موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٦ أغسطس / آب ٢٠٢٠

أنتَ هو ابني الحبيب

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
كنيسة التجلي على جبل طابور

كنيسة التجلي على جبل طابور

 

أيُّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في المسيحِ يسوع. تحتفِلُ الكنيسة في السّادس من شهر آب، بعيد تجلي الرّب. وهو واحِدٌ من الأعيادِ السّيديّة، أي المرتبطة ارتباطًا مباشِرًا بالسّيد المسيح. ففي هذا العيد الجميل، نُحي ذكرى تجلّيه في المجد الإلهي، فوقَ جبل طابور. وهو الحدث الّذي ذُكِرَ في روايات متّى ومرقس ولوقا. فما هو تاريخ هذا العيد، وماذا يعني لنا. هذا ما أودُّ أن أُعرّجَ عليه، حتّى أوضِّحَ شيئًا من ماهيّة العيد ومعانيه.

 

أوَّلًا، تاريخ العيد. يَقعُ عيد التّجلي في السّادس من شهر آب في كلِّ عام. وهو من الأعياد الثّابتة التّاريخ في الرّزنامة الكنسيّة، أي أنّ موعدَه ثابت لا يتغيّر، مثلُه مثل عيد البشارة وعيد ارتفاع الصّليب. أمّا عيد الفصح على سبيل المثال، فيومه ثابت وهو الأحد، ولكنَّ تاريخَه مُتغيّر.

 

وعيد التّجلي هو العيدُ الّذي يسبق الاحتفالِ بعيد ارتفاع الصّليب، الّذي يقع في الرّابع عشر من شهر أيلول، إذ يسبِقُ عيد التّجلي عيدَ ارتفاعِ الصّليب بأربعينَ يومًا. فالكنيسةُ حدَّدت أوّلًا عيد ارتفاع الصّليب في القرن الخامسِ للميلاد، ثمَّ بناءً عليه، وضعت تاريخ الاحتفالِ بعيد التّجلي في نهايات القرن الخامس، وبدايات القرن السّادس. فالقديس يوحنّا الذّهبي الفم، يقول أنَّ التجلّي حَصَل قبلَ أربعين يومًا من الصَّلب. من هنا حُدّد العيد في السّادس من شهر آب، أَي قبل أربعين يومًا من عيد ارتفاع الصليب العظيم، الذي يقع في الرّابع عشر من شهر أيلول.

 

وفي هذا مُغزى لاهوتي وإيماني. فنحنُ نعلم أنّ المسيح مباشرة بعد انتهاء حَدثِ التّجلي، أنبأَ، للمرّة الثّانية، عن آلامِه وموتِه الّذي سيتمُّ في أورشليم. فَكَأنَّ المسيح يُريد أن يُوضِحَ لتلاميذه، أنَّ هذا الّذي تجلّى أمامَكم مَجيدًا، وعلى مرأى منكم، ارتفعَ فوق جبلِ طابور، هو نفسُه المسيح الّذي سيُرفَعُ على الصّليب، ليجذِبَ إليهِ النّاسَ أجمعين. فالمسيحُ بحدث التّجلي، ومن ثمَّ بنبوءَتِه عن آلامِه وموته، يجمعُ بين عظمته الإلهية فوق الجبل، وبين انسحاقه فوق الصّليب، في شخص واحد غير مُنقسِم. فهناكَ تجلّى إلهً جبّارًا قدير، وعلى الصّليب تجلّى حملًا فصحيًّا وديعًا يُساق إلى الذّبِح ولم يفتح فاه، وظهرَ للنّاس أجمعين فاديًا ومخلِّصًا.

 

 

ثانيًا، معاني التّجلي. لحدثِ التّجلي معانٍ عِدّة، نُسلّطُ الضّوءَ على بعضٍ منها.

 

- في حدثِ التّجلي كان هناك تبدُّلٌ جَذرِي في هيئةِ يسوع. من هيئة بشرية عاديّة عهِدَها التّلاميذُ واعتادوا عليها، إلى هيئة لاهوتية فائقة الطّبيعة، لم يعرفها التّلاميذُ من قبل، أصابَتهم بالذّهول والاندهاش، بل والخوفِ أيضًا. لذلك سُمّيَ هذا العيد بالتّجلّي، ففيه كشفَ الربُّ يسوع عن طبيعته الإلهية وتجلّى أمامَ تلاميذه.

 

- ثمَّ أنَّ هذا الكشف الإلهي يُدعى (Metamorphosis)، أي تغيّر وتبدّل يفوق الشّكل الخارجي. فكلمة Meta تعني ما بعد، والكلمة Mor phosis تعني الشّكل. فالتّجلي يعني تبدُّلٌ يتخطّى ما هو منظور ومرئي. وهذهِ هي دعوتنا المسيحية، أن نتخطّى العالمَ المنظور، لنتجلّى مع المسيح، أي نتحوّل معه من الحالة الأرضية المنظورة، إلى الحالة السّماوية غيرِ المنظورة. كما قال القديس بولس في رسالتهِ إلى أهلِ روما: "ولا تتشبّهوا بهذهِ الدُّنيا، بل تحوّلوا بتجدُّدِ عقولِكم لتتبيّنوا ما هي مشيئةُ الله، أي ما هو صالح وما هو مرضيٌّ وما هو كامل" (روما 2:12).

 

- في حدثِ التّجلي نجدُ خمسَ شخصيّات إلى جانب المسيح. شخصيّتان من العهدِ القديم هما موسى وإيليّا، فموسى يُمثِّلُ الشّريعة وهنا المسيحُ كمالُ الشّريعة. أمّا إيليّا فيُمثِّلُ الأنبياء وهنا المسيح كمالُ الأنبياءِ وإتمامُ النبوءات. كما نجدُ ثلاثَ شخصيّات من العهد الجديد هي بطرس ويعقوب ويوحنّا، أو ما نستطيع أن ندعوه المجلس الوزاري المصغّر. فعندَ بعضِ الأحداث الخاصّة، اصطحبَ المسيحُ معَه هؤلاءِ الثّلاثة بشكل حصري. كمُعجزةِ إحياءِ أبنة يائيرس، وعند حدثِ التّجلي. وحتّى في بستان الزّيتون، قبل آلامه، انفردَ بهؤلاء الثّلاثة طالبًا منهم أن يمكثوا هنا ويسهروا معه.

 

وجود هذهِ الشّخصيات من كِلا العهدين، يدل على التّرابط والاستمرارية، فالمسيح هو الجسرُ الرّابط، وحلقةُ الوصلِ بين العهدين، فهو لَم يأتِ ليُبطِلَ بل ليُكمِل. والكنيسة، الّتي قامت ببشارة الرّسل وخلفائهم، هي امتدادٌ لتاريخ الخلاص بأكمله، من عهد الآباء والأنبياء، وحتى يومنا هذا وإلى انقضاء الدّهر.

 

- أخيرًا، في حدث التّجلي سُمِعَ صوت الآب يقول: "هذا هو ابني الحبيب، فَله اسمعوا". ونحن بدورِنا، عندما نتجلّى مع الله فنحن نعيشُ بنوّتنا الحقيقيّة لله، وعندما نحيا هذه البنوّة، نحن نكون في حالةِ تجلّي مع الله.