موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٠ فبراير / شباط ٢٠١٧

أحد الابن الشاطر

بقلم :
الأب بطرس جنحو - الأردن

فصل شريف من بشارة القديس لوقا (لوقا 15: 11–32) قال الربُّ هذا المثَل. انسانٌ كان لهُ ابنان * فقال اصغرُهما لأَبيهِ يا أَبتِ أَعطِني النصيبَ الذي يخصنُّي من المال. فقسم بينهما معيشَتَهُ * وبعد ايامٍ غير كثيرةٍ جمع الابن الاصغر كلَّ شيءٍ لهُ وسافر الى بلدٍ بعيدٍ وبذَّرَ مالهُ هناك عائشًا في الخلاعة * فلمَّا أَنفَقَ كلَّ شيءٍ لهُ حدثت في ذلك البلد مجاعةٌ شديدةٌ فأخذ في العَوَز * فذهب وانضوى الى واحدٍ من اهل ذلك البلد فارسلهُ الى حقولهِ يرعى خنازير * وكان يشتهي ان يملأَ بطنهُ من الخرنوب الذي كانتِ الخنازير تأكلهُ فلم يُعطِهِ احدٌ * فرجع الى نفسهِ وقال كم لأَبي من أُجَراء يفضُل عنهمُ الخبز وانا أَهِلك جوعًا * أقوم وامضي الى ابي واقول لهُ يا أَبتِ قد أَخطَاتُ الى السماء وامامك. ولست مستحقًّا بعدُ ان أُدعَى لك ابنًا فاجعَلني كأَحد أُجَرائـِك * فقام وجاء الى أبيهِ. وفيما هو بعدُ غير بعيدٍ رآهُ ابوهُ فتحنَّن عليهِ واسرع وأَلقى بنفسهِ على عنقهِ وقبَّلهُ * فقال لهُ الابن يا أَبتِ قد أَخطات الى السماء وامامك ولست مستحِقًّا بعدُ ان أُدعى لك أبنًا * فقال الأَبُ لعبيدهِ هاتوا الحلَّة الاولى وأَلبِسوهُ واجعلوا خاتمًا في يدهِ وحِذاءً في رجلَيهِ * وأتوا بالعجل المسمَّن واذبحوهُ فناكلَ ونفرَح * لانَّ ابنيَ هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالاًّ فوُجد. فطفِقوا يفرَحون * وكان ابنَهُ الاكبرُ في الحقل. فلمَّا اتى وقرُب من البيت سمع اصواتَ الغِناء والرقص * فدعا احد الغِلمانِ وسأَلهُ ما هذا * فقال لهُ قد قدمَ اخوك فذبح ابوك العجلَ المسمَّنَ لانَّهُ لقيَهُ سالمًا * فغضب ولم يُرِدْ ان يدخل. فخرج ابوهُ وطفِق يتوسَّلُ اليه * فاجاب وقال لأَبيهِ كم لي مِنَ السنينِ اخْدمُكَ ولم أَتَعـَدَّ لك وصيَّةً قطُّ وانت لم تُعطِني قطُّ جَديًا لأَفرحَ معَ اصدقائي * ولَّما جاء ابنَك هذا الذي اكل معيشَتَك معَ الزواني ذبحتَ لهُ العجلَ المسمَّن * فقال لهُ يا ابني انت معي في كلّ حينٍ وكلُّ ما هو لي فهو لك * ولكن كان ينبغي أن نفرَحَ ونُسَرَّ لانَّ اخاك هذا كان ميّتًا فعاشَ وكان ضالاًّ فوُجد. بسم الأب والأبن والروح القدس الإله الواحد أمين أيها الأحباء، إنَّ الفكرة الأساسيَّة الواردة في هذا المثل هي أنّ الإنسان الخاطئ يتوهَّم أنَّه إذا استسلم إلى الخطيئة وجد السعادة التي يتوق إليها, ولكنَّه لا يلبث أنْ يذوق مرارة الخطيئة التي أبعدته عن الله مصدر سعادته الحقَّة. كانت رغبة الابن الأصغر في العيش بعيداً عن البيت الأبوي دون أن يفكر بعواقب بعده. فقد سئم العيش تحت سقف بيت أبيه، وملّ الخضوع للوصايا الأبويّة، ورغب في الحرية والاستقلال والتمتع. فالحرية هي من أعظم عطايا الله للإنسان لدرجة قيل إنّ الله يقف عاجزاً عن التدخل فيها. ولكن الأب اعطاه نصيبه بألم وهو لم ينفكّ عن السهر والألم والتفكير بهذا الابن. لقد رضي بأن يتألم ويسهر ويتعب وينتظر... بدل من أن يقول له لا أو أن يقف بوجه هذه الحريّة (العطيّة). بمعنى آخر: لم يُرِد أن يسلبه إيّاها. فإلهنا هو إله الحبّ وليس إله التسلّط! وربما رأينا ما يظهر في بعض العائلات نتيجة تسلّط الأهل المفرط. إنّ الأب يعطي ويتحمل مسؤولية عطاءه. كان هذا الصبي معجبا بنفسه مغرورا جدّاً بقدرته، فأصبح الفراق أمراً أسهل وأسرع. ألا يقول الإبن أو الابنة لللوالدين : "أنتم غير قادرين على فهمي! عقليتكم قديمة! وأنا من جيلٍ جديد! لم أعد قادراً على احتمال التقييد! أودّ أن أرى عالماً مختلفاً عن عالمكم التقليدي! أن أكون حراً في كلّ شيء! وأعاشر من أشاء! وأقضي عمري كما أشاء. أريد أن أعيش. فالحياة تأتي مرّة واحدة ؟ الإبن الأصغر شابٌّ طائش. لقد ظنَّ أنَّه يجِد في الاستقلال عن سلطة أبيه الوالديَّة السعادة الكاملة التي يتوق إليها. ولكنَّه لم يجد إلاَّ الذلَّ والفقر والحرمان. ولكن الأب رجلٌ حكيمٌ حنونٌ غفور. لقد فرِح بعودةِ ابنه الضال فرحاً عظيماً, فغفر له سوء سلوكه, وأعاده إلى منزلته البَنَويَّة, من دون أيِّ تردُّدٍ أو عِتاب. أما الابن الأكبر شابٌّ نشيط وجادّ ولكنّه حقودٌ ومتكبِّر. لقد اطَّلع بانزعاجٍ شديد على خبر عودة أخيه. فعدَّد لأبيه أعماله وخدماته بالتفصيل، وعاتبه عتاباً قويَّاً، وألحَّ على ذكر ذنوب أخيه القبيحة، ورفض أن يدخل الدار ويسلِّم عليه تحت تأثير حقده وكبريائِه ورغبته في الانتقام منه. لقد أبدى الأب نحو ابنه الأكبر تنازلاً رائِعاً عندما أخذ يتوسَّل إليه. البعد عن البيت الأبوي كان القرار الخاطئ الّذي ولّد الشعور بالذنب وبالحاجة. وما رعي الخنازير، الّتي تعتبر حيوانات نجسة، سوى للدلالة على الحالة المذرية التي وصل إليها، فقمّة العار، في المجتمع اليهودي، هي العمل في رعي الخنازير. وبالتالي فإنّ هذه الحالة تشكّل قمّة الانفصال عن الجماعة وعن الآخرين. إنَّه في الواقع قد أساء استعمال حُريَّته الشخصيَّة إساءةً بعيدة المدى. ولكنَّ تفكيره السليم الهادئ في سوء حالته حمله على العودة إلى أبيه تائِباً مُستغفِراً. استخدم مال أبيه استخداماً سيئاً: بحسب الشريعة الموسوية كان للوالد سلطان كامل على ممتلكاته، فكان يمكن أن يسند إدارتها لأولاده، لكنه لم يكن يملِّكها لهم. ولكن الاب كان حكيماً، فأعطى ابنه نصيبه من المال، وترك له حرية التصرف، وسمح له بالبقاء في بيته لفترة باع أثناءها ما أعطاه له. بعدها حمل مال أبيه، الذي اعتبره ماله، وسافر إلى بلد بعيد، فتجمَّع حوله أصدقاء السوء، وأخذوا يتملقونه ويسهِّلون له طرق الغواية، فبذَّر ماله بإسراف حتى انتهى، فانفضَّ أصدقاؤه عنه. ولم يجد إلا واحداً منهم سمح له أن يرعى خنازيره. وواضحٌ أنه غير متديِّن، لأنه كان يخالف شريعة موسى التي أمرت بعدم أكل لحم الخنزير (لاويين 11: 7 وتثنية 14: 8). فالإنسان عليه أولاً الاعتراف بخطيئته. ثم أحس بحب أبيه متذكراً حالة بيت أبيه وسخائه فتحول راجعاً إلى أبيه وهذه هي التوبة. أن يفكر ويتخذ قراراً (أقوم وأذهب إلى أبي) لكن توبة هذا الابن كانت تنقصها الرؤية الصحيحة، فهو يقول (أقول له أخطأت إلى السماء وإليك) كانت رؤيته هي خطيئة ربما توقع توبيخاً عنيفاً أو غضباً عارماً من أبيه حين يلقاه بثياب رثة وحافي القدمين وأثار نتائج الخطيئة واضحة عليه بعد أن بدد أمواله في الخطيئة فكان يريد تحضير جواب وتبرير قبل أن يتلقى هذا اللوم. وهكذا شُفيت جروح الخطيئة وسمومها. أما ندوب الجروح وآثار السموم فلا تُمحى كلها، فالمال الذي أُنفق لن يعود، والوقت الضائع في الكورة البعيدة لن يُسترجَع، وستبقى ذكريات خيانة الأصدقاء وصُحبة الخنازير وطعم الخرنوب عالقة في ذاكرة التائب الراجع. ونحن في هذه الأيام يجب أن لا ننسى أنَّ الله يبقى أباً غفوراً حنوناً على الجميع لا يرفض أحداً من البشر, بل يغمر الناس كلّهم بعطفه, ويغفِر لهم زلاَّتهم عندما يعودون إليه تائبين. ولكن الأبن الأكبر لم يفهم مشاعر أبيه، ولم يقدر أبداً أن يدرك مقدار حزنه على ضلال ابنه الأصغر. ونسي أن رجوع الضال هو رغبة قلب أبيه واستجابةٌ لصلواته الكثيرة.. ولم يفهم حياة أبيه الإيمانية، فقد كان قلب الأب عامراً بالإيمان والرجاء والمحبة: الإيمان في ابنه الأكبر الذي يعيش معه، وفي عودة ابنه الضال.. والرجاء في حياة أفضل بعد لمّ شمل العائلة.