موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١١ ابريل / نيسان ٢٠٢٠

أحد الشعانين كما رواه متى الإنجيلي

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
يُسلط انجيل أحد الشعانين الاضواء على دخول يسوع الى اورشليم في الأسبوع الأخير من حياته على الأرض

يُسلط انجيل أحد الشعانين الاضواء على دخول يسوع الى اورشليم في الأسبوع الأخير من حياته على الأرض

 

يُسلط انجيل أحد الشعانين الاضواء على دخول يسوع الى اورشليم في الأسبوع الأخير من حياته على الأرض (متى 21: 1-11). ويفتتح أحد الشعانين الأسبوع المقدس ويُختتم بقيامة يسوع مرورا بألآمه وموته من اجل خلاص كل انسان وتحريره من عبودية الشر والعنف، والظلم والكراهية ونير عبوديّة المادية والخطيئة كما جاء في تعليم بولس الرسول "إِنَّه يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ (1 طيموتاوس 2: 4). لذلك دخل يسوع الى اورشليم من بيت فاجي معلنًا أنه المسيح الملك المنتظر الذي جاء يحمل الخلاص المسيحاني والسلام لأورشليم، وللعالم، وذلك بتقدمة نفسه فِصحًا عن البشريّة على مذبح صليب الجلجلة فداءً عن العالم كله. وصف أحمد شوقي امير الشعراء دخول المسيح الى القدس بقوله "يا فاتِحَ القُدسِ خَلِّ السَيفَ ناحِيَةً، لَيسَ الصَليبُ حَديداً كانَ بَل خَشَبا. إِذا نَظَرتَ إِلى أَينَ اِنتَهَت يَدُهُ، وَكَيفَ جاوَزَ في سُلطانِهِ القُطُبا عَلِمتَ أَنَّ وَراءَ الضَعفِ مَقدِرَةً وَأَنَّ لِلحَقِّ لا لِلقُوَّةِ الغَلَبا". ومع الآسف هذ العام، لم نتمكن من مشاركة مسيرة أحد الشعانين في القدس الاَّ بقلوبنا وبأرواحنا وذلك بسبب انتشار جائحة كوفيد 19 ووباء الكورونا طالبين من المولى تعالى خلاصنا وخلاص بلادنا والعالم باسره.  ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

أولاً: وقائع النص الانجيلي (متى 21: 1-11)

 

1 ولمَّا قَرُبوا مِن أُورشَليم، ووصَلوا إِلى بَيتَ فاجي عندَ جَبَلِ الزَّيتون، حِينَئذٍ أَرسلَ يسوعُ تِلميذَينِ

 

تشير عبارة "ولمَّا قَرُبوا مِن أُورشَليم" الى صعود المسيح الى اورشليم يوم الاحد العاشر من نيسان وهو بدء الأسبوع الأخير من حياة يسوع على الأرض. ذكر متى الإنجيلي أولا موقع اورشليم، هدف صعوده (متى 20: 17، 18)، ثم قرية بيت فاجي وأخيرا جبل الزيتون حيث يُحدد موقع الخبر. وامَّا عبارة "بَيتَ فاجي" فتشير الى الاسم الآرامي בֵית־פַּגֵי ومعناه "بيت التين" ربما لكثرة أشجار التين فيها. وبيت فاجي هي قرية صغيرة تقع على المنحدر الجنوبي الشرقي من جبل الزيتون والتي تبعد نحو كيلو متر واحد من القدس، وتتواصل مع بيت عنيا من الجهة الغربية (لوقا 19: 29). والظاهر ان السيد المسيح دخلها قبل ان يدخل بيت عنيا إذ كان آتيا من أريحا الى اورشليم. ولم يرد اسم بيت فاجي في اسفار العهد القديم. أمَّا عبارة "جَبَلِ الزَّيتون" فتشير الى الجبل الذي يُشرف على اورشليم من الجهة الشرقية ويفصل بينهما وادي قدرون (يوحنا 18: 1). ويبلغ علو الجبل فوق سطح البحر نحو 780م ولا يزيد على علو الهيكل سوى 91م، وهو على بعد ثُلت ساعة من المدينة، التي تُعد مسافة سبت أي ألف خطوة (أعمال الرسل 1: 12). كما قال يوسيفوس فلافيوس خمس غلوات أي نحو كيلو متر واحد. وهناك طريق تصل الى بيت عنيا واريحا القديمة بناها الخليفة عبد الملك بن مروان في القرن السابع الميلادي وأغلقتها السلطات الإسرائيلية عن طريق جدار الفصل العنصري عام 2006. ولا شك ان اسمه مأخوذ من شجر الزيتون الذي كان موجودًا فيه بكثرة. ولا تزال فيه بعض جذور اشجاره كبيرة الحجم، وقديمة العهد في سفحه الغربي عند بستان الجسمانية (لوقا 22: 39). وذكر العهد القديم هذا الجبل بأسماء مختلفة: "جبل الزيتون (2 صموئيل 5: 30) و"الجبل" (نحميا 8: 15) و"الجبل الذي تجاه اورشليم" (1ملوك 11: 7) "والجبل الذي على شرقي المدينة" (حزقيال 11: 23) "وجبل الهلاك" (2 ملوك 23: 13). ويُسميه العرب جبل الطور. ومن سفح هذا الجبل بكى يسوع على اورشليم وعلى مصيرها القريب (لوقا 19: 37-44)، وتحدث عن خراب الهيكل وتدمير المدينة (متى 24: 3). وقبل الفصح الأخير التجأ السيد المسيح الى بستان الجسمانية أسفل الجبل للنزاع. ويُعلق القديس أمبروسيوس على جبل الزيتون بقوله "لعلّ المسيح نفسه هو الجبل، إنه ذاك الذي من خلاله نصعد وإليه نبلغ. إنه الباب وهو الطريق؛ هو الذي ينفتح لنا، وهو الذي يفتح"؛ أمَّا عبارة "أَرسلَ يسوعُ تِلميذَينِ" فتشير الى ما سيفعل يسوع بإرسال تلميذين يسبقانه الى العشاء الأخير (متى 26: 17). ويُعلق القديس ايرونيموس عن التلميذين اللذين أرسلهما السيِّد، قائلًا "أرسل تلميذيه، أحدهما لأهل الختان والآخر للأمم".

 

2 وقالَ لهما: اِذهَبا إِلى القَريةِ الَّتي تُجاهَكُما، تَجِدا أَتاناً مَرْبوطةً وجَحْشاً مَعها، فحُلاَّ رِباطَها وأتِياني بِهما.

 

تشير عبارة "أَتان" الى أنثى الحمار، وأمَّا عبارة "الجحش" فتشير الى ابن الحمار من الأتان، حيث ان الحمار الصغير في سنواته الأولى يُسمَّى جحشًا. وكان الأتان والجحش هما شاهدان تجاه شعب لا يفهم، كما كان أتان بلعام التي رأت ملاك الرب (عدد 22: 31-34). ويُعلق العلاَّمة أوريجانوس "هذا الأتان كانت حامل أولًا بلعام، والآن يحمل المسيح، هذا الذي حلّه التلاميذ، فتحرّر من الرباط الذي كان يُقيّده، ذلك لأن ابن الله صعد عليه ودخل به الى المدينة المقدّسة أورشليم السماويّة؛ أمَّا عبارة "أَتاناً مَرْبوطةً وجَحْشاً مَعها" فتشير الى نبوءة زكريا (9: 9) حيث يذكر حمارا وجحشاً لأنَّ متى الإنجيلي كتب لليهود، في حين باقي الإنجيليين (مرقس ولوقا ويوحنا) قد ذكروا الجحش فقط لأنهم كتبوا للأمم؛ ويُعلق القديس كيرلس الكبير "الأتان والجحش يُمثّلان رمزيًا العالم في ذلك الحين، إذ انقسم العالم إلى اليهود والأمم. "من المحتمل أن الأتان الأكبر سنًا يرمز للشعب اليهودي، أمَّا الجحش الذي لم يكن بعد قد اُستخدم للركوب فيُمثِّل الشعب الجديد الذي دُعيَ من بين الوثنيّين". واراد متى الإنجيلي ان يُبيّن كيف ان أفعال يسوع قد تمَّمت اقوال الأنبياء مُبيِّنا ان يسوع هو المسيح حقا. أمَّا عبارة "فحُلاَّ رِباطَها" فتشير الى الكرازة التي قام بها التلاميذ في العالم كي يؤمن العالم فَيُحَّلُ من رباط خطيئته"، كما جاء في تعليم السيد المسيح "مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم" (يوحنا 20: 23).

