موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢٤ يونيو / حزيران ٢٠١٨

كلمة النائب البطريركي في الناصرة خلال الرسامة الكهنوتية

الأب حنا كلداني :

فيما يلي النص الكامل لعظة النائب البطريركي للاتين في الناصرة الأب حنا كلداني، خلال قداس الرسامة الكهنوتية للأبوين عامر جبران وطوني حايين، والتي جرت يوم 22 حزيران الحالي في بازيليكا البشارة بمدينة الناصرة: احبائي واخوتي الكهنة الجدد ابونا عامر جبران وطوني حايين،رئيس المعهد الإكليريكي، حارس كنيسة البشارة، الاخوة الكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات طلبة المعهد الإكليريكي، اسر الكهنة الجدد، فرسان القبر المقدس، أيها الاخوة والاخوات، اليكم كلمة سيادة المدبر الرسولي رئيس الأساقفة بيير باتيستا بتسابالا الجزيل الوقار، انها لنعمة من الله ان تتم الرسامات الكهنوتية في هذا المكان المقدس، مكان التجسد. وفي رحاب بازيليكا البشارة اصغينا الى قراءات هذا اليوم المبارك. وها اننا في لحظات حاسمة من وجودنا وحياتنا امام كلمة الله نتدبر امرنا في استيعابها، وإننا لكمة الله ماضون، ونحوها سائرون. ففي هذه المكان المقدس اصغينا معا الى نصوص من الكتاب المقدس التي تعلمنا ما هو الأساسي في مسيحتنا وايماننا. ونستطيع القول ان ايماننا يختصر في كلمة واحدة هي "النعم"، وتدور محبتنا ورجاؤنا في فلك هذه "النعم". هناك أولا "نعم" الله التي خاطب بها بني آدم، ومن ثم "نعم" الانسان لله. والله حلو الشمائل، تحلو عنده "نعمُ"، وخاطب الإنسانية دوما "بالنعم"، ولولا بعض الوصايا العشرة للضرورة، لكانت لاءه "نعمُ". وإذا اقبلت عليه البشرية قال قائلها الى مكارم هذا الاله المتجسد العمانوئيل ينتهي الكرم. (مقتبس جزئيا عن الفرزدق). ان "نعم" الله، أي الموقف الإيجابي لله يتقاطع في النصوص الكتابية في العهد القديم والجديد. فكانت "نعم" الله في الخلق لما قال الله "ليكن" في انشاء خلقه. وكان قول الله "النعم" لما اقام العهد مع شعبه، وكرر ذلك مرارا في كل مرة أراد الله ان يظهر للإنسان حبه، وفي كل مرة تراجع الانسان عن مبادلة الله الحب وحاول التملص من حب الله له كرر له الرب "النعم" الخالدة التي هي دليل الحب الالهي الذي لا ينقطع الوصل الذي لا يزول. بانت "النعم" الإلهية، أي رغبة الله في بناء علاقة مع الإنسان في اختيار الأنبياء وفي تضامن الله مع شعبه الذي اختاره، الذي خصّه وأفرده له وفي أوان الفرح كما في اوقات الشدة. ان "نعم" الله هي الأمانة الإلهية لحبه لنا، وبوسعنا الاعتماد على حب الله ونعمه لنا دون أدني شك او خشية بانه سوف يتراجع عن حبه لنا "ونعمه" الينا. ولم يحصل ان "نعم" الله صارت كلا ولا تجاه الانسان. فعلى حب الله نعتمد، وعلى هدي نعمته نسير، وفي حضرته وحضوره لا نخشى ولا نرتجف، فهو يتلو علينا ان "نعمه" دائمة خالدة حاضرة ولن تصير كلا ولا. اين نجد "نعم" الله في كمال بهائها وعظمتها؟ اليس في المسيح يسوع على الصليب وبصورة صادمة قوية فاعلة؟ فعلى الصليب وصل به الحب "والنعم" الى اقصى الحدود. اليس القديس بولس معلم الأمم هو القائل في رسالته الى اهل قورنتس: "فإن ابن الله المسيح يسوع الذي بشرنا به بينكم انا وسلوانس وطيموتاوس، لم يكن "نعم" ولا، بل "نعم" (2قو1:19). ان "نعم" الله للإنسان لم تكن قط ملكنة أي ملحقة بـ"لكن" او "نعما" صغيرة ضعيفة مغلفة بالتحفظات والاستثناءات، ان "نعم" الله هي مطلقة وكاملة، وينتظر الله ان يتجاوب الانسان معه، "بنعم" مثلها وعلى غرارها، كريمة سمحة طيبة. ابنائي الكهنة الجدد، أنتم اليوم هنا وقد اتيتم بقناعة كاملة بدون شروط وبفرح عارم لتقولوا "نعما" لله، كتلك "النعم" التي قالتها العذراء في بيت الناصرة لحظة البشارة. أنتم هنا بكل ارادتكم وبدون خشية وتردد، وتشرعون في مغامرة لا تعرفون خواتمها ونهاياتها ولكنكم تنطلقون وتعيشون وفي قلوبكم ما يدفعكم الى اعلان رغبتكم في التكريس الكهنوتي بكل الفرح والحبور. وكما كانت "نعم" الله عبر تاريخ الخلاص "النعم" الكاملة الإيجابية دون شروط هكذا هي "نعمكم" أنتم. "النعم" التي تقولوها اليوم ليس "نعما" مقرونة او مشروطة بمال او منصب او جاه. "نعمكم" وجوابكم الكلي لله يتميز بكل الحرية والغنى بالحب الإلهي. حافظوا على هذه الحرية والطوعية دوما حتى في اللحظات الصعبة التي اوكد لكم انها ستمر عليكم. لدى الانسان "النعم" والـ لا. وعبر الكتاب المقدس نرى ان الانسان لم يكن دوما قادرا على الحفاظ على "نعمه" ووعده للرب، ولكنه نقض وعده مرارا وصارت "نعمه" لا مرات عديدة؟ ولكننا اليوم في مكان خاص ومقدس حيث قالت امرأة عظيمة، هي مريم العذراء "نعما" لله، وهنا تلاقت "نعم" الله "ونعم" الانسان. وهنا صارت "النعم" المريمية تحمل قضيتين: القضية الأولى ان "نعم مريم" تعني الانفتاح على عطية الله. ويقول الكتاب: "فداخلها لهذا الكلام اضطراب شديد" (لوقا 1،29). وهذا الاضطراب الشديد يعد ظاهرة إيجابية وحسنة، تدل ان كلمة الله لاقت تفاعلا في قلب مريم جعل فؤاد مريم ينفتح على نداء الله ويسير في خطته ورؤيته. وهذا الانفتاح أساسي في الحياة المسيحية. والكاهن بالدرجة الأولى هو شخصية منفتحة غير مغلقة، غير مكتف ذاتيا من نفسه، ليس انفراديا. ولكنه ذاك الشخص القابل للقاء والتلاقي والاستقبال. ان الانفتاح للأخر قد يشكل خطرا، لأننا لا ندري ما قد يحصل لاحقا. ومع كل ذلك الكاهن هو صاحب القلب الواسع والابواب المشرعة بوجه الناس. الكاهن هو خادم اللقاء بين الله وجماعة المؤمنين في احتفالات الاسرار المقدسة، وهذا الكاهن هو أيضا صاحب القلب المرحب المنفتح المعطاء لجماعة المؤمنين بكل وقته وطاقاته دون تردد وملل. اما القضية الثانية التي اريد ان اعرضها عليكم أيها الكهنة الجدد وايها الاخوة والاخوات هي قضية الاصغاء. فان "النعم" الإلهية تمر الينا من خلال الاصغاء وليس من خلال وسيلة أخرى. ولا يتم الاصغاء بطرق فنية ميكانيكية معينة او بالإجبار. بل انه يزهو ويزدهر في الصمت والهدوء، فتحل مشيئة الله ورغباته مكان اشواقنا وعواطفنا غير المنضبطة التي تقسم القلوب والمشاعر فينا. في الاصغاء نفهم وندرك ما يريد الله منا، فتفنى الانا المضخمة فينا التي تريد ان تقود حياتنا، ليظهر الله في طريقنا ممتلكا دفة سفينة حياتنا ووجودنا. فالكاهن هو ذاك الشخص الذي يطور السماع والاصغاء لكلمة الله التي تخاطب قلبه، ولن يستطيع الكاهن إعطاء أي شيء الى اخوته وابنائه في الايمان الا عبر هذا الاصغاء لكمة الله، ويصير آنذاك أداة خلاص بيد الله. هذه هي حياتكم ودعوتكم أيها الكهنة الجدد، أنتم يا من اخترتم ان يكون لصوت الله المكان الأول في قلوبكم فيحرركم ويجعلكم شركاء مع الرب في بناء ملكوت الرجاء والخلاص. فتغدو قلوبكم بفعل "نعم" الله "ونعمكم" أنتم قادرة على الانفتاح والاصغاء وتصير "النعم" المثمرة كريمة طيبة. ابارك لكم يا اخوتي واحبائي، وعليكم ان تتأكدوا من اتحادي معكم بالصلاة والدعاء، مقدما كل دعمي وتقديري لكم، ولست وحدي في هذا الامر بل معي كل كهنة البطريركية وكل اخوتكم المسيحيين في كنيسة الله الكبيرة التي تجتمع وتلتف اليوم من حولكم وهم يشعرون معكم بلذة الفرح الآتية من "النعم" الإلهية ومن "نعمكم" أنتم. وهذه "النعم" هي اليوم في كنيسة البشارة بنكهة مريمية مميزة وبطعم كلمات البتول "ها انا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك". تحياتي الى اهاليكم وعائلاتكم ورعاياكم، الرينة وحيفا، التي صارت اليوم شريكة معنا في طريق الملكوت ومشاركة في "النعم" الإلهية التي تقود مسيرتنا الروحية المسيحية. وأمل، بل أصلي معكم ان يمنح الله كنيستنا شبابا وشابات يلبون الدعوة الكهنوتية والرهبانية والتكريس لله بمختلف الوسائل سائرين في طريق "النعم" التي افتتحتها مريم العذراء هنا في الناصرة عندما تجاوبت مع نداء الله وقالت بكل وجودها ووجدانها، "انا اما الرب". وأخيرا يا ابونا عامر وابونا طوني، الم يقل السيد المسيح لسمعان بطرس على شاطئ طبريا هنا في الجليل، في جليلكم: "سر في العُرض وأرسلوا شبابكم للصيد". فأجاب سمعان "بنعم" كبيرة عظيمة مدوية خالدة بعد ان رصد الصعوبات وتجاوزها وتحداها قائلا: "يا معلم تعبنا طوال الليل ولم نصب شيئا، ولكني بناء على قولك أرسل الشباك". فهيا، وهلمّ، سيروا في العُرض، أرسلوا الشباك واقبلوا الرسامة الكهنوتية، وضعوا اياديكم بيد البتول الناصرية، وبيد هامة الرسل بطرس الجليلي، وقفوا امام هيكل الرب وقولوا: للمتجسد والمخلص والفادي والعمانوئيلَ والمعلم والقائم والناصري، وللرب يسوع المسيح: "لبيك سيدي".