موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢٦ أغسطس / آب ٢٠١٢

إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك؟

بقلم :
الشماس حازم النمري - الأردن

لقد تفوه بهذه الكلمات القديس سمعان بطرس هامة الرسل في لحظة ما، عندما تشكك التلاميذ الكثيرون، حين سمعوا يسوع يقول: "أنا خبز الحياة... من أكل جسدي وشرب دمي، له الحياة الأبدية، وأثبت فيه ويثبت فيَّ، الخبز هو جسدي أبذله ليحيا العالم". فبهذه الكلمات أثار يسوع حفيظة سامعيه وانتقادهم، وتركه كما يقول الكتاب كثيرون من التلاميذ الذين رافقوه في مسيرته التبشيرية، فقالوا: "هذا كلامٌ عسير، من يطيق سماعه؟" (يوحنا 6: 60)، لربما الرسل الإثني عشر الذين أحبهم، كانوا على وشك اتخاذ موقف مشابه بالآخرين، لحظة سؤال يسوع لهم: "أفلا تريدون أن تذهبوا أنتم أيضاً؟". (يوحنا 6: 67). فكان جواب بطرس الشجاع والمندفع بالإيمان: "يا رب، إلى من نذهب، وكلام الحياة الأبدية عندك؟". على الأغلب لم يفهم التلاميذ في حينه قصد يسوع من كلامه، وعلى الأغلب أيضاً أن كلمات يسوع أصبحت واضحة لهم فجر الأحد وبعد حلول الروح القدس، وهو ما عبر عنه يوحنا الرسول في بداية رسالته الأولى لاحقاً: "ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء، ذاك الَّذي سَمِعناه، ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا، ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة، ذاكَ الَّذي رَأَيناه وسَمِعناه، نُبَشِّرُكم بِه أَنتم أَيضًا". والسؤال موضوع تأملي: هو كيف لي أن أعيش روحانية القربان المقدس في حياتي؟ مع احترامنا وتقديرنا لإيمان الجميع، أرجـو أن لا نكون مثل التلاميذ الذين تركوا يسوع، ونكرر قولهم بأنه كلام عسير لا نستطيع أن نفهم. إن يسوع يكرر سؤاله لنا اليوم، ربما نقف حائرين من جوابنا رغم أننا ندرك معنى كلام المسيح، ولكن هل لنا الجرأة أن نتخذ موقف إيماني صريح كبطرس ونكرر كلامه مقرين بالحقيقة؟ أنه في بيت القربان يوجد يسوع؟ أنه في بيت القربان يتواضع رب الحياة ومحقق عملية فدائنا، ونعترف بأن الخبز والخمر هنالك على المذبح قد تحولا جوهرياً، بعمل الصلاة المقدسة السرّي وبكلمات فادينا بلسان وبركة الكاهن، إلى جسد ودم ربنا يسوع المسيح نفسه الحقيقي والمحيي، وأنه بعد التقديس، أصبح الخبز جسد المسيح الحقيقي الذي ولد من العذراء وعلق على الصليب لأجل خلاصنا، وهو الجالس عن يمين الآب. وأن الخمر أصبحت دم المسيح الحقيقي الذي نزف من جنبه. هل أجيب الكاهن بإيمان وطيد بكلمة أمين، عندما يجاهرني الكاهن وقت تناولي القربان: بأن هذا جسد ودم يسوع؟. هل أشعر ولو لمرة بالفرح أو القوة أو أي شعور آخر بعد المناولة؟. هل أشعر بوجود الله في حياتي؟ أين أكون أنا من الرسل عندما لا أفهم معنى العطاء في حياتي؟ ماذا يعني لي القربان المقدس؟ ولماذا أتناول؟. إن العيش في روحانية القربان يفترض دخول القربان بمعانيه ومفاعيله الحيويّة في حياتنا الروحيّة الشخصيّة، بمعنى أننا عشنا تغييراً في حياتنا، أزلنا الخطايا واعترفنا بمحبة يسوع لنا، كذلك عشنا تقدم روحي معين باتجاه يسوع، إضافة إلى أنه لا يزال لدينا ما نعمله لنتقدم أكثر في وحدتنا مع يسوع. أيضاً إن عيش روحانية القربان مرتبط بالفضائل الإلهية الثلاث، أي الإيمان والرجاء والمحبّة، وهذا الارتباط يدفعنا إلى العيش حول مركز حياتنا القربان المقدس. أولاً الإيمان بالقربان المقدس، ليس إيماناً عابراً أو درجة ثانية، بل هو إيماننا الأول والأساسي، فلم يأتي يسوع ليملئ العالم بالخبز المادي (خبز قمح، نخالة، طابون)، بل قال: "أنا الخبز النازل من السماء"، وعندما كان في