موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣٠ مايو / أيار ٢٠٢٠

أحد العنصرة 2020

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
أحد العنصرة: إعطاء السيد المسيح لتلاميذه الروح القدس لمغفرة الخطايا (يوحنا 20: 19-23)

أحد العنصرة: إعطاء السيد المسيح لتلاميذه الروح القدس لمغفرة الخطايا (يوحنا 20: 19-23)

 

 

نحتفل اليوم في عيد العنصرة المجيدة، وهو خاتمة الأعياد الفصحية. إنه الروح القدس الذي وعد به المسيح يأتي بناره ونوره وقوته ليُثبّت الرسل ويمنحهم سلطان غفران الخطايا تمهيدا لحلوله على الكنيسة جمعاء المتمثلة بالسيّدة العذراء أم الكنيسة والرّسل الأطهار والتّلاميذ الأبرار، مع النّسوة القدّيسات يوم العنصرة في اليوم الخمسين بعد قيامة يسوع من الموت (أعمال الرسل 2: 1)؛ وحدث العنصرة يُشكّل جوهر الحياة المسيحيّة ومنطلقاً أساسياً لولادة الكنيسة. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

اولا: وقائع النص الانجيلي (يوحنا 20: 19-23)

 

19 وفي مَساءِ ذلك اليَومِ، يومِ الأحد، كانَ التَّلاميذُ في دارٍ أُغْلِقَتْ أَبوابُها خَوفاً مِنَ اليَهود، فجاءَ يسوعُ ووَقَفَ بَينَهم وقالَ لَهم: السَّلامُ علَيكم!

 

تشير عبارة " ذلك اليَومِ، يومِ الأحد" الى مساء القيامة في اول الأسبوع، وذكر يوحنا الإنجيلي اجتماع الرسل يوم الاحد مرتين. يُشدّد الإنجيل على وحدة الزمن حيث ظهر يسوع لتلاميذه في نفس اليوم الذي ظهر فيه لمَريم المِجدَليَّة (يوحنا 20: 1)، وظهر للنسوة في ذات اليوم (متى 28: 9)، كما ظهر لتلميذي عِمَّاوُس (لوقا 24: 13). يشعر التلاميذ المجتمعون أنَّ يسوع حاضرٌ بينهم في مساء يوم الاحد. وهكذا كان المؤمنون يجتمعون يوم الأحد وما زالوا. والكنيسة استبدلت السبت بالأحد تذكاراً لقيامة الرب. أمَّا عبارة "التَّلاميذُ " فتشير الى الرسل العشر وغيرهم من التلاميذ علما ان يهوذا الإسخريوطي قد ترك جماعة الرسل وتوما الرسول كان غائبا على هذ الاجتماع (لوقا 24: 33). أمَّا عبارة "دارٍ" الى موضع اجتماع التلاميذ في اورشليم. والأرجح انه في العلية التي أكلوا فيها الفصح مع معلمهم يسوع المسيح (مرقس 14: 13 -15).  أمَّا عبارة "أُغْلِقَتْ أَبوابُها" فتشير الى علامة رعب التلاميذ الذين أحكموا إغلاق الأبواب بالمتاريس حيث ستُفتح يوم العنصرة بحلول الروح القدس. وظهور السيد المسيح في وسطهم والأبواب مغلقه لم يكن بعملٍ معجزي، لأن هذه هي طبيعة الجسم القائم من الأموات، إنما ما أراد تأكيده هو أن المسيح قام بذات الجسم، لكنه بجسم مُمجَّد. إنه يسمو على الزمان والمكان والحدود المادية. انه الجسم هو ذاته لكنه لبس عدم الفساد كما جاء في رسالة بولس الرسول " فلا بُدَّ لِهذا الكائِنِ الفاسِدِ أَن يَلبَسَ ما لَيسَ بِفاسِد، ولِهذا الكائِنِ الفاني أَن يَلبَسَ الخُلود " (1 قورنتس 15: 53)، ويُعلق القديس أوغسطينوس حول “طبيعة الجسم المُقام" بقوله "على أي حال، أيا كانت طبيعة الجسم الروحاني، ومهما كانت عظمة نعمته، أخشى أن أتحدث في هذا، لأننا لا زلنا لا نحمل أية خبرة بخصوص هذه الحقيقة".  أمَّا عبارة "أبوابُها" فتشير الى أكثر من باب، ولعله كان للعلية أكثر من باب، أو ربما يقصد أن باب البيت كان مغلقا كما كان باب العلية، إذ كان التلاميذ في رُعبٍ، فلم يكتفوا بغلق باب الدار الخارجي. أمَّا عبارة "خَوفاً مِنَ اليَهود" فتشير الى رؤساء اليهود الذين يلاحقون تلاميذه كما لاحقوا يسوع. والتلاميذ كانوا مُختبئين في اورشليم ظنَّا منهم أنه بعد صلب السيد ودفنه يأتي الدور عليهم. مع أن رؤساء اليهود لم يقتربوا إليهم منذ القبض على يسوع في بستان الجسمانية وقوله للرؤساء: "دَعُوا هؤلاءِ يَذهَبون" (يوحنا 18: 8).  أمَّا عبارة "جاءَ يسوعُ" فتشير الى جسد المسيح الذي لم يَعُدْ بعد خاضعاً لنفس قوانين الطبيعة كما كان قبل موته، فكان يخترق الجدران والحواجز (يوحنا 20: 26)، وهو غير مقيّد بحدود الزمان والمكان، وغير مقيّدٌ بالحاجات الماديّة والبيولوجيّة، ولا بقوانين الطبيعة كالجاذبيّة الأرضيّة؛ بل أصبح ممكناً له الدخول، والأبواب مغلقة. إلاَّ أنه لم يكن شبحا او خيالا بل "جِسْمًا رُوحِيًّا" كما دعاه بولس الرسول (1 قورنتس 15: 44). والجسم يُطلقُ على البدن الذي فيه حياةٌ وروحٌ وحركة. وأمَّا الجسدُ فيطلق على التمثالِ الجامد، أو بدن الإنسان بعدَ وفاته وخروجِ روحه. ويتكرِّر مجيء يسوع الحي القائم أكثر من مرة بين تلاميذه مرافقا لهم كما يرافق الراعي خرافه (يوحنا 14: 3-18). لكن التلاميذ لم يستطيعوا معرفة يسوع إلاّ بعد ان أدخلهم عن طريق الكتب المقدسة في سر موته وقيامته (لوقا 24: 25-27). عاد يسوع من عالم آخر غير خاضع لقوانين الطبيعة: إذا به يدخل والابواب مغلقة، وفجأة وقف في وسطهم.  هو يبادر فيأتي اولاً الينا، ونحن نذهب الى لقائه، ومجيئه يملأ القلوب تعزية ًوشجاعة. أمَّا فعل "وقف" فمعناه الرمزي وقفة القيامة. يشرح لنا يوحنا الإنجيلي كيف يُدخل يسوع الاثني عشر في ملء رسالة الفصح. أمَّا عبارة " بَينَهم " في الأصل اليوناني μέσος (معناه وسطهم) فتشير الى يسوع القائم الذي هو قريب لكل واحد بنفس الدرجة؛ وأمَّا عبارة "السَّلامُ علَيكم!" في الأصل اليوناني Εἰρήνη ὑμῖν (السلام لكم) فتشير الى بركة غير عادية تحمل قوة لطرد الخوف؛ وهي تحية سلام يحتاجون اليها بعد خوف يوم الجمعة العظيمة. هذا السلام يُبدِّد كل اضطراب أحدثه رحيله عنهم كما قال لهم يسوع " لا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم. إنَّكم تُؤمِنونَ بِاللهِ فآمِنوا بي أَيضاً" (يوحنا 14: 1). وهذا السلام هو ثمر القيامة، سلام داخلي مع الله، ومع الإنسان نفسه كما مع إخوته؛ وهو بشارة المصالحة والسلام. وهو اتمام وعد يسوع في كلامه الاخير "سَلامي أُعْطيكم" (يوحنا 14: 27). هذا السلام يختلف عن أي سلام أرضي يتفاوض عليه البشر، هو السلام الذي نرجوه عندما نطلب في كل قداس " المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام ". وعَّرف بولس الرسول هذا السلام بقوله: " سلامَ اللهِ الَّذي يَفوقُ كُلَّ إِدراكٍ يَحفَظُ قُلوبَكم وأَذْهانَكم في المسيحِ يسوع" (فيلبي4 :7). وهو المسيح سلامنا" (أفسس 2 :14)، " وقَد حَقَّقَ السَّلامَ بِدَمِ صَليبِه " (كولسي 1 :20). هذا هو الظهور الأول لكل التلاميذ لكنه الخامس بالنظر الى ظهوره لبعضهم والأول لمريم المجدلية (يوحنا 20: 16) والثاني لرفيقتين (متى 28: 9) والثالث لبطرس (1قرونتس 15: 5) والرابع لتلميذي عماوس (لوقا 24: 13) والخامس في هذا لظهور هنا. 


