موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٥ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٩

انحراف البشر وتدهور الأمور والحلّ من الجذور

الأب د. بيتر مدروس :

يعطينا لبنان المحبوب مثالاً في الرقيّ والحضارة والسّموّ. ما توقّعنا قَطّ أن نشهد مظاهرات فيها هتافات بلا عنف ولا تدمير ولا تكسير ولا إحراق ولا تشنيع. شهدنا شعبًا مظلومًا لا يريد أن يظلم، وشعبا مدمّرًا (بفتح الميم للمجهول) يرفض أن يدمّر (بكسر الميم) وشعبًا محطّمًا أبى أن يحطّم! ورأينا شعبًا مزّقته الأحزاب والفئوية والزعامات الشّلليّة بحيث أمسى مضرب الأمثال في ذلك، رأيناه بأمّ عيوننا يتسامى فوق كل الأحزاب والفئات والمحسوبيات ويتمسك فقط بوطنه، لبنانيته وأرزه، شاء من شاء وأبى من أبى من "الكبار". ووضعَ الشعب اللبناني كلّه يده على الجرح، وهو جرح يُدمي البشرية منذ أيام هابيل وقابيل (قائين) أي سيطرة الأخ على أخيه حتى القتل أو الحسد القتّال والتملّك عند الواحد والحاجة عند الآخر. مصيبة لبنان، وهو "قطعة من سماء" ومهد الأبجديّة، هي أساسًا البذخ والرخاء والهناءة عند الحكومة والدولة والوزارات، والفقر المدقع و"التعتير" عند الشعب المسكين. والتعتير صيغة عامّيّة للفظة "التعثّر" أي عدم استطاعة المشي بسبب "العثرات" والصعوبات والاعتراضات، مع خطر السقوط. الانحراف مع السيطرة هو من عواقب الخطيئة الأصليّة والنفس "الأمّارة بالسوء". ينتخب الشعب النوّاب ليمثّلوه وليخدمهم، فيمثّل بهم أحيانًا، وغالبًا ما يخدمونه هم! ولنأخذنّ لكلمة "وزير"، بشكل اعتباطي، ولنفرضنّ أنّ أصلها من "وزر" أي "حِمل": يعني مفروض أن يحمل الوزير أوزار الناس أي أثقالهم كما كتب بولس الرسول: "إحملوا بعضكم أثقال (أوزار) بعضكم، فتتمون العمل بشريعة المسيح". ولكن ماذا يحصل في الواقع؟ أمّا العالم الروماني والمسيحي اللاتيني فقد شدّد على طبيعة "الوزارة" بكلمة "مينيستيريم" ولفظة "مينسيتير" أي "خادم". فالوزارة خدمة، لا خلاف ذلك، كما قال السيد المسيح: "من أراد أن يكون الكبير فيكم، فليكن لكم خادمًا". ويشكو اللبنانيون من ارتفاع رواتب الوزراء بشكل فاحش. ونعلم من السدّة البطرسية أي حاضرة الفاتيكان أن راتب قداسة البابا هو صفر. ونعلم أن لقبه، منذ أيام البابا غريغوريوس الكبير هو "خادم خدام الرب" أو "عبد عبيد الرب" في حين انتقى بطريرك القسطينطينية لنفسه، يوحنا "الصّوّام"، لقب "البطريرك المسكوني" أي بطريرك الأرض كلها. وما تركت له الأقدار، منذ القرن الخامس عشر، على لقبه العالميّ العظيم، سوى بضعة آلاف من المؤمنين في تركيا وبعض الجزر. ومؤخرًا زيد المهجر على صلاحياته، مع أنّه "الأوّل بين متساوين" (وهم أربعة عشر بطريركا). أمّا لفظة "السلطة" فهي في اللغات السّاميّة سيطرة وحكم، لا يخلو من تحكّم. وفي اليونانية لفظة بليغة جدا "إيكسوسيا" أي "الاستخراج من الجوهر" أي الذهاب إلى جوهر الأمور وأصولها واتّباع الواجب. وفي اللاتينية تعني لفظة "أوكتوريتاس"النموّ والتطّور أي أن هدف السلطات بيننا هو أن تجعلنا ننمو، لا أن تنمو هي على حسابنا، والمنى أن يكون شعارها ما قاله يوحنا المعمدان عن السيد المسيح: "له أن ينمو ، ولي أن أنقص". خاتمة سهل علينا أن نكتب عن هذه المعاني والعبر، صعب مع الأسف العمل بها. والحقّ أن الكنيسة الكاثوليكية وشقيقتها الأرثوذكسية، على علاّت أبنائهما ورئاساتهما، تسعيان دومًا للحدّ من "النمردة" البشرية، بنذور الطاعة وبالرقابة على كلّ مسؤول بحيث يجد، على الأقل في الكثلكة، دومًا مَن هو "فوق رأسه" لا للسيطرة بل للمرافقة والنقد البنّاء، بما فيهم الحبر الأعظم نفسه. ولندعونّ للشعب اللبناني الذي وصف وعود رئيس وزرائه بأنها فارغة كاذبة، أن يكسر غلاف فساد الحكومة والوزارات والنيابة فتنخفض فعلاً الرواتب الخيالية ويصبح النواب والوزراء خدّامًا وتستقيم الأمور لتستقرّ في حياة للمواطنين كريمة"بكل تقوى" هي من حقّهم ومن واجب مسؤوليهم! لا يجدر لأحد أن يجد مع الظلم سلامًا ومع الجور سعادة! "والمحبّة لا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق" (1 قورنثوس 13: 6).