موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٨ فبراير / شباط ٢٠٢٠

أحد مرفع الجبن

بقلم :
الأب بطرس جنحو - الأردن
علينا أن ننظر إلى قيمة فعل المغفرة  من باب أهميته وسموّه

علينا أن ننظر إلى قيمة فعل المغفرة من باب أهميته وسموّه

 

فصل شريف من بشارة القديس متى

(متى 6: 14-21)

 

قال الربُّ إن غفَرتـمُ  للناس زلاَّتـِهم يغفرْ لكم ابوكم السماوي أيضًا * وان لم تغفرِوا للناس زلاَّتهم فأَبوكم أيضًا لا يغفِر لكم زلاَّتكِم * ومتى صُمتم فلا تكونوا مُعبسين كالمراءين. فانَّـهم ينكّرون وجوهَهم ليظهروا للناس صائمين. الحقَّ اقول لكم إنَّـهم قد أَخَذوا أجرَهم * أمَّا انتَ فاذا صمتَ فادهَن رأسَكَ واغسِل وجْهَك لئَلا تظهرَ للناس صائمًا بل لأَبيك الذي في الخِفية. وابوك الذي يرى في الخِـفيةِ يجازيك علانيةً * لا تكنِزوا لكم كنوزًا على الارض حيث يُفسِدَ السوس والآكلِةُ وينقُب السارقون ويسرِقون * لكن اكنِزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يـُفسِد سوسٌ ولا آكلةٌ ولا ينقُب السارقون ولا يسرقون * لانَّـهُ حيث تكون كَنوزكم هناك تكونُ قلوبـَكم.

 

بسم الأب والأبن والروح القدس الإله الواحد أمين

 

أيها الأحباء:

 

في رسالة اليوم يخاطبنا القديس بولس بقوله: أن علينا إلا نهتم بأجسادنا، لقضاء حاجاتها، كالأكل أو الملبس، حيث أن المثل الانجيلي واضح. حينما قال:  أنظروا الى طيور السماء، أنها لا تزرع ولا تحصد، وأبوكم السماوي يقيتها. أنظروا الى زنابق الحقل، أن سليمان بعزه، لم يلبس كواحدة منها. ويدعونا ألا نهتم بما نكسب من أرزاق فأنها ستبقى في هذا العالم، وهذه الكنوز هي مأكل للسوس ومنقب للسارقين. وأن علينا أن نكنز لنا كنوزا في السماء تقربنا من الله. وتساعدنا أن نرث الملكوت السماوي. علينا أن نتذكر أخوتنا الفقراء والمحزونين والمظلومين فنعطف عليهم ونهبهم مما أعطانا الرب من نعم وخيرات. ولكن بشرط إلا نخبر شمالنا ما فعلت يميننا، هكذا فقط نكنز لنا كنوزا في السماء. أما في المقطع الإنجيلي قال الرّبّ. إن غفرتم للنّاس زلاّتهم يغفر لكم أَبوكم السّماويّ أَيضًا".

 

هكذا ساوى الرّبّ الإنسان المؤمن بذاته... هو الإله الّذي يغفر للنّاس زلاّتهم، إذا تابوا، طالبين منه المسامحة على ما اقترفوه من آثام وخطايا. وهم، عليهم، تاليًا، أن يجتمعوا في شركة المحبّة مع الآخرين، حول الرّبّ يسوع آخذين منه نعمة الحبّ والغفران ومعطينها أو مستعملينها لصدق الحياة واستقامتها أَمام المسيح، ليدخلوا معه في شركة المحبّة الّتي أَوصى بها تلاميذه قبل صعوده إلى أَبيه السّماويّ... "أَحبّوا بعضكم بعضًا ليعرف العالم أَنّكم تلاميذي" (يو13: 35).

 

"وإن لم تغفروا للنّاس زلاّتهم، فأَبوكم أَيضًا لا يغفر لكم زلاّتكم"

 

الآب والابن والإنسان المؤمن هم ختم المحبّة وإخلاء الذّات، ليتمكّن الإنسان بتلمذته للرّبّ يسوع أن يدخل حلبة الصّوم الأَربعينيّ المقدّس، كما كلّ صوم، مفرِغًا قلبه وكيانه من الأَهواء والخطايا الّتي تتراكم في زوايا النّفس البشريّة، إذ يعيش الإنسان في هذا العالم الّذي قال لنا فيه الرّبّ يسوع: "أَنتم لستم من هذا العالم".

 

أيها الأحباء، في أحد الغفران هذا، علينا أن ننسلخ عن هذه الدنيويات الزائلة وأن نتنكر لأنانيتنا، حتى نلاقي الرب بقلب يتطهر يومًا  فيوم، لكي يصبح  سماء الله، علينا أن ننظر بمحبة لاخينا الانسان، حتى وأن أساء الينا، فعلينا أن نواجه كلمة الرب القائل: "أن غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم". وقد أعطانا السيد المسيح القدوة الحسنة والمثال الصادق, فحينما كانوا يسمرونه على الصليب، كان هو يصلي ويقول: "يا أبت، أغفر لهم لانهم لا يعرفون ما يفعلون".

 

يُذكِّرنا ربّنا اليوم، وقبل البدء بالصوم الأربعيني المقدّس، بأرقى خطوة مسلكيّة وأسمى فضيلة يمكن لإنسان أن يمارسها، أعني المغفرة، لهو أمر مخوف جدًّا ومرهوب، إذ كيف يستطيع الواحد منّا أن يتفكّر في نفسه بأنّه يستطيع أن يغفر للناس زلاّتهم؟ كيف يستطيع أيّ أحدٍ منّا أن يتفكّر بذلك ونحن متخَمون بشتّى أنواع التكبّر والأنانيّة وتصلّفِ القلب وانغلاقِه على كلّ فرصةٍ من فرص المحبّة والرحمة الإنسانيّة؟ هل نُدرك ما قيمة أن يطلب منّا الربّ اليوم أن نغفر بعضنا لبعض؟

 

أيها الاحباء أن الكنيسة المقدسة ترى بالصوم وجه آخر. فالصوم هو غسل للروح وتطهير لها، فكما أن علينا أن نغسل أجسادنا يوميًا، علينا أن نغسل أرواحنا كذلك. وهذا يتم عن طريق الصوم والصلاة والابتعاد عن مغريات هذه العالم وعن الخطيئة والشرور، وأن نعود أنقياء، كما كنا بعد المعمودية المقدسة.

 

علينا أن ننظر إلى قيمة فعل المغفرة هذا من باب أهمّيّته وسموّه، وخصوصًا من باب فائدته للإنسان الغافر نفسه، إذ لا يقدر أن يستطيع أحدٌ أن يفكّر بمسامحة الآخرين ما لم يتواضع حتى النهاية، متجرّدًا عن كلّ هوى، متخليًّا عن أنانيّته التي تحجب بسماكتها شفافية محبّة الله ليتمكّن من تجسيد هذه المحبّة بالمغفرة التي هي الفضيلة الأسمى المطهّرة للقلب والنفس، والتي بدونها لا يستطيع الإنسان أن يستمرّ في جهاده في هذا الصوم المبارك ليتوصّل الى التطهير الكامل جسدًا وروحًا معًا.