20 قالَ ذلك، وأَراهم يَدَيهِ وجَنبَه ففَرِحَ التَّلاميذُ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ

 

تشير عبارة "أَراهم يَدَيهِ وجَنبَه" الى رؤية جسد المسيح كما كان على الصليب، وهو ذات جسد في قيامته؛ كان جسدا ميتًا ويحمل ذات جراحات الصليب، لكنه الآن جسما حيا مُمجَّداً. وهكذا يتغلب يسوع على قلة إيمان الاثني عشر بإعطائهم علامات على حقيقة قيامته (اعمال الرسل 1: 3). فآثار الجراحات هي شهادة حيَّة لقيامته، إذ يُشدِّد يوحنا الإنجيلي هنا على الصلة القائمة بين يسوع الذي تألم، يسوع الناصري التاريخي، "قَدِ ابتُلِيَ هو نَفسُه بِالآلام، فهو قادِرٌ على إِغاثَةِ المُبتَلَين" (عبرانيين 2: 18) ويسوع القائم من بين الاموات، يسوع الايمان الذي معهم للأبد كما قال لتلاميذه قبل صعود الى السماء "هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم " (متى 28: 20).  واراد يوحنا الإنجيلي أيضا إقامة صلة بين حادثة الطعن بالحربة وحدث العلية، انه الحمل الفصحي الذبيح على الجلجلة الذي يعود الى ذويه حاملا ثمار ذبيحته من اجل خلاص البشر كما وصفه يوحنا الإنجيلي " حَمَلاً قائِمًا كأَنَّه ذَبيح " (رؤيا 5: 6). أمَّا عبارة " فَرِحَ التَّلاميذُ " فتشير الى إتمام مواعيد يسوع التي قطعها لتلاميذه في أحاديثه النهائية معه " قلتُ لَكم هذهِ الأشياءَ لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامّاً "(يوحنا 15: 11). والفرح ناتج عن اختبار ومشاهدة يسوع؛ ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "ما قاله يسوع قبل الصلب: " سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح" (يوحنا 16: 22) قد تحقق الآن عمليًا. هذا كله دفعهم إلى الإيمان الصادق"؛ أمَّا عبارة: مُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ" فتشير الى تحقق التلاميذ من مشاهدتهم الجروحات انه هو يسوع عينه، وهذه المشاهدة هي مصدر فرح للتلاميذ، إذ تحققوا من وعد الرب لهم: "لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامّاً" (يوحنا 15: 11). فاذا كانت مشاهدة المسيح على الارض عِلة فرحهم فكم يكون فرح المؤمنين بمشاهدتهم إياه في السماء؟

