موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٣ مايو / أيار ٢٠٢٠

إنجيل الأحد الثاني من الفصح: طوبى للذين يؤمنون ولم يروا

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
طوبى للذين يؤمنون ولم يروا

طوبى للذين يؤمنون ولم يروا

 

أيُّها الإخوة والأخواتُ الأحبّاء جميعًا في المسيح يسوع. المسيحُ قام حقًّا قام. ومع أنَّ القيامةَ حدثٌ يبعثُ على السّرورِ والغِبطة، والأهمُّ من ذلك على الطّمأنينة والسّكينةِ والسّلام، إلّا أنّنا نلمسُ الخوفَ في نفوسِ التّلاميذ ونشعرُ بالقلقِ والاضطرابِ يلفُّ قلوبَهم. كانوا في حيرةٍ من أمرِهم، بين بلى قد قام، وبينَ كلّا لم يقم. بينَ مُصدّقين مؤمنين، وبينَ رافضينَ مُنكرين. فتوما، هو مثالُ المسيحي الّذي يبحثُ عن بُرهان، الّذي يطلبُ دليلًا حسيًّا لكي يُصدّق ويؤمِن. فإذا لم أُبصِر، وإذا لم أضعْ، لا أومن!

 

أنا لا ألومُ توما على موقِفه هذا. فالتّلاميذُ كلُّهم أُصيبوا بادئَ الأمر بشكٍّ وعدم تصديق. فالنسوة أَلقينَ الحيرةَ في نفوسِ التّلاميذ، فاعتقدوا أنهنَّ أُصِبنَ بالهذيان، عندما بثّوا لهم خبر الحجر المدحرج وَرؤيَتِهنَّ للملاكَين الجالسين. وتلميذا عماوس لم يعرفاهُ، وهو سائر معهما، حتّى جاءَت ساعة كسر الخبز. حتّى أن بطرس والتّلميذَ الآخر هَرعا مُسرِعين صوب القبر عندما سمعا الخبر من مريم المجدلية، يُريدان أن يريا ويتأكّدا، قَاطِعينِ الشّكَ باليقين. واليوم توما المسكين، لم يكن مع التّلاميذ في البيت ساعة ظهرَ لهم يسوعُ القائم، ولم يحظَ بهذا الفرح كسائرِ التّلاميذ، فحقَّ له أن يرفضَ ما أخبروه به.

 

ورفضُه هذا مُتأّتٍ عن عدّة أسباب، فتوما لا يزالُ يعيشُ حالةً من الصّدمة، فالمعلّم صُلِبَ وماتَ وقُبِرَ مؤخَّرًا، فكيف له أن يقومَ اليوم؟! أمرٌ لا يُصدّق ولا يُعقَل! توما لا يزالُ يحيا حالةً من الخوف. ربّما خاف أن يكونَ التّلاميذ يقصّون عليه أمرًا أقرب للخيال منه للحقيقة. ربّما بدأوا يهلوِسون ويهذون أو يتخيّلون أمورًا غير موجودة نظرًا لهول الصّدمة ووقعها العظيم في نفوسِهم. توما كان متوتِّرًا مضطرِبًا، كان مهزوزًا مائِجًا، تزلزلت كلُّ أركانِه الجسدية والمعنوية والعقلية والنّفسية. لذلك هو لا يُصدّق حتى يرى وحتّى يلمس ويضع.

 

يا أحبّة توما بكلمات بسيطة فَقَدَ سلامَه، فَقَد طُمأنينتَه، فَقدَ سكينتَه. اعتمرَه الخوفُ وسكنهُ الاضطرابُ ولفّهُ رداءٌ من القلق. لذلِك ها هو السّيدُ، يظهرُ من جديدٍ في اليوم الثّامن، إليكَ أنتَ يا توما، ليهبَ لكَ السّلام ويردَّ إليكَ السّكينةَ، ويُعيدَ إليكَ طُمأنينةَ القلبِ وراحةَ البال والنّفس الّتي فقدتها.

 

أيّها الأحبّاء، نعم نحنُ نحتفل بغمرة الأعيادِ الفصحيّة، ولكنّها احتفالاتٌ مغلّفة بطابعٍ يشوبُه نوعٌ من القلق، والاضطراب. أعيادُنا هذا العام أَقمنَاها في ظروفٍ استثنائية، وعند الكثيرين شكّلت حالةً من الصّدمة والذّهول، والكثيرون دخلوا في دوّامة من الإحباطِ والكآبة، وكَم من النّاس فقدوا السّلام، وضاعت منهم الطّمأنينةُ وسكون الباطن؟!

