موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٤ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٠

أنتِ الحياة

د. اسمهان ماجد الطاهر

د. اسمهان ماجد الطاهر

د. اسمهان ماجد الطاهر :

 

الإحساس بخيبة الأمل كان يسيطر على قلبها، وغشاء حزن رقيق سكن سطح عينيها كغلالة شفافة بالكاد ترى. في ذلك النهار البارد النسمات كان وجه الأفق يغطس في الضباب. نظرت للسماء وجدتها تحمل غيما رماديا ينذر بعاصفة هوجاء. نظرت إلى نادر زوجها تريد منه نظرة طمأنينة تسقط على صحراء قلبها كقطرة ندى، لكنه كان يسرح في البعيد ،شعرت أن في روحه بركان غضب سينفجر في وجهها إذا نطقت بأي حرف فآثرت الصمت.

 

كان عقلها يقول: لا تغرق يا نادر في ظلمتك القاحلة، كما لو كنت آخر نورس على وجه الكرة الأرضية.

 

لقد اعتادت على أن تتلاشى إثارة أي حديث معه كلما وجدت الغضب في جبينه يترقرق حتى لا تكتوي بنيرانه الحارقة.

 

الصفقات المتدهورة والخسارة المتتالية التي حدثت لشريكها الذي كان سيد قلبها، جعلت منه شخصا لا يطاق، خلال السنوات الأخيرة تحول إلى شخص نزق الطبع ،عصبي المزاج، قاسي النبرات، لا يتورع عن استخدام العنف إذا ما استفزته بكلمة. فكانت تعتزل بعيدا عنه ملتزمة الصمت، وبدأت تشعر أنها على شفير الهاوية معه.

 

في ذلك العام انتشر وباء الكورونا ،وسكن المدينة كأنه اللص الذي يريد أن يسرق أحلام البشر ، مما جعل الأمور متأزمة، والنفوس متوترة.

لقد غزا حياة البشر كشبح، واغتال طمأنينة قلوبهم ، فتراكمت الديون، وزاد الفقر حتى طال جدران معظم المنازل. وكان يهدد بعنف ويطرق النوافذ والأبواب معلنا عن سنوات صعبة.

 

العاصفة بدأت رعد، وبرق، وأمطار محملة بحبات البرد. كانت تطرق نوافذ المركبة التي تنقلهما للمنزل ، لم يخفف نادر من السرعة بل زاد حتى وكأنه في صراع مع العاصفة، شعرت بالخوف ،وكأنها تطير من مقعدها، صرخت به: نادر أرجوك تمالك نفسك ،والتزم بالسرعة المحددة، لكنه لم يستمع لها، وفي ثوان قليلة ظهرت شاحنة كبيرة أمامهم ،لم يستطع نادر تفاديها، وحصلت الكارثة: أصواتً، ونيران، وسيارات إسعاف. كان هذا كل ما رأته قبل ان تصحو من الغيبوبة لترى وجه نادر الشاحب إمامها يقف في مكان أدركت أنه المستشفى.

 

لم تكن تستطيع الحديث من شدة الألم، أخبرها بصوت هادىء افتقدته منذ زمن: إنها نجت من الموت بأعجوبة.

 

أغمضت عينيها وهي بين الوعي والغيبوبة ،تمنت أن يدرك نادر شريكها أن الحياة لا تسوى جناح بعوضة ،وأنها لا تستحق أن نعطيها أكبر من قدرها ،وإن مال الدنيا خلق للدنيا ،وما قيمة المال بدون صحة الإنسان وعافيته؟!

 

نظر إليها نادر وإحساس بالذنب يعتصر قلبه ،تذكر الأيام الجميلة التي جمعتهم في بداية حياتهم، وكيف أن أبسط الأشياء كانت تسعدهم، وتجعلهم يضحكون من أعماق قلوبهم، أطرق في تفكير عميق، ولأول مرة يشعر أن خسارة المال لم تعد تعنيه، وأن كل ما يرجوه أن يكرمه الله بإنقاذ توأم روحه وزوجته التي أحبها ، محدثًا نفسه :ما قيمة المال إن لم تكوني في حياتي قمرا يضئ عتمتي؟

 

تذكر الخوف الذي كان يسكن عينيها كلما ثار غضبه، وصمتها الذي كانت تلتزمه كلما صرخ بها بصوت عال، في مرات عديدة كان يشعر أنه بهذه أمام طفلة صماء.

 

اقترب منها وكانت قد غرقت بنوم عميق جعلها بعيدة جدا عنه، وهمس بقربها :"أريد خطاك لتعبر في ميناء اغترابي أحك جروحي بأطراف صمتك، أموت ويجلس فوق يديك الكلام".

 

تساقطت دموع الذكريات من عينيه ،وكأنها تقول له:" لقد كان حبك إليها بليدا، ‏يا لها من مأساة !

 

أن توجع من تحب يؤلم روحك قبل الجسد. ٱهات متتالية خرجت من صدره تصرخ :أحتاج أن أنفث هذا الحزن العميق، أن أنفخ كل هذه الفوضى العارمة في ثنايا صدري كيف لي أن أكون بكل هذه القسوة لمن أحب وأهوى . في زحمة الركض وراء المكاسب المادية كان نادر قد نسي أن يعيش. أدرك أن لا قيمة للمال بدون الصحة، وأن السعادة هي أن نكون قادرين على اقتسام لحظات الفرح مع من نحب، فخسارة المال لا تساوي شيئا مقابل الروح.

 

ردد بأذنها:" استيقظي لتسقط خصلات شعرك فوقي ذهباً فأنت الحياة.

 

في تلك اللحظة فتحت عينيها التي كانت تقول له:" ‏كن جناحي لأطير من جديد إلى الشمس والفرح، إنها لنعمة إنني أحيا، خذني إليك وليرحل عنا الرحيل.

 

(عمون)