 

21 فقالَ لَهم ثانِيَةً: السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً

 

تشير عبارة "ثانِيَةً " الى تأكيد عطية السلام لتلاميذه لكي يشهدوا للعالم بالحياة المُقامة التي يمارسونها في الروح القدس.  إن تكرار الامر مرتين دلالة على ان " الأَمرَ مُقَرَّرٌ من لَدُنِ الله " (التكوين 41: 32). أمَّا عبارة "السَّلامُ علَيكم!" فتشير إلى سلام ثمرة القيامة. والسلام هنا ليس لتبديد خوف التلاميذ، بل لإعدادهم في مهام المستقبل فيرسلهم للكرازة ولحمل انجيل الخلاص للعالم؛ إنه سلام ابن الله المنتصر على العالم والموت. انه السلام الذي لا يستطيع العالم ان يمنحه " السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم" (يوحنا 14: 27). أمَّا عبارة " كما " في الأصل اليوناني καθὼς (معناها مثل) فتشير الى العلاقة الخاصة بالآب والابن وعلاقة الآب بنا من ناحية، وتبيّن طريقة اشراك الابن لتلاميذه في تلك الأُلفة الحميمة القائمة في حياة الله من ناحية أخرى. أمَّا عبارة "كما أَرسَلَني الآب" فتشير الى يسوع هو رسول الله الوحيد لعمل الفداء كما يؤكده صاحب الرسلة الى العبرانيين "تَأَمَّلوا رَسولَ شَهادَتِنا وعَظيمَ كَهَنَتِها يَسوع"(العبرانيين 3: 1). ولا يذكر يوحنا الإنجيلي شروط الارسال كما ذكرها في الارسال الأول حيث قال "اِذهَبوا! فهاءنَذا أُرسِلُكم كَالحُملانِ بَينَ الذِّئاب. لا تَحمِلوا كِيسَ دَراهِم ولا مِزوَداً ولا حِذاءً ولا تُسَلِّموا في الطَّريقِ على أَحد." (لوقا 10: 3-4).  إنما يكتفي هنا ان يقول ان رسالة التلاميذ يجب ان تكون مثل رسالة يسوع على صعيد المواقف، والمشاعر، والنوايا، والتفكير وباختصار نفس الخدمة المتواضعة. أمَّا عبارة " أُرسِلُكم أَنا أَيضاً" فتشير الى الرسالة التي اوكلها يسوع الى تلاميذه التي هي رسالة الابن الذي ارسله الآب الى العالم ليُخلص به العالم.  جعل يسوع تلاميذه سفراء كما صرّح بولس الرسول "نَحنُ سُفَراءُ في سَبيلِ المسيح" (2 قورنتس 5: 20) وشركاء في المناداة ببشرى الخلاص (اعمال الرسل 16: 17)، ويُعلق أحد مفسّري الكتاب المقدس " لا يوجد إلاّ رسالة واحدة من السماء الى الارض، وهي رسالة يسوع. ورسالة التلاميذ هي متضمنة في رسالة يسوع، ومكمّلة لها". ان رسالة التلاميذ قد نشأت عن حدث الفصح، وهي رسالة متأصلة في رسالة يسوع كما يظهر في صلاته الكهنوتية: "كَمَا أَرسَلَتني إِلى العالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إِلى العالَم" (يوحنا 17: 18). فيسوع يُخبر تلاميذه باي سلطان قد أتمَّ عمله، ويُوكل إليهم نشر خبر الخلاص في كل العالم، ويُحدَّد مهمة الرسل لنشر أخبار الخلاص السارة في كل العالم وليكونوا شهودا لقيامته.

 

22 قالَ هذا ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: خُذوا الرُّوحَ القُدُس

 

تشير عبارة "قالَ هذا" الى عمل هام هُيِّأ له فيما سبق مباشرة؛ أمَّا عبارة "نَفَخَ فيهم" في الأصل باليوناني ἐμφυσάω فتشير الى خلق الانسان في البدء (تكوين 2: 7)، ويُوحي بخلق جديد أمام قيامة حقيقية " اللهِ الَّذي يُحيِي الأَموات ويَدعو إِلى الوُجودِ غَيرَ المَوجود" (رومة 4: 17). وكما نفخ الرب الحياة في الخلق الاول، هكذا ينفخ في الخلق الثاني أي القيامة. وكما في الخلق الاول نفخ الله في الانسان نسمة الحياة، هكذا بنفخة نسمة المسيح ينال الانسان من الله الحياة الابدية.  وهنا نفخ يسوع في تلاميذه ليعطيهم سلطان الحل والربط (متى 16: 19). انها حركة خلق جديدة لتدشين الخلق الجديد.  وأمَّا عبارة "خُذوا الرُّوحَ القُدُس" فتشير الى الروح القدس الذي هو قوة الخلاص لغفران الخطايا والذي يمكّن التلاميذ من ان يشهدوا للمسيح: "مَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي وأَنتُم أَيضاً تَشهَدون لأَنَّكُم مَعي مُنذُ البَدْء" (يوحنا 15: 26-27). وكان هذا العطاء الخاص للتلاميذ للامتلاء من الروح القدس عربون لِمَا سيختبره المؤمنون في يوم العنصرة (اعمال الرسل 2). وتدل هذه الآية على صدور الروح القدس من الابن كصدوره من الآب (يوحنا 15: 26).  أمَّا عبارة " الرُّوحَ القُدُس" فتشير الى روح الله، الاقنوم الثالث في الثالوث، وسمِّي روحا، لأنّه مبدع الحياة، ودُعي قدوساً، لان من ضمن عمله تقديس المؤمنين، وهو يُحيي المائتين بالخطايا والآثام ويقدسهم ويُطهِّرهم، وهكذا يؤهِّلهم لتمجيد الله والتمتع به الى الابد كما اختبره بولس الرسول " شَريعةَ الرُّوحِ الَّذي يَهَبُ الحَياةَ في يسوعَ المسيح قد حَرَّرَتْني مِن شَريعَةِ الخَطيئَةِ والمَوت" (رومة 8: 2).  المسيح يعطي رسله قوة بهبته الروح القدس لكي ينشروا رسالة الغفران. ونعمة الرّوح القدس لم تصل البشر فقط بل الأرض أيضا، كما قال صاحب المزامير: أرسل روحك فيتجدّد وجه الأرض" تُرسِلُ رُوحَكَ فيُخلَقون وتُجَدِّدُ وَجهَ الأَرض" (المزامير 104: 30).