 

3 فإِن قالَ لَكما قائلٌ شَيئاً، فأَجيبا: الرَّبُّ مُحتاجٌ إِليهِما، فيُرسِلُهما لِوَقتِه.

 

تشير عبارة "فإِن قالَ لَكما قائلٌ شَيئاً" الى حالة اعتراض احد عليكما؛ أمَّا عبارة "الرب" في الأصل اليوناني κύριος (معناها السيد)، وفي اللغة العبرية הָאָדוֹן (السيد) فتشير الى الاعتبار والاكرام، وامَّا في الجماعة المسيحيّة الاولى فتدل عل الرب، وهي المرة الوحيدة التي يُسمّي فيها يسوع نفسه "الرب". ويقصد بالرب أيضا اسم الجلالة، وفي هذه الحالة تطلق على الآب والابن بدون تمييز بينهما (اعمال الرسل 10: 36) خاصة في رسائل بولس الرسول. وبما ان يسوع هو الرب، فله السلطان، وقد أعدّ لنفسه السلطان على ممتلكات أتباعه. لذلك لا يعارضه صاحب الأتان والجحش. أمَّا عبارة " الرَّبُّ مُحتاجٌ إِليهِما" فتشير الى رجال ونساء في اورشليم وضواحيها الذين اعترفوا بيسوع ربا. وربما أصبحوا تلاميذاً له أثناء الخدمة المُبكرة في اورشليم ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "ان يسوع هو رب البشريّة كلها، وحتى الخطأة منتمون إليه، وإن كانوا بكامل حرّيتهم قد اِنتموا إلى الشيطان". كان يسوع فقيرا لدرجة انه في هذه المناسبة كان محتاجا ليستعير اتان يركب عليه. ويعلق القديس انطونيوس البادواني "يسوع فقيرٌ الى حدٍ لَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه" (متى 8: 20) إلى حين أن "حَنى رأسَهُ على الصليب وأَسلَمَ الرُّوح "(يوحنا 19: 30)". ونستنتج من الآيتين السابقتين (متى 11: 2-3) أنّ الربّ يسوع لم يخضع للظروف أو يبني قراراته بمحض الصدفة، انما هو رجل يُفكّر ويُدبّر كلّ أموره. واختار ان يذهب الى القدس للآلام والموت بجريته. يسوع عرف الحوادث وأنبا بها قبل ان تحدث. امَّا عبارة "فيُرسِلُهما لِوَقتِه" فتشير الى أصحاب الاتان والجحش الذين كانوا من معارف يسوع وعارفي معجزاته.

 

4 وإِنَّما حدَثَ هذا لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ النَّبِيّ

 

تشير الآية الى يسوع الذي كان يعرف الحوادث وأنبا بها قبل ان تحدث وذلك لتحقيق النبوءة التي نطق بها النبي زكريا عام 550 ق.م. "ابتَهِجي جِدًا يا بِنتَ صِهْيون وآهتِفي يا بنتَ أُورَشَليم هُوَذا مَلِكُكَ آتِيًا إِلَيكِ بارًا مُخَلِّصًا وَضيعًا راكبًا على حمارٍ وعلى جَحشٍ آبنِ أتان" (زكريا 9: 9).

 

5 قولوا لِبنتِ صِهيُون: هُوَذا مَلِكُكِ آتياً إِلَيكِ وَديعاً راكِباً على أَتان وجَحْشٍ ابنِ دابَّة.

 

تشير عبارة "بنتِ صِهيُون" الى اسم من أسماء اورشليم كما ورد في سفر أشعيا "هذا ما أَسمَعَه الرَّبُّ إِلى أَقاصي الأَرض: قولوا لِآبنَةِ صِهْيون: هُوَذا خَلاصُكِ آتٍ هُوَذا جَزاؤُه معَه وأُجرَتُه أَمامَه" (أشعيا 62: 11)؛ لان جبل صهيون هو أحد الجبال التي بُنيت عليها اورشليم، وهو جنوبي تلك الجبال وأعلاها. أمَّا عبارة " هُوَذا مَلِكُكِ آتياً إِلَيكِ وَديعاً راكِباً على أَتان وجَحْشٍ ابنِ دابَّة" فتشير الى مجيء المسيح حاملاً معه سلام الأزمنة المشيحيّة إتماما لنبوءة زكريا (زكريا 9: 9). وتدلُّ هذه الآية على دخول الملك المسيحاني الى اورشليم، علما ان المرحلة الاولى يمكن ان تكون على جبل الزيتون كما تنبأ النبي زكريا “تَقِفُ قَدَماه في ذلك اليَومِ على جَبَلِ الزَّيتونِ الَّذي قُبالَةَ أُورَشَليمَ"(زكريا 14: 4)، حيث كلَّمَنا إرميا عن هذا الملك بهذه العبارات: "لا نظيرَ لكَ يا ربّ، عظيمٌ أنتَ وعظيمٌ اسمك في الجبَروت، مَن لا يخشاكَ يا ملك الأمم؟" (إرميا 10: 6-7). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "جاء وديعًا حتى لا تهابوا عظمته، بل تُحبُّون رقَّتِه. لا يأتي جالسًا على مركبة ذهبيَّة، ولا ملتحفًا بالأرجوان، ولا راكبًا على فرس ناري، كمن يشتاق إلى الخصام والصراع، وإنما يأتي على أتان صديقًا للهدوء والسلام"؛ اما عبارة "هُوَذا مَلِكُكِ" فتشير الى إطلاق الجموع على يسوع لقب: "ملك إسرائيل" الذي جاء بشخصه يتمّم الوعود الإلهية لشعبه. لم يأتِ يسوع لكي يُحقّق هذا الانتصار بسلطة السلاح أو القوى البشرية كما ظنّ بيلاطس وأعيان اليهود إنما جاء يسوع ليتمّ انتصاره على مملكة إبليس واعوانه. وقد اوضحت طريقة دخوله انه ليس بالفاتح العسكري الذي يمتطي جواد حربي ولا ثائر سياسي غرضه اسقاط روما بل مسيحا يكسر قوة الخطيئة، حيث ان استخدام الحمار يتوافق تماما مع مجيء المسيح المسالم وصاحب الشخصية الملوكية. فمملكته ليست من هذا العالم حيث يرفض يسوع مظاهر العظمة العالمية والتفاخر العالمي، انما يطلب فقط مكانًا في القلوب. وأما عبارة "أَتان وجَحْشٍ ابنِ دابَّة" في الأصل اليوناني ἐπὶ ὄνονκαὶ ἐπὶ πῶλον υἱὸν ὑποζυγίου (معناها أتان وجحش ابن حمار) فتشير الى يسوع الذي ركب احدهما . وقد ورد ذكر الجحش في بركة يعقوب لابنه يهوذا (التكوين 49: 11) وكان يركبه الشرفاء (قضاة 10: 4). وقد اظهر المسيح تواضعه كما اظهر مسلكه بحسب الملوك الاوَّلين عندما رفض ان يركب فرسا وركب جحشا ابن اتان في دخوله المنتصر الى اورشليم (زكريا 9: 9 ومتى 21: 5).

 

6 فذَهبَ التِّلميذانِ وفعلا كَما أَمرَهما يسوع

 

ذكر إنجيل مرقس ولوقا ان اصحاب الآتان والجحش اعترضوا الرسولين في اول الامر فأجابوهم الجواب الذي امر به المسيح.

 

7 وأَتيا بِالأَتانِ والجَحْش. ثُمَّ وضَعا عَليهِما ردائَيهِما، فركِبَ يسوع.

