موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٩ مارس / آذار ٢٠٢٠

أحد السجود للصليب المكرم

بقلم :
الأب بطرس جنحو - الأردن
إننا نتضرّعُ إليكَ، أنْ ترحمَنا وتحنن علينا، فمأساةُ الصليب تجري أمامَ عيوننا كل يوم

إننا نتضرّعُ إليكَ، أنْ ترحمَنا وتحنن علينا، فمأساةُ الصليب تجري أمامَ عيوننا كل يوم

 

الأحد الثالث من الصوم

 

فصل  شريف من بشارة القديس مرقس

(مرقس 8: 34–38 ، 9: 1)

 

قال الربُّ مَن اراد ان يتبعني فليكفُر بنفسهِ ويحمل صليبهُ ويتبعني لانَّ مَن اراد ان يخلّصَ نفسَهُ يُهلكها ومَن اهلك نفسهُ من اجلي ومن اجل الانجيل يخلّصها * فانَّهُ ماذا ينتفعُ الانسان لو ربحَ العاَلمَ  كُـلَّهُ وخَسِرَ نفسَهُ * ام ماذا يُعطي الانسانُ فِداءً عن نفسهِ * لانَّ من يستحيي بي وبكلامي في هذا الجيلِ الفاسقِ الخاطىء يستحيي بهِ ابنُ البشر متى أتى في مجد أبيهِ مع الملائكةِ القديسين * وقال لهم الحقَّ اقول لكم إنَّ قومًا من القائمين ههنا لا يذوقون الموت حتَّى يَرَوْا ملكوتَ اللهِ قد اتى بقوّةٍ.

 

بسم الأب والأبن والروح القدس الإله الواحد أمين

 

الصليب في منتصف الصوم

 

في منتصف الصوم، تنصب الكنيسة أمامنا صليب المسيح. وتفعل ذلك مرتين أخريين في السنة، في 14 أيلول وأول آب، معيدة الصليب إلى ذاكرتنا وتكريمنا. وفي هذين العيدين يرتبط السجود للصليب بحوادث تاريخية .أمّا تذكار الصليب في الأحد الثالث من الصوم، فيستدعي فقط إيماننا وتقوانا، إذ يدور الأمر حول الجهر بدور الصليب في تاريخ الخلاص وحول استعدادنا لرؤية هذا الصليب الذي سيقام يوم الجمعة العظيم على الجلجلة التي ما زالت بعيدة.

 

خلال صلاة السَحَر، نحو نهاية الذكصولوجية الكبرى، يضع الكاهن صليباً على طبق مزيّن بالزهور. وإذ يحمل الصليب فوق رأسه، يخرج من الهيكل، تتقدمه شموع مضاءة وبخور. عندما يصل إلى وسط الكنيسة، يضع الصليب على طاولة، ثم يبخره وترنم الجوقة: لصليبك يا سيّدنا نسجد ولقيامتك المقدسة نمجّد). ثم يأتي الشعب ليقبّل الصليب الذي يبقى معروضاً هكذا في وسط الكنيسة خلال العيد كله. وتعبّر الترنيمة التالية من صلاة السَحَر تعبيراً جيداً عن معنى هذا العيد:

 

(إذ نشاهد اليوم صليب المسيح الكريم موضوعاً، فلنسجد له بإيمان فرحين، ونعانقه بشوق، مبتهلين إلى الرب الذي صُلب عليه بمشيئته، أن يؤهلنا جميعاً للسجود للصلي لماذا نسجُد للصليب في الأحد الثالث من الصوم؟

 

في ٦ آذار عام ٣٢٦م، وجدت الصليب الكريم القدّيسة هيلانة والدة الأمبراطور القدّيس قسطنطين الكبير. وكان من المفترض أن تعيّد الكنيسة لرفع الصليب في هذا اليوم، أي ٦ آذار. إلاّ أنّ الأمبراطور كان يبني هيكل القيامة في القدس، ولذلك لم يُتمّ رفع الصليب إلاّ سنة ٣٣٥، في ١٤ أيلول، بعد أن تمّ تدشين كنيسة القيامة في اليوم السابق، ١٣ أيلول. كانت القدّيسة هيلانة قد رقدت منذ سنة ٣٢٧.