 

23 مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم

 

تشير عبارة "مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم" الى اخذ المسيح من الله سلطة المصالحة واعطاها لتلاميذه كما جاء في تعليم بولس الرسول " وأَعْطانا خِدمَةَ المُصالَحَة" ( 2 قورنتس 5: 18) ، ويعُلق البابا فرنسيس "ليست مغفرة خطايانا أمرًا يمكننا أن نعطيه لأنفسنا، لأن المغفرة تُطلب من آخر ونحن في الاعتراف نطلب المغفرة من يسوع، ومغفرة خطايانا ليست ثمرة جهودنا، إنما هي عطيّة من الرّوح القدس الذي يملأ من فيض الرّحمة والنّعمة المُتدفّق من قلب المسيح المصلوب والقائم من الموت"، أمَّا عبارة " مَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم" فتشير الى الغفران الذي  ليس لكل واحد، بل للتائب . فالأمر إذن يتوقف على اختبار الشخص هل هو تائب؟ أم غير تائب؟ ينبع سرّ التوبة والمصالحة (سر الاعتراف) مباشرة من السرّ الفصحيّ. ان الاختلاف في تفسير هذه الآية لا يدور حول طبيعة السلطان الذي يمنحه يسوع لتلاميذه (متى 16: 19) بقدر ما يدور حول تحديد الذين يمارسون هذه السلطان. فالسلطة الممنوحة هي بمثابة اعلان المغفرة على اساس موت المسيح الذي حمل الخطايا كما ورد في انجيل متى "ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء"(متى 18: 18)؛ أمَّا فيما يتعلق فيمن يمارسون هذه السلطة فالتقليد الكاثوليكي يعتقد ان المقصود هم الكهنة. وقد مُنحوا السلطة بفضل شركتهم الوثيقة مع المسيح ان يتصرفوا باسمه، كوكلاء في غفران الخطايا او امساكها. وأمَّا التقليد البروتسنتي فيعتقد بان المقصود "الذي هو أداة الروح القدس" وذلك بحسب ما جاء في قول بطرس الرسول "بِأَنَّ كُلَّ مَن آمَنَ به يَنالُ بِاسمِه غُفرانَ الخَطايا" (اعمال الرسل 10: 43). يُعلن الرب يسوع للتلاميذ عن سلطانهم لمغفرة خطايا الناس. ولا يمكن للإنسان ان ينال رسالة الغفران الى ان يقبل مُعطي الغفران، أي يسوع المسيح. فالكاهن في سر الاعتراف او المصالحة لا يمثّل المسيح فقط وإنما يمثّل أيضًا الجماعة بأسرها (الكنيسة) التي تجد نفسها في ضعف كلّ فردٍ من أفرادها، وتصغي إلى توبته وتتصالح معه، وتشجّعه وترافقه في مسيرة التوبة والنضوج الإنساني والمسيحي. بالاعتراف ألله يغمرنا ويفرح بعودتنا كما فرح الاب في ابنه الضال (لوقا 15: 11-32).  لِنسِرْ إذًا على هذه الدرب! تشير هذه الآية الى إعطاء الرب موهبة الكهنوت لتلاميذه بسلطان الروح القدس بصورة مميَّزة عن حلول الروح القدس في يوم العنصرة، وهذه الموهبة هي لسلطان مغفرة الخطايا.

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 20: 19-23)، يمكن ان نستنتج انه يتمحور حول الروح القدس في رسالة الرسل وسلطتهم لمغفرة الخطايا

 

1- الروح القدس للرسالة

 

الرسالة التي اوكلها يسوع الى تلاميذه، ليست أقل من رسالة الابن الذي ارسله الآب الى العالم ليُخلص العالم كما يصرّح يسوع " كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً (يوحنا 20: 21)؛ أعطى يسوع تلاميذه مهمة بالذهاب إلى العالم ونقلِ كلمةِ الله وبشرى القيامة، وكلّفهم بداية جديدة لعالم جديد، فهم مُرسَلوه تماما كما انه هو مُرسَل الآب.

 

ومن هذا المنطلق، لا يوجد إلاّ رسالة واحدة من السماء الى الارض، وهي رسالة يسوع. وما رسالة التلاميذ الا هي رسالة يسوع نفسها وتكملتها؛ وقد نشأت عن حدث الفصح، وهي مُتأصلة في رسالة يسوع كما يظهر في صلاته الكهنوتية: "كَمَا أَرسَلَتني إِلى العالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إِلى العالَم" (يوحنا 17: 18).  ويُعلق أحد الباحثين في الكتاب المقدس "المسيح يطلب من تلاميذه: اخرجوا مني كخروج الشعاع من الشمس، وكخروج النهر من النبع، وكما انني أذيع اسم الاب كذلك أذيعوا أنتم اسمي".

