موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٥ أغسطس / آب ٢٠٢٠

أمّا الّذين قَبلوه، فقد مَكّنَهم أن يصيروا أبناء الله

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
كنيسة سيدة الوردية - الكرك

كنيسة سيدة الوردية - الكرك

 

كرزة الأحد العشرون من زمن السنة-أ

 

"لا يَحسنُ أن يُؤخَذَ خبزُ البنين، فَيُلقى إلى صغارِ الكلاب"! أيّها الأحبّة، قَد نَشعرُ بالاستغرابِ عندما نسمعُ هذهِ الكلمات تخرجُ من فَمِ يسوع! وقد نشعرُ بالامتِعاض أَكثر، إذْ يَبدو لَنا أنَّ يسوعَ قد أَهانَ هَذهِ المرأة، الّتي لا ذنبَ لها سوى أنّها جَاءَت إليه مُستَنجِدةً مُستَغيثة تَصرخُ إليه: "رحُماكَ يا ابنَ داود! أَغثني، يا رب". البعضُ قد يُفسِّرُ هذا الموقِف من يسوع على أنّه اختبارُ مِنهُ لإيمانِ هذهِ المرأة! فإنْ كانَ الأمرُ كَذلك، فهو اختبارٌ صَعبٌ للغاية! وبناءً عليه قَد تَشعر المرأة أنّها تَعَرَّضت لإهانة جَسيمة فتنسحِب. ولكنّها لم تنسحِب! بل بَقيت وَاقِفةً في مَكانِها، ثَابتةً في طَلب حاجتِها. بَالرّغم من قَسوةِ الرّد الّذي عالَجها به يسوع!

 

يا أحبّة، ضعوا أنفسَكم مكانَ هذه المرأة، وقَد جِئنا إلى المسيح نَستغيث، وَسَمعِنا منه هكذا جواب قاسي وجاف، أَلَن يرتدّ الكثير منّا عنه، مُتذمّرين غاضبين من قَسوتِه وَفَظاظتِه؟! أَهانَنَا شَتمَنا حَقَّرنا! ربّما عددٌ لا يتجاوز أصابع اليدِ الواحِدة، سيبقى مُصرًّا على أخذ ما جاءَ به طالِبًا مستغيثًا.

 

ولكن، لِماذا أَجاب يسوع هذه المرأة المنكوبة، بحالِ ابنتها المأساوي، بهكذا جواب يزيد من ألمِها: "لا يُحسنُ أن يُؤخذَ خبزُ البَنين فَيُلقى إلى صِغار الكِلاب"؟! أَلم يجد المسيح جوابًا ((أَلطَف وَأَنعَم)) يجيبُ بهِ على هذهِ المرأة؟! نحن اليوم عند بعضِ المواقِف، إنْ كَلَّمنا شخصًا بِالحَق، تَذهب قَطيعَة وجَفاء يستمر لسنوات. فكم بالأحرى عِندَما يجيب المسيح مَرأة مسكينة مستنجِدة، هكذا جواب صادِم وحاد؟! ومع ذلِك، تُثيرُ هذه المرأة الفولاذيّة الإعجاب، فَقَد اِمتَصَّت الصّدمة بمرونة كبيرة، وَركِبت الموجة بمهارة عالية، وَظَلَّت ثابِتة عند طلبِها دونَ أن تتزحزح، كالبيت المبنيّ على الصّخر، بالرّغم من هذه العاصِفة المعنويّة الّتي قد تُحطّم أقوى النّفوس! وليس ذلك فحسب، بل عرفت كيف تصنع من الجواب جوابًا مُضاد، أعادَ الكرة إلى ملعبِ المسيح، فاستجاب لها الطّلب فورًا، وكان لها ما تُريد.

 

في العَقليةِ اليهودية كانَ النّاسُ يُصَنَّفون أو يَندرجون تحت فئتين اثنتين: فئة اليهود وهم شعبُ الله المختار (البنون) المَرضي عنهم، لهم أُلقيت النّبوءات والمعجِزات. وفئة الأمم (الأغيار) وهم الشّعوب من غير اليهود. وكانَ يُنظر إليهم باحتقار وازدِراء، على أنّهم أنجاسٌ لا يستحقّونَ النّعمةَ والخلاص. وإذا ما عُدنا إلى قول المسيح: "لم أُرسَل إلّا إلى الخرافِ الضّالة من آلِ إسرائيل"، نَجِده في واقعةِ اليوم، يخرج إلى خراف ضالّة أُخرى من غيرِ آلِ إسرائيل. فكأنَّهُ بذلك يُعلِن لبني قومِه، أنّني أتيتُ إليكم وجِئتُ لأجلِكم، وَلَكنّكم رفضتموني ولم تَقبلوا بي. لذلك، ها أنا ذاهِبٌ لأُعلِن البُشرى لِغَيركم من الأمم، لِتَعلَموا أنَّ بُشرى الخلاص تعمُّ كلّ الفئات ولا تخصّ فئةً بعينِها.

 

تمامًا كما يسرِدُ يوحنّا في بدء بشارتِه: "جاءَ إلى بَيتِهِ، فما قَبِلَه أَهل بيته. أمّا الّذين قَبلوه، وهُم الّذين يؤمنون باسمِه، فقد مَكّنَهم أن يصيروا أبناء الله" (يوحنّا 11:1-12). فالمسيح بجوابه القاسي للمرأة، لا يقصدُ أن يُوجِّهَ لها إهانة شخصيّة، بِقدر ما يُريد أن ينتقِدَ ويَدحض ويُلغي فكرةً قبيحة ومواقِفَ عُنصريّة متزمِّتَة، كانت سائدة عند اليهودِ بني قومِه، تجاه باقي الأمم. ويُريد أن يُعلِن بأنَّ كلَّ الشّعوب مشمولة بالخلاص وبالنّعمة وبالمعجزات، وبأنَّ كلّ الأمم تَستَحّق أن تُدعى وتكون أبناءَ الله بالإيمان. لِذلك هو يمدح ويُطوّب إيمانَ هذه المرأة الكنعانية، الّتي تُعتَبرُ نجسة بل مِن صغارِ الكلاب في نظر اليهود، ولكنّها اليوم تُظهِرُ إيمانًا فاقَ إيمان البنين، أهل البيت!

