّم من المناولة، وقلوبُنا مُلِيئة كراهيةً وحقدًا وبُغضًا وكبرياءً. فَاستِمطارُنا لِرَحمةِ الله علينا، منوطٌ بإعطائِنا الرحمةَ نحن لقريبنا الّذي خطِئَ إلينا. اِلتِماسُنا لمغفرة الله لنا مربوطٌ بمغفرتِنا نحنُ لزلّاتِ بعضنا البعض. أليسَ هذا ما نتلوه ونُصلّيه في كلِّ مرّة ندعو الأبانا مُلتمسين أن: اِغفر لنا خطايانا، كما نحن نغفِر لم خَطِئَ إلينا. فَمِن الوقاحة والبجاحة أن تلتمِسَ من الله، ما لا تقدِرُ بل ترفضُ أن تُعطيه لغيرِك!

 

لا يُعقل ولا يجوز أبدًا أن نطلبَ المغفرةَ من الله، وَنحن آَخِذينَ بأعناقِ بعضِنا البعض، ونحن نخنُق بعضُنا البعض. النّميمة، الاغتياب، الطّعن، الافتراء، التّبلي، التّجني، الكيد، الحسد، البغض، الكُره، الكذب، الغِش... وقِس على ذلِك كثيرًا من طُرقِ خَنقِنا لبعضِنا البعض. ندخل الكنائس، مثلَ ذاكَ الفرّيسي، نجثو ونُصلّي ونُحسِن التّمثيلَ والأداء. وفي نفس الوقت، عيونُنا تَرمُق الغيرَ بنظرة مُلِئت شرًّا، وقلوبٍ فاضت حقدًا وضغينة.

 

نحن بطبعِنا لا نَغفِر ولا نعتذِر، ظنًّا منّا أنّها أشكالٌ من الضُّعف أو الانكسار. وإن حَدَثَ وَغَفَرنا أو اعتذرنا، فربّما تحت ضغوطٍ اجتماعية وأُسريّة، لإنهاء مُشكلة ومنعِها من التّفاقم، وَأَخذِها مجارٍ قانونيّة. فمع كلِّ أسف، سببُ الاعتذار والاستغفار بينَنا كمسيحيّين، في مُعظم مشاكِلنا وخلافاتِنا، هو فقط دافع قانوي وعشائري، ومجرّد بروتوكولات اجتماعية وأعراف سائدة، لتدارك الأمور قبل تصاعُدِها ووصولِها قاعات المحاكم، وليس بدافع إيماني مبني على قيم الإنجيل، ومبادئِ يسوع المسيح.

 

كلُّنا نطلبُ المغفرةَ المجّانية من الله! ولكن كَم منّا يَقدِر أن يُعطي الغُفران لأخيه المُذنِب بشكلٍ مجّاني، بِدافع من إيمانه بالمسيح، وتَشبُّهً بالرّب؟ أكاد أُجزِم أن قلّة قليلة جدًّا فقط. وطبعًا سَنَضع عشرات المصوّغات والمبرّرات. فإذا ما خَطِئَ إليَّ أخي، قد أغفِرُ له، ولكن بعد أن استردَّ حقّي وكرامتي الّتي أهانِها، وأُخرِجَها من عينيه مُضاعفة، وبعد أن أردَّ إليه الصّفعة صفعتين، أَي بعدَ أن انتقم وأُروي غليلي منه. وهذا ليسَ غُفران. أَغفِرُ لقريبي بعد أن أَسقيَه المر، وأُذيقَه الويل، وأمرِّغَ أنفه بالأرض، وأجفّفَ حَلقَه ذليلًا متوسِّلًا ذهابًا وإيابًا، وبعد أن يصبِح كقطعة قماشٍ جافّة، لا حولَ له ولا قوّة. وهذا ليسَ غفران. مسيحيون نعم، ولكنّ القسمَ الأكبر، لا يزال يعيشُ وثنيًّا لم يعرف المسيحَ يومًا.

 

تقول الحكمة لعلي بن أبي طالِب: (إِذَا قَدِرتَ على عَدوّكَ، فَاجعَل العَفوَ عَنه، شُكرًا لِلقدرةِ عَليه). كان بإمكانِ هذا الملك أن يبيعَ العبدَ مع عائلتِه، ولكنّه أشفقَ، والشّفقة رحمة، والرّحمة قدرةٌ للقويِّ على الضّعيف. البعضُ في حديثِه معي اتّهم الملك بالقسوة، ولكنّه نسيَ أنّ الملِك أشفق وتراجع ولم يُنفّذ ما أمرَ به. بينَما هذا العبد الجبان الخائِن، العاري من كلِّ القيمِ والأخلاق، والمجرّد من كلِّ إنسانيّة، رَفضَ أن يُعامِل بِالمِثلِ صاحِبًا له.