 

وكيف السبيل الى القيام برسالة المسيح التي تفوق القدرة البشرية، بدون قوة الروح القدس؟ للقيام برسالتهم، لم يعتمد الرسل على قواهم البشرية وحدها، وإنما كانوا يعتمدون على قوة الروح القدس ليقوموا بتأديته من مهمات كمرسلين. إنه روح الله، الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس، والذي سيلعب الدور النهائي في تصميم الله لإدارة العالم بعد ما خلّصه يسوع بموته على الصليب؛ إنه المؤيّد والمدافع والمحامي والمعزّي والشفيع، إنه علامة حلول الأزمنة الجديدة ويقود كل شيء نحو كماله.

 

فمنذ ظهور يسوع المسيح الأوّل لتلاميذه يوم قيامته منحهم الروح القدس. وكما عَمِلَ يسوع بقوة الروح، فهو يمنحُ الآن الذين أرسلهم قوة الروح عينه لكي يبشروا به " نَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: خُذوا الرُّوحَ القُدُس" (يوحنا 20: 22). ان عطاء الروح هنا يستبق العنصرة أي في اليوم الخمسين بعد قيامته حيث أعطى يسوع رسله ولكل البشرية الروح القدس شريعة العهد الجديد.

 

أعطى يسوع الروح القدس الى تلاميذه بالنفخ وليس بوضع الايدي (اعمال الرسل 8: 17)؛ وتشير هذه الحركة الى نسمة الحياة التي نفخها الله في انف الانسان الأول في بدء الخليقة (التكوين 2: 7)، كما تلمح هذه الحركة الى نبوءة حزقيال عن عطاء روح الله، من اجل خلق شعبٍ مُطهّرٍ من خطاياه، ومُتجدِّدٍ في القداسة. وقد تحقَّقت هذه النبوءة في يوم الفصح. فقد نفخ يسوع في تلاميذه الروح القدس الذي سيكون مبدا الحياة لخلق جديد. والجدير بالذكر ان يوحنا بدأ إنجيله بالكلام عن الخليقة الأولى (يوحنا 1: 1-17)، وأنهاه بالإشارة إلى الخليقة الجديدة التي صارت بفضل آلام يسوع وموته وقيامته.

 

تحقق وعد يسوع بإرسال الروح القدس يؤمّن حضوره مع التلاميذ ويكون فيهم ويقودهم إلى الحقّ كلّه، فيتمّم كل ما بدأ به يسوع بواسطة الرسل الذين سيؤلفون نواة الكنيسة الأولى التي تتحوّل بفعل حلول هذا الروح إلى كنيسة شاهدة للمسيح ولبشارته حيث يشرك الله القدّوس جميع الشعوب بحياته في الخلاص ويدعوهم إلى فهم لغته الوحيدة، لغة المحبة والغفران والسلام. إنه علامة حلول الأزمنة الجديدة، فالروح بنوره وبحبهِّ يقود كل شيء نحو كماله.

 

ونستنتج ممَّا سبق ان يسوع وهب تلاميذه نفخة الروح القدس ليُقيم فيهم الإنسان الجديد فيتمتعوا بعطية الروح العامل فيهم، وبهذا الروح يستطيعون القيام بالخدمة والعمل الرسولي.  إنها رسالة غايتها أن يعمل التلاميذ بالروح القدس ليتمتع العالم بالخليقة الجديدة أو الحياة الجديدة التي نالها لنا يسوع بقيامته، لان الروح القدس يعضد ضعفنا ويحضّنا على عيش أسرار المصالحة والغفران. وهذا الروح لا يمكن للعالم أن يتلقاه. فالعالم منغلق على ما يُلمس وما يُرى. لذلك لا يعرف هذا العالم شيئاً عن هذا الحب. أن الحب هو خروج من الذات بينما العالم هو انغلاق على الذات. لذلك هذا العالم بحسب الإنجيلي يوحنا يُقسم إلى قسمين: أبناء النور الذي قبلوا كلمة الله وآمنوا به وأبناء الظلام الذين رفضوا هذا النور. اما نحن فبحاجة دائمة إلى قوة الروح القدس لكي يتجدّد كياننا الداخلي تجدّداً جذرياً وتتحوّل شخصيتنا كما تحوّلت حياة الرسل في العنصرة

 

2- الرسالة لمغفرة الخطايا

 

المحتوى الوحيد للرسالة التي يهتم يوحنا الإنجيلي بتدوينها في انجيله هي المغفرة بدون حدود. هذه المغفرة كشفها يسوع على الصليب، وهي الطريق الوحيد للتغلب على الشر. فلا يقف الله أمام شرنا للحكم علينا، ومعاقبتنا بل لمغفرة خطايانا كما جاء في تعليم يوحنا الرسول: "فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم" (يوحنا 3: 17). ومن هذا المنطلق، فان المغفرة هي الاعلان الاكبر للملكوت: فرسالة التلاميذ الذين يشاركون في رسالة المسيح هي رسالة المغفرة وبالتالي رسالة الامل والرجاء. وهذه السلطة للمغفرة اعطاها يسوع لتلاميذه.

