موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٤ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٠

أيها المسيحي أعرف كرامتَكَ

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
يا أحبّة، يَكفينا إلقاءً للوم على الله في كلّ ما يحصل معنا

يا أحبّة، يَكفينا إلقاءً للوم على الله في كلّ ما يحصل معنا

 

الأحد الثالث والثّلاثون من زمن السنة - أ

 

أَيُّها الإخوةُ والأخوات الأحبّاء في المسيحِ يسوع. اليوم نحن في الأحدِ الثّالثِ والثّلاثين من زمن السنة، ونقرأُ من الفصلِ الخامس والعشرين من بشارةِ متّى الإنجيلي. وهو الفصلُ الّذي يسبِقُ آلامَ المسيحِ وموتَه ثمّ قيامتَه. وهو امتِدادٌ لمجموعة الأمثلة والخُطبِ الّتي يضربها السّيد المسيح، والّتي تهدف إلى رفعِ الجهوزية وتعزيز الاستعداد، أي أن يكونَ المؤمن حاضِرًا دومًا ليؤدّي (حسابَ وكالتِه).

 

في إنجيل الأحدِ الماضي قَرأنا مثل العذارى، وَرَأينا كيفَ أَنّهنَّ كُنّ مُنقسمات بينَ حكيماتٍ، ظَفِرن بالنّصيب الأفضل، ودخلنَ رُدهةَ العرس، أي فُزنَ بالخلاص. وبين جاهلاتٍ، نِلنَ جزاء ما يعود عليهنَّ نَتيجةَ الجهلِ والغباء، وبقينَ في الخارج، حيث الحسرةُ والعَذاب. واليوم نحنُ نكمِل في نفس السّلسِلة الأدبيّة، حيث يورد المسيح مثل (الوزنات). وهو مثلٌ يُرينا كيفَ أنَّ الله مُعطي المواهب، أو الوزنات، وكيفَ أنَّ الإنسان يتلقّى هذه الوزنات إمّا إيجابًا وإمّا سلبًا. فَالتَّلقي الإيجابي النّشط ظهر من خلالِ مضاعفةِ الكمّية المُعطاة. فأولئك العبيدُ الصّالحون تَفَاعلوا جيّدًا مع نعمة سيّدهم فَأَثمروا. أمّا التّلقي السّلبي الكسول فَظهرَ في ذاك العبد الخامل، الّذي عوضًا عن التّفاعل مع نعمة سيّده، الّتي أُعطيَت لَهُ كغيرِه، على قَدر ما يستحق، راحَ ودَفَنها في حفرة في الأرض!

 

ولِكي يُبرّر فشلَهُ وَتَراخيه في التّفاعل مع الوزنة الّتي مُنِحت إليه، أَلقى بالحقَّ على سيّده، متّهِمًا إيّاه زورًا وبُهتانًا، بأنّه سيدٌ قاس شديد لا يرحَم! ولو أنّه فعلًا كذلك، لَمَا أَثمرَ البَقيّة! ولكن الخلّل الّذي فيه أرادَ أن ينسِبَه لآخر، وهذه ميكانيكيّة دفاعية فطريّة موجودة عند أَغلب البشر: البحث عن آخر (شخص/ ظرف) أُلقي بالّلائمة عليه، مبرِّرًا فشلي وخطئي.

 

أيّها الأحبّة أنا أؤمن أنَّ الله يُعطيني، ويُعطي كلّ إنسان مواهب ووزنات، على قدرِ طاقَتي. البعض قد يدعوها فُرص أو مقدرات. وأومن أيضًا أنَّ هذهِ الوزنات ضرورية لحياتي الآنيّة ولخلاصي الأبدي. وأدرِك جيّدًا ضرورة التفاعل الإيجابي مع هذه المواهب المُعطاة. وأعلم في نفس الوقت، أنّي أحيانًا كثيرة، قد أكون مِثلَ ذاك العبد الجبان الكسلان الخامل، الّذي برَّرَ خطيئتَه، عندما جعل من سيّده (شمّاعةً)، يُعلّق عليها ما هو عليه من فشلٍ ذريع!