كفرناحوم تكلم عن نيته بأن يعطي جسده للناس مأكلاً ودمه مشرباً، وقد اصطدم برفض الناس الذين سمعوه حين قالوا "من يطيق سماع هذا الكلام". وعندها نظر يسوع له المجد إلى تلاميذه وسألهم إذا ما كانوا هم أيضاً يرفضون هذا الكلام وكأنّه يطلب منهم القبول بالإيمان، ومن هنا نفهم أنه من المستحيل إتباع يسوع بدون الإيمان بالقربان. وهذا ما جاء وأكّده في جوابه بطرس "إلى مَن نذهب وعندكَ كلام الحياة الأبديّة، نحن آمنّا وعرفنا". إذاً الإيمان المسيحي هو إيمان قرباني. وهكذا الرسل حصلوا في العشاء السرّي على هذا الخبز وهذه الخمر جسداً ودماً جديدين. وفي كل قداس، عندما يرفع الكاهن الخبز والخمر، يوجّه لنا يسوع الدعوة ذاتها أي أن نؤمن به. فالإيمان هنا ينفصل عن الوقائع الملموسة، والسبب كي يتعلّق الإنسان مباشرة وبشكل مترفّع بشخص يسوع. وهذا ما قاله يسوع جواباً على شكّ توما بعد القيامة: "طوبى للذين آمنوا ولم يروا" (يوحنا 20). وهذا الإيمان يؤدّي إلى الفرح، فرح الوصول إلى الحقّ بدون لمس الوقائع. هذا هو سرّ الإيمان. فيسوع يجيبنا عندما نسأله إلى من نذهب يا رب؟ يجيبنا بقوله:"تَعالَوا إِليَّ جَميعاً أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم" متى (11: 28). وكما أن عيش روحانية القربان المقدس مرتبط بالإيمان كذلك نعيشها بالمحبة، فالمحبة هي التي تحرك الإيمان، فيسوع يقدم نفسه في القربان لفرط محبته لنا، ويريد منّا أن نقبله بمحبة. أحياناً نحب شخص كثيراً فنقول له بالعاميّة (انت حرام تموت)، ويسوع بفعل حبه أعطانا جسده ودمه قائلاً: "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6). وبالقربان نجد هذه المحبّة متجسّدة، بحيث يقدّم يسوع نفسه في هذا الخبز ليس فقط طعاماً جسديّاً بل هو غذاء روحيّ نتقبّله بكل حبّ، نحبّه بكل قلبنا ونفسنا وروحنا وبكلّ قوتنا. فعندما علّم الرب يسوع عن مختصر الشريعة ربط حبّ الله بحبّ القريب، وفي العشاء السرّي أعطى وصيّة المحبّة أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم. فالقربان يزرع فينا يسوع بكل حبّه ويجعلنا قادرين على المواجهة والجهاد للحفاظ على مسيرتنا البنويّة لله وتخطّي كلّ الصعوبات التي تعترض هذه المسيرة، ويساعدنا على أن نحب الآخرين. بالقربان أيضاً نجد بُعد الرجاء في حياتنا المسيحية، إن أكبر تعبير عن الرجاء يعني الشوق والتوق إلى السعادة السماويّة وهذا ما سمعناه من يسوع نفسه حين قال "من يأكل جسدي ويشرب دمي له الحياة الأبديّة وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يوحنا 6: 54). إذاً من يأكل القربان تدخل فيه حياة يسوع الأبديّة وهذا هو ضمانة القيامة في الحياة الثانية. وأكثر من ذلك، القربان يعلن مستقبل البشريّة جمعاء، وهذا ما يؤكّده القديس بولس في رسالته الأولى لأهل كورنثوس (11: 26) "كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس، تعلنون موت الرب إلى أن يرجع". فالقربان يساعدنا للثبات حتى المجيء الثاني للربّ. وفي تعريف للقربان قال القديس إغناطيوس أسقف إنطاكية: "هو دواء عدم الموت، عربون كي لا نموت إنما أن نحيا في يسوع المسيح إلى الأبد". وفي النهاية إن القربان المقدس هو تقدمة المسيح لذاته من عِظَمِ محبته لنا، هو سر يفوق إدراكنا البشري البسيط، لكننا كالتلاميذ قد نكون غير فاهمين في البداية، لكن بنعمة المسيح والروح القدس ومن خلال تقدُّمِنَا بكل استعداد وتقوى وراحة ضمير سوف نفهم دور القربان في حياتنا كعطاء ونعمة ولقاء واتحاد بالله ولندع أنفسنا وأذهاننا في يد الله ولتنفتح أعيننا لنرى المسيح ونعاينه في القربان. فله المجد على الدوام في كنائسنا. آمين.