موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٣٠ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٠

أحد زكا العشار

بقلم :
الأب بطرس جنحو - الأردن

فصل شريف من بشارة القديس لوقا ( لوقا 19 : 1 -10 ) في ذلك الزمان فيما يسوع مجتازٌ في اريحا اذا برجُل اسمهُ زكَّـا كان رئيسًا على العشَّارين وكان غنيًّا * وكان يلتمِسُ أن يرى يسوعَ مَن هو فلم يكن يستطيعُ من الجمع لانَّـهُ كان قصيرَ القامة * فتقدَّم مسرعًا وصعِد الى جمَّيزةٍ لَينظرَهُ لانَّـهُ كان مُزمِعًا ان يَجتازَ بها * فلَّما انتهى يسوعُ الى الموضع رفع طَرْفَهُ فرآهُ فقال لهُ يا زكَّـا أَسِرعِ انزِلْ فاليومَ ينبغي لي ان امكُث في بيتك * فأسرعَ ونزَلَ وقبِلهُ فرحًا *فلمـَّا رأَى الجميعُ ذلك تذمَّروا قائلين انَّهُ دخل ليحُلَّ عند رجلٍ خاطىء *فوقف زكـَّار وقال ليسوعَ هاءَنذا يا ربُّ أُعطي المساكينَ نِص أَمْوالي . وان كنتُ قد غَبَنْتُ احدًا في شيءٍ أَرُدُّ اربعةَ أَضعافٍ * فقال لهُ يسوع اليومَ قد حصل الخلاصُ لهذا البيتِ لانـه هو ايضًا ابنُ إبراهيم * لانَّ ابنَ البشرِ انـمَّا اتى ليَطلبَ ويُخَلصَ ما قد هلك . بسم الأب والأبن والروح القدس الإله الواحد أمين. زكا ربما كان اسم عبريًا اختصارًا " زكريا " (لوقا 19: 1-10)، وهو رجل من أغنياء اليهود في أريحا ورئيس لجباة الضرائب هناك. كان اليهود يعتبرونه خاطئًا باعتباره يخدم الحكام الرومان الوثنيين ويتعاون معهم. وإذ عرف بمرور المسيح صعد على جميزة وفي قلبه أفكار ورغبات عرفها المسيح فمكث عنده ذلك النهار، وتحت تأثيرالروح القدس حصل له ولبيته الخلاص، ولا يراد بالقول "إذ هو أيضًا ابن ابراهيم أنه كان من نسله حسب الطبيعة بل أنه صار شريكًا له في الإيمان والمواعيد. ويظن بعضهم أن إعلانه العظيم من إعطاء نصف أمواله للمساكين ورده أربعة أضعاف لمن وشى بهم إنما يكشف عن أمرين: أولًا: بداية حياة جديدة. ثانيًا: يشف عن حياة نزيهة عفيفة اختلفت عن حياة زملائه جباة الضرائب. وقد أظهر التنقيب في "تلول العليق" بالقرب من أريحا منازل حوائطها منقوشة، وربما كان لزكا منزل كأحد هذه المنازل. إذتً يسوع يدخل أريحا في طريقه نحو أورشليم. أريحا بوابة الأرض المقدّسة، منها دخل الشعب الى الأرض بقيادة يشوع بن نون. ويسوع ابن مريم يدخل الأرض مجدّداً، يقود كنيسته، شعب الله الجديد، الأمّة المقدّسة السائرة نحو أورشليم السماويّة. الأعمى يصرخ "يا ابن داود ارحمني" وينال الخلاص، ولكن زكّا يبقى صامتاً، يراقب، يتحيّن الفرصة. مثل كلّ واحد منّا يعلم أنّه خاطيء. مثلنا أحياناً، يفكّر في ما سوف يقول عنه الآخرون إن اقترب نحو يسوع، فهو من كبار جباة الضرائب، يخافه الآخرون ويحتقره الفريّسيّون، هو الخاطئ في نظرهم. زكا سمع عن يسوع. ولم يكن يعرفه شخصيًّا. أراد أن يرى هذا الإنسان الَّذي يصنع العجائب ويشفي النفوس والأجساد. أراد أن يعاين هذا المعلِّم الحقَّ الَّذي ليس كباقي معلّمي اليهود، لأنّه حنون وقريب من الخطأة إذ لا ينبذهم. فالمرض في ذهن اليهود مرتبط بالخطيئة، والخطيئة المكشوفة بالمرض تعلن غضب الله على الإنسان بحسب الشريعة وعقليّة اليهود. هذا ما دفع زكَّا إلى البحث عن يسوع وطلبه، أنّه يفصل الخطيئة عن الخاطِئ ويُبرِئُ النفس والجسد. لقد كان زكَّا يعلم من ذاته وفي ذاته أنَّ مرض النفس أصعب من مرض الجسد، لأن نجاسة القلب تقتل الإنسان في إنسانيّته، امَّا مرض الجسد فيقتل الجسد دون الروح لمن كان مؤمنًا. وكان زكا يفكّر ، ماذا يقول عنه الرّب؟ هل هو مثلنا يخاف حكم الله، يظنّ نفسه هالكاً. ومثلنا أيضاً، تبقى في قلبه ذرّة رجاء، حالم بخلاص الله، طامع بلمسة من يسوع تشفي يأسه. مثلنا أيضاً، يجد نفسه قصير القامة، لا يقدر أن يرى السيّد بسبب قامته، أي بسبب عجزه الطبيعيّ عن الوصول الى معاينة الله، فقصر قامة زكّا هي صورة عن عدم قدرة طبيعتنا الإنسانيّة على الدخول في علاقة مع الله المختلف عنّا بطبيعته, و هي أيضاً صورة عن الخطيئة التي تمنعنا من قبول الرّب. ولكن قصر قامة زكّا ما كانت لتمنعه من رؤية المخلّص لو لم يحجب الآخرون المسيح عن ناظريه, هي أيضاً صورة كلّ واحد منّا حين يجد نفسه خارج الجماعة، مهمّشاً، موضوعاً في خانة ما يقرّرها المجتمع. وأحياناً نكون واحداً من أولئك الّذين يمنعون الآخرين من رؤية المسيح. ولكن قصر قامتنا لم يكن عائقاً أمام المسيح، ولا أمام زكّا: فالله ألغى الحاجز بين طبيعته الإلهيّة وطبيعتنا الإنسانيّة بتجسّد المسيح، فالمسيح الإله والإنسان صار وسيلة لقاء بين الطبيعتين، وصار بإمكاننا العودة الى علاقة البنوّة الإلهيّة. ولأنّ الآب يحبّ كلّ واحد منّا، لم تعد للخطيئة قوّتها القاتلة، فبموت الرّب تكفيراً عن خطيئتنا أعادنا الى صداقتنا مع الآب, أعطانا سرّ المغفرة، سرّ المصالحة مع الله. الشجرة التي تسلّقها زكّا ليعاين الله، هي شجرة الصليب التي عُلِّق عليها المسيح، ليعطينا الغفران والحياة الجديدة. ولأن خلاص الله هو نعمة تُعطى من حنان الآب، لكنها تتطلّب قبولنا وجهادنا، فالرّب يطلب منّا المشاركة، يطلب منّا تخطّي العوائق التي تمنعنا من الوصول اليه، يطلب منّا أن نصنع كما زكّا، نجد الوسيلة التي تجعلنا نبصر المخلّص رغم العوائق. يدعونا المسيح ألاّ نسمح لعوائقنا الجسديّة والنفسيّة والروحيّة والاجتماعيّة, أن تكون حاجزاً يحول دون وصولنا الى الخلاص. لقد تسلّق زكّا الشجرة، فتّش عن مخرج، لم يسمح لعائقه الجسديّ، ولا لعقدة نقصه حيال الفرّيسيّين، ولا للخطايا التي اقترفها في ماضيه، ولا للمجتمع الّذي قرّر أن يضعه في خانة الخطأة المهمّشين، لم يسمح لكل هذا أن يمنعه من الوصول الى المسيح. لقد أخذ المبادرة، وتسلّق تلك الشجرة. هي دعوة لنا اليوم أن نخرج عن صمتنا وخوفنا، أن نعمل شيئاً لنظهر لنفسنا أوّلاً وللرّب بنوع أخصّ، أن لا شيء يقدر أن يمنعنا عن الوصول الى الخلاص: لا خطايا ماضينا، ولا ضعف قوانا، ولا خوفنا ولا يأسنا ولا مشاكلنا، ولا نظرة المجتمع الينا، لا شيء يقدر أن يحول دون وصولنا الى الخلاص, و دعوة أن نعود الى واقعنا اليوميّ لنطهّره، ننقيّه من الشوائب والأخطاء، نحوّله من واقع خطيئة الى حالة نعمة، نحوّل وجودنا الى مكان بركة يقول لنا الله أنّه سوف يحلّ فيه هذا المساء ضيفاً، يقاسمنا خبزنا اليوميّ، يشاركنا فرحنا، فرح الخلاص الّذي هو وحده يقدر أن يعطينا إيّاه. لقد رأى يسوع استعدادات قلب زكَّا، لذلك اقتنصه من خطيئته بهذا الشوق الَّذي تربَّى في قلب زكَّا نحو الشفاء، نحو التطهُّر، نحو النقاوة، والَّذي أيقظه فيه صيت يسوع وأخباره الَّتي كان زكَّا يسمعها عنه. يسوع يعرف كلّ إنسان باسمه، من الكبير إلى الصغير، من الخاطئ إلى البارّ. لم يحتج زكَّا إلاَّ لهذا المعروفيَّة، لأن يشعر بأنّه معروف عند الله، عند يسوع. لما قال له يسوع: " يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ"، طار زكّا من الفرح وأعلن: " هَا أَنَا يَارَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ". صار زكَّا في لحظة زمنية سريعة ، متمماً للشريعة، تائبًا بفرح. هذا ما يدعوه الآباء القديسون بـ"الحزن المفرح". الإنسان يحزن على خطيئته ويفرح برحمة الله. يتزاوج الشعوران معًا في آن واحدٍ. هذا سرُّ الله في الإنسان، هذا سرُّ لمسة حنان الرب لقلب الإنسان الذي يجعله إنسانًا جديدًا، نقيًّا بدموعه بارًّا في التزامه وصيّة الله فرحًا بالرجاء. هل تعرَّفت إلى زكَّا في ذاتك؟ هل أنت تشبهه في سقوطه أم في قيامه؟