 

يعني على سبيل المثال، وربّما هو مثال ضعيف، ولكنّه مجرّد صورة لكي أُقرّب للقارِئ الكريم فكرتي: لا تزال الشّعوب العربية إلى اليوم، ومنذ نهاية حكم الانتداب، تُعزي وتنسبُ معظم ما هي عليه من الفشل الفظيع والتّخلف الذّريع إلى (الشمّاعة الإسرائيلية). حتّى لو أنّ فلان نَفَقت دابّته في حقلِه، لقال أنّ إسرائيل هي السّبب! هكذا هو الإنسان، يبحث دائِمًا عن سبب أو ظرف، لكي يُبرّر فشلَه وسقوطَه، وفي الحياةِ الرّوحية لكي يُبرّر خَطيئَتَه. وهذهِ الشّماعة عند الكثيرين هي (الله): ظالِم، لا يُساعد، لا يُنصِف، لا يرحم، لا يُنجّي...إلخ

 

أُورِدُ مثلًا آخر من الحياةِ الواقعيّة: طَلبةَ الثّانوية العامّة يأتون إلى الكنائس مع أهلِهم قبل عقد كلّ امتحان وزاري، ويُضيئون الشّموع بالعشرات لعادة جامدة دارجة دون روح، ويذرفون دموع الابتهال. ويأتي يوم النّتائج، وإذ فلان أو فلانة لم يُحصل على النّتيجة الّتي كان يرجوها. ومباشرة يُلقي الّلوم على الله: (لَم يُنصِفني/ لم يستجب صلاتي/ لَم يوفّقني...صلاتي ذهبت أدراج الرّياح)! ولكن، لو بحثنا عن السّبب الحقيقي لهذا الفشل في النّتيجة، لرأينا الخلل في الطّالب نفسه، فهو الّذي دَرسَ وجلسَ وقدّم الامتحان، وليس رَبّه الّذي أمسكَ القلمَ وَكَتَبَ الأجوبة!

 

يا أحبّة، يَكفينا إلقاءً للوم على الله في كلّ ما يحصل معنا. يَكفينا جعلًا لله شمّاعةً نُبرّرُ فيها جَهلَنا وضعفَنا وأَلَمَنا. يَكفينا حَفرًا ودفنًا لمواهِبِنا، وعدمَ استثمارٍ، ولا مبالاة وتراخٍ واستهتارٍ وخمول وكَسلٍ مفرِط.

 

هَلّا كَلّفتَ نفسك عناء المحاولة، عوضًا عن تبرير أخطائِك المتراكمة، والبحث عن كبش فداء، وحملِ محرقة، تضع عليه أوزارَك الثّقيلة؟! يقول القدّيس بولس في رسالتِه الأولى إلى أهل تَسالونيقي: "لا تُخمِدوا الرّوح" (19:5)، لا تَزدَروا روحَ الله، روحَ المواهب.

 

للوَزَنة في ذاك الوقت قيمة نقدية كبيرة، تُعادلُ الواحدة منها ما قيمتُهُ عشرينَ كيلوجرامًا من الذّهب. فالقيمةُ الّتي أُعطيَت لكلِّ خادمٍ، هي قيمةٌ كبيرة جدًّا، حتّى للّذي أخذَ وزنةً واحدة. ومِن هُنا أريد أن أختم تأمّلي وأقول: أنت هو الوزنة، أنت هو القيمة! كلّ إنسان منّا هو كنز ضَخمٌ من الوزنات، لأنّ كلّ إنسان منّا هو صاحب قيمة كبيرة جدًّا، لا تُقدّر ولا تُثمّن، في عينيّ الله.

 

ولكِن، كم من النّاس فَضَّلوا أن يَدفنوا أنفسَهم وهم أحياء، أن يُهينوا هذه الوزنات، أن يحتقِروا مواهب الله فيهم، أن يُخمِدوا الرّوح الّذي وُهِبَ لهم، أن يُفرّطوا في قيمتهم، أن يَبخّسوا من شأنِهم، باتّباعهم طُرُقِ حياة قذرة، لا تشرّف ولا تَليق. كم من النّاس يقتلونَ النّعمةَ فيهم، يئِدونَها في مهدِها! مُزدادين من الخطيئة مُلطّخينَ بالرّذيلة!

 

يا أحبّة، في ليلة الميلاد، في القراءة الثّانية من فرض القراءات للبابا القدّيس لاون الكبير، نسمع البابا يُخاطِبُنا قائِلًا: (أيّها المسيحي، اِعرف كَرامتِكَ)! فَهَلّا عرفت كَم أنت كريم وثمين، وصاحب قيمة كبيرة، دون أن تَنساها ودون أن تحتقرَها وتزدريها؟!