 

ولكن بما أنّ الصليب تمّ وجوده في ٦ آذار (تقويم شرقي)، وكان ذلك في الصوم الكبير، لم يكن في وسع الكنيسة أن تتغاضى عن هذا الحدث العظيم، فهي وضعب السجود للصليب كلّ سنة في الأحد الثالث من الصوم الإربعيني المقدس. فإنّ الصليب هو منطلق سائر الخيرات: عند الصليب ماتت الخطيئة وعنده مات الموت.

 

لم ينته الأمر في الصليب، بل تبعته القيامة.

 

أيها الأحباء : نلتمس محبة المصلوب على خشبة الصليب وتلهج نفوسنا بالدعاء والفرح ، لأن هذا الفرح أخذناه نحن أبناء يسوع المسيح بكل محبة وتقوى. جئنا أفراداً وجماعات نواكب العمل الخلاصي. فالصليب اليوم في منتصف الصوم يعبر عما يدور في فكر كل إنسان مسيحي. ذلك الإنسان المسيحي المجاهد، وجهاده مملوء بالصلاة والصوم.

 

نحن نأتي إلى الكنيسة بنفوس خاشعة. نرقب الفرصة ونصلي من كل نياتنا يا رب ارحمنا نحن عبيدك الخطأة الذين أبتعدوا عن مجدك وسلكن بطرقِ ملتوية.

 

نأتي اليوم إلى الكنيسة التي وضعت الصليب في نصف الصوم الأربعيني لكي تشدد من عزائمنا. لنكمل مسيرتنا نحو الفصح المقدس، والصليب كان أداة للعذاب والعقاب وكان يعلق عليه المجرمون. ولكننا نحن تقدسنا بخشبة الصليب لأن إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح علق عليه. أصبح شعار معابدنا ورمز للكثير من الفتيات والسيدات وحتى الشباب والرجال يزينون صدورهم به. وكل إنسان يشعر بإن الصليب مرافق لحياته. نسمع من كثرين بإنهم يحملون الصليب وصليبهم هو حمل ثقيل لا يستطيعون حمله.

 

كل إنسان تقبل سر المعمودية وأصبح عضواً فاعلاً في جسم الكنيسة وتربى تربية مسيحية صالحة في بيت يسوده الوئام والمحبة وبركة الصليب. ولكن السؤال المطروح في هذه الأيام إن كل إنسان ينتمي للمسيحية يدعي أنه مسيحي وهو سمي مسيحياً والصليب هو علامة ذلك الشخص. ولكن عندما ينمو في المعرفة يبتعد رويداً رويداً عن حضن الكنيسة ويتجه في مسار آخر. الربّ لم يعبر إلى القيامة إلاّ بالصليب، بنتيجة الخطيئة وهي الموت. قام الرب ، فأباد الخطيئة والموت معا. نعم عندما يؤمن الإنسان بالرب يسوع المسيح ، بمعنى أنه يعطيه الحياة ويلتصق به، يصير هو ايضا مسيحاً . وهذه هي الطرية الوحيدة للقضاء على الخطيئة.

 

صلاة للصليب المحيي

 

يا ربَنا يسوع المسيح، يا ابن ألآب الأزلي، يا مَن جعلتَ خشبة الصليب، علامةً لانتمائنا، رايةً لمسيرتنا، سوراً حصيناً لإيماننا، ينبوعاً فائضاً لنعمكَ وبركاتكَ، مشعلاً ينير لنا دروبَ الحياة، لنواصل مسيرة الإيمان عبر طرق الزمن، ونُعلن الانتصار على حيلِ العدوّ، وطرقه المعوجّة والملتوية، وبه صالحتَنا مع الله ألآب، ومحوتَ صكَّ ذنوبنا وخطايانا، وأعلنتَ عَظَمَةَ حبّكَ لنا.