 

تشير عبارة "وضَعا عَليهِما ردائَيهِما" الى العادة  المُتبعة في الشرق لدى دخول الملوك للمدن تعبيرا عن احترامهم وعلامة الخضوع وتسليم القلب للراكب كما صنع أصحاب ياهو لما نادوا به ملكًا "أسرَعوا وأخَذ َكُلُّ رَجُلٍ رداءَه وجَعَلوه تَحتَه عِندَ أَعلى المِنَصَّة، ونفَخوا في البوقِ وقالوا: قد مَلَكَ ياهو" (2 ملوك 9: 13)، وأمَّا تقديم الثوب إلى شخص يدل على ترشيحه للرئاسة (أشعيا 3: 6)، أمَّا عبارة "ركِبَ يسوع" في الأصل اليوناني πεκάθισεν ἐπάνω αὐτῶν (جلس عليهما) فتشير الى ركوب يسوع الى احدهما وهو الجحش وحده كما ذكر مرقس (11: 7) ولوقا (19: 35)؛ وللجحش لم يركبه أحد كما جاء في إنجيل مرقس (11: 1)، فهو أحد الشروط العامة للتكريس لله (العدد 19: 2). أمَّا متى الإنجيلي فذكر الاتان والجحش بناء على ما ورد في النبوءة (زكريا 9: 9)، حيث ان دخول يسوع الى اورشليم راكبا جحشا ابن اتان جاء تأكيدا على انه المسيح الملك، كما أنه أيضا إثبات لتواضعه. وقد قال يوماً: "إِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب" (متى 11،29). وقد خطَّط المسيح لدخوله الى أورشليم في هذا الموكب المهيب ليُعلن أنه ملك. ويُعلق رميجيوس" إنّ السّيّد المسيح الراكب حمارًا والمُتّجه صوب المدينة المقدسة هو شبيه بالملك الذي يقود الكنيسة وكلّ نفس مؤمنة. يقود حياتنا في هذه الدنيا وفي الآخرة. ويدلّنا إلى مكان الوطن السماوي".

 

8 وكانَ مِنَ النَّاسِ جَمعٌ كَثير، فبَسَطوا أَردِيَتَهم على الطَّريق، وقَطَعَ غَيرُهم أَغصانَ الشَّجَر، ففَرشوا بِها الطَّريق.

 

تشير عبارة "جَمعٌ كَثير" في الأصل اليوناني πλεῖστος ὄχλος (معناها الجمع الأكثر) الى الجزء الأكبر من الجمع الذي اتى مع يسوع من أريحا، والبعض رافقه من بيت عنيا والبعض أتوا من اورشليم ليستقبلوه بعضهم امامه وبعضهم وراءه. ونعث الجمع بالأكثر، لأنه كان فيه بعض الفرِّيسيين لم يفرحوا مع الجمع (لوقا 19: 39). ويركز متى الإنجيلي على الجموع، أمَّا لوقا الإنجيلي فيركز على التلاميذ الذين يرافقون يسوع، أمَّا عبارة "فبَسَطوا أَردِيَتَهم على الطَّريق" فتشير إلى الجموع الذين فرشوا ليسوع الطريق بثيابهم وأغصان الشجر احتراما واعتبارا له كما اعتادوا ان يصنعوا للعائدين من الحرب منتصرين وللملك الراجع الى بلاده بعد غيابه عنها. وأمَّا عبارة "أَغصانَ الشَّجَر" فتشير الى اغصان الشجر المتواجدة في طريقهم واما يوحنا الإنجيلي فيوضح ان الذين استقبلوه من اورشليم أتوا بسعف النخل (يوحنا 12: 13) للدلالة على دخول يسوع الملك المنتصر، ملك الأزمنة الجديدة، وملك السلام. وأمَّا عبارة "فَرشوا بِها الطَّريق" فتشير الى فرش الأرض بالأغصان الخضراء التي هي رمز للخير الذي يتوقعونه حين يملك المسيح. ويُعلق القديس ايرونيموس "الحشود التي كانت قد أتت من أريحا وتبعت المُخلّص وضعوا ثيابهم على طريقه ونشروا أغصانا أمامه، وكأننا بهم وضعوا هذه الثياب لئلا تصدم بحجر رِجل الحمار (الذي ركبه يسوع) أو تدوس شوكة أو تنزلق قدمه بسبب وعورة الطّريق! وآخرون قطعوا أغصانا من الأشجار المُثمرة التي كان جبل الزيتون مليئا بها. وعندما أتمُّوا ذلك، قدّموا ذبيحة أصواتهم هاتفين". اختار يسوع زمن عيد الفصح اليهودي، زمانا يجتمع يه بنو إسرائيل في اورشليم، واختار مكانا يُمكن للجماهير الغفيرة ان تراه، واختار اسلوبا للمناداة مُنطلقا من أسلوب الأنبياء لكي يُعلن أنه هو بالحقيقة المسيح الذي كانوا ينتظرونه.

 

9 وكانتِ الجُموعُ الَّتي تَتقدَّمُه والَّتي تَتبَعُه تَهِتف: هُوشَعْنا لابنِ داود! تَباركَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ! هُوشَعْنا في العُلى!

 