 

وكما أرسل الآب ابنه يسوع وملأه من روحه، كذلك أرسل يسوع بدوره تلاميذه ومنحهم الروح القدس، قدرة الآب وسلطانه الإلهي على منح الحياة الإلهية للناس بمغفرة خطاياهم ومصالحتهم مع الله. أرسل يسوع تلاميذه " ليعلنوا بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم " (لوقا 47:24) والمفعول الأول لعطية الروح هو غفران الخطايا كما صرّح يسوع "خُذوا الرُّوحَ القُدُس مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم" (يوحنا 20: 21-22). ويُعلق القدّيس الراهب ألريد دو ريلفو (1110 -1167)"مما لا شكّ فيه أنّ روح الرّبّ قد أعطي للتلاميذ قبل صعود الرّب إلى السّماء (يوحنا 20: 23-24). ولكن قبل العنصرة لم نسمع صوت الرُّوح القدس ولم نَرَ إشراقة قوّته. ولم تصل معرفته إلى التّلاميذ الذين لم يكونوا قد تحلّوا بالشجاعة بعد، إذ كان الخوف مسيطرًا عليهم مجبرًا إيّاهم على البقاء مختبئين في العلية. ولكن ومنذ يوم العنصرة صار " صَوتُ الرَّبِّ على المِياه ... صَوتُ الرَّبِّ يَقُدُّ شُهُبَ نار... وكلٌّ يقولُ في هَيكَلِه: لَه المَجْد" (عظة حول العنصرة).

 

واعطى يسوع رسله سلطة مغفرة الخطايا، لأنه قدّم ذاته لأبيه من اجل خطايانا (عبرانيين 10: 5-10)، وخطايا العالم كما في تعليم يوحنا الرسول “إِنَّه كَفَّارةٌ لِخَطايانا لا لِخَطايانا وحْدَها بل لِخَطايا العالَمِ أَجمعَ" (1 يوحنا 2: 2)، ورأى فيه يوحنا المعمدان وكشف انه " حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم." (يوحنا 1: 29)؛ فبدمه نتطّهر ونغتسل من خطايانا (1 يوجنا 1: 7) ويؤكد ذلك بولس الرسول بقوله " لنا فيه الفِداءُ وغُفْرانُ الخَطايا " (1 قورنتس 1: 14). وبقوة هذا الروح، اعطى يسوع الى تلاميذه سلطانا يفوق السلطان البشري، انه سلطان غفران الخطايا، ويظهر ذلك من قوله لتلاميذه بعد القيامة: "خُذوا الرُّوحَ القُدُس" مكملًا قوله: ""مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم"(يوحنا 20: 22-23). 

 

إنّ سلطان مغفرة الخطايا هو سلطان إلهي. وهذا السلطان قد مارسه يسوع في حياته (متى 9: 1-8)، لأنّ روح الربّ كان عليه. فالآن، كما أرسله الآب وملأه من روحه، يرسل بدوره تلاميذه ويمنحهم الروح القدس، قدرة الآب وسلطانه الإلهي على منح الحياة الإلهية للناس بمغفرة خطاياهم ومصالحتهم مع الله. فالروح يمنح نعمة التبرير في سر التوبة.  ولكن هنا، الحياة التي يتلقاها الإنسان هي حياة الله ذاتها القادرة على قهر الموت والخطيئة. إنها حياة جديدة، متصالحة مع الله في موت المسيح، حياة مسامحة، وبالتالي، قادرة على الغفران.

 

ويحوّل الرُّوحُ القدس التلاميذ إلى مبشّرين بعظائم الله خاصة غفران الخطايا؛ وخير مثال على ذلك هو بطرس الرسول الذي طلب من مستمعيه التوبة لمغفرة الخطايا "توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس" (اعمال الرسل 2: 38).  وقد باشر القديس بولس الرسول في زمانه هذه السلطة التي قلده إيّاها المسيح في حضن كنيسة قورنتس ذلك الخاطئ الزاني بامرأة أخيه نفسه (2 قورنتس 2: 10).  ويقول القديس أمبروسيوس " ليس عند الله محاباة، فلقد وعد برحمته جميع البشر، وقلَّد رسله سلطان المغفرة، دون أي استثناء" (في التوبة 1/3:10). ومن هنا جاءت مناشدة القديس قبريانوس "أطلب إليكم أيها الأحباء أن تعترفوا بخطاياكم ما دمتم في الحياة الحاضرة حيث صفح الخطايا الممنوح من الكهنة مقبول ومرضي عند الله أيضا" (في الساقطين 29).

 

خدمة الكاهن في الكنيسة لمغفرة الخطايا هي عطية الروح القدس، فله السلطة أن يغفر الخطيئة بالروح القدس وأن يمسكها؛ لان لسلطان مغفرة الخطايا مفعول مزدوج وهو الحل والربط. " خُذوا الرُّوحَ القُدُس مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم " (يوحنا 20: 22-23). ويُعلق القديس أمبروسيوس "انظروا كيف أن الخطايا تغفر بالروح القدس، أمَّا البشر فيستخدمون سلطانهم لغفران الخطايا، إنهم لا يمارسون حقًا خاصًا بسلطانٍ من ذواتهم. إذ هم لا يغفرون الخطايا باسمهم بل باسم الآب والابن والروح القدس. يسألون اللاهوت أن يهب؛ فالخدمة من جانب الإنسان والعطية من سلطان العليّ".

لا يعترف طالب الاعتراف لشخص الكاهن بل يعترف لله أمام الكاهن الذي يمثّل الكنيسة وينوب عنها كشاهد على عودة الخاطئ إلى الله والناس، ويتضرّع باسم الكنيسة من أجل التائب العائد ليقبل الله عودته إلى شركته، عبر قبول الكنيسة له مجددًا في شركتها. والكاهن يمنح الشخص المعترف الحلّ من الخطايا التي اعترف بها باسم الثالوث الأقدس، وبقوّة السلطان المُعطى للكنيسة من يسوع المسيح بالروح القدس. والحل لا يقوم بمجرد الإعلان انَّ الخطايا قد غُفرت كما يقول البروتستانت، انما للكاهن السلطان في مغفرة الخطايا. والقديس يوحنا الذهبي الفم يوضِّح ذلك في مقارنته بين كهنوت العهد القديم وكهنوت العهد الجديد "كان لكهنة اليهود السلطان لا بتطهير المبتلين بالبرص الجسمي، بل إعلان عن تطهيرهم. أمَّا كهنتنا فقد نالوا السلطان لا بإعلان حالة الطهارة بل بالتطهير كاملا" (في الكهنوت 3: 6). 