 

إننا نتضرّعُ إليكَ، أنْ ترحمَنا وتحنن علينا، فمأساةُ الصليب تجري أمامَ عيوننا كلَّ يوم، كما تراكم الغبار على إنجيلنا، وشوّهتِ الخطيئةُ صورة الله فينا، إذ جعلناها صورةً، تتوافق مع أهوائنا وأفكارنا، فبَنَيْنا لنا كنائس خاصة، بدل كنيستكَ الحقيقية التي هجرناها، وأصبحتْ غريبةً عنا.

 

نعم يا رب، إننا نلتجئُ إليكَ عبر صليبكَ المقدس، أنْ تباركَ رعيّتَنا وعائلاتنا، امنح السلامَ والأمانَ لبلدنا الجريح، وارحم الموتى والشهداء، وأوقِفْ أصواتَ طبول الحرب، لكي لا يسقط الأبرياء ضحية العنف والإرهاب. بارك ثمارَ أرضنا. أحفظ أطفالَنا وشبابَنا. بارك المتزوّجين. اسند شيوخَنا. اشفِ مرضانا. أَعِدْ إلينا بالسلامة البعيدين. ولا تجعلنا غرباءَ عن صحبتكَ، بل اجعلنا أحباءَكَ. وبقوة صليبكَ اجعلنا أنْ نحيا إيمانَنا، فنكون شهوداً وشهداء. وسيبقى الصليب المقدس علامة انتمائنا وانتصارنا، يا مَن غلبتَ الدنيا بصليبكَ . آميـن.

 

وأخيراً لا يفلح الإنسان في جهاده ضدّ الخطيئة إلاّ إذا جاهد وهو متّحد بالمسيح، وها الصليب مزروع في وسط الصوم الكبير ليشددنا ويكون لنا سلما سماويا نرتفع فيه مع المصلوب إلى العلى ونقوم معه فنبلغ السماوات.

 

    وفي الختام يحتلّ الصّليب الكريم مقاماً جوهريّاً في السنة الطقسيّة، وخاصّةً خلال فترة الصّوم الأربعينيّ المقدّس، لكي يتشدّد به المؤمنون، ويتذكّروا أنّ السيّد المسيح قد صُلب لأجل خلاص جنس البشر. وإنّه العلامة لتنازل المسيح ولمحبّته الفدائيّة للبشر. وإنّ كلّ ما يعانيه المؤمن خلال صومه، من جوع وآلام، لا يساوي شيئاً ممّا تحمّله المصلوب لأجل غفران خطايانا وللحياة الأبديّة التي نحياها به. فالإرتباط العميق الذي بين الصّليب والسيّد المصلوب جعل منه إيقونة الإيقونات؛ لذلك يجب تكريمه، وإقامة زياحات له خلال السنة الطقسيّة، لكي يظهر حبّ المسيحيّ المؤمن تجاه المصلوب وتظهر الغلبة التي يملكها المؤمنون به على كلّ شيء. ولهذا يُصلّي كلٌّ منّا في هذه المناسبة: "يا ربُّ امحُ كثرة خطاي بكثرة رحمتك، وكمحبٍّ للبشر أهّلني أن أرى صليبك، وأجثو أمامه بنفس نقيّة خلال الإمساك (الصوم)". ولأنّ "الصّليب المقدّس هو قوّة الإمساك، معين الساهرين، توطيد الصائمين، المدافع عن المحاربين، فلنقترب منه أيّها المؤمنون بمحبَّة ولنكرّمه بفرح". وفي الصّوم ينسى المؤمن نفسه، ولا يفكّر بشهوات جسده، ولا بالأطعمة، ولا بملذّات هذا العالم.