تشير عبارة "الجُموعُ الَّتي تَتقدَّمُه والَّتي تَتبَعُه" الى الناس الذين تقدّموه وهم رمز الى الأنبياء الذين عاشوا قبل مجيء المسيح، أمّا الذين تبعوه، فهم رمز هؤلاء الذين آمنوا بالمسيح بعد مجيئه. فالكل استفاد بالخلاص الذي قدّمه المسيح. فالمسيح هو مخلص كل العالم، والجموع التي كانت تتقدّمه وتسير وراءه عند دخوله أورشليم كانت قد آمنت به، لأنَّها شاهدت آية قيامة لعازر من الموت؛ ويُعلق العلامة أوريجانوس "أعلن الكل نفس الشيء، مُتّحدين معًا بصوت واحد: إن المخلّص قد تأنّس"؛ أمَّا عبارة "تَهِتف" فتشير الى حماس الجموع وإيمانهم التي تُحيي الملك الذي يدخل اورشليم ليقوم بخدمته ويبذل حياته فديةً عن الكثيرين. ويُعلق القدّيس أمبروسيوس، "طوبى للذين استقبلوا المسيح المُنتصر في أعماق قلوبهم! طوبى للذين يرددون الكلمات السماوية والهتافات السيّديّة!"؛ أمَّا عبارة "هُوشَعْنا" في الأصل اليوناني ωσαννά المأخوذة من أصل سرياني (معناها خلصنا يا رب) والمنقولة من العبرية הוֹשִׁיעָה (مزمور 118 25) فتشير الى نداء موجّهٍ الى الملك (2 صموئيل 14: 4) الذي يُطلق خاصة في اليوم السابع من عيد الاكواخ، يرافقه هزِّ الاغصان (2ملوك 10: 7). ويقول التلمود أن المزمور (118: 25) ينطلق من أفواه الشعب ضمن هِتافهم، وهم يهزُّون الأغصان في أيديهم أثناء عيد المظال. ومع العهد الجديد أصبحت كلمة هوشعنا تستعمل كنداء خلاص واستغاثة وكهتاف تسبيح وتبجيل في استقبال المسيح الملك الذي يدخل أورشليم معلنين إيمانهم به. ويعتبر هذا الهتاف اعترافاً بالخلاص الحاضر هنا والآن. وهكذا صارت "هوشعنا" جزءا من الأناشيد المسيحية الذي تُحيي يسوع ذاك الذي خلَّصنا في الماضي ويُخلصنا اليوم. ويرى القديس أوغسطينوس في هذه العبارة "هُوشَعْنا" أداة تعجّب تكشف عن حالة ذهنيّة أكثر منها معناً خاصاً، وإن كان أغلب الآباء والدارسين يرون فيها معنى "خلصنا". أمَّا عبارة "هُوشَعْنا لابنِ داود" فتشير الى ناسوت المسيح وتجسّده وعودة مملكة داود بسبب وعد الرب لداود كما جاء في الكتب "اقيمُ مَن يَخلُفُكَ مِن نَسلِكَ الَّذي يَخرُجُ مِن صُلبكَ، واثبِّتُ ملكَه. فهو يَبْني بَيتًا لآِسْمي، وأَنَّا اثبِّتُ عَرشَ مُلكِه لِلأَبَد" (2 صموئيل 7: 12-13)؛ لقد قبل يسوع لقب "ابن داود" المسيحاني الذي وعد الله به إسرائيل (متى 2: 2) ولكن فئة من معاصريه كانوا ينظرون اليه نظرة سياسية كما هو الحال مع تلميذي عمواس "كُنَّا نَحنُ نَرجو أَنَّه هو الَّذي سيَفتَدي إِسرائيل" (لوقا 24: 21)؛ أمَّا عبارة "تَباركَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ!" فتشير الى التمجيد والترحيب بالمسيح المُخلص الذي أتى لكي يُخلص شعبه من خطاياهم، وهذا الهتاف مقتبس من سفر المزامير (مزمور 118: 26) الذي يهتف به عادة الكهنة حين يدخل رؤساء المواكب إلى هيكل أورشليم في الأعياد الكبرى خاصة في عيد المظال. وهنا يدل الهتاف على فرح الجموع الذين يدركون أن يسوع، الذي يدخل أورشليم، هو آتٍ من عند الله وباسمه ليتفقد شعبه؛ هو يُذكرنا في الكلام على آلام المسيح وتمجيده (متى 21: 42). يسوع هو الآتي ليفتتح العصر المسيحاني كما يعلن صاحب الرسالة الى العبرانيين "فيَأتي الآتي ولا يُبطِئ" (العبرانيين 10: 37). ويعترف الناس بمجد يسوع على الأرض واثقين من انه قائد قومي يُعيد الى أمتهم سابق مجدها، ولكن عندما صار واضحا جليا ان يسوع المسيح لن يحقق آمالهم القومية، انقلب الكثيرون عليه وطالبوا بصلبه (متى 27: 22). امَّا عبارة "بِاسمِ الرَّبّ" فتشير الى يسوع المتسربل بسلطان الرب والذي أوكل الرب إليه اعلان مشيئته. أمَّا عبارة "هوشَعْنا في العُلى" فتشير الى تمجيد يسوع تمجيدا يبلغ السماء ارتفاعا. وتدل العبارة أيضا على ان يسوع أتى من السماء وتجسَّد ليرفعنا فيه للعلى (يوحنا 13:3). فالمسيح بشفاعته حملنا للسماء فأضحى لنا سلاما مع السماء، وتمجَّد في الأعالي. وبعد قيامته فهم التلاميذ الكثير من النبوءات التي اخطأوا فهمها مدة طويلة. هل سنبقى آمنين في السير مع المسيح حتى الجلجلة ام نتشبه بهؤلاء التلاميذ والجموع الذين ساروا وراء يسوع في يوم الشعانين بسبب تلك المعجزات التي كان يصنعها ثمّ توقفوا عن السير معه فيما بعد متناسين ما قاله يسوع "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفسهِ ويَحمِلْ صَليبَهُ كُلَّ يَومٍ ويَتبَعْني" (لوقا 9: 23). ويُعلق كتاب الاقتداء بالمسيح: "إن ليسوع تبّاعًا كثيرين يرغبون في ملكوته السماوي، أما حاملو صليبه فقليلون. كثيرون يكرّمون معجزاته، أما الذين يتبعونه في عار الصليب فقليلون. كثيرون يحبّون يسوع ما دامت المحن لا تنتابهم. كثيرون يسبّحونه ويباركونه، ما داموا يحصلون على بعض تعزياته.  ولكن أذا توارى يسوع وتركهم قليلاً، سقطوا في التذمّر أو في فشلٍ مُفرط". بالصّليب نشترك في فداء العالم وخلاصه ونسير في طريق القداسة والكمال.

 

10 ولَمَّا دَخلَ أُورَشليم ضَجَّتِ المَدينةُ كُلُّها وسأَلت: مَن هذا؟

 

تشير عبارة "ولَمَّا دَخلَ أُورَشليم" الى دخول أورشليم، عاصمة داود، ومملكته. وكان يسوع قد تنبأ لتلاميذه ممّا سيجري له من أمور هناك. وكان مُدركا ما ينتظره في أورشليم ومع ذلك سار ثابتاً في طريقه دون أن يخشى الوقوع في المأساة التي أنهت حياته في هذه المدينة المقدّسة، إذ بلغ به الحبّ إلى أقصى حدوده أي الموت على الصليب. ويصرّح بولس الرسول "إِنَّ لُغَةَ الصَّليبِ حَماقةٌ عِندَ الَّذينَ يَسلُكونَ سَبيلَ الهَلاك، وأَمَّا عِندَ الَّذينَ يَسلُكونَ سَبيلَ الخَلاص، أَي عِندَنا، فهي قُدرَةُ اللّهُ" (1 قورنتس 1: 18)؛ امَّا عبارة “ضَجَّتِ" في أصل اليونانية ἐσείσθη (معناها اهتزّت كما يحدث في زلزال وهزّة أرضية) (متى 27: 51)، فتشير الى دخول يسوع الى القدس كحدث علني جعل المدينة كلها تضطرب وقد اضطربت المدينة عند بلوغ خبر ميلاده (متى 2: 3). ولا عجب ان ترتج َّالمدينة من اجتماع تلك الجماعات الكثيرة وهتافهم واحتفالهم بالمسيح. أمَّا عبارة "سأَلت: مَن هذا؟" فتشير الى تساءل سكان اورشليم الذين لم يعرفوا يسوع من قبل، او الى سؤال الغرباء الَّذين جاءوا الى الفصح. سؤال بمثابة تعجب واستفهام من هذا حتى يرحِب فيه كل هذا الجمع وينادوه بابن داود ويمجِّدوه معتقديم انه المسيح.  وكثرت التساؤلات من قبل الشعب "مَنْ هذا؟، والتساؤلات من قبل عُظَماءُ الكَهَنَةِ وشُيوخُ الشَّعبِ الذي وقالوا لَه: بِأَيِّ سُلطانٍ تَعمَلُ هذِه الأَعمال؟ ومَن أَولاكَ هذا السُّلطان؟" (متى 21: 23). أمر المسيح تلاميذه قبل هذا الوقت ان لا يُظهروا للناس عامة انه المسيح ملك اليهود، ومن اجل ذلك تجنَّب كل احتفال. ولكنه حان الوقت ان يدخل اورشليم باحتفال ليُظهر للناس انه المسيح ملك اليهود الروحي.

 

11 فأَجابَتِ الجُموع: هذا النَّبِيُّ يسوع مِن ناصِرةِ الجَليل

 