 

هذا المثل يُريد به يسوع أن يُريَنا كم أنَّ قلبَ الإنسانِ يمكِنُهُ أن يكونَ أرضًا صَخريّة يابِسة، وَمَقلَعُ حجارة، مجرّدًا من كلِّ المشاعر والأحاسيس. كَم أنَّ قلبَهُ غابةٌ موحشة، غُرِسَت لُؤمًا وَقسوةً واستبدادًا وظلمًا وجورًا وتعسُّفًا وعُنفًا وبرودة. نَستذئب على الأضعفِ منّا ونَستقوي عليه، ونكنُّ كدجاجاتٍ أَمامَ من هُم أَقوى منّا، عَددًا وعُدةً وحُجّة، لأن لا حيلة لنا أمامَهم.

 

يقول الملك موبِّخًا ذاكَ العبد الجبان: "أفما كانَ يجبُ عليكَ أنْ ترحَمَ صاحبَكَ كما رَحِمتُكَ أنا؟". وكأنَّ الله يُعاتِبُنا موبِّخًا ضمائِرنا: (ألم تَعتبِروا من غُفراني لكم، بأن تغفِروا أنتم أيضًا لمن أساءَ إليكم؟ ألم تقتدوا بي أنا أبوكم الرّحمان الرّحيم؟ لماذا لا تتمثّلون بي؟). وإن كان الملكُ قَد غَضِبَ على ذاكَ العبد الّلئيم، فالله بكلِّ تأكيد، يغضبُ على كلِّ مَن لا يمنحُ الغفرانَ بدوره لقريبه المُسيء. ذاكَ العبدُ المنكودُ في الإنجيل، هو مَضربُ مثلٍ في النّجاسة والقذارة، وفي التّمثيل أيضًا. عَرَفَ بريائه وخُبثهِ كيف يُحنِّنُ قلبَ سيّده (بتمسكن حتّى يتمكّن)، ولكنّه سقط أخيرًا في شرِّ أعمالِه الوسِخة، ونال جزاءَه الّذي يستحق.

 

كلُّ واحدٍ منّا، عندما يأتي إلى الكنيسة، ويركع في حضرةِ الله، طالبًا رحمةً وغُفرانًا من لَدُنِ أبي المراحِم، ثمَّ ما يَلبثُ أن يدقَّ بخنّاق أخٍ أو زميلٍ خطئ إليه وأساء، يكون مثل ذاك العبد وَسَيلقى يومًا ذاتَ المصير! لا يحقُّ لي أبدًا ولا لكَ ولا لكِ، أن نتجاسرَ طالبينَ رحمةَ الله ونحن لا نُعطي الرّحمة لعبدِ الإله. هذهِ قلّةُ أدب! تطلبُ ما تَأبَى أن تُعطي، وَتَلتمس ما ترفضُ أن تمنح! الرّحمةُ من الله مشروطةُ بالرحمة لبعضِنا البعض، حتّى لكِبار الخطأة، فارحموا مَن في الأرضِ يرحمُكم مَن في السّماء. أمّا بالنّسبة للخطأة الرّافضين الإقرارَ والاعتذار والمصرّين على ذنبهم، فعليكَ أيضًا أن تغفِرَ لهم، بدافع من دعوتِك كمسيحي حقيقي وصالح. ثمَّ وَكّل وفوّض أمركَ لله، وأترك الحكم للحاكِم، والدّينونة للدّيان، والقضاء للقاضي، فالله أعلم بما في ذات الصّدور.

 

يا الله لا تَرحَمني، إن كنتُ غيرَ قادرٍ على رحمةِ قريبي. يا الله لا تغفِر لي ذنبي، بل أهلكني فيه، إن كنتُ غيرَ قادر على الغُفران لغيري. وفي كلِّ مَرّة خَطِئ فيها إليّ أخي، فأنا أغفِرُ له، مُفوِّضًا إليك أمري، ورافِعًا إليك شكوايَ، يا قاضيَّ العادِل، فأجري حُكمَك المُنصِف، إذا لا اعتراضَ ولا احتجاج ولا استئناف، وأنت الصدقُ والاستقامةُ، والحقُّ والعدلُ كلُّه.