 

وقد اخذ الرسل يُكرزون بمغفرة الخطايا  كما جاء في كلام بطرس والرسل " وهو الَّذي رَفعَه اللهُ بِيَمينِه وجَعَلَه سَيِّدًا ومُخَلِّصًا لِيَهَبَ لإِسْرائيلَ التَّوبَةَ وغُفرانَ الخَطايا " (اعمال الرسل  5: 31) ، كذلك بولس الرسول وعظ الناس بمغفرة الخطايا بقوله "اعلَموا، أَيُّها الإِخوَة، أَنَّكم عن يَدِه تُبَشَّرونَ بِغُفرانِ الخَطايا(اعمال الرسل  13: 38)، لكنهم لا ينظرون الى الناحية الشرعية في الغفران بقدر ما يركّزون على المحبة الإلهية التي بواسطتها  يسوع يُخلصنا ويُقدّسنا كما جاء في تعليم بولس الرسول  " إِنَّنا نَفتَخِرُ بِالله، بِرَبِّنا يسوعَ المسيحِ الَّذي بِه نِلْنا الآنَ المُصالَحة. " (رومة 5: 11).

 

ونستنتج مما سبق أن الرّوح القدس يُحقِّق وحدة الإنسان الداخليّة، فلا يعود الإنسان منقسماً بين ما يريد وما يفعل، بين قناعاته وتصرّفاته، بين أقواله وأعماله، بل يُصبح كائناً موحدّاً داخلياً، غير مُنقسم، إنسان يسعى بكلّ مكوّناته الى أن يكون وفيّاً للدعوة التي دعي إليها.  لان الانسان يحصل على مغفرة خطاياه بقوة الروح القدس فيحرّره الرّوح من سلاسل الحقد والانغلاق على الذّات، وعبوديّة الخطيئة في داخله فيتصالح مع ذاته، ومع الآخر، ومع الله، وتصبح حياته نشيد شكرٍ لله بواسطة الرّوح الساكن فيه. هل ندرك أن الروح القدس يعمل فينا ويبكّتنا على كلّ خطيئة لكي يغفرها؟

 

الخلاصة

 

يعيدنا إنجيل يوحنا الإنجيلي إلى أمسية عيد الفصح، (يوحنا 20: 19-23) حيث يزور يسوع القائم تلاميذه المجتمعين في العلية، ويعطيهم روحه، الحياة الجديدة التي تلقاها من الآب. كي يرسلهم الى التبشير بالإنجيل الطاهر ويُمكِّنهم ان يكونوا شهوده. فالروح القدس هو قلب الحياة الجديدة، حياة الرسل والمُبشرين والشهود.

 

رسالة الكنيسة هي تحقيق رسالة المسيح نفسها الموكلة اليه من قبل الآب، كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً (يوحنا 20: 21)، لذلك اعطى يسوع المسيح الروح القدس للرسل من أجل خلق جديد يتحقق فيه غفران الخطايا والسلام. ومن هذا المنطلق، زمن العنصرة هو زمن الكنيسة المُبشّرة التي تكمِّل في التاريخ عمل مؤسسها وسيّدها الخلاصيّ، هو زمن الرُسل المرسلين ليُعلنوا إنجيل الرّب القائم، ويدعوا البشرية للتوبة والعودة الى الرّب، لأنّ الساعة قد اقتربت.  

 

يقول القديس ايريناوس: "كما أنّ الله قد نفخ روحه في الجسد الذي كوّنه، منح الحياة لكل أعضاء الجسد، هكذا أعطى الروح للكنيسة. وهذا الروح الذي تسلّمته الكنيسة وأعطي لها ونُفخ فيها، هو المبدأ الحي للاتحاد الصميم بالمسيح: هو ثبات إيماننا، والسلّم الذي به نرتقي إلى الآب. وهو أخيرًا، وعلى الأخصّ، عربون وبذار لعدم الفساد حتى اللانهاية، حيث نُعتَق إلى الأبد من الموت. فحيث الكنيسة هناك أيضاً روح الله، وحيث الله هناك الكنيسة وكلّ نعمة والروح هو حق " (ضد الهراطقة 3: 24، 1).

 

وفي عام 1964 فتح البابا القديس يوحنا الثالث والعشرون شباك مكتبه وقال للمنتظرين في ساحة الفاتيكان: كما فتحت الشبّاك الآن فدخل إلى غرفتي هواء نقي جديد، وكذلك أريد أن أفتح شباك الكنيسة وأعلن لكم عن نيتي افتتاح مجمع مسكونيٍّ جديد، حتى يدخل فيها هواء عنصرة جديد، ليُنعشها، ويملأُ الكثيرين من روحه المُحيي. فلنفتح قلوبنا وعقولنا لروح القدس الذي يُجدّدنا ويُحينا لنحيا لله ومن اجله ومنه كما هتف القديس لويس غونزاغا "خُلقتُ لله ولا أريد غير اللـه بديلاً ".