تشير عبارة "الجُموع" الى كل من سمع عن يسوع وعمل معه معجزات فعرفوه، حيث كان اغلب هؤلاء كانوا من الجليل؛ أمَّا عبارة "هذا النَّبِيُّ يسوع" فتشير الى جواب الجموع للسائلين معترفين أنه نبيٌ" (متى 16: 14، ومرقس 6: 15، ولوقا 7: 16)؛ والنبي تعني لغةً إخبار البشر من قبل الله بالأحداث والوقائع المقبلة معهم. فالنبي هو من يتكلم باسم الله وقوته وبما يُوحى به، ويُعبِّر عن ذلك بهذه الكلمات "هكذا قال السيد الرب" (حزقيال 4: 16، 7: 1). وترى الجماعة المسيحية الأولى في المسيح النبي الأخير كما أخبر عنه سفر "سيُقيمُ لكُمُ الرَّبُّ إِلهُكم مِن بَين إِخوَتِكم نَبِيًّا مِثْلي، فإِلَيه أَصْغوا في جَميعِ ما يَقولُ لَكُم" (اعمال الرسل 3: 22-23) حسبما قاله الرب لموسى النبي "سأُقيمُ لَهم نَبِيُّا مِن وَسْطِ إخوَتِهم مِثلَكَ، وأَجعَلُ كلامي في فَمِه، فيُخاطِبُهم بِكُلِّ ما آمُرُه به " (تثنية الاشتراع 18: 15) أمَّا عبارة "مِن ناصِرةِ الجَليل" فتشير الى أصله الجليلي كما ورد في انجيل يوحنا (يوحنا 7: 52). فهناك فرق بين الجموع كثيرون من الجليل الذين صعدوا الى العيد والذين كانوا قد عرفوا الرب عن طريق كرازته وخدمته ومعجزاته في الجليل واستطاعوا ان يجيبوا على سؤال " مَن هذا؟ "وبين أهل مدينة أورشليم الذين كانوا يجهلون حقيقة هوية الرب. وفئة الشعب التي رحّبت بزيارة المسيح جلبت لهم هذه الزيارة الفرح والخلاص والسلام، واما فئة رؤساء الكهنة وشيوخ اليهود فاستشاطوا غيظاً أمام حماس الجموع التي سارت وراءه بعد أن شاهدت آية قيامة لعازر من الموت. ورفضوا استقبال المسيح واخذوا يتذمّرون ويتشكّون، متضرّرين من وحدة الشعب التي لا تتلاءم ومصالح نفوذهم القائمة على التفرقة والانقسام، وفقاً لقاعدة "فرّق تَسُدْ"، وأعربوا عن ذلك بقولهم بعضهم لبعض " تَرونَ أَنَّكم لا تَستَفيدونَ شَيئاً. هُوَذا العالَمُ قد تَبِعَه" (يوحنا 12: 19). وتذمروا وقاموا بانتزاع ملكيّته؛ خلال آلامه، إذ عرّوه من ثيابِه، وجسده ثَقبَته المسامير فابعدوا أنفسهم عن نعمه وجلبوا على أنفسهم الدينونة. ويُعلق القديس أنطونيوس البادواني " هوذا إذًا ملكك، الذي يأتي إليك، لأجل سعادتك. يأتي في العذوبة كي يكونَ محبوبًا، وليس بالقوّة كي يكونَ مرهوبًا. يأتي جالسًا على آتان... إنّ الفضائل الخاصّة بالملوك هي العدالة والطيبة. هكذا، فإنّ ملكك عادل هو: "فيُجازي يومئذٍ كلّ امرئٍ على قدرِ أعمالِهِ" (متى 16: 27).

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 21: 1-11)، نستنتج انه يتمحور حول دخول يسوع ظافراً الى اورشليم في الأسبوع الأخير من حياته على الأرض حيث تنكشف هويته بصفته المسيح الملك المنتظر والنبي الأخير.

 

1. يسوع يدخل اورشليم مسيحًا ملكًا

 

قصد يسوع ان يقدِّم نفسه في اورشليم العاصمة الدينية بوصفه المسيح المنتظر والموعود به في موكب شعبي. فان التفاصيل تؤكد المهابة التي علقها يسوع على الحدث، حيث ان إرسال التلميذين لإحضار الانان والجحش دلالة واضحة على خطة مقصودة من جانبه، كان يسوع يستعدَّ من خلالها لدخول المدينة بالطريقة التي يجيء بها المسيح المنتظر كما أعلنها النبي زكريا (زكريا 9: 9). فدخل الرب يسوع أورشليم كملكِ حسب النبوات أنه يملك كإبن داود. وكانت مملكة داود رمزًا لمملكة المسيح. واستقبله الجمع الغفير الآتي الى عيد الفصح استقبالاً ملوكياً يحمل ابعاداً نبوية، لأنَّ صيته كان ذائعاً بسبب انه أقام لعازر من الموت بعد دفنه بثلاثة ايام.

 

ولكن كانت توقعات اليهود أن يدخل المسيح أورشليم كملك أرضى سياسي ٍ، لكن المسيح كان يؤسس مملكة من نوع آخر كما صرّح امام بيلاطس البنطي قائلاً: "لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم" (يوحنا 18: 36)، حيث انه دخل "وَضيعاً راكِباً على حمارٍ وعلى جَحشٍ آبنِ أتان" (زكريا 9: 9). وهذه الآية طبقها الربيين بإجماع على المسيح مع نبوة أشعيا "قولوا لابنة صِهْيون: هُوَذا خَلاصُكِ آتٍ هُوَذا جَزاؤُه معَه وأُجرَتُه أَمامَه" (أشعيا 62: 11). ولم يُرد يسوع قبل ذلك ان يُسمّى مسيحا او يُعلن ملكاً. أمَّا اليوم ها هو يُظهر نفسه في العَلانية أنَّه المسيح الملك المنتظر.

 

إن لفظة "مسيح"، المَشيحَ Μεσσίας أي الذي مسح، مترجمة عن اللغة العبرية מָשִׁיחַ، وعن اللغة اليونانية بلفظة Χριστός، حيث أصبحت هذه التسمية في زمن الرسل اسم علم ليسوع. والمسحة الوحيدة التي اكتفى يسوع المطالبة بها هي مسحة الروح النبوّية (لوقا 4: 16-22). ولم يتردد بطرس أن يذكر، كما هو ورد في أعمال الرسل " كَيفَ أَنَّ اللهَ مَسَحَه بِالرُّوحِ القُدُسِ والقُدرَة" (أعمال 10: 38)؛ ومن جهة أخرى، تشير هذه التسمية إلى الرباط العميق الذي كان يربط شخص المسيح برجاء الشعب اليهودي القديم، وهو انتظار المسيح، ابن داود.

 

دهش الناس بقداسة يسوع وسلطته وقدرته لا سيما في إحياء لعازر من الموت، وأخذوا يتساءلون "من هو " (متى 11: 10) "ألعله المسيح؟" (يوحنا 4: 29، 7: 40-42) أو ما يفيد المعنى نفسه:" أليس هذا ابن داود؟" (متى 12: 23). وقد ألحوا عليه طالبين منه أن يُعلن هو بصراحة عن نفسه "حَتَّامَ تُدخِلُ الحَيرَةَ في نُفوسِنا؟ إِن كُنتَ المَسيح، فقُلْه لَنا صَراحَةً" (يوحنا 10: 24).

 

اتفقت السلطات اليهودية على أن تطرد من المجمع كل من يعترف بأنه هو المسيح (يوحنا 9: 22) هذا من جهة، ومن جهة أخرى، اعترف الذين يلجؤون إليه من اجل الشفاء وهم يبتهلون إليه بأنه "ابن داود" مثل الاعميين (متى 9: 27) والمرأة الكنعانية من صور وصيدا (متى 15: 22). واعترف الكثيرون صراحة بأنه المسيح، أوّلهم التلاميذ الاولون مثل التلميذ اندراوس"أَندرَاوُس لَقِيَ أَخاهُ سِمْعان فقالَ له: وَجَدْنا المَشيح ومَعناهُ المسيح" (يوحنا 1: 41)، كذلك التلميذ فيلِبُّسُ لَقِيَ نَتَنائيل فقالَ له: الَّذي كَتَبَ في شأنِه موسى في الشَّرِيعَةِ وذَكَرَه الأنبِياء، وَجَدْناه، وهو يسوعُ ابنُ يوسُفَ مِنَ النَّاصِرَة " (يوحنا 1: 45) ثم مرتا في الوقت الذي أعلن أن يسوع ان هو القيامة والحياة "نَعَم، يا ربّ، إِنِّي أَومِنُ بِأَنَّكَ المسيحُ ابنُ اللهِ الآتي إِلى العالَم" (يوحنا 11: 27). كما أعلن بطرس الرسول ايمانه بيسوع "أَنتَ المسيح" (مرقس 8: 29).