 

نشعرُ مع كلِّ الّذين يتخبّطونَ في هذهِ الّلحظات بحثًا عن بصيصِ نورٍ يخترِقُ بابِ تلكَ الدّارِ الّتي أُغلِقت أبوابُها. فحالتُنا اليوم يا أحبّة تُشبه حالةَ التّلاميذ في ذلك المساء. كنائِسُنا مُغلَقة! دورُ عبادتِنا مُغلَقة! حالةٌ من الخوف لدى الكثيرين، هناكَ تخبّط، عدمُ وضوح، نسيرُ في نفق مظلم، نبحثُ عن نورٍ، الحياةُ شبه مغلقة، شبه معطّلة، شللٌ شبه تام في كافّة المرافق ونواحي الحياة، وما اَعتَدنَا عليه انقلبَ انقلابًا كُلّيًا وفقدناه من بين أيدينا.

 

في وسطِ كلِّ هذا الحزن والكآبة، في لحظات تكون أقرب لليأس. في لحظات يلفُّها الخوف والاضطراب، يدخل المسيح، مخترقًا كلَّ الحواجز فاتِحًا كلَّ الأبواب المغلقة، ليبثَّ سلامَه من جديد في نفوس تلاميذه الخائفين. قامَ بينهم وقالَ لهم: "السّلامُ عليكم". وكم نحن نتوق إلى هذا السّلام المتأتّي من العُلى، سلامِ الرّبّ القائم من بين الأموات. سلامي أمنحُكم وسلامي أعطيكم، لا أُعطي أنا كما يُعطي العالم. سلامُ المسيح الّذي يعيدُ للنّفوس هدوءَها واستقرارَها، يُعيدُ إليها قوّتَها وعافيتَها، يُعيدَ إليها وضوحَها وبَصيرَتَها. قالَ القدّيس أوغسطينوس: (إنَّ قلوبَنا قلقلة، ولن تستريحَ إلّا فيكَ يا الله).

 

نعم، قلوبُنا قلقلة مُثقلة بهمومٍ، عقولُنا مشوّشة مُتعبة بتزاحم الأفكارِ وتصادم الشّكوك. فهلمَّ يا الله واسكب في نفوسِنا فيضًا من غيضِ سلامِك، وامنحنا قطرةً من بحرِ سَكينَتِكَ، أنتَ الّذي قلت: "تعالوا إليَّ جميعًا أيّها المرهقون المثقلون، وأنا أريحكم".

 

طوبى للّذين يؤمنون ولَم يَروا! نعم يا رب، بهذهِ التّطويبة، أنت تُطوِّبُنا نحنُ أيضًا. فنحنُ نؤمن بالقلب والجَنَان دون أن نُبصِرَ بالَّلحظِ والعيان. نُسير وسط تقلّباتِ الدّهر الحاضر بنور وهَدي الإيمان الّذي به نحن متمسّكون. لقد آمنتُ بكَ يا رب فزدني إيمانًا، زدني تشبّثًا، زدني ثباتًا في هذا الإيمان. لا تسمح لنوائبِ الدّهر وكثرةِ التّحديات وهدير الحياة، أن تأخذَني بعيدًا عنك، فأنتَ وحدَك المرفأُ وأنتَ وحدكَ الملجأُ، وأنت دون سواكَ بَرُّ السّكينةِ والآمان، وينبوعُ الرّاحةِ والسّلام.

 

إنَّ واقعَنا اليوم وكثيرًا من إشارات المستقبل، تشبه واقعَ التّلاميذ في إنجيل اليوم. فواقِعُنا البشري، مع كلِّ أسف، مليءٌ بالتّحديات والمخاوفِ وما يبعث على القلق والاضطراب. لذلك أودُّ أن أوجِّهَ ثلاثَ رسائل مُستنبطة من وحي هذا النّص، لنُلقي من نورِه نورًا على واقعِنا المعاش اليوم.