 

دعاء

 

أيها الروح القدّس، يا من اضرمت قلوب الرسل من نار حبّك. جدّد وجه الكنيسة التي اعطيتها سلطان المغفرة لكي تعضد ضعفنا وتحرِّرنا من عبودية الخطيئة وروح البلبلة والتشتّت، أخلق فينا قلبا جديدا وروحا مستقيما وقدّسنا لكيلا نعود نتكلّم سوى لغة حبّك وغفرانك ونكون وجه الرب الرحيم. لك المجد إلى الأبد أمين.

 

قصة واقعية : مغفرة الخطايا

 

 بلغت الساعة الحادية عشرة ليلاً وما زال الأب أومالي ينظر من النافذة: يا للعاصفة الهوجاء! كم يحلو له أن يُنزل عن كاهله هموم النهار ويستعد للنوم في هدأة بيت الرعية. غير أنه كان يجهل أن الله يهيئ لخادمه، ذلك المساء، مشروعاً آخر.

 

 رن جرس الهاتف. انه مستشفى أوابون، وصوت الممرضة يقول: " أنا الممرضة بتي. تعال بسرعة يا أبتِ.  هناك رجل يحتاج الى كاهن، حالته تسوء وقد لا يعيش لطلوع الفجر، الأمر طارئ!" يعرف الأب أومالي أن العواصف الشديدة على الشاطئ الغربي للولايات المتحدة لا ترحم. وتنبّه الإذاعة عن خطر فيضان.  في الواقع أنه ينبغي اجتياز نحو 30 ميلا ليلاً!! انها مجازفة حقيقية.  وفي الغد يبدو برنامج الرعية حافلاً.  فردَّ الاب أومالي على مضض: " سوف اذهب حالما أستطيع ذلك ".

 

 ولكن نداء النفس كان أقوى، وها هو الأب أومالي على الطريق متحدِّيا الأمطار الغزيرة التي لا تنفك تهدِّد الطريق أمامه. بعد 4 ساعات وصل المستشفى، فقادته الممرضة الى غرفة المريض توم: الرجل يحتضر.

جمع الأب أومالي كل الرقة والنعومة اللتين وضعهما المسيح فيه خلال سنوات كهنوته. لقد تعلم احترام قيمة النفس اللامحدودة، لا سيما في ساعتها الأخيرة. فلما التقى بالمريض قال له " قيل لي إنك تودُّ لقاء كاهن.

 

فتح الرجل عينيه: وقال " دعني وشأني! لا أود رؤيتك". بدأ اللقاء بشكل سيء للغاية وبدأ الأب أومالي حزينا ولكن بدون أن تخمد عزيمته، جلس قرب المريض واستغرق بالصلاة. ترك الوقت يمضي. وبعد ساعة قام الاب أومالي بمحاولة جديدة قائلا للمريض:" هل ترغب في الكلام قليلاً؟  كرَّر الرجل ردَّة فعله العنيفة ذاتها وألحقها هذه المرة بإنذار وجوب الانسحاب. أمَّا الكاهن فاحتفظ بطول أناته وواصل بهدوء ادعيته بالرحمة للرجل. وأخذ النهار يطلع هل ستذهب هذه النفس الغالية محرومة من سلام الله؟

 

بدأ الكاهن من جديد مشدود الى السرير وقال للمريض "أنا متأكد أنك ترغب بالكلام. أليس صحيحا؟! فأجاب المريض: آه! في جميع الأحوال لا أملك الوقت الكافي لأقول الكثير. إني مُدمن على الكحول وأعيش وحدي منذ مدة طويلة. عندما كنت شابا كانت لي مكانتي بين عمَّال سكة الحديد. كنت ميكانيكياً. ومنذ أكثر من 30 سنة هبَّت عاصفة هوجاء ولجأت مع جميع رفاقي في الخدمة الى كوخ صغير وشربنا حتى الثمالة. وما كاد القطار يصل في وقت خدمتي حتى أسرعت لأحوّله على الخطوط الصحيحة.  غير أنى كنت تحت تأثير الكحول المفرطة فبدَّلت الرافعة في الاتجاه الخطأ. ووقعت المصيبة: اصطدم القطار بسيارة كانت تجتاز الممر المفتوح. قتلت عائلة بأسرها: الأب، الأم وابنتاهما. حدث ذلك بُعيد عيد الميلاد ولم أستطع أن أغفر لنفسي هذا الأمر على الإطلاق ولن أغفر لها أبداً! ولن يستطيع الله أن يغفر لي ذلك. عندئذ غادرت وهجرت الى الجبال أعيش متوحِّداً. وأخذ توم ينتحب. ألقى مأساته في قلب هذا الكاهن الغريب المجهول.

 

كان التأثُّر يبدو جليا على الكاهن ولكنه تماسك، فالوقت غير مناسب للانجراف وراء العاطفة، فالمريض قد يموت في أية لحظة. وبصوت مُرتجف طلب الكاهن من المريض أن يودِّع بجميع خطاياه الى الله، وأن يقبل الحل والمغفرة. وها هي الدموع تسقط من عينيّ الكاهن كونه هو أيضاً استعاد في ذاكرته المأساة الرهيبة: فقال للمريض: "تعلم يا توم، في تلك السيارة في ذاك المساء من عيد الميلاد، كان الأب والأم قد أخذا معهما ابنتيهما. إنما كان لهما أيضا صبي صغير بقي في المنزل. وهذا الصبي الصغير. هو انا! حاول المريض أن ينهض مذهولا ولكن لم يستطع أن يتلفظ بحرفٍ واحد. فهمس الكاهن كما يُهمس سر حميم للمريض:" اغْفرْ لك يا توم، إني أغفرْ لك! عندها رقد الرجل ميتا، عند طلوع شمس ذاك النهار، لم يكن يشعر بالخوف من الله.  فلقد أفهمه الرب مدى سعة رحمته في مغفرة ما لا يُغتفر!