 

وبعد اعتراف بطرس، "أَوصى يسوع تَلاميذَه بِأَلاَّ يُخبِروا أَحَداً بِأَنَّهُ المسيح" (متى 16: 20). ومنذ هذا الوقت، شرع في تنقية مفهوم فكرة المسيح لدى تلاميذه، فظهر إعلان المسيح أنه ابن الانسان والعبد المتألم الذي تكلم عنه أشعيا النبي والذي يدخل في مجده عن طريق ذبيحة حياته "وبَدأَ يُعَلِّمُهم أَنَّ ابنَ الإِنسانِ يَجِبُ علَيه أَن يُعانيَ آلاماً شديدة، وأَن يرْذُلَه الشُّيوخُ وعُظماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَل، وأَن يقومَ بَعدَ ثَلاثةِ أَيَّام" (مرقس 8: 31) مما يُوقع تلاميذه واليهود في حيرة عندما سيخبرهم عن ارتفاع ابن الإنسان أذ "أَجَابَه الجَمْع: نَحنُ عَرَفْنا مِنَ الشَّريعَةِ أَنَّ المَسيحَ يَبْقى لِلأَبَد. فكَيفَ تَقولُ أَنتَ إِنَّهُ لا بُدَّ لابنِ الإنسانِ أَن يُرفَع. فمَنِ ابنُ الإِنسانِ هذا؟ (يوحنا 12: 34).

 

وأخيرا ترك يسوع الناس يهتفون له يوم الشعانين مُعلنين إياه ابن داود "هُوشَعْنا لابنِ داود! تَباركَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ! هُوشَعْنا في العُلى!" (متى 21: 9)، حاملين أغصان النخل والزيتون للدلالة على أنَّ يسوع هو ملك الأزمنة الجديدة، ملك الانتصار على الشرّ وملك السلام؛ ليس سلامه سلام الاقوياء على الضعفاء، ولا التسليم تحت وطأة الظُلم والاستضعاف. ثم في مجادلاته مع الفرّيسيين، ألحَّ يسوع في بقوله أنَّ ابن داود يفوق كل سلفه، لأنه هو ربه، إذ سال يسوع اليهود "ما رَأيُكم في المسيح؟ ابنُ مَن هُوَ؟ قالوا له: اِبنُ داود. قالَ لَهم: فكيفَ يَدعوه داودُ ربّاً بِوَحْيٍ مِنَ الرُّوحِ (متى 22: 43). وأخيراً، في محاكمته الدينية واستحلفه قيافا عظيم الكهنة أن يقول إذا كان هو المسيح. فلم ينكر هذا اللقب.

 

وأعطى هذا اللقب معنى متسامياً: هو ابن الإنسان المزمع أن يجلس عن يمين الله "أَستَحلِفُكَ بِاللهِ الحَيّ لَتَقولَنَّ لَنا هل أَنتَ المسيحُ ابنُ الله. فقالَ له يسوع: هو ما تقول، وأَنا أَقولُ لكم: سَتَرونَ بعدَ اليومِ ابنَ الإنسانِ جالِساً عن يَمينِ القَدير وآتِياً على غَمامِ السَّماء" (متى 26: 63-64). وفي الواقع، تمّ هذا الاعتراف مع بداية الآلام، أذ الذي سبّب الحكم عليه "فشَقَّ عظيمُ الكَهَنَةِ ثِيابَه وقال: لقد جَدَّف، فما حاجَتُنا بَعدَ ذلك إِلى الشُّهود؟ ها قد سَمِعتُمُ التَّجْديف (متى 26: 65).

 

لذلك، سيسخر الناس خاصة من لقبه كمسيح "تَنَبَّأْ لَنا أَيُّها المسيح. مَن ضَربَكَ؟" (متى 26: 68)، في حين قال البعض الآخر مستهزأ "فَلْيَنَزِلِ الآنَ المسيحُ مَلِكُ إِسرائيلَ عَن الصَّليب، لِنَرى ونُؤمِن" (مرقس 15: 32)، كما استهزأ به الرُّؤَساءُ اليهود فقالوا "خَلَّصَ غَيرَه فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَه، إِن كانَ مَسيحَ اللهِ المُختار"! لوقا 23: 35)، واما الجُنودُ فسخروا منه أَيضاً ولقبوه ملكا" قائلين "إِن كُنتَ مَلِكَ اليَهود فخَلِّصْ نَفْسَكَ! وكانَ أَيضاً فَوقَه كِتابَةٌ خُطَّ فيها: "هذا مَلِكُ اليَهود". فيصفه صاحب الرسالة الى العبرانيين من خلال هذه الالام ملكا "نُشاهِدُه مُكلَلاً بِالمَجْدِ والكَرامةِ لأَنَّه عانى المَوت" (عبرانيين 2: 9).

 

لكن بعد قيامته فقط، أستطاع التلاميذ أن يفهموا ما ينطوي عليه هذا اللقب: "أما كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام فيدخل في مجده؟" (لوقا 24: 26). بالطبع، لم يعدْ في الأمر مجال لمجد زمني وملكٍ سياسي "يُعيدُ المُلْكَ إِلى إِسرائيل" (أعمال الرسل 1: 6). وإنما الأمر مختلف عن ذلك تماماً. فبحسب الكتب المقدّسة، ينبغي "أَنَّ يَتأَلَّمُ المَسيحَ ويقومُ مِن بَينِ الأَمواتِ في اليَومِ الثَّالِث، وتُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم" (لوقا 24: 46).

 

وعلى ضوء الفصح، وقيامة يسوع من بين الأموات أعلنت الكنيسة ان يسوع هو المسيح "المشيح" Χριστός-خرستوس" وظهر يسوع هكذا باعتباره ابن داود الحقيقي كما جاء في تعليم بولس الرسول "وُلِدَ مِن نَسْلِ داوُدَ بِحَسَبِ الطَّبيعةِ البَشَرِيَّة" (رومة 1: 3) ليرث عرش داود أبيه كما جاء في بشارة الملاك جبرائيل لمريم العذراء "سَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود"(لوقا 1: 32) ويقود إلى غايته ملك إسرائيل، بتأسيسه ملكوت "الله على الأرض".

 

ومن ناحية أخرى نصَّبته القيامة في مجده الملكي رَبًّا ومَسيحًا كما جاء في عظة بطرس الرسول الأولى "فَلْيَعْلَمْ يَقينًا بَيتُ إِسرائيلَ أَجمَع أَنَّ يَسوعَ هذا الَّذي صَلَبتُموه أَنتُم قد جَعَلَه اللهُ رَبًّا ومَسيحًا (اعمال الرسل 2: 36). وهكذا تقوم بشارة بولس بمثابة إعلان أيضاً عن المسيح المصلوب "فإِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصْلوب، عِثارٍ لِليَهود وحَماقةٍ لِلوَثنِيِّين" (1 قورنتس 1: 23، 2: 2)، وقال أيضا "فإِنِّي لم أَشَأْ أَن أًعرِفَ شَيئًا، وأَنا بَينَكُم، غَيرَ يسوعَ المسيح، بل يسوعَ المسيحَ المَصْلوب" (1 قورنتس 1 2: 2).

 

نستنتج مما سبق ان يسوع دخل اورشليم ملكا ومسيحا ونحن نريد من يسوع أن يصبح الملك والمسيح الذي يحلّ مشاكلنا: الاحتلال والعمل ويساعدنا في الحالات الصعبة التي نعيشها الآن ويُخلّصنا من فيروس كورونا وأن تعود الحياة إلى سابق مجراها.

 

2. يسوع يدخل اورشليم نبيًا

 

لم يكشف دخول يسوع الى اورشليم انه المسيح الملك المنتظر فحسب، إنما كشف أيضا انه النبي. ولَمَّا دَخلَ أُورَشليم ضَجَّتِ المَدينةُ كُلُّها وسأَلت: مَن هذا؟ فَأَجابَتِ الجُموع: هذا النَّبِيُّ يسوع مِن ناصِرةِ الجَليل (متى 11: 10-11)، هو النبي الأخير الذي تنبأ عنه موسى: "يقيم لك الرب الهلك نبياً مثلي من وسطك، من اخوتك، فله تسمعون" (تثنية الاشتراع 18: 15). النبي هو من يتكلم أو يكتب بقوة الله ووحيه تعالى كما جاء في تعليم عاموس النبي "الله يكْشِفْ سِرَّه لِعَبيدِه الأَنْبِياء"(عاموس 3: 7).