 

أولا، المسيحي لم يُخلق ليختبِئ خلفَ أبوابِ الخوفِ الناتجِ ربّما عن عقدة الأقلية المجتمعية، أو ليستَتِر مُحتميًا خلف سواترٍ التقوقعِ أو الانعزالِ عن شؤونِ المجتمعِ المحلي أو القومي أو العالمي، وكأنّنا جُبِلنا من طينٍ آخر غيرِ طينة هذهِ البلاد. فنحن كمسيحيين، لسنا غَريبين لا بثقافتِنا ولا بعقليتِنا ولا بلغتِنا، بل نحن جزءٌ أصيل وأصلي لا يتجزّأ من تاريخِ هذا الشرق ومكوِّنٌ أساسيٌ من مكوناته، بل نحنُ ملحٌ لا يُستغنى عنه ولا يُلقى في خارجِ الدّار. فنحن كُنّا ولا نزال أصحابَ دورٍ ريادي في نهضة ورفعة هذه البقعة من الأرض. وهذا أيضًا يجبُ ألّا يقودَنا إلى نقيض آخر، هو الانسلاخُ والتّخلّي عن ثقافتِنا المسيحية ومبادئِنا الإيمانيةِ والإنجيلية، مُتذرِّعينَ بأيّة حجّة كانت.

 

ثانيًا، المسيحي خُلقَ ليكونَ حامل رسالة. فإن كانت أعمالُ يسوع تشهدُ له أمامَ تلاميذه وجموعِ اليهود، فكذلِك أعمالُنا الصّالحة تشهدُ لنا أمام الجميع، لنكون في العالمِ نورًا. ومَن كان نورًا، لا يَخفى تحت المكيال بل يوضعُ على المنارة ليُضيءَ للجميع. هذهِ عظمةُ رسالتِنا المسيحية، فلا تخفوها ولا تخمِدوها. رسالتُنا أن نعيش النّعيمَ وسط الجحيم، أن نبثَّ الرجاء وسط اليأس، أن ننشرَ قيم المحبة وسطَ عالم يُنادي بالكراهية والتّطرف، أن نعيشَ الغفران وسطَ عالم يُنادي بالانتقام، أن نُذيعَ بُشرى السّلام وسط عالم يقرعُ طبولَ الحروب والنّزاعات، أن نُعلِنَ رسالةُ الحياة وسط عالم أنتنَ برائحةِ الموت.

 

ثالثا، المسيحي لا يمكن أن يبقى أسيرَ الخوفِ من المستقبل! أو ضحيةً لعقليةِ التّمسكن والتَّذلُّل! ماذا سيكون مصيرُنا؟ ماذا سيحدثُ لنا في الفترةِ القادمة؟ كيف سيكونُ حالُنا وحالُ أولادِنا؟! نعم، هي تساؤلاتٌ مشروعة في ظلِّ كثيرٍ من التّحدّيات المحيطة، فنحن لسنا بمعزلٍ عمّا يحدثُ في الدّنيا. ولكن، ماذا نعمل؟ هل نبقى أسرى لمخاوِفِنا، ونعيشُ سجناء لحالةٍ مُزمنةٍ من الشّلل النفسي والمعنوي؟! لن تُعزّينا الوعود المتطايرة ولن تُريحنا كلمات الرُّدهات السياسية المبعثرة والأروقة الأمميّة المتقاطِعة! ما يُعزّينا فقط هو كلامُ السّيد المسيح: "لن تسقط شعرةٌ من رؤوسِكم..." وحتّى لو سقطت في الأرض، فهي لن تسقط عند أبينا الّذي في السّموات. بهذا الكلام نُعزّي أنفسَنا، ونشحذُ هِمَمنا لنعيشَ رسالتَنا دون خوفٍ ودون اضطراب وبلا قلق.

 

دعونا نسألُ ربَّ السّلام في هذا النّهار، أن يزرعَ فينا السّلام، سلامَه الحقيقي، سلامَه الذي يزيل منّا كلَّ خوفٍ، سلامَه الّذي ينبِذُ جميع أشكالِ الاضطراب، سلامَه الّذي يُبدّد كلّ حيرة، سلامَه الذي يملئُ نفوسَنا بالفرح رغمَ الصّعابِ، والسّكينةِ رُغم الاضطراب.

 

يا ربَّ السّلام، أمطر علينا السّلام، اِمنح قلوبنا السّلام، هَب البشرية السّلام.