 

ألا تذكرونَ قولَ الرّبِّ في الإنجيل، عندما مَنَحَ الشّفاء لخادم قائد المئة، إذ أَظهَرَ إيمانًا لم يَجِده في أحدٍ من بني إسرائيل، فقال مادِحًا وذامًّا في نفس الوقت: "سَوفَ يَأتي أُناسٌ كَثيرونَ مِنَ المَشرِقِ والمَغرِب، فَيُجالِسونَ إِبراهيمَ وَإِسحقَ ويَعقوب على المائِدةِ في مَلَكوتِ السَّمَوات، وأَمَّا بَنو المَلَكوت فَيُلقَوْنَ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة، وهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأسنان"! (متّى 11:8-12)

 

يا كِرام، لا تحتقروا أحدًا، ولا تَعتقِدوا أنّكم أفضلُ النّاس، وغيركم أَنجاسٌ أَرجاس. فَالعرب خيرُ أمّةٍ حقّرت واستهزأت بغيرها من الأمم، بقصائد وخُطب لا تمجّدُ سوى الفراغ والوَهم. فلا فَضل لِأحدٍ على أحد لأنّه ابن عشيرة فلانيّة أو مدينة فلانيّة، أو لأنّه صاحب مالٍ وغِنى، أو لأنّه يتبوّأ مركزًا عاليًا ومنصِبًا مهمًّا أو يحمل شهادات عُليا. فالحقيرُ في نظرِكَ اليوم قَد يُمجّدُ عليكَ غدًا، وقد ينال عزًّا وشرفًا أرفع ممّا أنتَ عليه الآن. فالتّواضع فضيلة الحكماء.

 

قضية أُخرى نُعاني منها في بعضِ رعايانا، وهي العقلية الاحتكارية المتَقَوقِعَة على ذاتها! وهي عقليّة مشابه لِعَقليّة اليهود في تلك الفترة. ومِن هنا أقول: الرّعية بيت الجميع، والكنيسة بيتُ الجميع، وليست حِكرًا ولا حصرًا على أحد. الرّعية لا تُختزل في عائلة ولا في عَشيرة ولا في فئة، والكنيسة لا تُوجَز ولا تقتصِرُ على أفرادٍ وأشخاص، ولا يوجد أغيار أو أَغراب في رعايانا، فقط لأنّهم لا ينتمون للعَشيرة الكبيرة أو ليسوا من نفس الأصلِ والمنبت. تَذكرونَ قولَ الرّب عندما وبّخ تلاميذَه، إذ جاءوا إليِهِ متذمّرين: "يا مُعلِّم، رَأَينا رجلًا يطرد الشّياطينَ باسمِكَ، فأردنا أن نمنَعَهُ، لأنّه لا يتبعُكَ معنا"! هذه عقلية احتكارية بامتياز، وموقف انطوائي مُنغلِق من قِبلِ التّلاميذ، وكأنّهم يريدون السّيطرة على المسيح، وأن يأسروه في قَبضَتِهم! فماذا كان ردُّ السيد: "لا تَمنعوه، فَمن لَم يكن عَليكم كانَ مَعكم" (لوقا 49:9-50) كنائِسنا ليست كنائِس عشائر وعوائِل! كنائِسنا هي بيوت الله. والله هو ربُّ الجميع وأبٌ للجميع، وليس رب عشيرة وقبيلة وحمولة!

 

في بداية النّص يُقابِلُنا الفعل (خرج) مرّتين. مرّة مع يسوع الّذي يخرج من أرضِه ويعبر إلى أرضِ الأمم. ومرّة مع المرأة الكنعانية الّتي تخرج من أرضِها لِتَلتقي مع يسوع. فعل الخروج هو فعل خلاص. إبراهيم خرج من أرضه، موسى خرج بالشّعب من أرضِ مصر. واليوم يسوع يخرج والمرأة تخرج، فتمَّ الّلقاءُ وكان لها الخلاصُ ولابنتِها. يا أحبّة، كم نحن بحاجة إلى فِعلِ خروج، يصحبه فعل ترك وتخلٍّ عن واقع سيّء، عن حالٍ سيء، عن وضع سيّء، عن عادات سيّئة؟! كم نحن إلى فعل خروج من عقليّة مُتَيبِّسة، ومواقف مُتَحَجّرة، حتى نستطيع أن نقابل الله ونلتقي معه، فيتمّ الخلاص لنا نحنُ أيضًا؟!

 

عندما يتبادلُ النّاس الشّتائم فيما بينهم، يَصفون بعضهم بعضًا بِ: "يا كَلب"، أو يجمعونَها مع شتيمة أخرى كَعَجزٍ لصدر الشّتيمة. فصارت هذه صِفة للتّحقير والإهانة. ولكن، في الواقِع، تجتمع في الكلب صفات جميلة وأصيلة، كالشّهامة والشّجاعة والقوّة والوَفاء والطّاعة والُّلطف والذَّكاء. فالكلب، مع أنه شتيمة تحمل إهانة كبيرة، إلّا أنّه حيوان يحمل الكثير من الصّفات الحَسنة. وأحيانًا هي صفاتٌ قَد لا تجِدها عندَ كثيرٍ من البنين أنفسهم!