 

وموضوع الموهبة النبوية هو الخلاص الذي سيتمُّمه يسوع المسيح "إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين" (العبرانيين 1: 1-2).

 

أمَّا دعوة النبي فهي تأدية رسالة الله، إنه ينطق بكلمة الله (أشعيا 6:6-7). لكن رسالته لا تقف عند حدِ الإنباء عن المستقبل فحسب، بل تمتد الى البناء والوعظ والتعزية كما جاء في تعليم بولس الرسول “أَمَّا الَّذي يَتَنَبَّأ فهو يُكلِّمُ النَّاسَ بِكلام يَبْني ويَحُثُّ ويُشَدِّد" (1 قورنتس 14: 3). فيسوع هو ليس نبياً لأنه يرى المستقبل، بل لأنه يفسّر التاريخ على انه عمل الله لخلاص العالم، وهو يُخبر عنه مسبقا.

 

الملامح النبوية في المسيح كثيرة وأهمها: تنبَّأ يسوع عن علامات الأزمنة (متى 16: 2-3)، وأعلن نهايتها (متى 24: 25)؛ ونقد الرياء الديني كما فعل أشعيا النبي (أشعيا 56: 7) "أَيُّها المُراؤُون، أَحسَنَ أَشَعْيا في نبوءته عَنكم إِذ قال "هذا الشَّعْبُ يُكرِمُني بِشَفَتَيْه وأَمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي" (متى 15: 7-8)، وقام بتطهير الهيكل على مثال أشعيا النبي (أشعيا 56: 7) إذ "دَخلَ يسوع الهَيكل، وأَخَذَ يَطرُدُ الَّذينَ يَبيعونَ ويَشتَرونَ في الهَيكل... ولَم يَدَعْ حامِلَ مَتاعٍ يَمُرُّ مِن دَاخِلِ الهَيكَل. وأَخَذَ يُعَلِّمُهم فيَقول: أَلَم يُكْتَب: بيتي بَيتَ صَلاةٍ يُدعى لِجَميعِ الأُمَم وأَنتُم جَعلتُموهُ مَغارَةَ لُصوص" (مرقس 11: 15-17)، وأعلن أيضا عن عبادة حقيقية في هيكل جسده بعد خراب هيكل اورشليم "اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام ... أَمَّا هو فكانَ يَعْني هَيكَلَ جَسَدِه" (يوحنا 2: 19).

 

ورفض اليهود رسالة يسوع كرسالة نبوية كما صرّح يسوع نفسه: "وإِنَّما أُكلِّمُهم بِالأَمثال لأَنَّهم يَنظُرونَ ولا يُبصِرون، ولأَنَّهم يَسمَعونَ ولا يَسمَعون ولا هم يَفهَمون. وفِيهِم تَتِمُّ نُبُوءةُ أَشَعيا حَيثُ قال: تَسمعونَ سَماعاً ولا تَفهَمون وتَنظُرونَ نظَراً ولا تُبصِرون "(متى 13: 13-15)، لكن نبذ اورشليم قاتلة الأنبياء وتنبأ عن خرابها دليل على انه نبي "أورَشَليم أُورَشَليم، يا قاتِلَةَ الأَنبِياء وراجِمَةَ المُرسَلينَ إِليَها، كَم مَرَّةٍ أَرَدتُ أَن أَجمَعَ أَبناءكِ، كما تَجمَعُ الدَّجاجَةُ فِراخَها تحتَ جنَاحَيها! فلَم تُريدوا. هُوَذا بَيتُكم يُترَكُ لَكم قَفْراً" (متى 23: 37-38).

 

وأخيرا يتنبأ يسوع عن نفسه مبينا انَّه لا يزال سيداً لمصيره، كما صرّح يسوع "ما مِن أَحَدٍ يَنتزِعُها مِنَّي بل إنّني أَبذِلُها بِرِضايَ. فَلي أَن أَبذِلَها ولي أَن أَنالَها ثانِيَةً وهذا الأَمرُ تَلَقَّيتُه مِن أَبي" (يوحنا 10: 19). وهو يقبل مصيره حتى يتمِّم قصد الآب، كما تكلمت عنه الكتب المقدسة. فلا عجب ان تلقّب الجموع يسوع تلقائيا بلقب النبي وغيرُهم يقول: هو أَحَدُ الأَنبِياء (متى 16: 14) وذلك اللقب يدل في بعض الحالات على النبي الأعظم، الذي تكلمت عنه الكتب المقدسة كما اعلن عنه يوحنا المعمدان "أنا أُعَمِّدُ في الماء، وبَينَكم مَن لا تَعرِفونَه،  ذاكَ الآتي بَعدِي، مَن لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه" (يوحنا 1: 21) واكَّده الناس "فلَمَّا رأَى النَّاسُ الآيةَ الَّتي أَتى بِها يسوع، قالوا: حَقاً، هذا هوَ النَّبِيُّ الآتي إِلى العالَم" (يوحنا 6: 14) "قالَ أُناسٌ مِنَ الجَمعِ وقَد سَمِعوا ذلك الكَلام: هذا هو النَّبِيُّ حَقاً!" (يوحنا 7: 40).

 

غير ان يسوع لا يدعو نفسه بهذا اللقب الاّ عرضا "لا يُزدَرى نَبِيٌّ إِلاَّ في وَطَنِه وبَيتِه" (متى 13: 57)، لان شخصية يسوع تتجاوز كل الوجوه التقليدية النبوية؛ لأنه هو ليس نبيا فحسب إنما هو ايضا المسيح، ابن الانسان، وسلطانه يجعله فوق كل الأنبياء "هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه، يَحفَظُ كُلَّ شيَءٍ بِقُوَّةِ كَلِمَتِه. وبَعدَما قامَ بِالتَّطْهيرِ مِنَ الخَطايا، جَلَسَ عن يَمينِ ذي الجَلالِ في العُلَى، فكانَ أَعظَمَ مِنَ المَلائكَةِ بِمِقْدارِ ما لِلاسمِ الَّذي وَرِثَه مِن فَضْلٍ على أَسمائِهِم" (عبرانيين 1: 1-3)، انه كلمة الله الذي صارَ بَشَراً (يوحنا 1: 14). وواقعيا، تجعلنا كل هذه الحقائق نتساءل: أي نبي مثل يسوع كان يُمكنه ان يقدّم ذاته مصدراً للحق والحياة؟ كما صرّح “أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة" (يوحنا 14: 6). إن الأنبياء كانوا يرددِّون كلام الله، أمَّا يسوع فيقول" الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم". وقد تردَّدت هذه العبارة 20 مرة في إنجيل يوحنا البشير. امَّا يسوع هو كلمة الله حيث ان رسالته وشخصه ليسا من ذات المستوى النبوي.

 

ونستنتج مما سبق ان أهالي أورشليم رأوا فيه نبيًا، إلا أن هذا النبي أخبرهم أن مدينتهم تخضع لدينونة الله الوشيكة. وأرادوا المسيح المنتظر غير أن مَنْ جاء سيجعل عرشه على صليب روماني. وأرادوا أن يتم خلاصهم من الشر والاضطهاد، غير أن يسوع سيخلّصهم من الشرير مهما بلغت قوته، وليس من شر الاحتلال واستغلال الأغنياء فقط.  وإيماننا بسوع ليس مرتبط بضمانات آنية لأنه لن يتركنا لوحدنا.

 

3. ما هو موقفنا تجاه يسوع الذي يدخل الى اورشليم مسيحا ملكًا ونبيًا؟

 

في هذا الأسبوع المقدس الذي يفتتحه أحد الشعانين لنقتَدِ بالجموعِ التي أسرعَتْ لملاقاتِه لا بحملِ أغصانِ الزيتونِ أو سَعَفِ النخلِ، ولا بفرشِ الثيابِ أمامَه على الطريق، بل نسجدُ له بأنفسِنا، وبكلِّ قِوانا وإرادتِنا، ونستقبلُه بروحٍ منسحقةٍ وبنِيَّةٍ مستقيمةٍ وبعزمٍ ثابت. ولْنردِّدْ نحن مع هتاف الجماهير، تعبيرا عن إيماننا فيما تهتزُّ أغصانُ أنفسِنا وأرواحِنا: "مُبَارَكٌ الآتِي بِاسمِ الرَّبِّ" تمجيدا للمسيح الملك الذي خلصنا في الماضي ويخلصنا اليوم.

 

لندعو يسوع في هذا اليوم ان يدخل بيوتنا في أحد الشعانين كي يملك علينا وعلى قلوبنا وبيوتنا وكنيستنا وارضنا، معترفين فيه مسيحنا وملكنا وهاتفين خلصنا يا رب "هُوشَعْنا لابنِ داود! تَباركَ الآتي بِاسمِ الرَّبّ! هُوشَعْنا في العُلى!" (متى 21: 9). خلصنا من الشر ومن الشرير، خلصنا من وباء الكورونا الذي يجتاح العالم، واشفي أمراضنا وارحم موتانا، يا ارحم الراحمين.  وفي هذا الصدد يوص البابا فرنسيس كل واحد منا "تحلّى بالشجاعة وافتح قلبك على حبي. هناك فقط ستشعر بالقوة الإلهية التي تمدّك بالعون في هذه المحنة".

 

لندعو يسوع في يوم خميس الاسرار الذي يعطينا سر القربان كي يقدس نفوسنا وعائلاتنا ويوحِّدها في المحبة متذكرين كلماته في المحبة " أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً (يوحنا 13: 34) وكلماته في العطاء "خُذوا فَكُلوا، هذا هُوَ جَسَدي الذي يبذل من اجلكم. خذوا اِشرَبوا مِنها كُلُّكم فهذا هُوَ دَمي، دَمُ العَهد يُراقُ مِن أَجْلِ جَماعةِ النَّاس لِغُفرانِ الخَطايا" (متى 26: 26). وفي هذا الصدد يدعونا البابا فرنسيس "ان لا نفكّر فقط في ما ينقصنا، بل في الخير الذي يمكننا فعله”.

 

لندعو يسوع في يوم الجمعة العظيمة الذي يموت من اجلنا على الصليب كي يمنحنا القوة اللازمة لحمل صليبنا مع صليبه، المليء بالحب المعطاء فنستطيع تحمل الآمنا ومعاناتنا خاصة التي يعيشها العالم اليوم، متذكرين قوله " لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه" (يوحنا 15: 13) وقوله "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني، لأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها. ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ (متى 16: 24-26) ويُعلق كتاب الاقتداء بالمسيح:" إن ليسوع تبّاعاً كثيرين يرغبون في ملكوته السماوي، أما حاملو صليبه فقليلون. كثيرون يكرّمون معجزاته، أما الذين يتبعونه في عار الصليب فقليلون. كثيرون يحبّون يسوع ما دامت المحن لا تنتابهم. كثيرون يسبّحونه ويباركونه، ما داموا يحصلون على بعض تعزياته.  ولكن أذا توارى يسوع وتركهم قليلاً، سقطوا في التذمّر أو في فشلٍ مُفرط".

 

لندعو يسوع في سبت النور معلنين انه المسيح مخلصنا والنبي الذي يرشدنا او يبدد ظلمات العالم ويشرق علينا نوره متذكرين كلمته " أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة (يونا 8: 12). وأخيرا لندعو يسوع في أحد القيامة ليضع فينا الرجاء لمستقبل جديد وحياة مشرقة في ملكوته السماوي متذكرين كلمه: " أَنا القِيامةُ والحَياة مَن آمَنَ بي، وَإن ماتَ، فسَيَحْيا " (يوحنا 11: 25).

 

الخلاصة

 

في حين كان يسوع يتهرب دائما من المحاولات الشعبية لإعلانه ملكا (يوحنا 6: 15)، في أحد الشعانين أختار الزمان وهيَّا تفاصيل الدخول المسيحاني إلى مدينة اورشليم "لَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود"(لوقا 1: 32). ودخل مدينته "راكبا على جحش" (زكريا 9:9): انه لم يستولي على ابنة صهيون، رمز كنيسته، بالعنف، بل بالتواضع كما صرّح يسوع "تَعالَوا إِليَّ جَميعاً أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم" (متى 11: 28) وبالحق كما صرّح يسوع امام بيلاطس “فإِنِّي مَلِك. وأَنا ما وُلِدتُ وأَتَيتُ العالَم إِلاَّ لأَشهَدَ لِلحَقّ. فكُلُّ مَن كانَ مِنَ الحَقّ يُصْغي إِلى صَوتي " (يوحنا 18: 38).

 

ولذلك ان دخول يسوع إلى اورشليم يُظهر مجيء الملكوت الذي سيتمّمه المسيح الملك بفصح موته وقيامته. عن هذا الملك، كلَّمَنا إرميا بهذه العبارات: "لا نظيرَ لكَ يا ربّ، عظيمٌ أنتَ وعظيمٌ اسمك في الجبَروت، مَن لا يخشاكَ يا ملك الأمم؟" (إرميا 10: 6-7).

 

وبالاحتفال في أحد الشعانين تفتتح الكنيسة ليتورجيا الأسبوع المقدس. لْنصعَدْ معًا جبلَ الزيتونِ لملاقاةِ المسيحِ العائدِ من بيتَ فاجي متقدّمًا إلى القدس يومِ آلامِه ليُتمِّمَ سرَّ خلاصِنا. لنُسرِعْ ولْنقتَدِ بالجموعِ التي أسرعَتْ لملاقاتِه، لا بحملِ أغصانِ الزيتونِ أو سَعَفِ النخلِ، ولا بفرشِ الثيابِ أمامَه على الطريق، بل نسجدُ له بأنفسِنا، بكلِّ قِوانا وإرادتِنا، ونستقبلُه بروحٍ منسحقةٍ وبنِيَّةٍ مستقيمةٍ وبعزمٍ ثابت. وبدَلَ بسط الثيابِ أمامَه، لِنُلقِ بأنفسِنا أمامَ قدمَيْه ساجدِين. ولْنردِّدْ نحن مع هتاف الجماهير، تعبيرا عن إيماننا فيما تهتزُّ أغصانُ أنفسِنا وأرواحِنا: "مُبَارَكٌ الآتِي بِاسمِ الرَّبِّ" تمجيدا للمسيح الملك الذي خلصنا في الماضي ويخلصنا اليوم، لانّ غاية من وجود الإنسان على الأرض هو الخلاص. فإِنَّ الله يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ " (1 طيموتاوس 2، 4).

 

واخيرا أن وجودنا في البيت وغيابنا عن الكنيسة في الأسبوع المقدس، يذكرنا أحد الشعانين بدخول يسوع إلى بيوتنا بدل القدس، وفي خميس الأسرار يقدس عائلاتنا، وبدل أن يغسل أقدام تلاميذه فها هو يغسل هفواتنا ونقائصنا، وفي يوم الجمعة العظيمة يحمل الآمنا ومعاناتنا خاصة التي يعيشها العالم اليوم، وفي سبت النور وأحد القيامة سيشرق علينا ويضع فينا الرجاء والامل لمستقبل جديد وحياة مشرقة وواعدة بالملكوت السماوي".

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي نشكرك على إرسالك ابنك الوحيد الى عالمنا، فسار في موكب مُهيب الى اورشليم ليحتفل بعيد الفصح بآلامه وقيامته، دعنا نستقبله ملكا علينا ومسيحا مخلصا ونتبعه في طريق آلامه الصليب فننال نصيبا من نعمة صليبه المقدس والصحة والشفاء لبلدنا وشعبنا وعالمنا ونفوز بالقيامة والحياة الأبدية بشفاعة امنا مريم العذراء، ام الاوجاع. آمين

 

تهاني

 

عيد شعانين واسبوع مقدس مبارك مع تمنياتنا لكم جميعا بزمن أفضل، حيث نكون قد تحرّرنا من الشرّ ومن هذا الوباء. وصلّوا لأجلنا ونحن نصلي لكم.